القول الصراح في البخاري وصحيحه الجامع ::: 196 ـ 210
(196)
استقبل بي وجه ابن الزبير ، وارفع من صدري ؛ وكان ابن عباس قد كُفّ بصره فاستقبل به قائده وجه ابن الزبير ، وأقام قامته فحسر عن ذراعيه ، ثم قال : يابن الزبير :
قد أنصف القارة من راماها يردّ أولاها على أخراها إنّا إذا مافئةٌ نلقاها حتى تصير حرضاً دعواها
    يابن الزبير ، أما العمى فان الله تعالى يقول : ( فانها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) (1) ، وأما فُتياى في القَملة والنَّملة ؛ فان فيها حكمين ، لا تعلمها أنت ولا أصحابك.
    وأما حمل المال فانه كان مالاً جبيناه فاعطينا كل ذي حق حقه ، وبقيت بقيَّة وهي دون حقنا في كتاب الله فأخذناها بحقنا ، وأما المتعة : فسل أمك أسماء إذا نزلت عن بُردَي عَوسَجة.
    وأما قتالنا أمّ المؤمنين : فبنا سمِّيت أم المؤمنين لابك ولا بأبيك; فانطلق أبوك وخالك إلى حجاب مدّه الله عليها فهتكاه عنها ، ثم أتخذاها فتنة يقاتلان دونها ، وصانا حلائلهما في بيوتهما ، فما أنصفا الله ولا محمداً من أنفسهما أن أبرزا زوجة نبيّه وصانا حلائلهما.
    وأما قتالنا إيّاكم : فإنّا لقيناكم زحفاً ، فان كنّا كفّاراً فقد كفرتم بفراركم منّا ، وان كنّا مؤمنين فقد كفرتم بقتالكم إيّانا ، وايم الله لولا مكان صفيّة فيكم ، ومكان خديجة فينا لما تركت لبني أسد بن عبد العزَّى عظماً إلاّ كسرته.
1. الحج : 46.

(197)
    فلما عاد ابن الزبير إلى أمه سألها عن بُردَي عَوسجة ؟ فقالت : ألم أنهك عن ابن عباس ، وعن بني هاشم ! فانهم كُعُمُ (1) الجواب اذا بدهوا ، فقال : بلى وعصيتك ، فقالت : يا بُني احذر هذا الأعمى الذي ما اطاقته الإنس والجن ، واعلم أنّ عنده فضائح قريش ومخازيها بأسرها ; فإيّاك وإيّاه آخر الدهر.
    وهذه القضية تشهد على ابن الزبير بالكفر من وجوه عديدة لاتخفى ، وليت شعري لِمَ لَمْ يوجد هذا التكاذيب والتخاصم سقوط أخبارهما عن درجة الحجية والاعتبار عند العامة ، وأوجب مجرد ردّ هشام بن الحكم على هشام بن سالم مع عدم العلم بحقيقة سقوط أخبارهما جميعاً عن الاعتبار والحجية ، كما ذكره المتعصب الكابلي.
    وفيها أيضاً شهادة على ان ابن عباس الملقّب بترجمان القرآن عند القوم ، والذي عقد البخاري باباً في مناقبه وروى في حقه : أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دعا له بان يعلّمه الله الحكمة ، يرى حلّية المتعة.
    وأما اقدام ابن الزبير على سبّ أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) فيعلم تفصيله من الرجوع إلى تاريخ روضة الاحباب وهو من التواريخ المعتبرة للقوم.

    عبدالله بن الزبير وخدعته لعائشة
    وأما ما وقع منه في وقعة الجمل : فقد ذكر السمعاني في الانساب في نسبة الحوأبي وورد في حديث عصام بن قدامة عن عكرمة عن ابن عباس ان
1. كعم البعير : شدَّ فاه لئلا يعض أو يأكل ؛ والكعام : ما يجعل على فمه ، والجمع : كعم ، والمعنى أنّهم ذوو أجوبة مسكتة مخرسة ، تلجم أفواه مناظريهم.

(198)
النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال لنسائه : ليت شعري ايتكن صاحبة الجمل الأديب ، وقيل الاحمر ، تنحبها كلاب الحوأب.
    وروى اسماعيل بن أبي خالد ، كذلك عن قيس بن أبي حازم ، عن عائشة أنها مرّت بماء فنبحتها كلاب الحوأب فسألت عن الماء ؟ فقالوا : هذه ماء الحوأب.
    والقصة في ذلك أن طلحة والزبير بعد قتل عثمان وبيعة علي خرجا إلى مكة وكانت عائشة حاجة تلك السنة بسبب اجتماع الفساد والغيث من البلاد بالمدينة بقتل عثمان ، فخرجت عائشة هاربة من الفتنة.
    فلما لحقها طلحة والزبير حملاها إلى البصرة في طلب دم عثمان من علي ، وكان معها ابن الزبير عبدالله ابن اختها أسماء ذات النطاقين ، فلما وصلت عائشة معهم إلى هذا الماء نبحت الكلاب عليها فسألت عن الماء واسمه ؟ فقيل : لها الحوأب ، فتوقّفت على الرجوع فدخل عليها ابن أختها ابن الزبير وقال : ليس هذا ماء الحوأب حتى قيل انه حلف على ذلك وكفّر عن يمينه ، والله أعلم ، وتممت عائشة إلى البصرة وكانت وقعة الجمل المعروفة (1).
    وقال قاضي القضاة ابن الشحنة الحلبي في كتاب روض المناظر :
    في سنة ستّ وثلاثين : أرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى البلاد عماله فبعث عمّار بن شهاب إلى الكوفة ، وكان من المهاجرين وولي عثمان بن حنيف الانصاري البصرة ، وعبيدالله بن عباس اليمن ، وقيس بن سعد الانصاري مصر ، وسهل بن حنيف الانصاري الشام ، فرجع من الطريق لما سمع بعصيان
1. الأنساب 2 : 286.

(199)
معاوية وكذلك عمارة لقيه طلحة بن خويلد الذي ادعى النبوة في خلافة أبي بكر فقال : ان أهل الكوفة لا يستدلون بأبي موسى الاشعري ، فرجع ولما وصل عبدالله إلى اليمن خرج الذي كان بها من قتل عثمان وهو يعلى بن منبه بما بها من الاموال الى مكة وصار مع عائشة وطلحة والزبير وجمعوا جمعاً عظيماً وقصدوا البصرة ، ولم يوافقهم عبدالله بن عمر.
    وأعطى يعلى بن منبه لعائشة جملاً كان اشتراه بمائة دينار اسمه عسكر ، وقيل بثمانين وركبته ومرّوا بمكان اسمه الحوأب فنبحتهم كلابه فقالت عائشة : أي ماء هذا ؟
    فقيل لها : هذا ماء الحوأب فصرخت وقالت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول وعنده نساؤه : ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب ؟ ثم ضرب عضد بعيرها فاناخته ، وقالت : دونني فأقاموا يوماً وليلة فقال لها عبدالله بن الزبير : انه كذب ليس هذا ماء الحوأب.
    ولم يزل بها وهي تمتنع ، فقال : النجا النجا فقد أدرككم علي ، فارتحلوا فوصلوا البصرة (1).
    وقال ابن قتيبة في « الامامة والسياسة » : فلما انتهوا إلى ماء الحوأب في بعض الطريق ومعهم عائشة تنبحها كلاب الحوأب ، فقالت لمحمد بن طلحة : أي ماء هذا ؟
    قال : ماء الحوأب.
    قالت : ما أراني إلاّ راجعة.
1. روض المناظر : 113.

(200)
    قال : لِمَ ؟ قالت : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول لنسائه : كأني باحديكن قد نبحها كلاب الحوأب ، وإيّاك أن تكون هي أنت يا حميراء !
    فقال لها محمد بن طلحة : تقدمي رحمك الله ، ودعي هذا القول.
    فأتى عبدالله بن الزبير فحلف لها بالله لقد خلفته في أول الليل ، وأتاها ببيّنة زور من الاعراب فشهدوا بذلك.
    وقال جمال الدين المحدث في « روضة الأخبار » نحو ما ذكروا : إنّه لما امتنعت من الذهاب جاء ابن الزبير بخمسين شاهد شهدوا أنه ليس بماء الحوأب.
    وقالوا : هي أول شهادة زور اقيمت في الاسلام.
    وأن عائشة ما قنعت بتلك الشهادة وكانت تجزع وتضطرب حتى صاح عبد الله بن الزبير من اخريات الناس أدركنا علي.
    فخافت عائشة وطلبت دليلاً فقال لها طلحة : ان الدليل قد فرّ لغلطه وخطائه في تلك التسمية ، وبالجملة هذه القضية متواترة مذكورة في كتب الخاصة والعامة.
    وفي التذكرة لسبط ابن الجوزي : نقلاً عن ابن جرير أن طلحة والزبير قالا لها : ما هذا الحوأب ؛ وأحضرا خمسين رجلاً فشهدوا بذلك وحلفوا ، وأن الشعبي قال : هي أول شهادة زور أقيمت في الاسلام (1).
1. تذكرة الخواص : 66 ، ولايخفى أن أول شهادة زور أُقيمت في الإسلام كما شهدت عليها بعض الروايات هي الشهادة على عدم توريث الأنبياء عند مطالبة فاطمة نحلتها من فدك وغيرها من أبي بكر.
فإنّه جمع أصحابه وشهدوا على قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « نحن معاشر الأنبياء لا نورث ».


(201)
    أقول : لا منافاة فان المقتضى الجمع بينها ، ان الثلاثة اشتركوا في هذا الفعل القبيح ، والصنيع الشنيع ، واقامة شهود الزور.
    وذكر أيضاً حكاية طويلة محصلها أنه طلب أميرالمؤمنين صلوات الله عليه الزبير ووعظه وزجره وذكره قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال للزبير لتقابلن علياً وأنت ظالم له.
    فقال الزبير : لو ذكرت هذا ما خرجت من المدينة ووالله لا أقاتلك.
    وفي رواية : فما الذي أصنع وقد التقيا حلقتا البطان ورجوعي على عار ، فقال علي ( عليه السَّلام ) له : ارجع بالعار ولاتجمع بين العار والنار فأنشد الزبير في ذلك الاشعار ، وعاد إلى عائشة وقال لها : ما كنت في موطن منذ عقلت عقلي الاّ وأنا أعرف أمري الاّ هذا.
    قالت له : فما تريد أن تصنع ؟ قال : أذهب وادعهم ، فقال له عبدالله ولده : جمعت هذين الفريقين حتى اذا حدّ بعضهم لبعض أردت أن تتركهم وتذهب ؟
    أحسست برايات ابن أبي طالب فرأيت الموت الأحمر منها ومن تحتها ، تحملها فئة انجاد سيوفهم حداد ؟!
    فغضب الزبير وقال : ويحك قد حلفت أن لا أقاتله.
    فقال : كفِّر عن يمينك ، فدعا غلاماً له يقال له مكحول فاعتقه.
    وفي رواية أن الزبير لما قال له ابنه ذلك غضب وقال له : ابنه والله لقد فضحتنا فضيحة لا نغسل منها رؤوسنا أبداً ، فحمل الزبير حملة منكرة.


(202)
    باختصار فلينظر العاقل إلى هذا الشقي المنهمك في الضلالة كيف كان يغري عائشة وأباه إلى مقاتلة نفس رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ووصيه وابن عمه ومن كان معصيته معصيته وطاعته طاعته ، وكيف كان بعد ترك مقاتلته فضيحة باقية في أعقابهم.
    وفي الروايات المعتبرة أنه افتخر عند معاوية بأنه وقف في الصف بازاء علي بن أبي طالب.
    فقال له معاوية : لا جرم قتلك وأباك بيده اليسرى وبقيت اليمنى فارغة.
    ومن نتائج بغضه انه كان يحبّ خروج سيّد الشهداء صلوات الله عليه من مكة إلى العراق وكان ( عليه السَّلام ) أثقل خلق الله عليه لما علم أن أهل الحجاز لايبايعونه ما دام هو ( عليه السَّلام ) بالبلد وقد ينافق فيظهر كراهته لخروجه.
    وقال صلوات الله عليه : ان ابن الزبير ليس شيء من الدنيا أحب اليه من أن أخرج من الحجاز ، وقد علم أن الناس ما يعدلونه بي فودّ اني خرجت حتى يخلو له.
    وقال ابن عباس له ( عليه السَّلام ) وقد رآه عارفاً جازماً على الخروج لقد أقررت عين ابن الزبير بالخروج من الحجاز ، وهو اليوم لا ينظر إليه أحد معك ومرّ ابن عباس بابن الزبير فقال : قرّت عينك يابن الزبير ، ثم قال :
يالكِ من قُبَّرة بمعمر وَنَقِّرِي ما شئتِ ان تُنَقِّرِي خلا لكِ الجوّ فبيضي واصفري هذا حسين سائرٌ فابشري
    هذا حسين يخرج إلى العراق ويخليك والحجاز ، ذكر هذا كلّه جماعة ، منهم علاّمتهم المحدّث عمر بن فهد المكي في « اتحاف الورى » في


(203)
ضمن حكاية طويلة ومجدد دينهم في المأة التاسعة السيوطي : في « تاريخ الخلفاء » وغيرهما في غيرهما.
    ولعمري لولم يكن لابن الزبير الاّ فرحته وسروره بمفارقة مثل أبي عبدالله ( عليه السَّلام ) وخروجه من الحجاز لكفاه خزياً وخسارة وشقاراً وضلالة ، ولو كان له أدنى حظ من الايمان وأقل قسط من الايقان لما صار قرير العين بمسير الحسين صلوات الله وسلامه عليه بل بكى وذاب ألماً ، وصار قلبه لذلك مجروحاً وعينه مقروحاً وأطال الحزن والكابة ، ويعنى بالشجن والسامة وهل يسرّ بالفراق الاّ الشامت الكاشح والمبغض الغير الناصح.

    عبدلله بن الزبير ومحاصرته لبني هاشم
    ومن شنائع أطواره وقبائح أفعاله ما صدر منه بالنسبة إلى سيدنا محمد بن الحنفية وابن عباس من التشديد عليهما وايذائهما وحصرهما في الشعب واحضار الحطب لاحراقهما لامتناعهما من مبايعته مع عدم صلاحيته للخلافة بنص علماء القوم.
    قال في الاستيعاب : قال علي بن زيد الجدعاني : كان عبدالله بن الزبير كثير الصلاة شديد البأس كريم الجدات ، والامّهات ، والخالات الاّ انه كان فيه خلال لا تصلح للخلافة ، لانه كان بخيلاً ضيّق العطن سيّء الخلق ، حسوداً ، كثير الخلاف أخرج محمد بن الحنفية ، ونفى عبدالله بن عباس إلى الطائف (1).
    وبعد ملاحظة ما تقدم من تصريحهم بأن من رضي بامام باطل فانه يكفر
1. الاستيعاب 3 : 906 رقم 1535.

(204)
يتضّح غاية الوضوح كفر نفس الامام الباطل الذي لا يصلح للامامة.
    وفي تاريخ ابن خلكان في ترجمة سيدنا ابن الحنفية : ولما دعى ابن الزبير إلى نفسه وتابعه أهل الحجاز بالخلافة دعى عبد الله ابن عباس ومحمد بن الحنفية رضي الله عنهما إلى البيعة فأبيا ذلك ، وقالا له : لا نبايعك حتى يجتمع لك البلاد ويتفق الناس فأساء جوابهم وحصرهم وآذاهم وقال لهما والله لئن لم تبايعا أحرقتكما بالنار.
    وذكر ابن حجر في فتح الباري في كتاب التفسير : كان ابن عباس وابن الحنفية بالمدينة ثم سكنا مكة فطلب منهما ابن الزبير البيعة فابيا حتى يجتمع الناس على رجل فضيّق عليهما فبعثا رسولاً إلى العراق فخرج اليهما جيش في أربعة آلاف ، فوجدوهما محصورين وقد احضر الحطب على الباب يخوّفهما بذلك فاخرجوهما إلى الطائف.
    وقال عمر بن فهد المكي في « اتحاف الورى » في وقائع سنة ستّ وستين : فيها دعى عبدالله بن الزبير محمد بن الحنفية ومن معه من أهل بيته وسبعة عشر رجلاً من وجوه أهل الكوفة منهم أبو الطفيل عامر بن واثلة الصحابي ليبايعوه فامتنعوا وقالوا : لانبايع حتى تجتمع الأمّة فاكثر ابن الزبير الوقيعة في ابن الحنفية ، وذمه فاغلظ له عبدالله بن هاني الكندي وقال : لئن لم يضرك الاّ تركنا بيعتك لا يضرك شيء ، وان صاحبنا يقول لو بايعني الأمّة كلّها غير سعد مولى معاوية ما قتلته وانما عرّض بذكر سعد لأن ابن الزبير أرسل إليه فقتله فسبّ عبدالله ، وسبّ أصحابه ، وأخرجهم من عنده ، فاخبروا ابن الحنفية بما كان منهم ولم يلحّ عليهم ابن الزبير.


(205)
    فلما استولى المختار على الكوفة ، وصارت الشيعة تدعوا لابن الحنفية ، خاف ابن الزبير ان يتداعي الناس إلى الرماية فحينئذ ألح على ابن الحنفية وعلى أصحابه في البيعة له ، فجلسهم بزمزم وتوعّدهم بالقتل والاحراق ، وأعطى إليه عهداً ان لم يبايعوه ينفذ فيهم ما توعّدهم به وضرب لهم على ذلك أجلاً ، فأشار بعض من كان مع ابن الحنفية عليه أن يبعث الى المختار والى من بالكوفة رسولاً يعلمهم حالهم وحال من معهم وما كان توعدهم به ابن الزبير.
    فوجد ثلاثة نفر من أهل الكوفة حين نام الحرس على باب زمزم ، وكتب معهم إلى المختار وإلى أهل الكوفة يعلمهم حاله وحال من معه وما توعدهم به ابن الزبير من القتل والتحريق بالنار ويطلب منهم النصرة ، ويسألهم ان لا يخذلوه كما خذلوا الحسين ( عليه السَّلام ) وأهل بيته.
    فقدموا على المختار فدفعوا اليه الكتاب فنادى في الناس فقرأ عليهم الكتاب إلى أن قال : فوجّه المختار أبا عبدالله الجدلي في سبعين راكباً من أهل القوة ، ووجّه ظبيان بن عمّارة أخا بني تميم ، ومعه أربعمأئة ، وبعث معه لابن الحنفية أربعمائة درهم وسيّر أبا معتمر في مأة وهاني بن قيس في مأة وعمير ابن طارق في أربعين ويونس ابن عمران في أربعين وكتب إلى محمد بن علي مع الطفيل بن عامر ومحمد بن قيس بتوجيه الجند اليه وخرج الناس أثرهم في أثر بعض.
    وجاء أبو عبدالله الجدلي ، حتى نزل ذات عرق في سبعين راكباً فأقام بها حتى أتاه عمير ويونس في ثمانين راكباً فبلغوا مأة وخمسين رجلاً ، فسار بهم حتى دخلوا المسجد الحرام ، ومعهم الكافر كوبات ، (1) وهم ينادون يا لثارات
1. هذه كلمة مركبة من كافر وكوبات وهي آلة الحرب نصرب بها الكفار ، والكوبات فارسية.

(206)
الحسين ( عليه السَّلام ) حتى انتهوا إلى زمزم وقد أعدّ ابن الزبير الحطب ليحرقهم ، وكان قد بقى من الأجل يومان فطردوا الحرس ، وكسروا أعواد زمزم ودخلوا على ابن الحنفية ، فقالوا : خلّ بيننا وبين عدوّ الله ابن الزبير.
    فقال لهم : اني لا استحل القتال في حرم الله ، فقال ابن الزبير واعجباً لهذه الخشبية ينعون حسيناً ، ثم كأني قتلته ، والله لو قدّرت على قتلته لقتلتهم ، وانّما قيل لهم خشبية لانهم وصلوا إلى مكة وبايديهم الخشب كراهة اشهار السيوف في الحرم وقيل لانهم أخذوا الحطب الذي أعدّه ابن الزبير وقال ابن الزبير : أيحسبون أني أخلى سبيلهم دون أن أبايع ويبايعون ؟!
    فقال أبو عبدالله الجدلي : أي وربّ الكعبة والمقام وربّ الحلّ والحرام لتخلّ سبيلهم أو لنجادلنك بأسيافنا جدالا يرتاب فيه المبطلون.
    فقال ابن الزبير : هل أنتم والله الاّ أكلة رأس لو أذنت لأصحابي ما مضت ساعة حتى تعطف رؤوسهم.
    فقال له قيس بن مالك : أما والله اني لأرجو اذا رمت ذلك ان يرسل إليك قبل أن ترى ما تحب.
    فكف ابن الحنفية أصحابه وحذرهم الفتنة ، ثم قدم أبو المعتمر في مائة وهاني بن قيس في مائة وظبيان ابن عمّارة في مائتين ، ومعه المال حتى دخلوا المسجد الحرام فكبروا وقالوا : « يا لثارات الحسين ( عليه السَّلام ) » رآهم ابن الزبير وخافهم.
    فخرج محمد بن الحنفية ومن معه إلى شعب علي وهم يسبون ابن الزبير ويستأذنون ابن الحنفية فيه ، فيأبى عليهم واجتمع مع محمد في الشعب أربعة


(207)
آلاف رجل ، فقسّم بينهم ذلك المال ثم ذكر مما يتعلق بهذه القصة أشياء كثيرة لم ننقلها اختصاراً (1).
    قال ابن أبي الحديد : قال المسعودي : وكان عروة بن الزبير يعذر أخاه عبدالله في حصر بني هاشم في الشعب ، وجمعه الحطب ليحرقهم ويقول انما أراد بذلك أن الاّ تنتشر الكلمة ، ولا يختلف المسلمون ، وأن يدخلوا في الطاعة ، فتكون الكلمة واحدة ، كما فعل عمر بن الخطاب ببني هاشم لما تأخروا عن بيعة أبي بكر ، فانه أحضر الحطب ليحرق عليهم الدار. (2)
    ولا ينبغي أن يفعل عما يفهم من هذا الاعتذار فانه يدل على ان احضار عمر الحطب لاحراق بيت سيدّة النساء وأمير المؤمنين صلوات الله عليهم كان أمراً مسلّماً مفروغاً عنه عند قدمائهم فلا يجدي انكار متأخريهم طائلاً.
    ويدل على أن جسارة ذلك الشقي على أهل البيت أوجبت هذه الامور وأثمرت هذه العظائم ، وأنه لولم يجرأ أولاً ذاك الملعون على ما فعل لما جرى على أهل البيت ماجرى.
    اللهم العن أول من أسس أساس الظلم والجور عليهم ، وآخر تابع له على ذلك.
    ومما عيّب على ابن الزبير أنه قال : لتنتهن عائشة عن بيع رباعها او لأحجرنّ عليها ، وكانت لا تمسك شيئاً مما يأتي في يدها بل تتصدّق به. فنذرت عائشة ان لا يكلمه.
1. فتح الباري 8 : 262.
2. مروج الذهب 3 : 85 ، شرح ابن أبي الحديد 20 : 147.


(208)
    قال السيد السمهودي في « جواهر العقدين » : فان في قوله ذلك جرأة عليها وتنقيصاً لقدرها بنسبتها إلى ارتكاب التبذير الموجب لمنعها من التصرف مع كونها أم المؤمنين وخالته أخت أمه ولم يكن أحد عندها في منزلته ، فرأت ذلك منه نوع عقوق فجعلت مجازاته ترك مكالمته.
    وقال ابن حزم في المحلى في « كتاب الحجر » : وأما الرواية عن ابن الزبير فطامة الأبد لا وما ندري كيف استحل مسلم أن يحتجّ بخطيئة ووهلة وزلة كانت من ابن الزبير ، والله تعالى يغفر له اذ أراد مثله في كونه من أصاغر الصحابة أن يحجر على مثل أم المؤمنين التي أثنى الله عليها أعظم الثناء في بعض القرآن ، وهو لا يكاد ليجزي منها في الفضل عند الله تعالى ثم قال : ومعاذ الله من هذا ومن أن تكون ام المؤمنين توصف بسفه وتستحق ان يحجر عليها نعوذ بالله من هذا القول. (1)
    وأصل الرواية على ما ذكرها البخاري في كتاب البرّ والصلة : أن عائشة حدّثت أن عبدالله بن الزبير قال : في بيع أو عطاء أعطته عائشة : والله لتنتهين عائشة أو لاحجّرن عليها ، قالت : أهو قال هذا ؟ قالوا : نعم قالت ، : هو لله علي نذر أن لا أكلّم ابن الزبير أبداً فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة فقالت : لا والله لا أشفع فيه أحداً ولا أتحنّث إلى نذري فلما طال ذلك على ابن الزبير كلّم المسور بن المخرمة وعبد الرحمن بن الاسود ابن عبد يغوث وهما من بني زهرة وقال أنشدكما بالله لما أدخلتماني على عائشة فانها لا تحل لها أن تنذر قطيعتي فاقبل به المسور وعبدالرحمن مشتملين بارديتهما حتى استأذنا على
1. المحلى 8 : 292 و 293 كتاب الحجر.

(209)
عائشة فقالا : السلام عليك ورحمة الله وبركاته أندخل ؟ فقالت عائشة : أدخلوا ، قالوا كلّنا ؟ قالت : نعم أدخلوا كلكم ولا تعلم أن معهما ابن الزبير ، فلما دخلوا دخل ابن الزبير الحجاب فاعشق عائشة وطفق يناشدها ويبكي وطفق المسور وعبدالرحمن يناشدانها إلاّ ما كلّمت وقبلت منه ، ويقولان ان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد نهى عما عملت من الهجرة وانه لا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال ، فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتجريح ، طفقت تذكرهما وتبكي وتقول اني نذرت والنذر شديد فلم يزالا حتى كلّمت ابن الزبير واعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي حتى تبلّ دموعها خمارها (1).
    ولابن الزبير شنائع كثيرة غير ما قدمنا وفيما ذكرناه كفاية.

    عبدالله بن قيس أبو موسى الأشعري
    وهو وان بالغ القوم في ثنائه ومدحه وتوثيقه والاطراء عليه ، لكن يعلم بأدنى تتبع أنه أيضاً من المنافقين (2) ، الأشرار والملعونين بلسان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ووصيه
1. صحيح البخاري كتاب الادب باب الهجرة رقم 6073 ، 6074 ، 6075 ، كتاب المناقب باب مناقب قريش رقم 3505.
2. روى الذهبي بسنده ، عن الأعمش ، عن شقيق ، قال : كنّا مع حذيفة جلوساً ، فدخل عبدالله وأبو موسى المسجد فقال : أحدهما منافق ، ثم قال : إن أشبه الناس هدياً ودلاً وسمتاً برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عبدالله. سير أعلام النبلاء 2 : 393 و 394 ، المعرفة والتاريخ 2 : 771 تاريخ مدينة دمشق 32 : 93.
وروى أيضاً : عن الشعبي قال : كتب عمر في وصيته : ألاَّ يَقِرَّ لي عامل أكثر من سنة ، وأقِرِّوا الأشعري أربع سنين.
وأيضاً : الزهري ، عن أبي سلمة : كان عمر إذا جلس عنده أبو موسى ، ربما قال له ، ذكِّرنا يا أبا موسى فيقرأ. سير أعلام النبلاء 2 : 391.


(210)
سيد الابرار ، ومن المبغوضين ، المنحرفين عن أهل البيت الأطهار صلى الله عليه وعليهم ، ما تعاقبت الادوار ، ونصّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ضلالته واضلاله ، ذكر محدثهم النحرير ابن عساكر الذي اثنى عليه ابن خلكان ، واليافعي في تاريخه عن أبي يحيى حكيم ، قال : كنت جالساً مع عمّار فجاءه أبو موسى فقال : ما لي ولك ألست أخاك ؟ قال : ما أدري ولكن سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يلعنك ليلة الجمل قاله : انه قد استغفر لي قال عمّار : قد شهدت اللعن ولم أشهد الاستغفار (1).
    وهذا الحديث وان حكم ابن عدي وابن الجوزي بوضعه ونسبا الوضع إلى بعض رواته لكن ردّ عليهم علاّمتهم المحض السيوطي في اللآلي المصنوعة قال :
    قال ابن عدي : حدّثنا أحمد بن الحسين الصوفي ، ثنا محمد بن علي بن خلف العطار ، ثنا حسين الاشقر ، عن قيس بن الربيع عن ، عمران بن ظبيان ، عن حكيم بن يحيى قال : كنت جالساً مع عمّار... الخ ، قال : قال ابن عدي : والبلاء من العطار لا من حسين ، قلت : العطار وثقه الخطيب في تاريخه (2).
    وفي لسان الميزان قال الخطيب : قال محمد بن منصور : كان ـ يعني العطار ـ ثقة ، مأموناً حسن العقل (3).
    ثم لا يخفى ان كثيراً من علماء العامة صرحوا ، بان لعن الكافر أيضاً غير
1. تاريخ مدينة دمشق 32 : 93.
2. اللآلي المصنوعة 1 : 391.
3. تاريخ بغداد 3 : 57 ، لسان الميزان 5 : 328 رقم 988/7773.
القول الصراح في البخاري وصحيحه الجامع ::: فهرس