بحوث في الملل والنحل ـ جلد السابع ::: 171 ـ 180
(171)
    غير أنّ أبا زهرة زعم أنّ الاِمام زيد لا يرتضي شيئاً من هذا وذلك لاَنّه يرى أنّ الاِمام من بني فاطمة رجل ككل الناس ليس بمعصوم عن الخطأ وليس علمه فيضاً ولو إشراقاً ، بل علمه بالدرس والبحث ويُخطىَ ويصيب كغيره من الناس ومادام كذلك فإنّه لا يحتاج إلى خارق العادات (1).
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره إنّما هو عقيدة أئمة الزيدية الذين جاءوا إلى الساحة ، شاهرين سيوفهم. فقاموا بالاَمر في اليمن وغيره ولولاه لما استقرت إمامتهم ، ـ بعد كونهم أفراداً عاديين ـ وأمّا كونه معتقد زيد فلم يقم عليه دليل ، مع كونه معتقداً بإمامة الاِمام علي والسبطين وأبيه وأخيه ( عليهم السلام ) بالنص ، وهو واضح لمن تتبع شوارد النصوص.
    أضف إلى ذلك أنّ ظهور الكرامات على الاَولياء والاَبرار مما جوّزه أكثر الفرق وإنّما خالف فيه المعتزلة بشبهة أنّه تبطل دلالة المعجزة على النبوة. لكن جوزه من المعتزلة ابن الاَخشيد ، وأبو الحسين البصري وكذا محقّقو الاَشعرية كالجويني والغزالي وفخر الدين الرازي وغيرهم ، وأمّا الزيدية فالمذكور في كلام الشيخ المفيد ، أنّهم يوافقون المعتزلة في نفي صدورها لكن في كلام المتأخرين منهم ما يدلّ على العكس ، فقد نقل العلاّمة الشيخ فضل الزنجاني في تعليقته على أوائل المقالات عن الاِمام أبي الحسين يحيى بن حمزة بن علي الحسيني الذي كان من أفاضل الزيدية ومن القائمين بالاَمر باليمن (2) في كتابه الكبير المسمّى بالشامل إلى ذهاب الزيدية إلى جواز ظهورها (3).
    وياحبذا راجع أبا زهرة الكتب الفلسفية كالاِشارات والشفاء للشيخ
    1 ـ أبو زهرة : الاِمام زيد : وكان عليه أن يلاحظ أوائل المقالات : 41 ، 42 كما لاحظ سائر الموارد.
    2 ـ ولد بصنعاء سنة 669 وتوفّي عام 747 وكانت مدّة خلافته 51 سنة.
    3 ـ الزنجاني( 1301 ـ 1360) : تعليقة أوائل المقالات : 41 ، طبعة تبريز.


(172)
الرئيس (1) ، حتى يقف على أنّ صدور الكرامات من الاَولياء ليس أمراً معضلاً ، بل الاَُصول العقلية توَيده والكتاب والسنّة يوافقانه.

6 ـ الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
    إنّ الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، من الاَُصول المسلّمة لدى المسلمين عامّة من غير فرق بين الفرق : المعتزلة والاَشاعرة والاِمامية. قال القاضي عبد الجبار : « لا خلاف بين الاَُمّة في وجوب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر » (2).قال الشيخ المفيد : « إنّ الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان فرض على الكفاية بشرط الحاجة إليه لقيام الحجّة على من لاعلم لديه إلاّ بذكره ... » (3).
    وهو مشروط بشروط مذكورة في كتب القوم ، غير أنّ الشيخ أبا زهرة زعم أنّ الاَصل المذكور ، لايجتمع مع القول بالتقية ، وزعم أنّ أبا الشهداء وحفيده زيد الثائر أخذا بالاَصل الاَوّل ، وأمّا أباه أعني : علي زين العابدين رأى من الحكمة ألاّ يخرج إلاّ مع العدد والقوة ، ولاَنّ تلك الحوادث (حوادث كربلاء) جعلته يشك في وجود النصراء الاَقوياء في اعتقادهم ، فانصرف إلى العلم غير راض ولامطمئن للباطل.
    ـ ثم قال : ـ ومن هنا تولد عند الشيعة مبدأ التقية وهي السكوت عن مقاومة الباطل من غير رضا به ـ إلى أن قال : ـ إنّ زيداً آمن بالاَصل الاَوّل وروي إنّه رخص في التقية لكنه كان في أوّل حياته وفي وقت انصرافه للدراسة كان يأخذ بمبدأ التقية ، لكنّه بعد أن درس الفرق المختلفة والتقى بأهل العراق غلب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4).
    1 ـ أبو علي : الاِشارات : 3/497.
    2 ـ القاضي عبد الجبار : شرح الاَُصول الخمسة : 741.
    3 ـ المفيد : أوائل المقالات : 98.
    4 ـ أبو زهرة : الاِمام زيد : 215 ـ 217.


(173)
    يلاحظ عليه : أنّ هذا أشبه بكلام من لا يعرف موضع الاَصلين ومركزهما (وأُجلّ الشيخ أبا زهرة من أن يكون من تلك الزمرة) ويزعم أنّ بين الاَصلين مطاردة ، وأنّ الزعيم الاِسلامي إمّا أن يختار الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو يلتجىء إلى التقية ، وأنت إذا راجعت إلى ما أسلفناه في الجزء الثالث حول الاَصل الاَوّل وفي الجزء السادس حول التقية لعرفت أنّ الاَصلين من الاَُصول الاِسلامية المتقنة ولكل موردٍ وموقف حسب شروطهما وضوابطهما ، فلو أنّ أبا الشهداء وحفيده زيد بن علي قاما بالاَمر وأمرا بالمعروف والنهي عن المنكر لاَجل ظروف فرضته عليهما ، ولو كانت تلك الشروط مهيأة في زمن ابنه زين العابدين وأخيه محمد بن الحنفية لقاما مثل ما قاما ، فلو نرى أنّ الاَخيرين التزما البيت وصارا جليسيه فلظروف فُرضت عليهما ، ولعمر الحقّ أنّ مثل هذا الكلام من شيخ المصريين غريب جداً إذ كيف يقول : « ومن هنا ـ أي قعود الاِمام السجاد ومحمد الحنفية عن الاَمر بالمعروف ـ تولد عند الشيعة مبدأ التقية؟! أو ما يذكر قول اللّه سبحانه : « إلاّ أن تَتَّقُوا مِنهُم تُقاة » (آل عمران ـ 28) أو قوله سبحانه : « مَن كَفَرَ بِاللّه مِن بِعدِ إيمانِهِ إلاّ مَنْ أُكرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالاِيمانِ » (النحل ـ 28).
    أو ما قرأ كلمات المفسرين حولهما حتى عمّموا مفادهما إلى اتقاء المسلم من المسلم الظالم؟ والحقّ أنّ الشيخ أبا زهرة مع كونه كاتباً ذا صدر رحب وإطلاع وسيع وقلم سيّال ، لكنه يخرج الظنون بصورة الاَُمور الواضحة القطعية ويضفي على حدسيّاته صبغة الجزم.

7 ـ الصفات ليست غير الذات :
    ذهبت العدلية ـ من غير فرق بين المعتزلة والاِمامية والزيدية ـ إلى أنّ صفات اللّه الذاتية كالعلم والقدرة والحياة غير ذاته مفهوماً ، وعينها مصداقاً ، دفعاً لوصمة التركيب ، الملازم للاِمكان ، المنزّه عنه سبحانه ، قال الشيخ المفيد : « إنّ اللّه


(174)
عزّ وجلّ اسمه حي لنفسه لا بحياة وأنّه قادر لنفسه ، وعالم لنفسه ، لا بمعنى كما ذهب إليه المشبهة من أصحاب الصفات ـ إلى أن قال : ـ وهذا مذهب الاِمامية كافة والمعتزلة إلاّ من سميناه (أبا هاشم الجبائي) وجمهور الزيدية وجماعة من أصحاب الحديث والحكمة (1).
    وقد تبع هوَلاء خطب الاِمام علي ( عليه السلام ) وكلماته ، فإنّه أوّل من شقّ هذا الطريق ، وأوضح المنهج ، وحكم بحكم بات على توحيد الصفات مع الذات. قال : « أوّل الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الاِخلاص له ، وكمال الاِخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كل صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنّه غير الصفة ، فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه » (2).
    والعجب أنّ الشيخ أبا زهرة نسب عينية الصفات إلى زيد وصوّره أنّه من آرائه ، والحقّ أنّه من أرائه ، لكنه لابمعنى أنّه ذو منهج كلامي بل كل ما نسب إليه لا يخلو من أمرين : إمّا أنّه ليس من زيد وإنّما هو من أتباعه ومقتفي أثره ، أو هو من زيد ولكنه أخذه من أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ).
    فقد حصحص الحقّ وبان أنّ زيداً لم يكن مفكراً كلامياً غارقاً في البحوث الكلامية نظير واصل بن عطاء ، أو عمرو بن عبيد أو أبي جعفر موَمن الطاق وهشام بن الحكم ، بل كان زيد رجلاً ثورياً له صلة بتفسير القرآن وجمع الروايات وعظة الناس وهدايتهم إلى الطريق المهيع.
    ثم إنّ الشيخ أبا زهرة استخرج عقائده الكلامية ـ حسب ما عرفت ـ من
    1 ـ المفيد : أوائل المقالات : 18.
    2 ـ الرضي : نهج البلاغة : الخطبة 1.


(175)
أسباب عقيمة غير منتجة وبما أنّه أشار إليها في آخر كلامه نأتي بنصه ، ثم بملاحظتنا ، يقول :
    « حاولت استخراج عقائده الكلامية من الاَُمور التالية :
    1 ـ أن يكون ذلك رأياً لواصل بن عطاء الذي صاحبه ، وقدّر علماء النحل أنّه اختار منهاجه وطريقه ، أو كان كلاهما على منهاج واحد ورأي واحد ، فاعتبر كل كلام لواصل في هذه المسائل آراء للاِمام زيد إلاّ ما ثبت أنّه لم يقله ، أو لم يكن من المعقول أن يكون قد قاله ، كقول واصل : إنّ علياً في قتال معاوية لم يكن على حقّ بيقين ، فليس ذلك نظر أهل البيت بالاتفاق.
    2 ـ إنّ ما ينسب إلى الزيدية من أقوال ونراه في ذاته معقولاً وقريباً من منطق الاِمام زيد وتفكيره فإنّا نقرر أنّه رأي زيد ـ رضي اللّه عنه ـ لاَنّ الزيدية إذا استثنينا الجارودية منهم ، يتلاقون في أكثر آرائهم مع الاِمام زيد ، فهم له في الجملة متبعون.
    3 ـ إنّ ما يقوله بعض المتصلين به أو الذين ثبت اتصالهم به نعتبره إذا اتفق ما يقوله الزيدية أو ينسب مزكياً لنسبة تلك الاَقوال إليه (1).
    يلاحظ عليه : أنّ القياس الاَوّل عقيم جداً إذ لا نعلم مدى تعاطف زيد مع واصل وزمالته معه ، حتى نتخذ عقيدة الجليس دليلاً على عقيدة الجليس الآخر.
    وأضعف منه الطريق الثاني فإنّ الزيدية كسائر الفرق ، مارسوا علم الكلام وحضروا محافل البحث والنقاش ثم أتّخذوا موقفاً في كل مسألة ، وكيف يمكن أن ينسب وليد فكر هوَلاء لزيد المحدِّث المفسِّر غير المهتّم إلا بإنهاض المسلمين ضد الطغاة وإزالتهم عن منصّة الحكم واستغلال الصلحاء بالحكم؟!.
    ومنه يظهر حال الطريق الثالث فلا نطيل الكلام.
    1 ـ أبو زهرة : الاِمام زيد : 222 ـ 224.

(176)
    كل ما ذكرنا يرجع إلى زيد ، وأمّا الزيدية فلهم عندنا حساب خاص سوف نرجع إلى إرائهم وعقائدهم في مجال الاَُصول والفقه في فصل مستقل.
    زلة بعدها زلة :
    قد عرفت مدى صحّة كلام الشيخ أبو زهرة في نسبه هذه الآراء إلى زيد وقد تبعه من جاء بعده ، من دون ترو وتحقيق ، فنرى أنّ الدكتور « أحمد محمود صبحي » يتبعه عشوائياً وينسب تلك الآراء إلى زيد حرفاً بحرف ، فنسب إليه إنكار القول بالبداء ، والتقية ، والعصمة ، والعلم اللدني ، والمهدوية ، وذكر أنّ آراء زيد في ذلك المجال متعارضة وآراء الاِمامية وذكر أنّ مصدر كلامه هو كتاب « نشأة الفكر الفلسفي في الاِسلام » للدكتور علي سامي النشار ، وأظن أنّه ذكره بعنوان أحد المصادر ، وإلاّ فالمصدر الواقعي لكلامه هو كتاب أبي زهرة ووحدة الصياغة تعرب عن عيلولتهما على الشيخ وعلى كل تقدير فقد خبطوا خبطة عشواء وبذلك أفسدوا الاَمر على المجتمع الاِسلامي وصوروا أنّ الاِمام زيد كان يخالف الرأي العام لسائر الاَئمة الاثني عشر ، ولعله كان هذا هو المقصد من إلقاء الحجر في الماء الراكد. وإيجاد الفرقة أو توسيعها بين الطائفتين.
     قد أسفر وجه الحقيقة وبان أنّ زيداً كان علويّ المبدأ والفكرة ، ولم يكن له في الاَُصول والعقائد سوى ما عند العترة الطاهرة بقي الكلام من كونه صاحب مذهب فقهي خاص ، على أساس منهج معين وهذا هو الذي نأخذه بالبحث.


(177)
هل كان لزيد مذهب فقهي خاص ؟
    هل كان لزيد مذهب فقهي خاص كسائر المذاهب الفقهية الذائعة في عصره وبعده؟
    وهل كان لزيد منهاج خاص يسير عليه في استنباطه وافتائه؟
    وهل الاَئمة الزيدية ـ وأخص بالذكر أئمة الاجتهاد منهم ـ مشوا على ضوء آرائه ولم يخالفوه ، والفقه الزيدي الموجود ، تبسيط لفقهه ورأيه؟
    هذه موضوعات ثلاثة جديرة بالبحث والدراسة على ضوء ما ورثناه من زيد من الكتب ، والفقه الزيدي الرائج اليوم.
    فلنشرح الموضوع الاَوّل فنقول :
    كان زيد رجلاً عابداً زاهداً ، حليف القرآن والعبادة ، وتعلّم ما تعلم في أحضان والده وأخيه الاِمام الباقر ( عليه السلام ) وروى عن عدّة من التابعين ، ولم يكن موطنه يوم ذاك ، مهداً لمذهب فقهي خاص يتميز بسماته عن المذاهب الاَُخر حتى يكون الاِمام أحدهم ، ويكون له مذهب متمايز عن الآخرين ، وأقصى ما كان يتمتع به التابعون والراوون عنهم ، هو الاِفتاء في ضوء الروايات الواصلة إليهم ، وتجريدها عن الاسناد ، أو استثمار الضوابط التي تلقوها عن الرسول الاَعظم واستخراج أحكام الجزئيات منها أو التخريج على أقوال الصحابة وغيره ، وأين هذا من كونه إمام مذهب خاص له سمات وميزات ، تميزه عن سائر المذاهب الفقهية ، كما هو الحال في المذاهب المعروفة ولاسيما المذاهب الاَربعة؟ هذا حال زيد في موطنه ، وأمّا حاله في غيره ، فقد غادر المدينة كراراً ، ونزل الشام والكوفة ، إمّا بالجبر والاضطرار ، أو بالحرية والاختيار ، ولم تكن الغاية له في تلك الرحلات إلاّ إجابة الجبر ، أو دعم المبدأ وإنهاض المسلمين ضد الاَمويين وبالتالي ، دعم الجهاد


(178)
والنضال المسلح ، وأين هذا من الاختلاف في أندية الدروس ، ومحافل البحث والدراسة ، لاستثمار ما تلقاه وصبغه بصبغة خاصة تعطي له سمة وميزة؟!
    وهذا ما يعطيه الاِمعان في حياته ، والغور في الآثار الباقية منه وأقصى ما يمكن أن يقال : إنّه كان يفتي عند السوَال ، بمضمون الرواية ، أو ببسط الضوابط الكلية.
    وبذلك يعلم حال السوَال الثاني ، فإنّ المراد من المنهاج الخاص ، هو القواعد الكلية الاَُصولية التي منها يستمد الفقه ، وبها ينصبغ ، فالفقه المستمد من القياس والاستحسان غير الفقه المستنبط من الكتاب والسنّة والوقوف فيما لا نص فيه ، ومن المعلوم أنّه لم يكن لزيد ذلك المنهاج ولو كان لبان في آثاره العلمية ، أو نقله طلابه وملازموه كما هو الحال في أبي حنيفة ، فقد انعكست آراوَه على فقه تلاميذه كالشيباني وأبي يوسف وغيرهما.
    وأمّا الموضوع الثالث فالاِجابة عنه سهلة ، بعد الوقوف على اعتبار الاجتهاد المطلق عند الزيدية فقد فتحوا ـ كالاِمامية ـ بابَ الاجتهاد المطلق في الفروع والاَُصول فخالفوا زيداً في قسم من الفروع ، وركنوا إلى أُصول لم يعلم الركون به من إمامهم.
    وإن شئت قلت : هناك فرق بين اجتهاد الاَحناف ، والشوافع واجتهاد أئمة الزيدية فالطائفة الاَُولى كانوا مجتهدين لكن مقيدين بأُصول إمامهم ومناهجه. وكانوا يبذلون مساعيهم لاستكشاف آراء إمامهم في ضوء الاَُصول الواصلة إليهم منه. وأمّا أئمة الزيدية ، فلاَجل فتح باب الاجتهاد المطلق صاروا مجتهدين مستقلين ربما وافقوا إمامهم ، وأحياناً خالفوه ولذلك ترى بعداً شاسعاً بين المجموع الفقهي المنقول عن الاِمام زيد وكتاب الاَحكام للاِمام الهادي المطبوع المنتشر في جزئين ، ومثله الروض النضير فالموَلف وإن كان زيدياً ، لكن كتابه هذا ،


(179)
أُلّف على ضوء الاجتهاد المطلق ، فيستهدي من روايات الصحاح والمسانيد والقواعد الدارجة بين المذاهب الاَربعة التي رفضها أئمة أهل البيت أوّلاً ولم يثبت حجيتها عند الاِمام زيد ثانياً.
    يقول أبو زهرة : « ويجب أن يعلم أنّ الفقه الزيدي ليس كله فقه الاِمام زيد ، بل هو فقه طائفة كبيرة من آل البيت كالهادي والناصر وغيرهم ممن جاءوا بعده وخصوصاً أنّ باب الاجتهاد فيه كان مفتوحاً لم يغلق (1).
    ويقول في موضع آخر في سبب انتشار المذهب الزيدي وأنّ من أسبابه : « فتح باب الاختيار من المذاهب الاَُخرى فقد صار هذا المذهب بهذا الاختيار حديقة غنّاء تلتقي فيها أشكال الفقه الاِسلامي المختلفة ، وأغراسه المتبائنة وجناه المختلف الاَلوان والطعوم ، وإن كان ذلك نتيجة لفتح باب الاجتهاد فيه ، فقد اختاروا باجتهادهم من المذاهب الاَُخرى ما يتفق مع منطق المذهب أو أُصوله ، وأُصوله متحدة أو على الاَقل متقاربة مع جملة الاَُصول التي قررها فقهاء المسلمين » (2).
    والحقيقة هي : أنّ المذهب الفقهي المعروف بالمذهب الزيدي في اليمن ، نسبةً إلى الاِمام زيد أو المذهب الهادوي كما يروق للبعض اليوم أن يسميه وينسبه إلى الاِمام الهادي يحيى بن الحسين ولا فارق بين الاِمامين إلاّ في مسائل يسيرة جداً ، نتيجة الاجتهاد المفتوح بابه في المذهب الزيدي حتى اليوم وإلى الاَبد إن شاء اللّه ـ هذا المذهب لم يكن مذهب إمام معين ، ولكنّه خلاصة أبحاث عميقة ، ودراسات واسعة مختلفة في كل مجالات الفقه الاِسلامي العظيم ، وجهود مضنية استمرت في البحث والتنقيب والتصفية أكثر من سبعة قرون ، وقام بتلك الاَبحاث
    1 ـ أبو زهرة : الاِمام زيد : 331.
    2 ـ أبو زهرة : الاِمام زيد : 488.


(180)
والدراسات أئمة أعلام من أهل البيت النبوي الشريف ومن تابعهم من الفقهاء المجتهدين ، معتمدين في كل ذلك على المحكم من كتاب اللّه ، والصحيح من سنّة رسول اللّه ، وعلى القياس ، والاِجماع ، وأحياناً على الاستصحاب ، والاستحسان ، والمناسب المرسل ـ المصالح المرسلة ـ وهي التي تتفق مع المقاصد الشرعية فيما لا يوجد له نص في الكتاب أو السنّة إثباتاً أو نفياً كما سيأتي في موضعه إن شاء اللّه. وبسبب ذلك تصارع الاَئمة وأتباعهم أزماناً عديدة مع دسائس الملحدين وأفكار المندسين ، كما تعاركوا مع جبابرة الاَهواء السياسية والاَحقاد العنصرية ، جاعلين الاخلاص رائدهم ، والحقّ مقصدهم ، ورضوان اللّه غايتهم (1).
    ولعل حقيقة الحال تعلم من دراسة ما بقي منه من الآثار وأخص بالذكر ما طبعت وانتشرت منها فإنها مرآة ضمير الرجل ، والمرء بآرائه وأفكاره.
    1 ـ علي بن عبد الكريم : الزيدية نظرية وتطبيق : 14.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد السابع ::: فهرس