الفصل الرابع

فلسفة الإمام عليه السلام في الانفاق وتحرير العبيد

كان الرقّ نظاماً متّبعاً قبل الاِسلام وجاء الاِسلام لعلاجه واجتثاثه ( فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فكُ رقبة ) (1) ، كما أنّه كان نتيجة طبيعية للفتوحات الاِسلامية ووقوع الآلاف من أبناء البلدان المفتوحة أسرى بأيدي المسلمين ، الاَمر الذي لابدّ منه لمساومة حكّام البلدان الاُخرى على تحرير أسرى المسلمين.. فضلاً عن كونه حالة طبيعية في الوسط الاجتماعي آنذاك...
فقد قيل إن الزبير بن العوّام مثلاً كان يملك ألف عبد وألف أمة (2) ، وإن عملية فتح واحدة للمسلمين ، كان فيها نصيب الدولة الاِسلامية من العبيد ستين ألفاً ، وإن امرأة واحدة من المسلمين اشترت خمسمائة عبد (3) ، إذ كان العبد الواحد يُباع أحياناً بقبضة من فلفل المطبخ... (4).
ولما كان هؤلاء العبيد يشكّلون شريحة اجتماعية مهمة يُنظر إليها نظرة ازدراء ودونية طبعاً ، وكان معظمهم لا يستطيع التمرد على سيده بحكم
____________
(1) سورة البلد : 90| 13.
(2) فجر الاِسلام| أحمد أمين : 90.
(3) الاِمامة والسياسة : 137 فصل الفتوحات ـ القسم الثاني ـ السجاد.
(4) الاِمامة والسياسة ، فتح الاندلس وشمال أفريقيا...

( 74 )

النظام الاجتماعي القائم ، ولا يجد بدّاً من العمل معه أوله مقابل لقيمات يسدُّ بها رمقه ، أو أمانٍ يحفظ له حياته ، من خلال انتمائه لهذا البيت أو هذا الرجل ، كان على الاِمام زين العابدين أن يتعامل مع الظاهرة من موقع المسؤولية ؛ إذ عليه أولاً أن يُعاملهم كبشر لا يختلفون عن غيرهم في طموحاتهم وتطلعاتهم وآمالهم ، وأيضاً في تطلعاته هو عليه السلام لكسب ودّهم وتربيتهم وزرع القيم الرسالية في نفوسهم...
وحين كان الواحد من هؤلاء يُخاطب بكلمة « يا عبدي ويا أمتي » كان عليه السلام يخاطبهم « يا فتاي ويا فتاتي » ؛ إذ كان يرى فيهم رصيداً اجتماعياً مؤثراً لنشر الاِسلام وقيمه وتعاليمه...

هدف الاِمام عليه السلام من التعامل مع الظاهرة :
ومن هنا كان رأي الاِمام أن يتعامل معهم وفق الاُسس التالية :
1 ـ التأكيد على قيم الاِسلام في نظرته إلى البشر بأنهم جميعاً لآدم وآدم من تراب.. ( يا أيُّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ) وأن : « الناس سواسية كأسنان المشط » وأنه « لا فرق بين عربي وأعجمي إلاّ بالتقوى » و « لا فضل لابن البيضاء على ابن السوداء إلاّ بالحق » وأن « الناس صنفان : إمّا أخ لك في الدين ، أو نظير لك في الخلق » ، وبالتالي فإنّ على الاِمام عليه السلام تجسيد هذه المثل النبيلة في التعامل مع أولئك العبيد ورعايتهم وتربيتهم وأخيراً تحريرهم ، أي عتقهم ، وبثّهم في ربوع العالم الاِسلامي لاَداء الاَمانة وتبليغ الرسالة...
2 ـ تربية المسلمين وحثّهم على إنهاء هذه الظاهرة غير الممدوحة عبر تشجيعهم على شراء العبيد وعتقهم ، وكل ذلك بعد تأكيده على عدم


( 75 )

التعالي عليهم ومعاملتهم معاملة إنسانية ، أي بآدمية ورفق كما هو شأن القيم الاِسلامية في النظر إلى الضعيف أو المستضعف ممّن لا مال لديه ولا أهل ولا عشيرة..
3 ـ السعي إلى زجِّ هؤلاء العبيد في المجتمع من خلال تبنّيهم ورعاية شؤونهم واحتضانهم واجتثاث عقدة النقص من نفوسهم ، وكذلك اجتثاث جذور الفوقية والعرقية من نفوس أسيادهم بغية استثمار المؤهلين منهم في الوسط الاجتماعي كقادة ومربين ومبلّغين ، فضلاً عن هدف الاِمام العظيم لمواجهة الحالة العنصرية التي أوجدتها السياسة الاَموية في التفريق بين العرب والموالي أو تفضيل العرب على غيرهم ، باعتبارهم (مادة الاِسلام) كما زعموا ، أو زعم بعضهم.
وهكذا فقد أوجد الاِمام السجاد عليه السلام تشكيلاً أو وجوداً اجتماعياً مؤثراً ، كان يحترم الاِمام ويكنّ له كل ألوان التقدير والاِعتزاز والحبّ ، وخاصة حين تأتي تفاصيل تلك المعاملة الاَخوية من السموِّ والمثالية مابقي يُذكر على امتداد الدهور والاَزمان..

التربية العالية والخلق الرفيع :
كان عليه السلام يُعامل عبيده كأخوة وأصدقاء وأبناء ، وكان يجالسهم ويؤاكلهم ويمازحهم ويزوّجهم ، ويزرع فيهم الثقة والاعتزاز بالنفس وبالدين.
ومن مصاديق ذلك قصته مع خادمه الذي استعجل بشواء جاء به إليه لضيوفه ، وسقوط سفود الشواء على رأس طفل له وقتله في الحال ، وحين رأى الاِمام تغيُّر حال الغلام واضطرابه عاجله بقوله : « لا عليك.. إنّك لم


( 76 )

تتعمّد قتله ، وأنت حرّ لوجه الله » وأخذ في جهاز ولده ودفنه (1) ، فإنّها قصة تعبّر عن تسامٍ رفيع ومناقبية عظيمة راحت حكاية للاجيال.
وقصته الاُخرى مع جارية له كانت تحمل له إبريقاً ، إذ سقط الابريق من يدها ليشجّ وجه الامام ويسيل دمه ، وحين اضطربت ، معتذرة إليه قائلة ( والكاظمين الغيظ ) قال لها : « كظمتُ غيظي » فقالت : ( والعافين عن الناس ) قال : « عفا الله عنك » فقالت : ( والله يحب المحسنين ) قال « أنتِ حرّة لوجه الله » (2) .
هذه القصة هي الاُخرى جاءت في سياق هذه التربية الرسالية الهادفة لذلك الغرض النبيل ، وهو تعليم الناس دين الله وأخلاق الاِسلام ، والتثقيف بثقافة القرآن.
أقول : إنّ هذه التربية السامية والخلق الرفيع كانا يسريان في نفوس عبيد الامام وإمائه ، بحيث صار عليه السلام يوماً إلى بستان له كان بعهدة أو تحت حراسة أحد غلمانه ، ذهب الامام إلى ذلك البستان يحمل معه طعاماً للحارس ، فأعطى الامام الطعام للغلام وتنحّى جانباً يراقب من بعيد ، كان للغلام كلب واقف قريباً منه والغلام يأكل والكلب ناظر إليه ، وحين شاهده راح يأكل لقمةً ويعطيه لقمة حتى انتهى من طعامه ، وحين فاجأه الامام أن الطعام كان له وليس لكلبه ، جاء جوابه : ( والله يا ابن رسول الله إني استحييت أن آكل أمامه وهو دالع لسانه ينظر إلى الطعام ولا أشاركه أو يشاركني .. ). هذا مع الكلب ، فكيف مع الناس !! وروايات وحكايا ومواقف كثيرة اُخرى من هذا القبيل...
____________
(1) بحار الاَنوار 46 : باب 5 ـ 81.
(2) سيرة الائمة الاثني عشر | هاشم معروف الحسني : 155.

( 77 )

وكما كان عليه السلام يرتعد من خشية الله أثناء عبادته إذ كان يصفّر وجهه إذا توضّأ للصلاة ـ كما يذكر الرواة ـ وهو يقول : « أتدرون من سأُناجي بعد قليل وأمام من ؟ وبين يدي من سأقف ؟ ! » (1).
وكما يُروى عن حريق شبّ يوماً في داره وحين قيل له : النار النار يا ابن رسول الله ، لم يكترث حتى أُطفئت فقيل له : ما الذي ألهاك عن النار ؟ قال : « ألهتني النار الكبرى » (2).
أقول : كما كان الامام كذلك في تجسيده لخشية الله وذوبانه في حبّ ربِّ العباد ، كان تجسيده لحبّه لعبيده ورفقه بهم بعيداً عن التمظهر والافتعال والادّعاء أو الرياء...
تذكر الروايات أنه عليه السلام تفقّد يوماً ضيعةً له ، فوجد أنّه أصابها فساد كبير بسبب إهمال غلامه لها وعدم اكتراثه لرعايتها ، فغضب لذلك وقرع المولى بسوط كان في يده.. وما أن استرجع حتى ندم على قرعه الغلام ، فاعتذر منه وأعطى السوط للغلام ليقتصّ منه ، فأبى الغلام ، بل راح يقبّل يد الامام ، فقال له عليه السلام : « أما إذا أبيت ، فالضيعة صدقة عليك ، وأعطاها إياه... » (3) .
وضرب يوماً غلاماً تباطأ في عملٍ أرسله لاِنجازه ، فقال له الغلام تبعثني في حاجتك ثم تضربني ! فبكى الامام وقال له في الحال « يا بني اذهب إلى قبر رسول الله فصلِّ ركعتين ثم قُل : اللهمّ اغفر لعلي
____________
(1) سيرة الائمة الاثني عشر : 160.
(2) مختصر تأريخ دمشق 17 : 336| 134. وسير أعلام النبلاء 4 : 391 ـ 392| 157. ومناقب آل أبي طالب 4 : 147 ـ 148.
(3) البحار 46 : باب 5 ـ 85.

( 78 )

بن الحسين خطيئته يوم الدين » ثمّ قال : « اذهب أنت حرٌّ لوجه الله.. » (1).
ومثل ذلك الكثير الكثير ، ولم يكن الاِمام بهذه المواقف أو المناقبية الفريدة ، يريد تسجيل لوحات استهلاكية للتشدّق والرياء ، ولم يكن يرغب في تدوينها للتسويق السياسي والتجارة ، وإنّما كانت سجيّته هكذا ، بل كانت أخلاقه ملكة لم يستطع أكثر أعدائه خصومةً له ، تسجيلها عليه على أنها نوازع خاصة لاَهداف مبيّتة يرغب في تسويقها من أجل اكتساب السمعة أو الشهرة أو توسيع دائرة المعجبين والمحبين ، كما يفعل الكثيرون.
ولعلَّ ( صدقة السر ) المنسوبة له عليه السلام تجسيدٌ مثاليٌ رائعٌ لهذه الملكة الخالدة والسجية العظيمة ، فكان يسمى ( صاحب الجراب ) ؛ إذ كان يقصد بجرابه فقراء المسلمين ليلاً ملثماً ، فيقرع أبوابهم باباً باباً ليضع ما يضعه أمامها في جوف الليل من طعام أو صرّة مال ، ولم يكن ليعرف المسلمون ( صاحب الجراب ) هذا حتى مات عليه السلام حيث كشف بعض خواصه كلمته الخالدة : « إنّ صدقة السرّ ، أو صدقة الليل تطفىء غضب الرب » لتبقى شعاراً خالداً يندّد بالمرائين وتجار السياسة وعشّاق الوجاهة والرئاسة وشُرّاء الذمم والاَصوات..
منقبة اُخرى ، بل مناقبية اُخرى ، تكشف هذه السجية في شخصيته ، خلاصتها أنه عليه السلام كان يحصي على عبيده أخطاءهم في شهر رمضان ، ويسجّل ذلك عليهم دون علمهم ، ودون أن يعاقبهم أو يُقرّعهم أو يحاسبهم حتى إذا جاء عيد الفطر جمعهم ، وأخذ يذكّرهم بأخطائهم وذنوبهم أثناء الشهر الكريم مع تحديد الوقت والخطأ الذي ارتكبه كلّ
____________
(1) البحار 46 : باب 5 ـ 59.
( 79 )

منهم ، وحين يتذكّر المخطيء منهم فعلته أو خطأه ويعترف بذنبه ، يعفو عنه ويطلب منه أن يدعو له بالمغفرة والعتق من النار كما عفا هو عنه أو عنهم ، ثمّ يعتقه أو يعتقهم أحراراً لوجه الله وهو يردّد وهم جميعاً يرددون معه وبصوت ودعاء ملائكي حزين : « ربّنا أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا وقد عفونا كما أمرت ، فاعفُ عنا.. ربنا وأمرتنا ألاّ نردّ سائلاً عن أبوابنا وقد أتيناك سُؤّالاً ومساكين ، وقد أنخنا بفنائك وببابك نطلب نائلك ومعروفك وعطائك ، فامنُن بذلك علينا ولا تخيّبنا..
نسألك اللهمَّ بالمخزون من أسمائك وبما وارته الحجب من بهائك إلاّ رحمت هذه النفس الجزوعة وهذه الرّمّة الهلوعة التي لا تستطيع حرّ شمسك ، فكيف تستطيع حرّ نارك ، والتي لا تستطيع صوت رعدك ، فكيف تستطيع صوت غضبك.. » .
ثم يُقبل عليه السلام على عبيده فيقول لهم : « قد عفوتُ عنكم ، فهل عفوتم عنّي مما كان مني إليكم من سوء ملكي ؟ فإنّي مليك سوءٍ ، لئيم ظالم ، مملوك لمليك كريم جواد عادل محسن متفضّل.. » .
فيقولون : قد عفونا عنك يا سيدنا وما أسأتَ فيقول لهم قولوا : « اللهمَّ أعفُ عن علي بن الحسين كما عفا عنا ، فاعتقه من النار كما أعتق رقابنا من الرقِّ... » .
ثم يقول : « اللهمَّ تولّني في جيراني بإقامة سنّتك والاخذ بمحاسن أدبك في إرفاق ضعيفهم وسدّ خلّتهم ، وتعهد قادمهم ، وعيادة مريضهم ، وهداية مسترشدهم ، ومناصحة مستشيرهم ، وكتمان أسرارهم ، وستر عوراتهم ، ونصرة مظلومهم ، وحُسن مواساتهم بالماعون ، والعود عليهم بالجدّة والاَفضال وإعطائهم ما يجب لهم قبل السؤال.. » .


( 80 )

وهكذا ، مما لا عدّ له ولا حصر في إحصاء زوايا النفس الاِنسانية والتنقيب عن مكنوناتها النبيلة في حبّ الآخرين والرفق بهم والعطف عليهم و ( مواساتهم بالماعون ) ـ لاحظ الدقة ـ ونُصحهم والانتصار لمظلومهم وتعهّد قادمهم وما ذكره وردّده ومازالت تذكره وتردده الاَجيال جيلاً بعد جيل رغم تعاقب الدهور والعصور..
وأكثر من ذلك ، أنه عليه السلام كان يعجبه أن يحضر طعامه اليتامى والاضرّاء والزمنى ( أي أصحاب العاهات المزمنة ) والمساكين الذين لا حيلة لهم ، وكان يناولهم الطعام بيده محبّاً مشفقاً متودداً ، أما من كان له عيال ، فكان يحمل له من طعامه إلى عياله ، وإذا أتاه سائل يسأله كان يجيب : « مرحباً بمن يحمل زادي إلى الآخرة » (1) ، مذكّراً بمقولة جدّته الزهراء عليها السلام ومجسّداً لمواقفها العظيمة مع من كان يطرق بابها من الفقراء ، فلا تردّهم ، رغم حاجتها وحاجة أطفالها ، بل كانت تقول : « كيف أردُّ الخير وقد طرق بابي ، أو نزل ببابي » (2).

سياسة الاِنفاق :
أما عن الانفاق فلم يكن عليه السلام يفكك بين الروح والمادة ، وبين الحقوق والواجبات ، وبين متطلبات الجسم وتحليقات الروح ، بل كان يجسّد المثال الاروع في الانفاق من خير ما يحب المرء ، وكان دائماً يردد كلام الله جلَّ وعلا : ( لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون ) (3).
____________
(1) المجالس السنية 5 : 422.
(2) بحار الاَنوار 43 : 73.
(3) سورة آل عمران : 3| 92.

( 81 )

فكان يهدي أفخر ثيابه للمحتاجين والمعوزين (1) ، وكان يحمل جرابه ـ كما ذكرنا ـ ملثّماً في جوف الليل يوزّع المال والطعام على الفقراء والمساكين وذوي العسر والفاقة من يتامى وأرامل المسلمين. وكان يسمى ( صاحب الجراب ) (2)ـ كما مرّ ـ.
وجاء في رواية أحمد بن حنبل والصدوق عن الامام الباقر عليه السلام أنّه كان يعول مائة بيت في المدينة (3).
ويقول أبو نعيم في حلية الاولياء : ( كانت بيوتٌ في المدينة تعيش من صدقات علي بن الحسين ، وبعضها لا تدري من أين تعيش ، فلمّا مات علي بن الحسين فقدوا ما كان يأتيهم ، فعلموا بأنّه هو الذي كان يعيلهم. وقال بعضهم : ما فقدنا صدقة السرّ حتى فقدنا علي بن الحسين ) (4).
وينقل أبو جعفر الصدوق ، في « علل الشرائع » ، عن سفيان بن عيينة( رأى الزهري عليّاً بن الحسين في ليلة باردة مطيرة وعلى ظهره دقيق وحطب وهو يمشي فقال له : يا ابن رسول الله : ما هذا ؟
قال : « أريدُ سفراً أعدُّ له زاداً أحمله إلى موضعٍ حريز » ، فقال الزهري : فهذا غلامي يحمله عنك ، فأبى ، فقال : أنا أحمله عنك. فقال : « لكني لا أرفع عن نفسي عما يُنجيني في سفري ويُحسن ورودي على ما سأرِد عليه ، سألتك بالله لمّا مضيت في حاجتك وتركتني ! » (5) !!
ويروي الزهري أيضاً : ( لما مات زين العابدين فغسّلوه وجدوا على
____________
(1) المحاسن : 396. والبحار 46 : 72.
(2) مناقب آل أبي طالب| المازندراني 4 : 153.
(3) سيرة الائمة الاثني عشر| هاشم معروف الحسني : 158.
(4) سيرة الائمة الاَثني عشر : 159.
(5) مناقب آل أبي طالب 4 : 154.

( 82 )

ظهره محل « أي علامة » فبلغني أنّه كان يستقي لضعفة جيرانه بالليل. وقيل : وجدوا على ظهره مثل ركب الابل ممّا كان يحمله على ظهره إلى منازل الفقراء ) (1).
وكان يفسّر إهداء ثيابه لفقراء المسلمين ، أن ذلك يُسرهم ويؤثّر في نفوسهم ، وحين يُسئل لمَ لا تبيعها وتتصدّق بثمنها ؟ يجيب : « إنّي أكره أن أبيع ثوباً صلّيتُ فيه » (2).
وهذا يعني أنه عليه السلام كان يعتقد أن من سيرتدي ثوبه هذا سيكون مسروراً وحافظاً لودّ الاِمام المحسن ، « والناس عبيد الاِحسان » كما يقولون ، مجسداً رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم « تهادوا تحابوا » كما في الحديث الشريف ، فضلاً عن كونه عملاً تربوياً يتجاوز حدود المواساة الاَخلاقية والروحية التي تكتفي فقط بالكلمات والمشاعر ولغة العواطف ولا تتعداها.. بل أكثر من ذلك أنّه عليه السلام كان لا يكتفي بمساعدة الفقراء ، بل كان يُقبّل أيديهم قبل أن يناولهم الصدقة (3)مذكراً مرة أُخرى بمقولته المشهورة : « مرحباً بمن يحمل زادي إلى الآخرة » .
وعن زهده في الحياة الدنيا وترفعه على حطامها ومتاعها وزخرفها ، تشير كل تفاصيل حياته عليه السلام انّه كان أزهد أهل زمانه وأورعهم وأتقاهم..
ينقل عبدالله بن المبارك أنّه شاهد الاِمام في موسم الحج وهو يسير بلا زاد ولا راحلة. قال : فقلت له : مع من قطعت البرّ ؟ ! قال : « مع البار » . فقلت : يا ولدي وأين زادك وراحلتك ؟ ! فأجاب : « زادي تقواي ،
____________
(1) المصدر السابق : 154.
(2) البحار 46 : باب 5 ـ 77.
(3) المصدر السابق.

( 83 )

وراحلتي رجلاي ، وقصدي مولاي » .
وينقل رواة سيرته أنّه قضى معظم أيام حياته صائماً ، وقد سُئلت جاريته عن عبادته ، فأجابت : (ما قدمتُ له طعاماً في نهار قط ، وقد أحبّ الصوم وحثّ عليه ، وكان يقول : « إنّ الله تعالى وكّل ملائكة بالصائمين.. » (1).
وهذا يعني أنّه عليه السلام لم يحاول ترسيخ القيم والمبادىء عبر الاَدعية والمواعظ وتصدير الشعارات كما يفعل محترفو السياسة وتجّارها ، وإنّما كان يقرن القول بالفعل ، والشعار بالسلوك ، وكان في إنفاقه هذا يؤكد زهده بالمال وعدم اكتراثه به ، وأنه إنّما كان ينفقه باعتباره مال الله وهو مستخلف عليه ليس إلاّ ، وإنّه بتأكيده على تفقّد الاَرامل واليتامى والفقراء إنّما أراد أن يفضح أولئك الذين يتشدّقون بشعارات الاِسلام ويتلفّعون بأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم أبعد الناس عن تطبيقها أو تجسيدها على أرض الواقع ، فضلاً عمّا كان يضمره في الاستخفاف بعلماء السوء وفقهاء السلاطين الذي وصفهم القول المأثور : « إنّهم يُزهّدون الناس في الدنيا ولا يزهدون ، ويرغّبونهم في الآخرة ولا يرغبون ، يُقرّبون الاَغنياء ويُبعّدون الفقراء » (2) .
وباختصار شديد ، أنّه عليه السلام بإنفاقه وزهده كان مثال القائد العظيم الذي لا يرفع شعارات الحفاة والجياع للتجارة والاستهلاك والتسويق السياسي ، وإنّما كان يقرن ذلك بالترجمة والسلوك ، وهذا جزء من رسالته التي ادّخره
____________
(1) حياة الاِمام زين العابدين| باقر شريف القرشي : 203.
(2) العقد الفريد 2 : 227 ، طبعة دار الكتاب ـ بيروت 1403 هـ. والقول منسوب للسيد المسيح عليه السلام .

( 84 )

الله تعالى لها لكشف الادعياء والمزيفين والمبرقعين بالقدسية ، وخاصة حمَلة الشعارات وقرّاء القرآن المحترفين ، وتجار الدين الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ، والذين باع الكثيرون منهم دينهم بدنياهم ، بل باع بعضهم دينهم بدنيا غيرهم ، وكانوا مثلاً سيئاً لاُولئك المتزلَّفين النفعيين الانتهازيين الذين قيل فيهم : ( إنّهم حاربوا قلوبهم من أجل بطونهم ، وحاربوا ربّهم من أجل واليهم .. ) .


( 85 )

الفصل الخامس

رسالة الحقوق
الاِعلان الاَول لحقوق الاِنسان في العالم

رسالة الحقوق.. محاكمة المفاهيم بالمصاديق
لا نظن أننا منحازين حين نقول إن تجربة الاِسلام الاُولى ، أي تجربة الصدر الاَول للاِسلام في زمن النبي وعهد الاِمام أمير المؤمنين عليه السلام ، كانت التجربة الاَروع في تاريخ البشرية من حيث سيادة العدالة الاجتماعية وتكريس حقّ الاِنسان في الحياة الحرة الكريمة ، ونقل المجتمع البشري من ظلمات الجهل والجاهلية إلى نور الحق والعدل...
ورغم أن هذه التجربة لم يُكتب لها الاستمرار طويلاً بحكم طبيعة البشر في تغليب مصالحهم على مبادئهم ، وبحكم الاِنحراف عن خط الرسالة الاَصيل ، إلاّ أنّها كانت ولا زالت وستظلّ التجربة الاَمثل لمن يحاكم المفاهيم في ظلّ المصاديق ، ويحاكم النظرية على أساس التطبيق...
وحين يُقال إنّ إصلاح أية نظرية أو فكرة لا يمكن إقراره عبر اليافطات والشعارات التي ترفعها ، وإنّما بإمكانية تطبيقها على أرض الواقع ، يمكن القول أيضاً إن تجربة الاِسلام الاُولى تلك ، كانت بحق تجربة المصاديق


( 86 )

الاُولى التي لم يستطع أي مؤرخ التنكّر لها مهما جنح أو تحامل أو تحيّز.
ومن أجمل مصاديق هذه التجربة ، بل أصدق رجالها الذين زاوجوا بجدارة بين المفهوم والمصداق ، والقول والفعل ، هو الاِمام زين العابدين عليه السلام الذي جاء امتداداً حقيقياً لمدرسة النبي المصطفى محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم ومدرسة جدّه علي بن أبي طالب عليه السلام صوت العدالة الانسانية وبقي نموذجاً شاهداً ، وبقيّة صالحة من أبيه الحسين بن علي عليهما السلام ، الذي قدّم لرسالته ودينه مالم يقدمه إنسان على وجه الاَرض في عمق إيمانه وصدق تضحيته وإخلاص نيّته ونبل سلوكه وإبائه وشهامته ورساليته..
وحين نقول المصاديق ، أو تجربة المصاديق ، فاننا نعني أنّ مصداقها الاَول والاَكثر تجلياً وسطوعاً ، وعلى المستويين النظري والتطبيقي ، هو شخصية واضع هذه التجربة أو رائدها وزعيمها ، وهو موضوع بحثنا الاِمام زين العابدين عليه السلام .
ولمّا كنا استعرضنا بعض تفاصيل حياة هذا الرجل العظيم في بعض مصاديقها العملية ، واكتشفنا ظهراً محدودباً يتفقد الاَرامل واليتامى في جوف الليل ، يحمل المؤن والمساعدات لمن لا معيل لهم ولا كفيل ، وهو أفقه أهل زمانه وأكثرهم علماً وورعاً ومعروفية ، ثم رأينا على محياه دموعاً ساخنة تجري بغزارة لتأكيد الانفعال الصادق الطاهر مع المضطهدين والمعذّبين ، مشفوعة بيقينٍ ثابت برجاء ثواب الله ، واعتقاد راسخ بآخرة باقية أفضل من أولى فانية ، وإن غيبتها السياسة ومترفوها وتجارها.
من هنا لم يبق إلاّ أن نقول وبلا تردّد ، أن هذا المصداق أنشأ وأسس
( 87 )

وأصّل مدرسة نموذجية فريدة تهتم بالفعل قبل القول ، وبالتجسيد قبل التنظير ، وبالانفعال الصادق قبل التفاعل والتفعيل والشعارات الكاذبة.
ومع ذلك يمكن القول أن أعظم ما وصلت إليه البشرية اليوم هو ترسيخ مبادىء حقوق الاِنسان ، ونشر ثقافة الحقوق ، وأدب الحقوق ، وإن بقيت الفاصلة شاسعة بين الواقع والادّعاء ، إلاّ أن الجهد البشري استطاع مشكوراً طبعاً أن يعمّم هذه الثقافة ويدعو إلى تطبيقها على الاَمم والشعوب ، ويؤسس لذلك وعبر عشرات الاعلانات العالمية لحقوق الاِنسان وعشرات المؤتمرات التي تدعو الاِنسان وتناشده احترام أخيه الاِنسان والاعتراف بحقه في الحياة الحرة الكريمة...
ولمّا مررنا مروراً سريعاً على ما سمّاه البعض (زبور آل محمد) أي الصحيفة السجادية للاِمام السجاد عليه السلام ، وقرأنا عمق العلاقة التي حاول رسمها أو شدّها هذا الاِمام العظيم بين الاِنسان وربه ، فاننا نمرّ الآن مروراً سريعاً أيضاً على البعد الآخر الذي حاول الاِمام ترسيخه عبر نظرية حقوقية متكاملة ، أو رسالة حقوقية يمكن اعتبارها بحقّ ديباجة لكلِّ وثائق وإعلانات حقوق الاِنسان في العالم ، وإن كانت جاءت قبل هذه الوثائق العالمية بأكثر من ألف عام...
أي إنه عليه السلام كان موفّقاً هنا أيضاً ، حين لم يكتفِ برسم معالم العلاقة وحدودها بين الاِنسان وربه ، وإنّما راح يُنظّر للعلاقة المهمة الاُخرى بين الاِنسان وأخيه الاِنسان ، ويضع مواد قانونية يمكن اعتبارها بحق أيضاً أجمل وأعظم وأمتن ما كُتب حول الحقوق ورسالات الحقوق وثقافة الحقوق .


( 88 )

تأسيساً على ذلك ، يمكننا القول إن رسالة الحقوق التي كتبها لنا الاِمام زين العابدين هي أول إعلان إسلامي بل عالمي لحقوق الاِنسان ، كما ثُبّت قبل ألف وأربعمائة سنة ، وقبل أن يعرف العالم إعلانات واتفاقيات ومبادىء الحقوق بهذه النظرة الشمولية الرائدة...

مع رسالة الحقوق :
فلنمرّ مروراً سريعاً ، إذن ، على رسالة الحقوق للاِمام زين العابدين عليه السلام بديباجتها النظرية البليغة التي لم تفصل بين السماء والاَرض كما تفعل إعلانات حقوق الاِنسان العالمية اليوم ، بل راحت تؤكد على تغيير المحتوى الداخلي للاِنسان الذي به ومنه تنطلق إرادات التغيير نحو عالم أفضل وأكمل.
يقول الاِمام زين العابدين عليه السلام في ديباجته لرسالة الحقوق هذه « إعلم ، رحمك الله ، أنّ لله عزَّ وجلَّ عليك حقوقاً محيطة بك في كلِّ حركة تحركتها أو سكنة سكنتها أو منزلة نزلتها.. وأكبر حقوق الله عليك ما أوجبه لنفسه تبارك وتعالى ، وما أوجبه عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك على اختلاف جوارحك ، ثمّ حقوق أئمتك وحقوق رعيتك وحقوق رحمك ، فأوجب عليك حق أمّك وحقّ أبيك ، ثمّ حقّ ولدك وحقّ أخيك ، ثمّ الاَقرب فالاَقرب... » .
بعدها راح الاِمام يُعدّد هذه الحقوق حقاً حقاً ، ليفصّلها بعدئذٍ بدقّة وموضوعية وعمق ، وكان مما قاله عليه السلام في إحصاء هذه الحقوق : « ومنها حقّ غريمك الذي تطالبه ، وحقّ غريمك الذي يُطالبك ، ثمّ حقّ خليطك ،


( 89 )

ثمّ حقّ خصمك المدّعي عليك ، ثمّ حقّ خصمك الذي تدّعي عليه ، ثمّ حقّ مستشيرك وحقّ المشير عليك ، ثمّ حقّ مستنصحك وحقّ الناصح لك ، ثمّ حقّ من هو أكبر منك ، وحقّ من هو أصغر منك ، ثم حقّ سائلك وحقّ من سألته ، ثمّ حقّ أهل ملّتك عامّة ، ثمّ حقّ أهل الذمّة ، ثمّ الحقوق الجارية بقدر علل الاَحوال وتصرّف الاَسباب... » . ثمّ يفصلها واحداً بعد الآخر بشكل محكم ودقيق..
وهكذا ومن أول كلمة ، أو التفاتة ، وبلا مزايدات إعلامية ، نلاحظ أن الاِمام السجاد عليه السلام أكّد على حق الله الذي هو ما أوجبه الخالق على الناس من قيم عظيمة ومُثل نبيلة ، لم يحاول عليه السلام الدخول في تفاصيلها وفرض وصايته على تحديدها ، كما يفعل بعض من يدّعون الوصاية على الناس والحديث نيابة عن المطلق ، ولسبب بسيط ومعلوم طبعاً أنّ حقّ الله على العباد جاء واضحاً صريحاً بسيطاً في كتب الله وسيرة أنبيائه ورسله وتعاليمهم التي دعت إلى التحلّي بالاخلاق الفاضلة والقيم الرفيعة التي جُبلت عليها الفطرة البشرية السليمة ، وبلا مماهاة أو مماحكات أو التواءات ، كالصدق والاَمانة والحياء والوفاء والانتصار للمظلوم ومخاصمة الظالم ومساعدة المحتاج ، وإغاثة الملهوف ، والمعاملة الطيبة وصدق الحديث وبرّ الوالدين والرفق بالضعيف والجار وما إلى ذلك.
وكما هو حقّ اللهّ المدوّن في كتابه وسُنّة أنبيائه ، جاء حقّ النفس على صاحبها ، ثمّ حقوق الآخرين فرداً فرداً ، ليكون الاِمام عليه السلام أفضل تجسيد لها ، والاِنصهار بها ، وبلا مدّعيات أو شعارات ـ كما قلنا ـ قد تُفرِّغ المفاهيم من روعتها ، وتُسفِّه المصاديق العظيمة وتستخفّ بها.
لنمر مروراً سريعاً أيضاً على مقتطفات من بعض هذه الحقوق كما


( 90 )

وردت على لسان الاِمام زين العابدين عليه السلام ، تاركين تفاصيلها لمن يريد أو يرغب التفصيل في رسالة الحقوق المعروفة للاِمام.

حقوق الرعية والراعي :
يبدأ الاِمام عليه السلام بتأكيد الحق الاَكبر والاَول الذي يؤسس لبقية الحقوق ويؤدي لها ، وهو حق الرعية على الراعي ، أي حق الاُمّة على القائد ، أو حق المحكوم على الحاكم ، وهذا الحق طبعاً هو موضوع ابتلاء الاُمم والشعوب على امتداد العصور والاَزمان ، فيقول عليه السلام مخاطباً الحاكم « فإنّما حقوق رعيتك بالسلطان : فأن تعلم ، أنك إنّما استرعيتهم بفضل قوتك عليهم ، وإنّ الله إنّما أحلّهم محلّ الرعية لك ضعفهم وذلّهم ، فما أولى من كفاكه ضعفه وذلّه حتى صيّره لك رعية ، وصيّر حكمك عليه نافذاً ، لايمتنع منك بعزّة ولا قوة ، ولا ينتصر في تعاظمه منك إلاّ بالله ، بالرحمة والحياطة والاَناة ، وما أولاك إذا ما عرفت ما أعطاك الله من فضل هذه العزّة والقوّة التي قهرت بها أن تكون لله شاكراً ، ومن شكر الله أعطاه فيما أنعم عليه... » .
ثم يفصّل هذه الحقوق وكأنه امتداد أصيل لجده الاِمام علي بن أبي طالب عليه السلام الذي ترك عهده لمالك الاَشتر وثيقة خالدة اعترف ويعترف بها كل القادة والزعماء التأريخيين ومازالوا ، وكيف أنها صارت منهجاً علمياً رصيناً في سياسة الحاكم لرعيته ورفقه بها وتعامله معها.
وبعد أن يحدد الاِمام زين العابدين عليه السلام حقوق المحكوم على الحاكم ، يتوقف عند حقوق الحاكم على المحكوم ، فيعطي كل ذي حق حقه ، بلا


( 91 )

مواربة أو تحيّز أو مساومة ، فيقول مخاطباً المحكوم هذه المرّة : « فأما حق سائسك بالسلطان ، فأن تعلم أنك جُعلت له فتنة وأنه مبتلى بك ، بما جعل عليك من السلطان ، وأن تُخلص له في النصيحة ، وأن لا تُماحكه ، وقد بسطت يده عليك ، فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه ، وتذلّل وتلّطف لاِعطائه من الرضا ما يكفّه عنك ولا يضرّ بدينك ، وتستعين عليه في ذلك بالله ، ولا تعازّه ولا تعانده ، فإنّك إن فعلت ذلك عققته وعققت نفسك ، فعرضتها لمكروهه ، وعرّضته للهلكة فيك وكُنتَ خليقاً أن تكون معيناً له على نفسك وشريكاً له في ما أتى إليك... » .
بهذه الموازنة الدقيقة يضع الاِمام زين العابدين عليه السلام معايير الحقوق بين الراعي والرعية ، فلا يُسرف الراعي في استخدام رعيته التي بايعته وعاضدته وساندته ، فيذلها ويمتهنها ، ويحوّلها إلى قطيع وخول تكبّراً واستهتاراً ، وفي نفس الوقت لا تُسرف الرعيّة في الدلال والتغنّج على الوالي فتعانده وتتعزّز عليه وتماحكه وتجادله فتُهلكه وتهلك معه ، وإنّما أن يعرف كلّ ذي حق حقّه ، ويعرف كلّ حدوده وواجباته ومسؤولياته لتجاوز المحن وعبور المطبّات واحتواء الفتن..
ولعلك تلاحظ الدقة والبلاغة والايجاز في تعبيره عليه السلام حين يقول « وتلطّف لاِعطائه ـ للسلطان ـ من الرضا ما يكفّه عنك ( ولكن ) لا يضرّ بدينك.. » !

حقوق الرحم :
وبهذه المتانة والدقة والاِيجاز ، ينتقل الاِمام السجاد عليه السلام ليُسجّل حقوق


( 92 )

الآخرين ، الواحد تلو الآخر ويضع كل نقطة على حرفها ، محركاً كوامن النفوس مستنهضاً الفطرة السليمة بلا مساومة أو مداورة أو مماهاة فيقول في حق الرحم مثلاً :

حق الاُم :
« وأما حق الرحم.. فحق أمك أن تعلم أنّها حملتك حيث لا يحمل أحدٌ أحداً ، وأطعمتك من ثمرة قلبها مالا يطعم أحد أحداً ، وأنّها وقَتْكَ بسمعها وبصرها وبيدها ورجلها وشعرها وبشرها وجميع جوارحها ، مستبشرةً فرحة لما فيه مكروهها وألمها وثقلها وغمّها حتى دفعتك عنها يد القدرة ، وأخرجتك إلى الاَرض ، فرَضِيتْ أن تشبع وهي تجوع ، وتكسوك وتعرى ، وترويك وتضمى ، وتُظلك وتضحى.. » .
إلى أن يقول عليه السلام : « وتنعّمك ببؤسها ، وتلذّذك بالنوم بأرقها.. كان بطنها لك وعاء ، وحجرها لك حواء ، وثديها لك سقاء ، ونفسها لك وقاء ، تباشر حرّ الدنيا وبردها لك ودونك ، فتشكرها على قدر ذلك ، ولا تقدر عليه إلاّ بعون الله وتوفيقه.. » .

حق الاَب :
« ... وأما حق أبيك فأن تعلم أنّه أصلك ، وأنت فرعه ، وأنّك لولاه لم تكن ، فمهما رأيت في نفسك مما يعجبك ، فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه ، ... واحمد الله واشكره على قدر ذلك... » .


( 93 )

حق الولد :
« ... وأما حق ولدك ، فأن تعلم أنّه منك ، ومضافٌ إليك في عاجل الدنيا بخيره وشرّه ، وأنك مسؤول عما ولّيته من حسن الاَدب والدلالة على ربّه ، والمعونة له على طاعته فيك وفي نفسك ، فمثابٌ على ذلك ومعاقب ، فاعمل في أمره عمل المتزين بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا ، المعذّر إلى ربِّه فيما بينك وبينه بحسن القيام عليه والاَخذ له منه... » .

حق الاَخ :
« ... وأما حق أخيك ، فأن تعلم أنّه يدك التي تبسطها ، وظهرك الذي تلتجىء إليه ، وعزّك الذي تعتمد عليه ، وقوّتك التي تصول بها ، فلا تتخذه سلاحاً على معصية الله ، ولا عدّة للظلم لخلق الله ، ولا تدع نصرته على نفسه ، ومعونته على عدوه ، والحؤول بينه وبين شياطينه وتأدية النصيحة إليه والاِقبال عليه في الله ، فإن انقاد لربّه وأحسن الاِجابة ، وإلاّ فليكن الله آثر عندك وأكرم عليك منه... » .
بهذه الدقة والايجاز يستمر الاِمام السجاد عليه السلام يسجّل حقوق الرحم ، وكأنّه يغوص في أعماق النفس الاِنسانية ، ليستلّ منها أسمى ما فيها من النوازع والعواطف النبيلة ، ويجتثّ منها أخبث ما فيها من أحابيل الشرّ ودوافع الشيطان..
فتراه في العبارة الاَخيرة ، مثلاً ، يفكك بين حقين يتنازعان الاِنسان في أغلب الاَحيان ، ويدفعانه لاتخاذ أحدهما قبل الآخر ، وهما حق الاَخ وحق الله ، فإذا كان ثمة خياران لا ثالث لهما : إمّا أخوك الذي هو « يدك


( 94 )

الذي تبسطها ، وظهرك الذي تلتجىء إليه ، وعزك الذي تعتمد عليه ، وقوتك التي تصول بها » وإمّا ربك ودينك ومبادئك ، فهنا يكون الحق المرّ أو الخيار المرّ.. هذا الاَخ أم ذاك الربّ ؟!!
أي هل يتخذ من أخيه سلاحاً وقوة لمعصية الله ، أم يتخذ من الله معيناً فيزهد في حق أخيه.. وهذا هو الخانق الذي يجد الاِنسان نفسه محشوراً فيه في أغلب الاَحيان وخاصة إذا كان في موقع السلطة ، عشيرته التي ينتمي إليها ، أم مبادؤه التي رفعها شعاراً وهوية وانتساباً ونال بها تلك السلطة ؟ ! قرابته التي يعيش في عزّها ومنعتها ، أم قيمه التي تدعوه للمواجهة أحياناً وربما التضحية بهذا الاَخ أو تلك العشيرة أو ذلك الانتساب ؟!!
وبكلمة اُخرى ، أين يجب أن يقف الاِنسان لحظة الصدام بين المبادئ والمصالح ؟ وأيُّهما أجدر بالاتّباع ؟ حدود الدين مع مافيها من تضحية بالعاجل على حساب الآجل ، أم قيم العشيرة والحزب والقومية مع مافيها من مصالح ومنافع عاجلة ولكن على حساب الآخرة ونعيمها ؟ !
هذا هو المفترق الذي يحار فيه أغلب الرجال مهما أوتوا من قوة وعزيمة ، وهذا هو الخيار الذي يدعو الاِمام لاتخاذه بلا تردّد ، وقد اتخذه عليه السلام قولاً وفعلاً في العشرات من المواقف وحيث أعطى لله كل مالديه ، وأصرّ أن يعيش محاصراً مطارداً ملاحقاً مقصياً عن موقعه مهضوماً حقه ، لا معين له إلاّ الله ، ولا عشيرة إلاّ حدود الله وقيمه وتعاليمه(1) .
____________
(1) راجع قولته عليه السلام المارة الذكر في كتاب ( الإمام السجاد | حسين باقر : 63 ) والتي جاء فيها

=


( 95 )

ومع هذا وذاك ، لم يفُت الاِمام عليه السلام أن يؤكد معونتك لاَخيك ونصرته بقوله عليه السلام : « ولا تدع نصرته على نفسه » أي حاول الحيلولة بينه وبين شيطانه أو شياطينه ـ على حد قوله عليه السلام ـ بأداء النصح ، والتماس العذر سعياً حثيثاً لاستيعابه ، وتشبثاً كريماً للرفق به والعطف عليه ، من أجل احتوائه وعدم التفريط به.. حتى يتأسى منه ، وإلاّ « فليكن الله آثر عندك ، وأكرم عليك منه » !!!

حق الغريم :
وينتقل الاِمام إلى حقّ آخر لا يقلّ إحراجاً عن سابقاته في لحظة الخيارات الصعبة ، وبين أن يقسو أو يُقسى عليه ، فيقول في حق الغريم مثلاً : « ... وأما حق الغريم المطالب لك ، فإن كنتَ موسراً أوفيته ، وكفيته وأغنيته ولا تردّه وتمطله ، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( مطل الغني ظلم ) ، وإن كنت معسراً أرضيته بحسن القول ، وطلبت إليه طلباً جميلاً ورددته عن نفسك ردّاً لطيفاً ، ولا تجمع عليه ذهاب ماله وسوء معاملته ، فإن ذلك لؤم.. » .
وهكذا يقترب الاِمام عليه السلام لتفعيل هذا الحق بمجسٍّ حساس جداً لآلة الفكر البشري ، وكأنّه يحرك كوامن الفطرة البشرية السليمة ، يستنطق الذات في طريقة تعاملها مع الآخر طالباً كان أو مطلوباً...

حق الخصم :
أما التعامل مع الخصم ، فيأتي الاِمام السجاد عليه السلام هنا أكثر دقّة وحساسية ،
____________
=
ما نصّه : « لم يبق في مدينة الرسول ومكّة أكثر من عشرين رجلاً يحبوننا أهل البيت .. » .

( 96 )

لما لهذا البُعد من آثار اجتماعية مهمة يجب الالتفات إليها والنظر أو التحديق فيها من زوايا متعدّدة فيقول عليه السلام : « وأما حق المدّعي عليك ، فإن كان ما يدّعي عليك حقاً لم تنفسخ في صحبته ، ولم تعمل في إبطال دعوته ، وكنت خصم نفسك له والحاكم عليها ، والشاهد له بحقه ، دون شهادة الشهود ، فإنّ ذلك حق الله عليك ، وإن كان ما يدّعيه باطلاً ، رفقت به وردعته وناشدته بدينه ، وكسرت حدّته عنك بذكر الله ، لاَنّ لفظة السوء تبعث الشرّ ، ولفظة الخير مقمعة للشر..
وأما حق المدّعى عليه ، فان كان ما تدّعيه حقّاً أجملت في مقاولته ، فان للدعوى غلظة في سمع المدّعى عليه ، وقصدت قصد حجتك بالرفق ، وأمهل المهلة ، وأبين البيان ، وألطف اللطف ، ولا تتشاغل عن حجتك بمنازعته بالقيل والقال ، فتذهب عنك حجتك ، ولا يكون لك في ذلك دَرَك.. » .

حقوق اُخرى :
ويستمر الاِمام عليه السلام في تفصيل رسالة الحقوق هذه ، فيشير إلى حق المشير وحق المستشير ، وحق الناصح والمستنصح ، وحق الصغير على الكبير ، وحق الكبير على الصغير ، وحق السائل وحق المسؤول ، وحق من سرّك ، وحق من ساءك القضاء على يديه ، وهكذا حتى يحس القارئ لهذه الرسالة القانونية ، أنّه غارق في مدوّنات دستورية بالغة التركيز والدقة ، فلاجملة مضافة ولا حرف زائد ، ولا سجع ممل ، ولا إنشاء غائم ، مستلاًّ


( 97 )

كل ذلك من القرآن الكريم والحديث الشريف والسُنّة النبوية المطهّرة...
ولم يفُت الاِمام عليه السلام في خاتمة رسالته ، أن يحدّد حقوق أهل الذمّة مذكّراً بحديث جدّه أمير المؤمنين عليه السلام : « الناس صنفان : إمّا أخ لك في الدين ، أو نظير لكَ في الخلق... » (1) ، فيقول عليه السلام : « وأما حق أهل الذمّة فالحكم فيهم أن تقبل منهم ما قبل الله ، وتفي بما جعل الله لهم في ذمته وعهده ، وتكِلهم إليه في ما طلبوا من أنفسهم ، وتحكم فيهم بما حكم الله به على نفسك في ما جرى بينك وبينهم من معاملة... » .
إلى أن يقول : « وأن تقبل منهم ما قبل الله عزَّ وجلَّ منهم ، ولا تظلمهم ما وفّوا لله عزَّ وجلَّ بعهده... » .
وهذا يعني أنّ المقياس الاَول والاَخير في تحديد الحق بينك وبين الآخرين هو حدود الله ، فلا مجال للاَهواء والمصالح والمتغيّرات ، ولا أغطية ومجاملات وعلاقات على حساب اللياقات ـ كما يقولون ـ ولا ( حق فيتو ) يتوارى خلفه أصحاب المصالح والاَهواء ، ولا عبارات مطّاطة وتوظيف نصوص تكيل الاَمور بمكيالين وتزنها بميزانين..

كلمة اُخرى في رسالة الاِمام عليه السلام :
مسألة اُخرى مهمة في رسالة الحقوق هذه ، أنّها توجهت إلى النفس الاِنسانية مباشرة وراحت تعالج أدقّ التفاصيل التي تعتمل في سريرة الفرد ودخيلته ، أي ليس كما جاء في الاِعلانات العالمية المعاصرة لحقوق
____________
(1) نهج البلاغة 3 : 83 ـ 102.
( 98 )

الاِنسان ، حيث تدور المواد القانونية في دائرة الاُمّة والمجتمع دون الاِلتفات إلى دور الفرد في صناعة هذه المقدمة الضرورية لوضع المواد القانونية موضع التنفيذ...
وهذا يعني أن مواد الاِعلان العالمي لحقوق الاِنسان التي دُوّنت في وثيقته الصادرة في 10 كانون أول 1948 م ، والتي اعتُبرت أفضل وثيقة عالمية تصدر في هذا السياق بحق ، جاءت لتؤكد على أن ( الناس متساوون في الكرامة والحقوق ، وأنّهم وهبوا عقلاً وضميراً ، وعليهم أن يُعاملوا بعضهم بروح المودّة والمساواة والاِخاء .. ) (1).
كما أكدت المادة الثانية على مساواة الناس في الحريات ( دون أي تمييز في الجنس أو اللون أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو المولد أو الاَصل الوطني أو الاجتماعي ) (2).
ونصّت المواد الثالثة والرابعة والخامسة على حق الفرد في الحياة الحرة والاَمن الشخصي ، وعدم جواز الرق والتجارة فيه ، ورفض التعذيب وأيّة معاملة قاسية أو وحشية تحطّ من كرامة الاِنسان.. وهكذا في جميع مواد الاِعلان العالمي التي شملت حق التجنّس وحق الهجرة وحق اللجوء وحق الضمان الاجتماعي وحق التعلّم وحق الضمير..
إنّ هذه الحقوق التي أقرّتها الاُسرة الدولية ، ووقّعتها كل حكومات العالم آنذاك ، لم توضع موضع التنفيذ ، إن لم نقل تمّ تجاوزها في عموم دول العالم وإنّها بقيت حبراً على ورق ، لاَنّها لم تشدّ الاِنسان إلى خالقه
____________
(1) الاِعلان العالمي لحقوق الاِنسان ـ الصادر في 10 كانون أول 1948 م ـ المادة الاُولى.
(2) المصدر السابق ، المادة الثانية.

( 99 )

أولاً ، ولاَنّها جاءت من فوق الاِنسان وليس من داخله ، ولاَنّها اهتمت بالطرح المفاهيمي دون التأكيد على المصاديق ، وأكدت على الحكومات والشعوب دون النظر إلى الفرد والنفس البشرية ، أي عكس ماقاله أو فعله الاِمام زين العابدين عليه السلام صاحب رسالة الحقوق هذه ، الذي اهتم بسريرة الاِنسان ودخيلته ، وعلاقته مع ربّه ، وصولاً إلى عملية التغيير الكبرى في إطار الاُمّة والمجتمع...
فهو عليه السلام حين يقول مثلاً : « إنّ أفضل الجهاد عفّة البطن والفرج » فإنّما يدعو إلى ترسيخ أعظم القيم في النفوس ، أي إلى تهذيب هاتين الشهوتين اللتين بسببهما تُعلن الحروب وتنشب المعارك وتُرفع رايات الاقتتال على مستوى الاَفراد والشعوب...
وهو حين يؤكد على حقوق أهل الذمة وأن ( يُقبَل منهم ما قبله الله عزَّ وجلّ ) ويمارس ذلك واقعاً وسلوكاً ، فانما يدعو إلى احترام الاِنسان مهما كانت ديانته ومعتقداته وبعيداً عن الشعارات التي يرفعها الحكام وأدعياء حقوق الاِنسان للاستهلاك والتسويق السياسي بكل صوره وألوانه المحلي والعالمي ، القطري والاِقليمي ، القومي والوطني.
ومن جانب آخر ، فإنّه عليه السلام حين يجسّد الحلم والتواضع والعفو وحب العلم والعلماء بمصاديق عملية واضحة ، مقروءة ومرئية ومسموعة ، فإنّما يقصد من وراء ذلك ، وضع اللوائح القانونية والمواعظ والشعارات والتوجيهات موضع التنفيذ ، وإلاّ فلا قيمة لتسويد عشرات الصفحات ، أو كتابة مئات الاِعلانات ما دامت باقية حبيسة المدوّنات وأسيرة الاَراشيف المغبرة التي لا وجود لها على أرض الواقع...


( 100 )

فهو حين يرحّب بالشباب الواعي مثلاً مخاطباً إياهم : « مرحباً بودائع العلم.. يوشك إذ أنتم صغار قوم أن تكونوا كبار آخرين » (1) ، فإنّما يريد التأكيد على دور الشباب في صناعة المستقبل ودور العلم في تطور الشعوب..
وهكذا في قوله : « كلكم سيصير حديثاً ، فمن استطاع أن يكون حديثاً حسناً فليفعل » (2).
أما عن حلمه وصفحه عن خصومه وتجسيده لمقولة جدّه عليه السلام « أفضل العفو ، العفو عند المقدرة » فإنّ قصة صفحه عن غريمه مروان بن الحكم وكيفية لجوئه عنده مع حريمه ونسائه مستنجداً ، لائذاً ، دخيلاً ، هارباً من غضب أهل المدينة الذين طردوا عامل يزيد عليها في ثورتهم المعروفة ومطاردتهم لبني أُميّة ، جاءت هي الاُخرى لتؤكد أن هذا الرجل يعيش في قلوب الناس وليس على جماجمهم وأشلائهم ، كما يعيش الجبابرة والسلاطين وحكام الجور.
وهكذا جاءت قصته مع ذاك الذي حاول استفزازه بكلمات جارحة بذيئة ، وتجاهل الاِمام له ، وردّ ذلك الوغد البذىء : ( إياك أعني ) وردّ الاِمام عليه : « وعنك أعرض » (3)مع قدرته على تأديبه لو شاء..
وكذلك قصته مع الآخر الذي افترى عليه وبالغ في سبّه ، وردّه عليه السلام « إن كنّا كما قلت غفر الله لنا ، أو ( نستغفر الله ) ، وإن لم نكن كذلك غفر الله
____________
(1) تاريخ اليعقوبي 3 : 37.
(2) تاريخ اليعقوبي 3 : 37.
(3) البداية والنهاية 9 : 105.

( 101 )

لك » (1) !!
كل هذه الاُمور والمواقف واللفتات العملية الدقيقة وعشرات مثلها ، هي التي خلّدت الاِمام زين العابدين وجعلته في مصافّ أعظم الاَئمة والمصلحين وزعماء التاريخ ، وإنّها هي التي هيأت له من أسباب الخلود مالم تهيئه لمناوئيه ومعاصريه من الحكام الاَمويين الذين تحكّموا بالرقاب دون المشاعر ، وركّزوا على الشعار دون الواقع ، فصاروا عاراً على التاريخ ولعنة للاَجيال...
نعم ، جاءت مواقف الاِمام حاكمة على نظرياته وليس العكس ، وجاءت مصاديقه ترافع مفاهيمه وليس العكس ، وهكذا جاءت دموعه الحرّى ناطقة عن إيمانه وصبره وفجيعته ، كما جاء حزنه الصامت مفصحاً عن ثورته ورفضه وتمرده.
لقد جسّد عليه السلام بحق نظرية أبيه في طلب الاِصلاح في أُمّة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم ، وجاء امتداداً صادقاً لتلك التضحية الخالدة التي كانت وستظل غرّة على جبين الزمان ، مادام هناك صراع بين الحق والباطل ، أو بين السماحة واللؤم ، أو بين النقص والكمال ، أو القبح والجمال...

فلولا القبح ما عُرف الجمالُ * ولولا النقص ما عُرف الكمالُ

( والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربّك ثواباً وخيرٌ مردّاً ) (2).
____________
(1) الكامل للمبرد 3 : 805 .
(2) سورة مريم : 19 | 76 .