النظام التعليمي ::: 16 ـ 30
(16)
النظام الاجتماعي. فذلك ينسجم مع الفكرة الاسلامية القائلة بالتسخير ، حيث تؤمن بان الافراد مسخرون لخدمة بعضهم البعض ، فاذا ازدادت نسبة الاطباء والمهندسين عن النسبة المقررة لنظام التسخير اختل النظام الاجتماعي ، لان المجتمع لا يحتاج الى فيض غير محدود من الاطباء والمهندسين. بل ان تنويع الاختصاصات امر حيوي لبقاء النظام الاجتماعي وديمومته. ولذلك فان الافراد مسخرون بشكل من الاشكال لخدمة بعضهم البعض ، ولا يتكامل هذا التسخير الاّ بتوزيع الاختصاصات بين الافراد جميعاً ، حتى تتم اشباع حاجات النظام الاجتماعي المختلفة. وعلى ضوء ذلك فان نظرية الصراع في تحليلها للنظام التعليمي الرأسمالي ، اخذت بتفسير قضية الاجور ، وما يتعلق بها من ظلم اجتماعي ، وتركت قضية التسخير دون تفسير ; وهو بلا شك خلل ملحوظ في منهجها الفلسفي المزعوم.


(17)
    « المدرسة » في النظام الرأسمالي :
    عرض للفكرة الامريكية ونقدها
    ويتميز النظام التعليمي في الرأسمالية الامريكية عن غيره من الانظمة الرأسمالية الغربية ، بعدة عناصر مهمة ، منها : اجبارية التعليم في المرحلتين الابتدائية والاعدادية ، ومساهمة المؤسسة التعليمية في حل المشاكل الاجتماعية على قاعدة ( ان التعليم شفاء لكل داء ) ، وادارة المدرسة من قبل الادارة المحلية لا الحكومية المركزية.
    فعلى صعيد التعليم الاجباري ، تعتقد الفكرة الرأسمالية بان لكل فرد حق مشروع في التعليم. وعلى اساس ذلك ، فقد الزمت الحكومة المحلية والفيدرالية بتصميم نظام تعليمي مجاني للجميع ابتداءاً من المرحلة الابتدائية وانتهاءاً بالمرحلة الاعدادية الثانوية. وهذه الفكرة الرأسمالية العظيمة التي نادت بمنح حق التعليم لكل فرد ، لم تكن في الواقع الا خدعة كبيرة من قبل اصحاب الرأسمال. لان الاصل فيها كان تعليم افراد الطبقة العليا والمتوسطة فقط ، وحرمان الطبقة الفقيرة. والدليل على ذلك ان الزنوج حرموا من نعمة التعليم في المدارس العامة في اوروبا وامريكا ، خلال انتشار الرق في القرن الثامن عشر ولحد منتصف القرن العشرين ، بل ان الحكومة الرأسمالية لم تبذل دولاراً واحداً في تلك الفترة على تعليم هؤلاء الفقراء المستضعفين ، مع انهم كانوا يشكلون عصب الطبقة العاملة المنتجة في النظام الاجتماعي. ومع ان النظام التعليمي اليوم قد تبدل عما كان عليه بالامس ، الا ان الاصل في التمييز العنصري والطبقي لا زال موجودا ، لان التمييز في التعليم هو


(18)
الاساس في تثبيت سيطرة الطبقة الرأسمالية على النظام الاجتماعي.
    ولا شك ان برنامج التعليم الامريكي ، المتمثل في التعليم الاجباري العام دون النظر الى قابليات الطلبة في استيعاب المناهج التعليمية ، ادى الى سلبيات تعليمية خطيرة ، منها اولا : حرمان الطلبة من الدخول في المدرس المهنية مبكراً ، وثانياً : انحدار المستوى العلمي للمدارس الثانوية العامة عموماً. وهذا الفشل في تكامل النظام التعليمي في الولايات المتحدة ، يعكس توجه النظام السياسي نحو المحافظة على الفجوة التعليمية الكائنة بين الفقراء والاغنياء. وليس النظام التعليمي الامريكي يتيما في هذا التوجه الطبقي ، فالنظام البريطاني يشجع الطلبة الاقل فهما للمواد العلمية بالدخول الى المدارس الاعدادية المهنية ، والتلاميذ ذوي القابليات العلمية بالدخول الى المدارس الاعدادية النظرية وابناء الطبقة الثرية بالدخول الى مدارس اعدادية راقية معدودة اسماها بمدارس « القواعد النحوية » التي تهيء الطالب الدخول في الجامعات ذات المستوى العلمي المشهود. وبالنتيجة ، اصبح التعليم وسيلة مهمة من وسائل المحافظة على النظام الطبقي الرأسمالي.
    وعلى صعيد الاعتقاد بان التعليم يساهم في حل المشاكل الاجتماعية على قاعدة انه شفاء لكل داء ، فان رواد النظام الرأسمالي يزعمون بان التعليم يجب ان يخدم النظام السياسي الرأسمالي على اكمل وجه. فهذا ( توماس جفرسون ) احد منقّحي لائحة الاستقلال الامريكي سنة 1776 م يقول : « ان مدارسنا يجب ان تضمن نجاح النظام الديمقراطي. فاذا عم الجهل بين الناخبين ، فان تجربتنا السياسية ستكون محكومة


(19)
بالفشل » (1).
    ومنذ القرن التاسع عشر سعى الرأسماليون الى ربط المدرسة بعجلة النظام السياسي والاجتماعي لحل المشاكل الاجتماعية التي يواجهها الافراد في القارة الجديدة. فسعت المدرسة الى صهر الجاليات المهاجرة عن طريق تركيز اسس ومفاهيم القومية الجديدة للعالم الجديد ، وهي اللغة والتاريخ ، وتركت تعليم الدين للكنيسة. وسعت ايضاً الى تعليم ابناء الهنود الحمر اللغة الانكليزية ولكنها تركت تنصيرهم للكنيسة ايضاً اما العبيد فقد تولت الكنيسة تنصيرهم لاحقاً ، ولكن المدرسة لم تبذل جهداً في تعليمهم لان النظام الرأسمالي كان يستشعر خطرا كامناً في تعليم الزنوج باعتبار ان العلم قد يحرر الانسان من قيود العبودية.
    وفي منتصف القرن العشرين بدأ النظام السياسي حملته ضد الفقر عن طريق المدارس ، مدعياً ان تبديل نظرة الفقراء السلبية تجاه الدولة والمجتمع والثقافة ستحل مشكلة الفقر في النظام الرأسمالي. ولكن بعد اقل من نصف قرن من الزمان ، اقر النظام بفشل الحملة المدرسية لمكافحة الفقر ، ملمّحاً الى ان قضية الفقر تتعلق بالعدالة الاجتماعية في النظام الرأسمالي اكثر من تعلقها بالنظام التعليمي.
    وفي محاولة منها لربط المدرسة بالمشاكل الاجتماعية ، قامت المؤسسة التعليمية الرأسمالية ايضاً بتغيير المناهج المدرسية بشكل مستمر ، بهدف المساهمة في حل المشاكل الاجتماعية. فعندما واجه المجتمع الرأسمالي ثورة الشباب للتعبير الصريح عن الشهوة الحيوانية بين الجنسين في العقد السادس
1 ـ المذاكرات الشخصية ص 150.

(20)
من القرن العشرين ، اضطر النظام التعليمي الى تغيير مناهجه التعليمية وذلك بوضع دروس جديدة سميت بثقافة التغشي بين الذكور والاناث ، كان هدفها التقليل من الآثار الاجتماعية الخطيرة التي سببها النظام الاباحي بين الطلبة. وبعدها بعقدين اضطر النظام ادخال دروس جديدة اخرى حول الادمان على المخدرات والكحول وضررها على المجتمع.
    وقد فشلت هذه الحملات الاصلاحية المتوالية ، لتلك الفترة الطويلة ، لاسباب مختلفة منها : ان هذه الاجراءات لم يرد منها اصلا حل المشكلة الاجتماعية بل انما فرضت لاسباب انتخابية وسياسية بحتة ، لان مجالس ادارات المدارس الحكومية ، وهي الهيئات المسؤلة عن المناهج الدراسية ، يتم تشكيلها عن طريق الانتخابات. ومنها : ان مشكلة التعليم مرتبطة بمشكلة انعدام العدالة الاجتماعية. فلو افترضنا جدلا صدق القائمين على حل مشكلة التعليم ، أليس من الواضح لكل ذي بصيرة ان هذه الحلول الجزئية المفترضة ، تعجز عن معالجة المشكلة الاساسية ، فكيف ينفع الاصلاح اليسير لجدار متصدع ما لم يهدم وينشأ بدله جدار جديد قوي ؟ ومنها : ان استقلال النظام التعليمي عن النظام الاخلاقي الديني ، جعل المدرسة مسرحا لمختلف الاتجاهات الفكرية البعيدة عن الاعراف الخلقية المتفق عليها اجتماعيا.
    وعلى صعيد سيطرة الادارة المحلية على توجيه شؤون المدرسة فان النظام الرأسمالي الامريكي تميز عن غيره من الانظمة التعليمية بهذه الخصلة ، باعتبار ان المدرسة ومشاكلها تهمّ المحلة وابنائها بشكل اساسي مباشر ، وان المدرسة انما اسست لخدمة افراد المحلة وادارتها. وعلى هذا


(21)
الاساس ، فان مجلس ادارة المدرسة يجب ان ينتخب من ابناء المحلة بالتصويت المباشر. وعند اكتمال تشكيل مجلس الادارة ، يقوم عندئذ بكل امور التوجيه والاشراف على الحياة المدرسية والنشاط التعليمي ، ابتداءاً من تعيين المعلمين وانتهاءاً بانتقاء وشراء الكتب التي توضع في مكتبة المدرسة. وتختلف المناهج الدراسية من مدرسة الى اُخرى حسب رأي وقرار مجلس الادارة. ففي المناطق المحافظة ، المتمسكة بالدين ، يمنع مجلس ادارة المدرسة تدريس الثقافة الجنسية ونظرية التطور ، بينما يسمح بتدريس هذه المواد الدراسية في مناطق اخرى ، ويرجع تحديد كل ذلك الى مجلس ادارة المدرسة. وعلى المستوى المالي ، فان المدارس مرتبطة بالادارة المحلية وحكومة الولاية. فتدفع حكومة الولاية نصف مصاريف المدرسة وتدفع الادارة المحلية النصف الآخر ، مع نسبة ضئيلة تدفعها الحكومة الفيدرالية.
    واقحام المحلة ومؤسستها المالية والسياسية في ادارة المدرسة ليس وليد صدفة ، بل انه ينبع من صميم الفكرة الرأسمالية. فبدلا من قيام الحكومة الفيدرالية بالصرف المالي على المدارس المنتشرة في مختلف المناطق بشكل عادل ، تقوم المحلة الغنية بدفع نسبة اعلى من الضرائب المخصصة للمدارس المتواجدة ضمن حدودها. وعندها تتمتع المدارس في المناطق الغنية باكمل الخدمات ، ويستفيد الطلبة الاغنياء من النظام التعليمي بافضل وجه. اما المدارس في المناطق الفقيرة فان مجالس اداراتها لا تستطيع النهوض بمهام النظام التعليمي كما يحصل في المناطق الغنية لقلة المخصصات المالية الواردة من ضرائب الفقراء. وبذلك يتضرر الطلبة من العوائل الفقيرة. وهذا ، كما ترى ، ظلم واضح بحق الفقراء من الطلبة الذين يعيشون


(22)
على نفس الارض ويدافعون عن نفس الدولة ويحتمون بنفس النظام.
    وكما ان الاقتصاد الرأسمالي يشجع الافراد على المنافسة الاقتصادية باعتبار ان مردودها ينفع الفرد والمجتمع على حد سواء ، كذلك يشجع على المنافسة في النظام التعليمي الرأسمالي. فاستخدام نظام الدرجات يشجع الطلبة على التنافس من اجل الحصول على اعلى المستويات الاكاديمية. حيث يفوز المنتصر في عملية التنافس بجائزته النهائية ، وهي موقع متميز في النظام الاجتماعي ، بينما ينحرف الخاسر تدريجيا عن سير النظام التعليمي ، ليلتحق باقرانه من الخاسرين من افراد الطبقة العاملة الفقيرة !
    واذا كانت المنافسة تساعد الطالب على نيل اعلى الدرجات في النظام التعليمي الرأسمالي ، فان التعاون بين الطلبة لحل المسائل المعقدة يعتبر نوعاً من الغش ، لان الطالب ، حسب النظرة الرأسمالية ، يجب ان يتحمل المسؤولية الفردية في التعليم والتحصيل وحل المشاكل وفهم مستعصيات العلوم ، ومسؤولية المدرس تبيين وتوضيح وتحديد الخط الذي ينبغي ان يسير عليه الطالب ، وما وراء ذلك فهو مسؤولية التلميذ الشخصية.
    وهذا التركيز على المنافسة في النظام التعليمي الرأسمالي لم يأت اعتباطا ، بل ان رواد الفكرة الرأسمالية يرون ان تعليم الاطفال وتدريبهم على المنافسة في المجال التعليمي سيؤهلهم لاحقاً للمنافسة الاقتصادية في المجتمع الرأسمالي. ولكن هذه المنافسة من اجل الحصول على درجات جيدة تدل على خلل اساسي في النظام التعليمي الرأسمالي ، ذلك ان المدرسة هدفها غرس العلم في اذهان التلاميذ ، وليس الحصول على الدرجات ، لان الدرجات لا تمثل الا رمزاً متعارفاً لكمية فهم الموضوع. ولو كان الاصل من


(23)
التعليم الحصول على درجات جيدة لانتفت موجبات التحصيل من الاصل ، لان دوافع الحصول على مجرد الدرجات يؤدي بالطلبة الى ارتكاب عملية الغش ، وحفظ المواد الدراسية دون فهم ، وقراءة المواد المحتمل ورودها في الامتحان فقط دون غيرها ، ونسيان المواد الدراسية بعد انتهاء الامتحان ، والبحث عن الجامعات الاقل من ناحية المستوى العلمي ولكنها ايسر من ناحية الحصول على الدرجات ، وتفضيل الدراسة عند استاذ ضعيف من الناحية العلمية ولكنه مبسوط اليد في الدرجات على استاذ عالم متشدد في منح الدرجات. وهذا كله يؤدي الى انخفاض المستوى العلمي للطلبة ، ناهيك عن التأثير النفسي الذي يتركه صراع من هذا النوع على نفسيات الخاسرين في عملية التنافس للحصول على أعلى الدرجات.
    وتصبح نتيجة المنافسة المدرسية ، فشلاً كانت او نجاحاً ، جزءاً من الشهادة العلمية للفرد ، وعلى اساسها يُقيّم في المجتمع ، وعلى ضوئها يحدد معاشه وراتبه واسلوب حياته. فاذا كانت درجاته المدرسية المسجلة في الشهادة الجامعية مثلاً عالية ، اصبح مؤهلا للدخول بقوة الى مجال العمل الاجتماعي او البحث العلمي ، حتى لو كانت هذه الدرجات الرمزية لا تمثل فهمه الواقعي للعلم الذي درسه. وبالاجمال ، فان تصنيف الطلبة تحت سقف وجود الذكاء او عدمه استناداً على نسبة الدرجات في الشهادة المدرسية لا يساعد الطلبة بالمرة على التحصيل العلمي الجاد.
    ولما كان النظام التعليمي الرأسمالي يشجع الاغنياء على ارسال ابنائهم الى المدارس الخاصة التي لا يدخلها الا الخواص ، فان الكثرة الغالبة من الطلبة تشعر بان المردودات الاجتماعية والاقتصادية المستقبلية سوف


(24)
تذهب حتما الى القلة من الافراد ، وهذه القلة هي التي ستحوز على قصب السبق ، وستقتطف النصيب الاكبر من الجوائز الاجتماعية ، وبالتحديد : السلطة والثروة والمن زلة الاجتماعية. اما الجد ، والجهد ، والاجتهاد ، والذكاء ، فهي لا تضمن للطلبة الفقراء او من الطبقة المتوسطة مقعدا في الطبقة الرأسمالية. اضف الى ذلك ان الاستسلام لهذا الواقع من قبل الفقراء والطبقة المتوسطة يخلق جوا يساعد الطبقة الرأسمالية على البقاء في مواقعها ، والاحتفاظ بمصالحها الاجتماعية والاقتصادية المتميزة. واهم مساعدة يقدمها النظام التعليمي الرأسمالي للطبقة الرأسمالية العليا هو القاء مسؤولية الفشل الاكاديمي على الطالب وحده وليس على النظام الاجتماعي الذي وضع الغني في موقع متميز منذ نعومة اظفاره ، وهيأ له اسباب النجاح والتفوق دون الطالب الفقير. وهكذا تصبح الفكرة الرأسمالية القائلة بـ « ان لكل فرد فرصة متساوية مع بقية الافراد في النظام الاجتماعي » نظرية خادعة ، لا تحمل معها اي معنى تطبيقي في مفهوم العدالة الاجتماعية.


(25)
    المدرسة وانعدام العدالة الاجتماعية
    وكما ذكرنا سابقاً ، فان الافراد في المجتمع الرأسمالي لا يملكون فرصاً متساوية للتحصيل ، على خلاف ما يدعيه انصار النظام الرأسمالي ، بل ان الطبقة الاجتماعية التي يولد فيها الفرد تحدد نوعية التعليم الذي سيحصل عليه لاحقاً ، وكما ان الثروة تتراكم بايدي القلة من افراد الطبقة العليا ، كذلك التعليم ، فان درجته الاكاديمية ومستواه الفكري مرتبط بالثروة ، والقوة ، والمنزلة الاجتماعية.
    فابناء الطبقة الرأسمالية يحصلون في مجال التعليم على ميزتين اساسيتين ، الاولى : ان اغلبهم يقضي سنوات اكثر في التحصيل مقارنة باقرانهم من ابناء الطبقة الفقيرة. وثانياً : انهم يحجزون المقاعد الدراسية في الجامعات العريقة ذات المستوى الرفيع امثال جامعة هارفرد واكسفورد وكامبرج وبرنستون وييل وكولومبيا وغيرها من الجامعات الراقية. علماً بان شهادات هذه الجامعات تترجم مستقبلاً الى منافع اقتصادية واجتماعية عظيمة لهؤلاء الافراد.
    وعلى عكس ما تدعيه النظرية الرأسمالية ، من ان لكل فرد الحق في التحصيل والتعليم ودخول ارقى الجامعات. فان الذكاء لا يلعب دوراً حاسماً في قبول الطلبة في هذه الجامعات ، بل ان الاجور الدراسية وقابلية الفرد على دفعها هي المقياس. حيث ينصرف الكثير من اذكياء الطبقة المتوسطة والفقيرة الى الدخول في الجامعات المتواضعة او الانخراط في الاعمال التجارية او الاشغال الحرة ، لانهم لا يستطيعون دخول الجامعات العريقة


(26)
ودفع اثمان مناهجها الباهضة.
    ويدعي زعماء الفكرة الرأسمالية المعاصرون بان اغلب الاذكياء ينضوون تحت راية العوائل الرأسمالية ، ابتداءاً من علماء الفيزياء والذرة وانتهاءاً بكتّاب الادب والثقافة. بينما يحتل الافراد من البشرة السوداء اقل الدرجات في مستويات الذكاء ، حسب زعمهم. وهذا الافتراض تدحضه التجارب العلمية التي تثبت ان الذكاء ليس عاملاً وراثيا. ولو كان الذكاء علماً حضورياً لافترضنا امكانية انتقاله بالوراثة ، ولكن الواقع التجريبي يثبت ان ثلاثة ارباع كمية الذكاء عند الانسان ما هي الا علم حصولي يكتسب بالقراءة والاستماع والتحصيل. اما العلم الالهامي الحضوري فهو العلم المستجمع في ذهن الانسان عن طريق غيبي وبطبيعة الحال فان هذا العلم لا يأتي الى افراد الطبقة الرأسمالية دون غيرهم من افراد الطبقات. والفقر ليس جنساً او قومية ، فقد يصيب الابيض والاسود ، واليهودي والنصراني ، والامريكي والآسيوي ، بمعنى ان الاب لو كان فقيراً ، فكيف يعقل ان يترجم هذا الفقر الى جينات وراثية تمثل انعدام الذكاء ، ثم كيف تنتقل هذه الجينات من الاب الى الابن بالوراثة ؟ اليس هذا التحليل من تدبير النظام الرأسمالي حتى يبقى الفقراء في الدرجة السفلى من السلم الثقافي ؟ وعندها لا يحق لهم ان يتسلموا امور السلطة السياسية!!
    ولو كان الافتراض الموضوعي ان الذكاء ، هو تعلم المهارات الفنية لكان ذلك اقرب الى المنطق والواقع العملي. لان الافراد متفاوتون في قابلياتهم ، فبعضهم يتفوق في علم اللغات ، وآخرون في الرياضيات ، وآخرون في المنطق ، وآخرون فى الكيمياء ، وهذا لا يمثل علماً حضورياً ،


(27)
بل استعداداً وقابلية لسرعة هضم المادة العلمية التي انشرح لها عقل ذلك الطالب. ولا يختلف الفقير عن الغني على هذا الصعيد.
    ولا يعتبر العامل الطبقي ، العامل الوحيد الذي يحدد دخول الفرد للجامعة ، بل ان لون البشرة يلعب ايضاً دوراً مهماً في التحصيل العلمي. فالافراد من البشرة السوداء يحصلون على اقل المقاعد الدراسية في الجامعات العريقة المذكورة مقارنة باقرانهم من ذوي البشرة البيضاء.
    ولا شك ان تصميم النظام التعليمي بهذا الشكل الطبقي ، مرتبط بعوامل اجتماعية عديدة تتضافر كلها لخدمة الطبقة الرأسمالية ، فلابد للطالب الذي يروم التسجيل في دروس احدى الجامعات في النظام الرأسمالي الامريكي النظر الى امور قبل اتخاذه هذا القرار ، منها : اجور الجامعة ، والتشجيع العائلي ، والخلفية الثقافية ، ومشكلة اللغة ، وعملية الالصاق ، ونفسية الاستاذ. وكل هذه العوامل تصب لصالح الطالب الغني دون الطالب الفقير.
    فعلى صعيد اجور الجامعة ، فان الطالب الفقير يترك الجامعة لا لأنه لا يستطيع تسديد الاجور الجامعية فحسب ، بل لان عائلته تحتاج الى من يكدح لجلب لقمة العيش. اما الطالب الثري من افراد الطبقة العليا ، فهو في غنى عن التفكير بمشاكل العيش ، بل ان كلّ اهتمامه منصبّ على التحصيل العلمي والتفوق.
    وعلى صعيد التشجيع العائلي ، فان العائلة الغنية تتوقع من ابنائها وبناتها الاستمرار في التحصيل العلمي لحد انتهاء المرحلة الجامعية ، مما يحمّل الطالب او الطالبة مسؤولية اكمال الدراسة باي شكل من الاشكال. اما


(28)
العوائل الفقيرة فانها لا تأمل من ابنائها الدخول في الجامعات ، بل ان اهتمامها الرئيسي منصبّ على البحث عن عمل مناسب لسد حاجات العائلة الاساسية. فيصبح شعور الفقير بمسؤوليته الاجتماعية والعائلية عائقاً في اكمال التحصيل العلمي.
    وعلى صعيد الخلفية الثقافية ، فان العوائل الغنية توفر اجواء حب المطالعة لابنائها ، كسعة البيوت وهدوئها واحتوائها غالباً على الكتب. وفي اغلب الاحيان تفرد غرفة خاصة للمطالعة ، وهذا كله يساعد الطالب على صفاء الذهن وحب الاكتساب والتحصيل والابداع في النشاط الثقافي والعلمي. اما مساكن العوائل الفقيرة فهي غالباً ما تكتض بالافراد وتنعدم فيها اجواءالمطالعة ، لان هذه العوائل مشغولة بمشاكلها اليومية الملحة. ولذلك ، فان العوائل الفقيرة في النظام الرأسمالي لا تقيم وزناً للعلم او التحصيل العلمي ، لانها تعتقد خطأ ، ان العلم لا يؤدي الى اشباع حاجاتها الاساسية.
    وعلى صعيد اللغة ، فان الطبقة الغنية تعلم اهمية اللغة الفصحى في مخاطبة افراد النظام الاجتماعي والسيطرة على النظام السياسي ، حيث تحمّل تلك العوائل ابنائها مسؤولية اتقان اللغة الفصحى اتقاناً تاماً ، فيتعلم افرادها التكلم بلغة نحوية خاصة منذ الصغر. اما العوائل الفقيرة فانها لا تهتم بذلك فيتكلم ابنائها اللغة العامية الدارجة. وهذا الفارق بين من يتكلم الفصحى ومن يتكلم العامية يؤثر على قابلية الطالب في القراءة والفهم والتعامل مع الناس. وطالما كانت اللغة من اهم عوامل الاتصال والتفاهم الانساني ، فان اتقانها من قبل الفرد منذ الطفولة يفتح له طريقاً مشرقاً


(29)
للمستقبل. اما الاخفاق في ذلك فانه ينتهي بوصم الفرد بمحدودية الفهم وعدم القدرة على التعبير عما يدور في ذهنه ، وبالتالي محدودية التأثير على الافراد ، والقصور في نقل وترجمة المعاناة والآلام التي يعشيها الفقراء في المجتمع.
    وعلى صعيد الالصاق ، فان وصم الطالب واتهامه بمحدودية الفهم سيجعله محدوداً في الواقع الخارجي ، لان للالصاق دور نفسي مهم في فقدان ثقة المرىء بنفسه. اما اسبغاء صفة الذكاء عليه فتجعله اكثر شعورا بتطور قابليته الذكائية ، فاذا ما تم ذلك فانه سيستجمع كل قواه الداخلية ليبرهن على انه طالب ذكي ، وفي اغلب الاحيان ينجح في تحقيق ذلك ، ويشق طريقه العلمي بكل توفيق. واستناداً على هذه القاعدة النفسية يوصم النظام الرأسمالي الفقراء بوصمة عدم التدبير ويزعم انهم يملكون استعداداً ضيقاً للفهم ولذلك فانهم لا يتطورون علمياً كما يتطور الاغنياء!! ولا شك ان هذا الوصم من صنع النظام الرأسمالي نفسه حتى يستطيع المحافظة على التركيبة الاجتماعية الطبقية التي خلقها في الاصل. وبهذه الطريقة يزاح الطالب الفقير الذكي من مستقبله العلمي المشرق ليحل محله طالب من الطبقة الرأسمالية لا احد يعلم مستواه الواقعي في الذكاء.
    وعلى صعيد نفسية المعلم ، فان المعلمين في المدارس الرأسمالية العامة يميزون في التعامل الدراسي بين طلبة الطبقة الفقيرة من جهة ، وطلبة الطبقة المتوسطة والعليا من جهة اخرى لان هؤلاء المدرسين يعتبرون انفسهم من الطبقة المتوسطة اولا. وثانياً : لان الطلبة من الطبقة المتوسطة والعليا غالباً ما يكونوا على درجة من النظافة وحسن السلوك والمنطق اللبق ، وهو ما


(30)
يساعد المعلم وهؤلاء التلاميذ على التفاهم والتفاعل الاجتماعي والعلمي. اما الطلبة الفقراء فانهم بعيدون عن كل ذلك لان وضعهم الاجتماعي لا يساعدهم على الارتفاع الى مستوى الطبقة المتوسطة والعليا. وهذا العامل يحرم الطلبة الفقراء من الاستفادة من امكانيات وطاقات المعلم في عملية التحصيل.
    وكل هذه العوامل تحرم الطالب الفقير من الاستمرار في التحصيل العلمي واكمال الدراسة الجامعية ، بل تجبره الظروف المعيشية على الانخراط في العمل المهني واليدوي. وتبقى الساحة العلمية مفتوحة على مصراعيها للطلبة الاغنياء من ابناء الطبقة الرأسمالية.
    واعظم الظلم في النظام التعليمي الرأسمالي هو محاولة النظام نسبة الذكاء الى ابناء الطبقة الرأسمالية ، وتغطيته بغطاء علمي كاذب وهو ان الذكاء عامل وارثي اولاً ، والزعم بان الفقراء متخلفون من الناحية العلمية لانهم متقاعسون عن التحصيل ، ثانياً. متناسياً ان الذي سبب فشل الفقراء في التحصيل العلمي هو التراكم غير المشروع للثروة عند الاغنياء من الطبقة الرأسمالية ، وحصر التعليم الجامعي ذو المستوى الرفيع بالاثرياء عن طريق رفع اجور الجامعات الخاصة بشكل يستحيل على الفقراء الدخول فيها ، والمشاركة في ادارة النظام الاجتماعي لاحقاً.
النظام التعليمي ::: فهرس