آيات الذم والتقريع
ابتعد كثير من الصحابة في مواقفهم وسلوكهم عن المنهج الاِلهي المرسوم لهم ، وخالفوا القواعد الاَساسية للسلوك الاِسلامي ، فنزلت الآيات في ذمّهم وتقريعهم ، وسنذكر بعض هذه الآيات حسب ترتيبها في القرآن الكريم .
الآية الاُولى : قال تعالى : ( ومِمَّنْ حَوْلَكُم مِنَ الاَعرابِ مُنَافِقُونَ وَمِن أهلِ المدينةِ مَردُوا على النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعلَمُهُمْ ) (1).
النفاق قسمان : قسم واضح وظاهر للعيان ، وقسم خفي لا يعلمه إلاّ الله، لاَنهم يبطنون الكفر في سويداوات قلوبهم إبطاناً (2).
أو كما وصفهم الفخر الرازي : (إنّهم تمرّنوا في حرفة النفاق ، فصاروا فيها استاذين ، وبلغوا إلى حيث لا تعلم أنت نفاقهم مع قوة خاطرك وصفاء حدسك ونفسك) (3).
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتعامل مع المسلمين حسب ظواهرهم ولايتابعهم أو يعلن عن أسماء المنافقين الذين يعرفهم ، فعن أبي الدرداء أنَّ رجلاً يقال له حرملة.. قال : يا رسول الله : إنّه كان لي أصحاب من المنافقين ، وكنت رأساً فيهم ، أفلا آتيك بهم ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : « من أتانا
____________
1) سورة التوبة 9 : 101 .
2) راجع الكشّاف 2 : 211 .
3) التفسير الكبير 16 : 173 .

( 47 )
استغفرنا له ، ومن أصرَّ فالله أولى به ، ولا تخرقنَّ على أحد ستراً » (1).
فوجود منافقين بين الصحابة ، يعني أنّنا لا نستطيع أن نحكم على أفراد الصحابة بالخيرية والعدالة ، وإنّما ننظر إلى سلوكهم ومواقفهم العملية ، فمن كان سلوكه وموقفه مطابقاً لقواعد الاِسلام الثابتة فهو من الاَخيار والعدول ، ومن لم يكن كذلك ، فلا نحكم عليه بالخيرية والعدالة ، وإنّما نصفه بالوصف الذي يستحقّه دون الحاجة إلى تبرير سلوكه وموقفه تارة بالتأويل وأُخرى بالاجتهاد ، فما دام النفاق موجوداً لدى بعضهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنّه مستمر بالوجود بعد وفاته ، وخصوصاً أنّ المنافقين أصبحوا في مأمنٍ من كشف الوحي أسرارهم .
الآية الثانية : قال الله تعالى : ( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ على حَرْفٍ فإن أصابَهُ خيرٌ اطمأنَّ بِهِ وإنْ أصابَتْهُ فِتنَةٌ انقلبَ على وجهِهِ خَسِرَ الدنيا والآخرةِ...) (2).
نزلت الآية في الذين أسلموا إسلاماً غير مستقر ، قال الزمخشري : (على حرف : على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه ، وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا على سكون وطمأنينة... قالوا : نزلت في أعاريب قدموا المدينة ، وكان أحدهم إذا صحّ بدنه ونتجت فرسه مهراً سرياً ، وولدت امرأته غلاماً سوياً ، وكثر ماله وماشيته ، قال : ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلاّ خيراً... وإن كان الاَمر بخلافه قال : ما أصبت إلاّ
____________
1) تفسير القرآن العظيم 2 : 399 .
2) سورة الحج 22 : 11 .

( 48 )
شرّاً) (1) . ونحو ذلك قال ابن كثير (2).
والاَعراب هم قوم من الصحابة ، لاَنّهم صحبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولو ساعة من نهار حسب تعريف المشهور ، وإنَّ درجات إيمانهم تتناسب طردياً مع ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية ، فهم بين اندفاع وانكماش وبين تقدّم وتراجع تبعاً للظروف ، وهؤلاء وإن أسلموا ورافقوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض الوقت ، إلاّ أنّ الاِيمان لم يدخل قلوبهم ، كما عبّر عنهم القرآن الكريم : (قالتِ الاَعرابُ آمنّا قُلْ لم تؤمنُوا ولكِن قُولُوا أسلَمنا ولمّا يَدخُلِ الاِيمانُ في قلوبِكُم... إنّما المؤمنونَ الَّذِينَ آمنُوا باللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لم يَرتابُوا وجَاهدُوا بأموالِهِم وأنفُسِهم في سبيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصادِقُونَ ) (3).
ويلحق بهم المؤلفة قلوبهم من الصحابة ، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعطيهم الاَموال ليتألفهم على الاِسلام ، ومنهم أبو سفيان وأولاده (4).
ومثل هؤلاء الذين يكون ارتباطهم بالاِسلام قائماً على أساس مقدار العطاء ، لا نتوقع أن يكونوا بمستوى المجاهدين الذين جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، ثم لم يرتابوا .
الآية الثالثة : قال الله تعالى : ( إنَّ الَّذينَ جاءُوا بالاِفكِ عُصبَةٌ مِنكُم... لكُلِّ امرىءٍ مِنهُم ما اكتسَبَ مِنَ الاِثمِ والَّذي تولّى كِبرَهُ منهُم لهُ عذابٌ عظيمٌ ) (5).

____________
1) الكشّاف 3 : 7 .
2) تفسير القرآن العظيم 3 : 219 .
3) سورة الحجرات 49 : 14 ـ 15 .
4) ربيع الاَبرار 1 : 788 . ومختصر تاريخ دمشق 11 : 64 . وسير أعلام النبلاء 2 : 106 .
5) سورة النور 24 : 11 .

( 49 )
نزلت هذه الآية وآيات اُخرى في الصحابة الذي اتهموا إحدى زوجات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالفاحشة ، فكان بعضهم من المنافقين ، وكان البعض الآخر من الصحابة غير المنافقين ، قال ابن كثير : (جماعة منكم يعني ماهو واحد ولا اثنان ، بل جماعة.. فكان المقدّم في هذه اللعنة عبدالله بن أُبَي بن سلول رأس المنافقين ، فإنّه كان يجمعه ويستوشيه حتى دخل ذلك في أذهان بعض المسلمين فتكلموا به ، وجوزه آخرون منهم ، وبقي الاَمر كذلك قريباً من شهر حتى نزل القرآن) (1).
فقد ارتكب جماعة من الصحابة ذنباً عُدّ من كبائر الذنوب ، فاتهام المسلمة وقذفها من الكبائر ، فكيف والمتّهمة زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
ولم يحاول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تبرئة زوجته محتجاً بأنّ شرف الصحبة له يمنعها من ممارسة ما اتهمت فيه ، وإنّما انتظر الوحي واكتفى صلى الله عليه وآله وسلم بقوله : «يامعشر المسلمين من يعذرني من رجلٍ قد بلغني أذاه في أهل بيتي... ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلاّ خيراً » .
فقام سعد بن معاذ الاَنصاري فقال : (يا رسول الله ، أنا أعذرك منه إن كان من الاَوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك) ، فقام سعد بن عبادة ، وهو سيد الخزرج ، وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ، ولكن احتملته الحميّة ، فقال لسعد : (كذبت ، لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله)، فقام أُسيد بن حضير ، وهو ابن عم سعدٍ ، فقال لسعد بن عبادة : (كذبت ، لعمر الله لنقتلنّه ، فإنّك منافق تجادل عن
____________
1) تفسير القرآن العظيم 3 : 279 .

( 50 )
المنافقين)(1).
وما جرى بين الصحابة ، من مشادّة واتّهام بالكذب والنفاق يعني تجويز الكذب عليهم ، وتجويز النفاق عليهم ، وإنّ شرف الصحبة لايحصّنهم من ذلك . هذا ما كان يقوله الصحابة أنفسهم في بعضهم ، فهل للجدال فيه معنىً ؟!
الآية الرابعة : قال الله تعالى : ( أفَمَن كانَ مُؤمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لايَستَوونَ) (2).
نزلت هذه الآية في الاِمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام والوليد بن عقبة ، قال الوليد بن عقبة بن أبي معيط للاِمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام : (أنا أحدّ منك سناناً ، وأبسط منك لساناً) .
فقال له الاِمام علي عليه السلام : « اسكت ، فإنّما أنت فاسق » ، فنزلت الآية ، قال عبدالله بن عباس : (يعني بالمؤمن عليّاً ، وبالفاسق الوليد بن عقبة)(3).
وقد اتّفق كثير من المفسرين في أنّ المراد بالفاسق هو الوليد بن عقبة(4) .
ونزلت آية اُخرى في الوليد بن عقبة ، وسمّته فاسقاً ، وهي قوله تعالى : (يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا إن جاءكُمْ فاسِقٌ بِنَبأ فَتَبَيَّنُوا أن تُصيبُوا قَوماً بِجهالةٍ
____________
1) صحيح البخاري 6 : 130 .
2) سورة السجدة 32 : 18 .
3) أسباب نزول القرآن ، للواحدي 363 .
4) الكشّاف 3 : 514 . وأسباب النزول ، للسيوطي : 293 . والدر المنثور 3 : 514 .

( 51 )
فَتُصبِحُوا على ما فَعَلتُم نادِمِينَ ) (1).
وسبب النزول أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث الوليد بن عقبة لجمع صدقات بني المصطلق ، فلمّا شارف ديارهم ركبوا مستقبلين له فحسبهم مقاتليه ، فرجع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال له إنّهم قد ارتدّوا ومنعوا الزكاة ، فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبروه بعدم صحة قول الوليد ، فنزلت الآية . وهي محل اتّفاق بين المفسرين والمؤرخين في نزولها في الوليد بن عقبة ، وفي تسميته فاسقاً (2).
والوليد بن عقبة كان مشهوراً بالفسق حتى بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ففي خلافة عثمان بن عفّان كان الوليد أميراً على الكوفة ، فشرب الخمر ، وصلّى بالناس جماعة وهو سكران (3).
وقال ابن حجر العسقلاني : (وقصة صلاته بالناس الصبح أربعاً وهو سكران مشهورة مخرجة ، وقصة عزله بعد أن ثبت عليه شرب الخمر مشهورة أيضاً مخرجة في الصحيحين) (4).
الآية الخامسة : قال الله تعالى : ( وإذ يقُولُ المنافقُونَ والَّذينَ في قُلُوبِهِم مرضٌ ما وَعَدَنا اللهُ ورسُولُهُ إلاّ غُرُوراً ) (5).

____________
1) سورة الحجرات 49 : 6 .
2) السيرة النبوية ، لابن هشام 3 : 309 . وأسباب نزول القرآن ، للواحدي : 407 . والكشّاف 3 : 559 . وتفسير القرآن العظيم 4 : 224 . والاِصابة 6 : 321 . وأسباب النزول ، للسيوطي : 347 .
3) الاِمامة والسياسة 1 : 32 . وتاريخ اليعقوبي 2 : 174 . والكشّاف 3 : 559 .
4) الاِصابة 6 : 322 .
5) سورة الاَحزاب 33 : 12 .

( 52 )
وقال تعالى : ( لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنافقُونَ والَّذينَ في قُلُوبِهِم مرضٌ والمُرجفُونَ في المدينةِ... ) (1).
يذكر الله تعالى صنفين من المسلمين أو من الصحابة : المنافقين ، والذين في قلوبهم مرض ، فكلاهما يشهد الشهادتين ويعترف ولو بالظاهر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً .
وهنالك ثلاثة آراء في معنى ( الَّذينَ في قُلُوبِهِم مرضٌ ) :
فعن محمد بن كعب قال : يعني المنافقين .
وعن عكرمة قال : أصحاب الفواحش .
وعن عطاء قال : كانوا مؤمنين ، وكانوا في أنفسهم أن يزنوا و... (2).
وهذه الاَقوال كلّها واضحة الضعف .
والظاهر أنّ معنى ( الذين في قلوبهم مرض ) : (هم ضعفاء الاِيمان من المؤمنين ، وهم غير المنافقين) (3).
نعم ، هم غير المنافقين ، لاَنّهم الذين تظاهروا بالاِسلام والاِيمان لاخوفاً على أنفسهم وأموالهم بل لاغراض غير ذلك .
وضعفاء الاِيمان يمكن صدور الذنب والمعصيّة منهم ، وقد صدر بالفعل بقولهم : ( ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إلاّ غُروراً ) ، وهذا القول من أعظم
____________
1) سورة الاَحزاب 33 : 60 .
2) الدر المنثور 6 : 662 ـ 663 .
3) الميزان في تفسير القرآن 16 : 286 .

( 53 )
الذنوب والمعاصي .
وقد حذّر الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ترقيق القول ، وقال : (... فلا تخضَعْنَ بالقولِ فَيطمَعَ الَّذي في قلبِهِ مرضٌ... ) (1).
وقال العلاّمة الطباطبائي في تفسيره : ( ( فيطمَعَ الَّذي في قلبِهِ مرضٌ ) وهو فقدانه قوة الاِيمان التي تردعه عن الميل إلى الفحشاء) (2).
فالذي في قلبه مرض يميل إلى الذنوب والمعاصي حسب درجة قوة وضعف إيمانه وعاقبته إمّا الاستقامة وإمّا الانحراف .
الآيةالسادسة : قال الله تعالى : ( يا نساءَ النَّبِيِّ مَن يأتِ مِنكُنَّ بفاحشةٍ مُّبَيّنَةٍ يُضاعف لها العذابُ ضِعفَينِ... وَمَن يقنُت منكُنَّ للهِ ورسُولهِ وتعملْ صالِحاً نُؤتِها أجرَها مَرَّتين وَأعتدنا لها رِزقاً كريماً ) (3).
إنّه قد تكون المرأة من نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر وأطول صحبةً له من الغير ، ولكن لا تأثير لهذه الصحبة في السلوك والموقف العملي ، فهي لا تعصم من الخطأ والزلل إلاّ إذا أعطى الصاحب للصحبة حقّها بالاقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولهذا فالله تعالى يحذّر نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم من إتيان الفاحشة ، ويهدّد بجعل العذاب ضعفين لقربهنَّ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قال القرطبي : (لما كان أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مهبط الوحي وفي منزل أوامر الله ونواهيه ، قوي الاَمر عليهنّ ولزمهنَّ بسبب مكانتهنَّ أكثر ممّا يلزم
____________
1) سورة الاَحزاب 33 : 32 .
2) الميزان في تفسير القرآن 16 : 309 .
3) سورة الاَحزاب 33 : 30 ـ 31 .

( 54 )
غيرهن فضوعف لهنّ الاَجر والعذاب ، وقيل : إنّما ذلك لعظم الضرر في جرائمهنَّ بايذاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكانت العقوبة على قدر عظم الجريمة في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) (1).
فالصحبة بمفردها غير عاصمة من الزلل والخطأ ، ويكون الزلل والخطأ أكثر قبحاً إن صدر ممّن صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لاَنَّ الحجّة عليه تكون آكد وأشدّ .
والاَخطاء التي ارتكبت من قبل بعض نساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر واقع ، فعن عائشة أنّها قالت : (إنَّ رسول الله كان يمكث عند زينب بنت جحش... فتواطأت أنا وحفصة أن أينّا دخل عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلتقل إني أجدُ منك ريح مغافير ، أكلت مغافير.. فقال صلى الله عليه وآله وسلم : « لا بل شربتُ عسلاً عند زينب»(2).
وفي رواية أنّ عمر بن الخطاب قال لحفصة : (أتغاضبنَّ إحداكنَّ رسول الله يوماً إلى الليل ؟) قالت : نعم ، قال : (أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله فيهلكك ؟) (3).
وقد نزلت آيات عديدة في نساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونساء الاَنبياء: ، منها :
قال الله تعالى : ( إنَّ تَتُوبَا إلى اللهِ فقد صَغَت قُلُوبُكُما وإن تَظَاهَرا عليهِ فإنَّ
____________
1) الجامع لاَحكام القرآن 14 : 174 .
2) سير أعلام النبلاء 2 : 214 . وبنحوه في المعجم الكبير 23 : 310 . والمغافير: جمع المغفار ، وهو صمغ حلو يسيل من بعض الشجر .
3) الطبقات الكبرى ، لابن سعد 8 : 182 . وبنحوه في المعجم الكبير 23 : 209 .

( 55 )
اللهَ هوَ مولاهُ وجبرِيلُ وصَالحُ المؤمنينَ والملائكةُ بَعدَ ذَلكَ ظَهيرٌ * عسى ربُّهُ إن طَلَّقَكُنَّ أن يُبدِلهُ أزواجاً خيراً مِّنكنَّ... ) (1).
وقال الله تعالى : ( ضربَ اللهُ مَثَلاً للَّذينَ كفرُوا امرأتَ نُوحٍ وامرأتَ لُوطٍ كانتا تَحتَ عَبدَينِ مِنْ عِبادِنا صالحَينِ فَخَانَتاهُما فلمْ يُغنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيئاً وقيلَ ادخُلا النَّارَ معَ الداخلينَ ) (2).
وقال تعالى : ( وضربَ اللهُ مثلاً للَّذينَ آمنُوا امرأتَ فِرعونَ... ومريمَ ابنتَ عِمرانَ ) (3).
وفي تفسير الزمخشري للآيات المتقدِّمة قال : (... وفي طيّ هذين التمثيلين تعريض بأمّي المؤمنين ـ يعني عائشة وحفصة ـ وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما كرهه ، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده لما في التمثيل من ذكر الكفر... وإشارة إلى أنّ من حقهما أن تكونا في الاِخلاص والكمال فيه كمثل هاتين المؤمنتين ، وأن لا تتكلا على أنّهما زوجا رسول الله ، فإنَّ ذلك الفضل لا ينفعهما إلاّ مع كونهما مخلصتين...) (4).
فالصحبة الطويلة والكثيرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضل وشرف ولكنّها غير عاصمة من الزلل ، فلو كانت عاصمة لعصمت أمرأة نوح وامرأة لوط ، فكان مصيرهما النّار ، ولم تنفعهما صحبتهما للنبي .

____________
1) سورة التحريم 66 : 4 ـ 5 .
2) سورة التحريم 66 : 10 .
3) سورة التحريم 66 : 11 ـ 12 .
4) الكشّاف 4 : 131 .

( 56 )
فالميزان هو الاستقامة والاعتدال ، والاستعداد لهما ، ومجاهدة النفس للوصول إلى مراتب الكمال والعدالة .
الآية السابعة : قال الله تعالى : (... وما كانَ لكُمْ أنْ تُؤذُوا رسُولَ اللهِ ولا أن تنكِحُوا أزواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبداً إنَّ ذلكُم كانَ عند اللهِ عظيماً ) (1).
نزلت هذه الآية في بعض الصحابة الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد روى الطبرسي : (انّ رجلين قالا : أينكح محمد نساءنا ولاننكح نساءه ، والله لئن مات لنكحنا نساؤه ، وكان أحدهما يريد عائشة ، والآخر يريد أُم سلمة) (2).
وعن السدي أنّه قال : (بلغنا أنّ طلحة بن عبيدالله قال : أيحجبنا محمد عن بنات عمِّنا ويتزوج نساءنا ، لئن حدث به حدث لنتزوجنَّ نساءه من بعد(3) .
وفي رواية أنّ محمد بن عمرو بن حزم ، قال : (إذا توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تزوجت عائشة)(4).
وعن عبدالله بن عباس قال : (إنَّ رجلاً أتى بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكلمّها وهو ابن عمها ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا تقومنَّ هذا المقام بعد يومك هذا... فمضى ثم قال : يمنعني من كلام ابنة عمّي ، لاَتزوجنّها من بعده ، فأنزل الله هذه الآية... فأعتق ذلك الرجل رقبة ، وحمل على عشرة أبعرة
____________
1) سورة الاَحزاب 33 : 53 .
2) مجمع البيان 4 : 366 .
3) أسباب النزول ، للسيوطي : 306 .
4) أسباب النزول ، للسيوطي : 306 . والدر المنثور 5 : 215 .

( 57 )
في سبيل الله ، وحجَّ ماشياً توبةً من كلمته) (1).
وفي هذه الرواية أدرك ذلك الصحابي عظم الذنب ، فتاب إلى الله تعالى، وهذا إن دلَّ على شيء إنّما يدل على أنَّ الصحابي معرّض للانحراف والانزلاق ، وهو يستقيم أحياناً وينحرف أخرى وباب التوبة مفتوح للتائبين .
الآية الثامنة : قال الله تعالى : ( يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا أطيعُوا اللهَ وأطيعُوا الرّسُولَ ولا تُبطِلُوا أعمالَكُم ) (2).
عن أبي العالية قال : (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرون أنّه لا يضرّ مع لا إله إلاّ الله ذنب ، كما لا ينفع مع الشرك عمل ، فنزلت (الآية) ، فخافوا أن يبطل الذنب العمل) (3).
فهذه الآية نزلت لتصحيح المفاهيم الخاطئة ، وأثبتت أنّ الاَعمال الصالحة تبطل بالذنوب .
وقد أكدّ القرآن الكريم على أنّ الذنوب تبطل وتحبط الاَعمال وإن كانت غير واضحة عند مرتكبيها قال تعالى : ( يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا لا تَرفعُوا أصَواتَكُم فوقَ صوتِ النّبي ولا تَجهرُوا لهُ بالقولِ كجَهرِ بعضِكُم لبعضٍ أن تَحْبَطَ أعمالَكُم وأنتُم لا تَشْعُرونَ ) (4).
____________
1) أسباب النزول ، للسيوطي : 307 .
2) سورة محمد 47 : 33 .
3) أسباب النزول ، للسيوطي : 341 .
4) سورة الحجرات 49 : 2 .

( 58 )
آيات واضحة الدلالة :
وردت آيات عديدة واضحة الدلالة في وصف واقع الصحابة من حيث قربهم وبعدهم عن المنهج الاِسلامي الثابت في أُسسه وموازينه ، وفيما يلي نستعرض هذه الآيات .
قال الله تعالى : ( وما مُحَمَّدٌ إلاّ رسُولٌ قد خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفإن ماتَ أو قُتِلَ انقلَبتُم على أعقابِكُم وَمَن يَنقَلِب على عَقِبَيهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شيئاً وسيجزي اللهُ الشاكِرِينَ ) (1).
وقال تعالى : ( يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا لا يسخَر قومٌ من قَومٍ... ولا تَلمِزُوا أنْفُسَكُم ولا تَنَابزُوا بالاَلقابِ بئسَ الاسمُ الفُسُوقُ بعد الاِيمانِ ومَنْ لم يَتُبْ فأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) (2).
وقال تعالى : ( يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا لِمَ تقُولُونَ ما لا تفعلُونَ * كَبُرَ مَقتاً عِندَ اللهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفعلُونَ ) (3).
وقال تعالى : ( يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا لا تُلهِكُم أموالُكُم ولا أولادُكُم عن ذكرِ اللهِ وَمَن يَفعلْ ذلكَ فأُولئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ ) (4).
ووردت آيات عديدة تتحدث عن دور الاَهواء والمغريات الخارجية ودور الشيطان في منع الاِنسان من الاستقامة والاعتدال ، ووردت آيات عديدة تنهى الصحابة عن ممارسات خاطئة وقعوا فيها، وتحذّرهم من
____________
1) سورة آل عمران 3 : 144 .
2) سورة الحجرات 49 : 11 .
3) سورة الصف 61 : 2 ـ 3 .
3) سورة المنافقون 63 : 9 .

( 59 )
عذاب الله تعالى ، وتخوفهم من سوء العاقبة بالارتداد والرجوع إلى الكفر ، وكان الترغيب والترهيب هو السائد في أغلب الآيات القرآنية من أجل إصلاح الصحابة وربطهم بالمنهج الاِسلامي ليكون حاكماً على تصوراتهم ومشاعرهم ومواقفهم ، بمعنى أنّ الصحابة يجوز عليهم الاشتباه والخطأ والانحراف والفسق ، بل حتى الارتداد عن دين الله تعالى والكفر بالرسالة ، وقد وقع هذا فعلاً بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فمنهم من مات مرتداً ومنهم من عاد إلى الاِيمان بعد حروب الردّة كما هو مشهور في كتب التاريخ والسيرة ، وإذا جاز على بعض الارتداد ، وقد حصل بالفعل وبالواقع ، فمن الاَولى يجوز عليهم الفسق في السلوك بعد غياب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانقطاع الطاقة الدافعة للاِيمان وللتقوى بانقطاع الوحي عن الاَرض ، لاَنّ عوامل الانحراف والفسق لم تغب عن الواقع ، وهي الاَهواء النفسية والمغريات الخارجية ، ودور الشيطان في ربط بعضها بالبعض الآخر .

( 60 )

( 61 )

الفصل الثالث

الصحابة في السُنّة المطهّرة

وفي السُنّة المطهّرة أيضاً أحاديث كثيرة عن الصحابة يروونها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، في بعضها الثناء والمدح لهم والاَمر بحبهم على نحو العموم ، وفي بعضها القدح والذم الشديد والاخبار عن سوء العاقبة للاَكثرية الساحقة منهم ، وفي بعضها المدح أو القدح لاشخاصٍ معينين منهم .
وإذا أردنا أن نصل إلى حقيقة الاَمر وواقع الحال في هذه الاحاديث كان من الضروري النظر فيها من جهة السند ومن جهة الدلالة ودراسة النسب الموجودة فيما بينها .
لكنّا نستعرض فيما يلي طائفةً من الروايات الواردة في المسألة ، مع غض النظر عن أسانيدها :
روايات المدح والثناء :
فهذه أولاً نصوص روايات وردت في الكتب في مدح الاَصحاب عامةً أو المهاجرين والاَنصار كلّهم أو الانصار كلّهم فقط ونحو ذلك :

( 62 )
الرواية الاُولى : « اللّهمَّ امضِ لاَصحابي هجرتهم ، ولا تردّهم على أعقابهم» (1) .
الرواية الثانية : « الاَنصار كرشي وعيبتي» (2).
الرواية الثالثة : « في كلِّ دُور الاَنصار خير » (3).
الرواية الرابعة : « المهاجرون والاَنصار بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة » (4).
الرواية الخامسة : « اللّهمَّ لا عيش إلاّ عيش الآخرة ، فاغفر للمهاجرين والاَنصار» (5) .
الرواية السادسة : قبل بدء القتال في غزوة بدر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «اللّهمَّ إن تَهْلِكَ هذه العصابة اليوم لا تُعبد» (6).
الرواية السابعة : « يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم ، قالوا : بم يارسول الله ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : بالثناء الحسن والثناء السيء ، أنتم شهداء الله في الاَرض» (7) .
الرواية الثامنة : « طوبى لمن رآني وآمن بي ، وطوبى ثم طوبى ـ يقولها
____________
1) صحيح البخاري 5 : 87 ـ 88 .
2)السيرة النبوية ، لابن كثير 2 : 282 .
3) صحيح مسلم 4 : 1785 .
4) بحار الاَنوار 22 : 311 ، عن أمالي ابن الشيخ : 168 .
5) صحيح البخاري 5 : 137 . وتفسير القمي 1 : 177 .
6) السيرة النبوية ، لابن هشام 2 : 279 .
7) تفسير القرآن العظيم 1 : 197 .

( 63 )
سبع مرات ـ لمن لم يرني وآمن بي » (1).
الرواية التاسعة : قال له رجلان : يا رسول الله ، أرأيت من رآك فآمن بك وصدّقك واتبعك ، ماذا له ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : « طوبى له » (2).
الرواية العاشرة : « لا زال هذا الدين ظاهراً على الاَديان كلها ما دام فيكم من رآني » (3).
الرواية الحادية عشر : « أثبتكم على الصراط أشدّكم حبّاً لاَهل بيتي ولاَصحابي » (4).
الرواية الثانية عشر : كان بين خالد بن الوليد وبين أحد المهاجرين الاَوائل كلام ، فقال خالد له : «تستطيلون علينا بأيامٍ سبقتمونا بها» ، فسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فقال : « دعوا لي أصحابي ، فو الذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد ـ أو مثل الجبال ـ ذهباً ما بلغتم أعمالهم » (5).
والظاهر أنّ الروايتين الاَخيرتين ليست عامّة في جميع الصحابة السابقين والمتأخرين في الاِيمان والجهاد ، وإنّما هي مختصة في بعض منهم .
فقد جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين حبّ أهل بيته: وأصحابه ، فلو كان قصده جميع الصحابة لحدث تناقض لاَنّ بعض الصحابة آذى بضعته من
____________
1) الخصال 2 : 342 .
2) بحار الاَنوار 22 : 306 ، عن أمالي ابن الشيخ : 332 .
3) نوادر الراوندي : 15 .
4) نوادر الراوندي : 23 .
5) مجمع الزوائد 10 : 15 .

( 64 )
بعده ، وبعضهم كان مبغضاً لاَهل بيته ، وقد وصل حد البغض إلى قتالهم واستباحة دمائهم ، فقد حارب معاوية وعمرو بن العاص وبسر بن أرطأة وآخرون الاِمام عليّاً عليه السلام ومن بعده الاِمام الحسن عليه السلام ، فكيف يجتمع حب الاِمام عليّ عليه السلام وحبّ معاوية وأتباعه في قلب واحد ، والكلام موجّه إلى الصحابة ، فكيف يوجّه الصحابة إلى حبّ الصحابة ؟
ورواية «دعوا لي أصحابي» مختصة أيضاً ببعض الصحابة ؛ لاَنّ الاَمر موجّه إلى خالد بن الوليد وهو من الصحابة ، يأمره بالكّف عن صحابي آخر، ويقارن بين أعمال المتقدمين في الاِيمان والهجرة والنصرة وأعمال المتأخرين ، فالرواية واضحة الدلالة باختصاصها ببعض الصحابة .
وما تقدّم من ثناء مشروط بشروط ، منها : الاِيمان الحقيقي ، فلا يكون من في قلبه مرض مراداً قطعاً ، والاستقامة على المنهج الاِسلامي وحسن العاقبة ؛ لاَنَّ بعض الصحابة ارتدّوا ثم عادوا إلى الاِسلام، وبعضهم منافقون اسرّوا نفاقهم ، ولكنّه ظهر من خلال أعمالهم ومواقفهم كما سيأتي بيانه .
وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بعض الصحابة بأسمائهم ، ووجّه الاَنظار إلى عدد محدود منهم ، فكرّر مدحهم والثناء عليهم وجعلهم الصفوة من بين آلاف الصحابة ، ولم يساو بين السابقين في الهجرة والاِيمان وبين المتأخرين الذين أسلموا خوفاً أو طمعاً .
وفي مقابل الثناء على بعض الصحابة ، وردت أحاديث مفتعلة منسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحق آخرين من الصحابة .
وقد كثر تزوير الاَحاديث في عهد بني أُمية ، قال ابن عرفة ، المعروف
( 65 )
بنفطويه : (إنّ أكثر الاَحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أُمية، تقرباً إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أُنوف بني هاشم) (1).
وقال أبو الحسن المدائني : (كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله... أن برئت الذمة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته) ، ثم كتب : (ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإنَّ هذا أحب إليَّ وأقرّ لعيني ، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته وأشدّ إليهم من مناقب عثمان وفضله... فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها... فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة... حتى انتقلت تلك الاَخبار والاَحاديث إلى أيدي الديانين الذين لايستحلّون الكذب والبهتان ، فقبلوها ورووها ، وهم يظنون أنّها حقّ ، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها ، ولا تدينوا بها) (2).
روايات الذم والتقريع :
شخصية الاِنسان تتحكم فيها عوامل ثلاثة : الفكر ، والعاطفة ، والاِرادة، وهي التي تحدّد موقف الاِنسان وسلوكه في الحياة ، فالاِيمان بعقيدة معينة وفكرة معينة يجعل الشعور الباطني حركة سلوكية في الواقع، ويحوّل هذه الحركة إلى عادة ثابتة متفاعلة مع ما يحدّد لها من تعاليم ومفاهيم وقيم ، إن تطابقت الارادة مع أُسس الاِيمان وقواعده ، والاِرادة هي الحد الفاصل بين مرحلة الشعور ومرحلة الواقع ، وبها تتميز
____________
1) شرح نهج البلاغة 11 : 46 .
2) شرح نهج البلاغة 11 : 44 ـ 46 .

( 66 )
شخصية الاِنسان في الخارج في قرارها النهائي ، وكل هذه العوامل مرتبطة في ظواهرها مع عوامل اُخرى كالوراثة والمحيط الاجتماعي التي تؤثر على تلك العوامل تأثيراً إيجابياً أو سلبياً ، وبالتالي تؤثر على تحديد شخصية الاِنسان ، ولذا نرى الصحابة متفاوتين في شخصياتهم ، فمنهم من هو في قمة التكامل والسمو ، ومنهم من هو في مراتب أدون فأدون ، تبعاً لتفاوت درجات الاِيمان ودرجات الاُنس بالعقيدة والفكر ، ودرجات الارتباط بالقدوة الصالحة المجسدة للعقيدة والشريعة في واقعها السلوكي، والتفاعل مع المغريات والمثيرات الخارجية إندفاعاً وإنكماشاً ، فبعض الصحابة الذين بقي إيمانهم متزعزاً قد نكصوا على أعقابهم وارتدّوا عن الاِسلام ، وبعضهم عاد إلى الاِيمان بعد ردته خوفاً أو طمعاً أو استسلاماً للاَمر الواقع أو قناعة بصحة الرسالة ، وبعضهم لم يقاوم جبهة التصدّع في شخصيته ، فاستسلم للاَهواء واستجاب للمغريات الخارجية كحب الرئاسة وحب المال ، فانحرف عن الاستقامة في موقفه وسلوكه العملي ، ولذا جاءت الروايات في مقام التحذير من الانحراف والنكوص والتردّد ، وجاء بعضها في مقام الذم والتقريع لمواقف سلوكية اتّخذها بعض الصحابة في مراحل حياتهم .
من آثار الجاهلية :
في أحد الاَيام قام أحد الكفّار بتذكير نفر من الصحابة من الاَوس والخزرج بقتلاهم في الجاهلية ، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الاَشعار في يوم بعاث ، وهو اليوم الذي اقتتل فيه الاَوس والخزرج ، فهاجتهم تلك الاَشعار وتنازعوا وتفاخروا ، وغضبوا جميعاً ، فخرجوا إلى الحرّة ومعهم السلاح ، وقبل بدء القتال خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال :
( 67 )
«يا معشر المسلمين ، الله الله ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للاِسلام وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألَّف به بين قلوبكم » فعرف القوم أنّها نزعة من الشيطان وكيد من عدّوهم ، فبكوا وعانق الرجال من الاَوس والخزرج بعضهم بعضاً (1).
فلولا الاسراع في حل الاَزمة لحدث القتال ولبقيت آثاره قائمة ، حدث ذلك ورسول الله بين أظهرهم ، فكيف يكون الوضع لو لم يكن معهم كما حدث بعد رحيله !
وفي أحد الاَماكن ازدحم على الماء أحد المهاجرين وأحد الاَنصار ، فصرخ أحدهم : يا معشر المهاجرين ، وصرخ الآخر ، يا معشر الاَنصار ، وكادت تحدث الفتنة لولا تدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تجاوزها وإشغال المسلمين بالمسير لمدة يومين (2).
وقد خالف خالد بن الوليد المهمة التي كُلِّف بها ، وهي الدعوة السلمية إلى الاِسلام ، وقام بقتل جماعة من بني جذيمة ثأراً لعمّه المقتول في الجاهلية ، وحينما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعمل خالد رفع يديه إلى السماء ثم قال : « اللّهمَّ إنّي أبرأُ إليك ممّا صنع خالد » (3).
الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
كثر الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حياته ، وقد حذّر صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة
____________
1) السيرة النبوية ، لابن هشام 2 : 204 ـ 205 .
2) السيرة النبوية ، لابن هشام 3 : 303 . والطبقات الكبرى ، لابن سعد 2 : 65 .
3) صحيح البخاري 5 : 203 . وتاريخ اليعقوبي 2 : 61 . وتاريخ الطبري 3 : 67 . والكامل في التاريخ 2 : 256 .

( 68 )
من الكذب عليه في الحديث والرواية فقال صلى الله عليه وآله وسلم :
« لا تكذبوا عليَّ فإنَّهُ من كَذَبَ عليَّ فليلج النّار » (1).
« من كذَّب عليَّ فليتبوأ مقعده من النّار » (2).
« من تعمّدَّ عليَّ كذباً فليتبوأ مقعده من النّار » (3).
« من يقل عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النّار » (4).
ولتفشي الكذب مطلقاً سواءً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو في الشؤون الاُخرى وتتابعه ، كان صلى الله عليه وآله وسلم يحذّر من ذلك وينهى عن ممارسته بعد وقوعه، وكان يكرّر هذا التحذير في أوقات ومناسبات عديدة ليرتدع الكذّابون عن الكذب ، فقد قام صلى الله عليه وآله وسلم خطيباً وقال : « ما يحملكم على أن تتابعوا على الكذب ، كما يتتابع الفراش في النّار ! كلّ الكذب يكتب على ابن آدم إلاّ رجل كذب في خديعة حرب ، أو اصلاح بين اثنين ، أو رجل يحدّث امرأته فيرضيها » (5).
ووضّح الاِمام علي عليه السلام أصناف نقلة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقسمهم إلى أربعة :
الاَول : المتعمد للكذب .

____________
1) صحيح البخاري 1 : 38 . وصحيح مسلم 1 : 9 .
2) صحيح البخاري 1 : 38 . وسنن ابن ماجة 1 : 13 .
3) صحيح البخاري 1 : 38 . وصحيح مسلم 1 : 10 .
4) صحيح البخاري 1 : 38 . وبنحوه في المستدرك على الصحيحين 1 : 102 .
5) الدر المنثور 4 : 317 .

( 69 )
الثاني : المتوهم في نقل الحديث ، إلاّ أنّه غير متعمد .
الثالث : القليل العلم بالناسخ والمنسوخ في الاَوامر والنواهي .
الرابع : الصادق الواضع للحديث في موضعه .
وقال في معرض هذا التقسيم : « إنَّ في أيدي الناس حقاً وباطلاً ، وصدقاً وكذباً... ولقد كُذِبَ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عهده ، حتى قام خطيباً فقال : من كذبَ عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النّار » (1).
فالكذب على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة لا تقبل التأويل ـ وسيأتي ذكر مصاديقها في البحوث القادمة ـ وهو أشدّ أنواع الكذب تأثيراً في بلبلة المفاهيم والتصورات وخلق الاضطراب في المواقف الخاصة والعامّة ، لما فيه من إغراءٍ بالقبيح والمنكر ، وتحريف للمنهج الاِسلامي الثابت في مفاهيمه وقيمه وموازينه .
روايات التحذير من سفك الدماء لاَجل الدنيا :
حذّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من التنافس على الدنيا ، وخصوصاً في بعض محاورها وهي السلطة التي تسفك من أجلها الدماء ، ويستحل الصحابي دم صحابي مثله من أجل الحصول عليها وعلى المكاسب والمغانم التي تكون وسيلة لوجودها .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « ... إنّي لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي ، ولكنّي أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها ، وتُقتلوا ، فتهلكوا ، كما هلك
____________
1) نهج البلاغة : 325 ـ 326 الخطبة 210 .

( 70 )
من كان قبلكم » (1).
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بأنّهم سيحرصون على الاِمارة فقال : « إنّكم ستحرصون على الاِمارة ، وستصير ندامة وحسرة يوم القيامة ، فبئست المرضعة ، ونعمت الفاطمة » (2).
وحذّر صلى الله عليه وآله وسلم من الرجوع إلى الكفر من بعده ، وجعل سفك الدماء علةً لهذا الكفر ، وقد يكون مقصوده صلى الله عليه وآله وسلم هو الكفر الحقيقي ؛ لاَنَّ المؤمن لايستحلَّ دم أخيه ما دام مؤمناً بالله تعالى وبالعقاب يوم القيامة ، وقد يكون مقصوده هو الانحراف الحقيقي عن الاِسلام في الواقع العملي ، وفي صدد ذلك التحذير قال صلى الله عليه وآله وسلم : « لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعضٍ » (3)ُس .
وسيأتي في هذا الشأن تفصيل في الفصل الاَخير .
روايات الارتداد والرجوع على الاَعقاب :
وردت روايات مستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكدَّ فيها أنّ النكوص والانقلاب على الاَعقاب واقع بعده من قبل الصحابة .
قال صلى الله عليه وآله وسلم : « أنا فرطكم على الحوض ، وسأنازع رجالاً فأغلب عليهم ، فلاَقولنَّ ربِّ أُصيحابي أُصيحابي ! فيقال لي : إنّك لا تدري ما أحدثوا
____________
1) صحيح مسلم 4 : 1796 .
2) مسند أحمد 3 : 199 . وبنحوه في تحف العقول : 25 .
3) مسند أحمد 1 : 664 و 6 : 19 . وصحيح البخاري 1 : 41 . وصحيح مسلم 1 : 82 . وسنن ابن ماجة 2 : 130 .

( 71 )
بعدك (1) .
والرواية واضحة الدلالة في أنّ هؤلاء الاَصحاب كانوا معروفين في الناس بالاستقامة في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكنّهم انحرفوا من بعده .
وفي رواية أخرى أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال : « ليردنَّ على الحوض رجال ممّا صحبني ورآني ، حتى إذا رفعوا إليَّ ورأيتهم اختلجوا دوني ، فلاَقولنَّ : ربِّ أصحابي أصحابي ! فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك » (2).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّكم محشورون إلى الله تعالى... ثم يؤخذ بقوم منكم ذات الشمال ، فأقول : يا ربِّ أصحابي ! فيقال لي : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، لم يزالوا مرتدين على أعقابهم مذ فارقتهم ، فأقول كما قال العبد الصالح : (وكُنتُ عَليهِم شَهيداً مادُمتُ فِيهِم فَلمَّا تَوفَّيتني كُنتَ أنتَ الرقيبَ عَليهِم وأنتَ على كُلِّ شيءٍ شَهيدٌ * إن تُعذِّبهُم فإنَّهم عِبادُكَ وإن تَغْفِر لهُم فإنَّكَ أنتَ العَزيزُ الحَكِيم ) » (3).
والعذاب المذكور في الآية قرينة على ارتكاب الذنب والاتّصاف بالفسق والخروج عن العدالة والاستقامة ، وإلاّ لا موجب لعذاب العادل النزيه .
ومن خلال تتبع الروايات نجد أنَّ الانحراف عن نهج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والابتعاد عن المفاهيم والقيم الاِسلامية المعبّر عنه بالارتداد والرجوع
____________
1) مسند أحمد 2 : 35 . وبنحوه في صحيح مسلم 4 : 180 .
2) مسند أحمد 6 : 33 . وبنحوه في صحيح البخاري 8 : 148 و9 : 58 .
3) مسند أحمد 1 : 389 . وبنحوه في : صحيح البخاري 6 : 69 ـ 70 ، 122 . والآية من سورة المائدة 5 : 117 ـ 118 .

( 72 )
على الاَعقاب والتقهقر ، قد عمّ عدداً كبيراً من الصحابة الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صحبة ليست بالقصيرة ، وقد عبّر صلى الله عليه وآله وسلم عن كثرتهم بالقول : « بينا أنا قائم إذا زمرة ، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هَلُمَّ ، فقلت : أين؟ قال : إلى النار والله ، قلتُ : وما شأنهم ؟ قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم... قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم » (1).
والروايات المتقدّمة تنصّ على أنّ المتسائل هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمجيب غيره ، وهنالك روايات تنصّ على أنّ المجيب هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة حيثُ يخاطب بعض أصحابه في يوم القيامة بإثبات إنحرافهم عن الاستقامة بعد رحيله من الدنيا ، كما هو في الرواية عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « ما بال أقوام يقولون : إنّ رحمي لا ينفع ، بلى والله إنّ رحمي موصولة في الدنيا والآخرة ، وإنّي أيُّها الناس فرطكم على الحوض ، فإذا جئت قام رجال ، فقال هذا : يا رسول الله ، أنا فلان ، وقال هذا : يا رسول الله أنا فلان ، وقال هذا : يا رسول الله أنا فلان ، فأقول قد عرفتكم ولكنكم أحدثتم بعدي ورجعتم القهقرى » (2).
وتنص الروايات على أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبرء منهم ولا يتدخل في إنقاذهم ممّا هم فيه عند ورودهم الحوض ، ففي رواية يقول صلى الله عليه وآله وسلم : «..فأقول أصحابي أصحابي ! فقيل : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ،
____________
1) صحيح البخاري 8 : 151 .
2) المستدرك على الصحيحين 4 : 74 ـ 75 .

( 73 )
فأقول: بعداً بعداً.. ـ أو ـ سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي » (1).
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحذّر من الانحراف بعد رحيله ، ويجعل ملاك التقييم هو حسن أو سوء العاقبة ، ففي رواية أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال لشهداء أُحد : «هؤلاء أشهد عليهم » فقال أبو بكر : (ألسنا يا رسول الله بإخوانهم ؟ أسلمنا كما أسلموا ، وجاهدنا كما جاهدوا) فقال صلى الله عليه وآله وسلم : « بلى ، ولكن لاأدري ما تحدثون بعدي » (2).
وقد أكدّ بعض الصحابة حقيقة الانحراف عن نهج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد رحيله ، ومن ذلك قول أُبي بن كعب : (مازالت هذه الاُمّة مكبوبةً على وجهها منذ فقدوا نبيّهم) (3).
وقوله : (ألا هلك أهل العقدة ، والله ما آسى عليهم ، إنّما آسى على من يُضلّون من الناس) (4).

____________
1) مسند أحمد 3 : 410 . وبنحوه في صحيح مسلم 4 : 1793 .
2) موطأ مالك 2 : 462 دار احياء التراث العربي ـ بيروت 1370 هـ .
3) شرح نهج البلاغة 20 : 24 .
4) شرح نهج البلاغة 20 : 24 .