كتاب بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثامن ::: 321 ـ 330
(321)
التنظيمات السّرية للدعوة الاِسماعيليّة النزارية
    ولما انتقلت الدعوة الاِسماعيلية النزارية إلى فارس ، أجرى الاِمام النزاري بعض التعديلات ، وأوجد تنظيمات تتناسب مع ظروفه وعصره وهي على قسمين :
    1 ـ القسم الخاص بالدعاية الدينية والذي ظل قريب الشبه من النظام السابق ، ولو انّ عدد الدعاة تقلص ونقص ، لاَنّ الاِمام النزاري جعل رتبة (الشيخ) في دعوته بدلاً من رتبة (داعي الدعاة) وعيّ ـ ن في كلّ منطقة من المناطق الاِسماعيلية له نواباً ، وألحق بهوَلاء النواب عدداً غير محدود من الدعاة الذين كانوا يدعون الناس للمذهب الاِسماعيلي النزاري.
    2 ـ أمّا القسم الثاني فهو خاص بالفدائية والجيش ، وهوَلاء كانوا يتبعون مباشرة مركز الاِمامة أو نائب الاِمام في قطره ، ويتلقّون الاَوامر والمهمات السرية منه مباشرة.
    وكانت الفدائية على ثلاث درجات :
    أوّلا : الرفاق أو المقدمون : وهم قادة الجيش والفدائية ولهم مهمّة الاِشراف على التدريب ، و السهر على تنفيذ المهمات العسكرية وغير العسكرية.
    ثانياً : مرتبة الفدائيين الذين ينتقون من العناصر المخلصة المعروفة بالتضحية والاِقدام والشجاعة النادرة ، والجرأة الخارقة فيكلفَّون بالتضحيات الجسدية ، وبتنفيذ أوامر الاِمام أو نائبه.
    ثالثاً : المستجيبون : وهم الذين يقضون دور التدريب والتعليم ، وهوَلاء يدخلون مدارس الفدائية ، وهم في سن مبكرة ويتلقون التدريب والتعليم في المدارس الخاصة بهم ، على أيدي كبار المقدمين. ويسهر الاِمام نفسه أو نائبه الشيخ على تدريبهم وتعليمهم. (1)
    1 ـ مصطفى غالب : في مقدمة كتاب الينابيع : 21 ـ 24.

(322)

(323)
الفصل الخامس عشر
في
القرامطة


(324)

(325)
لقد ذكرنا في الفصل الثاني من هذا الكتاب أنّ الحركات الباطنيّة نشطت في أواسط القرن الثاني ، وكان زعيمها هو أبو الخطاب ، محمد بن مقلاص ، فلمّا قتل انتهى أمر هـ م ـ بعد فت ـ رة ـ إلى الاجتماع حول محمد بن إسماعيل ، ووجدوه مرتعاً خصباً لنشر أفكارهم. فارتكزت الدّعوة الاِسماعيليّة على تلك الاَفكار في بادىَ الاَمر. وكان من نتيجة ذلك التحرك أن :
    1 ـ اتخذ الاَئمّة المستورون سوريا ، وأخصّ بالذكر « السلمية » وما حولَها مركزاً للدّعوة ، ومنها انتشرت إلى سائر الاَمصار.
    2 ـ انتشرت الدّعوة في اليمن بزعامة ابن حوشب « منصور اليمن ».
    3 ـ أرسل ابن حوشب ، أبا عبد اللّه الشيعي إلى إفريقية حيث آلت الاَحداث بعدها إلى تأسيس الخلافة الفاطميّة.
    4 ـ ظهور حركة القرامطة ، وهذا ما سنبحثه في هذا الفصل.
    إنّ من الاِسماعيليّة فرقة باسم المباركيّة قالوا بإمامة محمد بن إسماعيل ، بدل إسماعيل ، وقد تشعبت منهم فرقة باسم القرامطة ، كان لهم دورٌ مهم على الساحة السياسية والعقائدية أيّام عبيد اللّه المهدي ، حسب ما يذكره التاريخ وما يزال الغموض يكتنف عقائدهم ، وتاريخهم والجرائم التي قاموا بها ، في أواخر القرن الثالث. ومن أجل تسليط الضوء على جانب من جوانب عقائدهم نستعرض ما ذكره أصحاب المقالات :
    1.قال النوبختي : إنّما سُمّيت بهذا لرئيس لهم من أهل السواد من أهل الاَنباط كان يلقب « قرمطويه » وكانوا في الاَصل على مقالة المباركيّة ، ثمّ خالفوهم ،


(326)
فقالوا لا يكون بعد محمد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلاّسبعة أئمّة ، علي بن أبي طالب وهو إمامٌ رسولٌ ، والحسن والحسين ، وعلي بن الحسين ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، ومحمد بن إسماعيل بن جعفر ، وهو الاِمام القائم المهدي ، وهو رسولٌ.
    وزعموا أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) انقطعت عنه الرسالة في حياته ، في اليوم الذي أُمر فيه بنصب علي بن أبي طالب (عليه السّلام) للناس بغدير خم ، فصارت الرسالة في ذلك اليوم في علي بن أبي طالب ، واعتلّوا في ذلك بقول رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : « من كنت مولاه فعليٌّ مولاه » وانّهذا القول منه خروج من الرسالة والنبوّة ، وتسليم منه في ذلك لعلي بن أبي طالب ، بأمر اللّه عزّوجلّ وانّالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد ذلك كان مأموماً لعليّ ، محجوجاً به ، فلمّا مضى عليٌّ صارت الاِمامة في الحسن ، كما صارت من الحسن في الحسين ثمّ في علي بن الحسين ، ثمّفي محمد بن علي ، ثمّ كانت في جعفر بن محمد ، ثم انقطعت عن جعفر في حياته ، فصارت في إسماعيل بن جعفر ، كما انقطعت الرسالة عن محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حياته ، ثمّإنّ اللّه عزّوجلّ بدا له في إمامة جعفر ، وإسماعيل ، فصيّرها في محمد بن إسماعيل ، إلى أن قال :
    و زعموا أنّ محمد بن إسماعيل حيٌّ ، لم يمت ، وأنّه في بلاد الروم ، وأنّه القائم المهدي ، ومعنى القائم عندهم ، انّه يبعث بالرسالة وبشريعة جديدة ، ينسخ بها شريعة محمد ، وانّ محمد بن إسماعيل من أولي العزم ، وأولي العزم عندهم سبعة : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلي (عليه السّلام) ، ومحمد بن إسماعيل ، على معنىً.
    قال : إنّالسماوات سبع وإنّالاَرضين سبع وإنّ الاِنسان بدنه سبع : يداه ، ورجلاه ، وظهره ، وبطنه ، وقلبه ، وإنّ رأسه سبع : عيناه ، أُذناه ، منخراه ، وفمه ، وفيه لسانه ، كصدره الذي فيه قلبه ، وإنّ الاَئمّة كذلك ، وقلبهم محمد بن إسماعيل واعتلوا في نسخه شريعة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتبديلها ، بأخبار ، رووها عن أبي عبد اللّه جعفر ابن محمد (عليه السّلام) أنّه قال : لو قام قائمنا علمتم بالقرآن جديداً ، وأنّه قال : إنّ


(327)
الاِسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدا ، فطوبى للغرباء ، ونحو ذلك من أخبار القائم.
    و انّ اللّه جعل لمحمد بن إسماعيل جنّة آدم (ص) ومعناها عندهم الاِباحة للمحارم ، وجميع ما خلق في الدنيا ، وهو قول اللّه عزّ وجلّ : « وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ » (1) أي موسى بن جعفر بن محمد ، وولده من بعده من ادّعى منهم الاِمامة.
    وزعموا أنّ محمد بن إسماعيل ، هو خاتم النبيين ، الذي حكاه اللّه عزّوجلّ في كتابه ، وأنّ الدّنيا اثنا عشر جزيرة ، في كلّجزيرة حُجّة وأنّ الحجج اثنا عشر ، ولكلّ حجّة داعية. ولكلّ داعية يد ، يعنون بذلك أنّ اليد رَجلٌ له دلائل وبراهين يقيمها ، ويُسمّون الحُجّة الاَب ، والدّاعية الاَُم ، و اليد الابن ، يضاهون قول النصارى في ثالث ثلاثة ، إنّ اللّه الاَب جل جلاله ، والمسيح (عليه السّلام) الابن ، وأُمّه مريم ، والحُجّة الاَكبر هو الربّ وهو الاَب والدّاعية هي الاَُم ، واليد هو الابن.
    وزعموا أنّجميع الاَشياء التي فرض اللّه تعالى على عباده وسنّها نبيّه(ص) وأمر بها ، لها ظاهر وباطن ، وأنّجميع ما استعبد اللّه به العباد في الظاهر من الكتاب والسنة ، أمثال مضروبة وتحتها معان هي بطونها ، وعليه العمل وفيه النجاة ، وأنّ ما ظهر منها ففي استعماله الهلاك والشقاء ، وهي جزء من العقاب الاَدنى ، عذّب اللّه به قوماً إذ لم يعرفوا الحقّ ولم يقولوا به ، وهذا أيضاً مذهب عامّة أصحاب أبي الخطاب ، واستحلّوا استعراض الناسَ بالسيف وقتلهم على مذهب الخوارج في قتل أهل القبلة ، وأخذ أموالهم ، والشهادة عليهم بالكفر ، واعتلّوا في ذلك بقول اللّه عزّوجلّ : « فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ » (2) ورأوا سبي النساء وقتل الاَطفال ، واعتلّوا في ذلك بقول اللّه تبارك وتعالى : « لا تَذَرْ علَى الاََرْضِ مِنَ الْكافِرينَ دَيّاراً » . (3)
    1 ـ البقرة : 35.
    2 ـ التوبة : 5.
    3 ـ نوح : 26.


(328)
    وزعموا أنّه يجب عليهم أن يبدأوا بقتل مَنْ قال بالاِمامة مِمّنْ ليس على قولهم ، وخاصّة من قال بإمامة موسى بن جعفر ، وولده من بعده؛ وتأوّلوا في ذلك قولَ اللّه تعالى : « قاتِلُوا الَّذِينَ يَلوُنَكُمْ مِنَ الْكُفّارِوَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظةً » (1) فالواجب أن يُبدأ بهوَلاء ، ثمّ بسائر الناس؛ وعددهم كثير ، إلاّ أنّه لا شوكة لهم ولا قوّة ، وهم بسواد الكوفة واليمن أكثر ولعلّهم أن يكونوا زُهاء مائة ألف. (2)
    أقول : إنّ النوبختي أقدم مَن كتب عنهم من أصحاب المقالات ، وقد عاصرهم ، حيث إنّ القرامطة ظهرت سنة 267 هـ ، وتوفي النوبختي في أوائل القرن الرابع حوالي سنة 310 هـ ، فما ذكره عنهم أدقّممّا ذكره غيره.
    2.وقال الاَشعري : القرامطة يزعمون أنّالنبيّ نصّعلى إمامة ابنه الحسن ـ وهكذا ينقل نصّ كلّ إمام على الاِمام المتأخر ـ حتّى وصلت النوبة إلى نصّ جعفر علىإمامة ابن ابنه محمد بن إسماعيل.
    و زعموا أنّمحمد بن إسماعيل حيٌّ إلى اليوم ، ولم يمت ولا يموت حتّى يملك الاَرض ، وأنّه هو المهدي الذي تقدّمت البشارة به ، واحتجوا في ذلك بأخبار رووها عن أسلافهم يخبرون فيها أنّ سابع الاَئمّة قائمهم. (3)
    3.وأمّا عبد القاهر البغدادي فلم يذكر القرامطة بالاسم ، لكن نقل ما ذكره الاِمام الاَشعري في المقالات وقال : « و فرقة قالت كان الاِمام بعد جعفر سبطه محمد بن إسماعيل بن جعفر ، حيث إنّ جعفراً نصب ابنه إسماعيل للاِمامة بعده ، فلمّا مات إسماعيل في حياة أبيه ، علمنا أنّه إنّما نصب ابنه إسماعيل للدلالة على إمامة ابنه محمد بن إسماعيل. (4)
    1 ـ التوبة : 123.
    2 ـ النوبختي : فرق الشيعة : 72 ـ 76.
    3 ـ الاَشعري : مقالات الاِسلاميين : 26.
    4 ـ عبد القاهر البغدادي : الفرق بين الفرق : 63.


(329)
    يظهر ممّا ذكره النوبختي في فرق الشيعة أنّهم كانوا يكفّرون جميع المسلمين حسب عقيدتهم ، ولاَجله قاموا بقتل حجاج بيت اللّه الحرام عام 317 هـ في عهد المقتدر باللّه.
    ذكر ابن الاَثير أنّه حج بالناس في هذه السنة (317 هـ) المنصور الدّيلمي ، و صار بهم من بغداد إلى مكّة فسلّموا في الطريق فوافاهم أبو طاهر القرمطي بمكّة ، يوم التروية ، فنهبَ هو وأصحابُه أموال الحُجّاج ، وقتلوهم حتى في المسجد الحرام وفي البيت نفسه ، وقلع الحجر الاَسود ونفذه إلى هجر فخرج إليه ابن محلب ، أمير مكّة في جماعة من الاَشراف ، فسألوه في أموالهم فلم يشفعهم ، فقاتلوه فقتلهم أجمعين ، وقلع باب البيت وأصعد رجلاً ليقلع الميزاب فسقط فمات.
    وطرح القتلى في بئر زمزم ، ودفن الباقين في المسجد الحرام ، حيث قُتلوا بغير كفن ولا غُسل ، ولا صلى على أحد منهم ، وأخذ كسوة البيت ، فقسّمها بين أصحابه ، ونهب دُورَ أهل مكّة.
    فلما بلغ ذلك المهدي أبا محمد عبيد اللّه العلوي بإفريقية ، كتب إليه ، يُنكر عليه ذلك ويلومه ويلعنه ويقيم عليه القيامة ، ويقول : قد حققت على شيعتنا ودعاة دولتنا اسم الكفرو الاِلحاد بما فعلت ، وإن لم ترد على أهل مكّة وعلى الحجّاج وغيرهم ، ما أخذت منهم ، وتردّ الحجر الاَسود إلى مكانه ، وتردّكسوة الكعبة ، فأنا بريء منك في الدنيا والآخرة.
    فلمّا وصله هذا الكتاب أعاد الحجر الاَسود ، واستعاد ما أمكنه من الاَموال من أهل مكّة فردّه ، وقال : إنّ الناس اقتسموا كسوة الكعبة ، وأموال الحجاج ولا أقدر على منعهم. (1)
    1 ـ ابن الاَثير : الكامل في التاريخ : 8/207 ـ 208.

(330)
    من هذا المقطع الذي ذكرناه من كلام ابن الاَثير يظهر أنّ عبيد اللّه المهدي ينكر عليهم ما ارتكبوه من جرائم شنيعة ، وأنّهم بأعمالهم الوحشيّة هذه مهّدوا الطريق للاَعداء ، ليتّهموهم بالاِلحاد ، والخروج عن الدين. وهذا ممّا يوجب على الباحث العلمي إذا أراد أن يخرج بنتيجة إيجابية أن يجعل للقرامطة حساباً خاصاً وأن يدرسهم دراسة موضوعية تتسم بالعلميّة وعدم الخلط.
    و للاِسماعيليّة التي كانت الخلافة الفاطميّة في مصر تتبناها حساباً آخر ولا يضربهما بسهم واحد.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثامن ::: فهرس