السجود على التربة الحسينية ::: 61 ـ 75
(61)

(62)
    هناك حديث حمله الفقهاء على هذه الصورة أيضاً ، مع أنّه ليس فيه ذِكر عن السـجدة على الثوب ! ألا وهو :
    عن ابن عبّاس : رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يصلّي في كساء أبيض في غداة باردة ، يتّقي بالكساء برد الأرض بيده ورجله (1).
    وفي لفظ أحمد : لقد رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في يوم مطير وهو يتّقي الطين إذا سـجد بكساء عليه يجعله دون يديه إلى الأرض إذا سـجد (2).
    وعن ثابت بن صامت : أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قام يصلّي في مسـجد بني عبـد الأشـهل ، وعليه كساء ملتفٌّ به ، يضع يده عليه يقيه برد الحصا (3).
    وفي لفظ : رأيته واضعاً يديه في ثوبه إذا سـجد (4).
1 ـ السنن الكبرى 2 / 108.
2 ـ مسند أحمد 1 / 265 ، وانظر أيضاً : جامع المسانيد والسنن ـ لابن كثير ـ 31 / 349 ح 2072 ، نيل الأوطار 2 / 271.
3 ـ السنن الكبرى 2 / 108.
4 ـ نيل الأوطار 2 / 271.


(63)
    في لفظ ابن ماجة : فرأيته واضعاً يديه على ثوبه إذا سـجد (1).
    قال الشـوكاني في « نيل الأوطار » : الحديث يدلّ على جواز الاتّقاء بطرف الثوب الذي على المصلّي ولكن للعذر ، أمّا عذر المطر ـ كما في الحديث ـ أو الحرّ والبرد ـ كما في رواية ابن أبي شـيبة ـ ، وهذا الحديث مصرّح بأنّ الكساء الذي سـجد عليه كان متّصلا به (2).
    ونحن لم نر هذا الحمل في محلّه ، إذ الحديث لا يدلّ بظاهره إلاّ على اتّقاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالكساء برد الأرض بيده ورجله فحسـب ، وليس فيه إيعاز قطّ إلى السـجدة والجبهة ، وسـبيله سـبيل حديث السيّدة عائشـة : كان رسول الله إذا صلّى لا يضع تحت قدميه شـيئاً إلاّ أنّا مُطرنا يوماً فوضع تحت قدمه نطعاً (3).
    وهناك مرفوعة أخرجها أحمد في « المسند » عن محمّـد ابن ربيعة ، عن يونس بن الحارث الطائفي ، عن أبي عون ، عن
1 ـ سنن ابن ماجة 1 /328 ـ 229 ح 1031 ، وانظر : السنن الكبرى 2 / 108.
2 ـ نيل الأوطار 2 / 271.
3 ـ المعجم الأوسـط 6 / 112 ح 5777 ، سنن البيهقي 2 / 436 ، مجمع الزوائد 2 / 57.


(64)
أبيه ، عن المغيرة بن شـعبة ، قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يصلّي ـ أو يستحبّ أن يصلّي ـ على فروة مدبوغة (1).
    والإسناد ضعيف بالمرّة ، وبمثله لا يستدلّ في الأحكام ..
    فيه : يونس بن الحارث (2) :
    قال أحمد : أحاديثه مضطربة.
    وقال عبـد الله بن أحمد : سـألته عنه مرّة أُخرى ، فضعّفه.
    وعن ابن معين : لا شـيء.
    وقال أبو حاتم : ليس بقوي.
    وقال النسائي : ضعيف.
    وقال مرّةً : ليس بالقوي.
    وقال ابن أبي شـيبة : سـألت ابن معين عنه فقال : كنّا نضعّفه ضعفاً شـديداً.
    وقال الساجي : ضعيف ، إلاّ أنّه لا يُتّهم بالكذب.
    وفيه : أبو عون عبيـد الله بن سـعيد الثقفي الكوفي :
    قال أبو حاتم في « الجرح والتعـديل » لابنه : هو مجهـول (3).
1 ـ مسند أحمد 4 / 254 ، وانظر أيضاً : سنن أبي داود 1 /174 ح 659 ، السنن الكبرى 2 / 420.
2 ـ انظر ترجمته في : تهذيب التهذيب 9 / 458 رقم 8185.
3 ـ الجرح والتعديل 5 / 316 ـ 317 رقم 1505.


(65)
وقال ابن حجر : حديثه عن المغيرة مرسَـل (1).
    على أنّ متن المرفوعة ساكت عن السـجدة وحكمها ، والملازمة بين الصلاة على الفروة والسـجدة عليها منتفية.
1 ـ تهذيب التهدذيب 5 / 379 ـ 380 رقم 4427.

(66)
    هذا تمام ما ورد في الصحاح والمسانيد ـ مرفوعاً وموقوفاً ـ في ما يجوز السـجود عليه برمّته ، ولم يبق هناك حديث لم نذكره ، وهي تدلّ بنصّها على أنّ الأصل في ذلك لدى القدرة والإمكان الأرضُ كلّها ، ويتبعها المصنوع ممّا ينبت منها ، أخذاً بأحاديث الخُمرة والفحل والحصير والبساط ، ولا مندوحة عنها عند فقدان العذر.
    وأمّا في حال العذر وعدم التمكّن منها ، فيجوز السـجود على الثوب المتّصل دون المنفصل ، لعدم ذِكره في السُـنّة.
    وأمّا السـجدة على الفراش والسـجّاد والبسـط المنسوجة من الصوف والوبر والحرير وأمثالها والثوب المنفصل ، فلا دليل يسوّغها قطّ ، ولم يرد في السُـنّة أيّ مستند لجوازها.
    وهذه الصحاح الستّة وهي تتكـفّل بيان أحكام الدين ، ولا سيّما الصلاة التي هي عماده ، لم يوجد فيها ولا حديث واحد ، ولا كلمة إيماء وإيعاز إلى جواز ذلك.
    وكذلك بقية أُصول الحديث من المسانيد والسنن ، المؤلّفة في القرون الأُولى الثلاثة ، ليس فيها أيّ أثر يمكننا


(67)
الاستدلال به على جواز ذلك ، من مرفوع أو موقوف ، من مسند أو مرسل.
    فالقول بجواز السـجود على الفرش والسـجّاد ، والالتزام بذلك ، وافتراش المساجد بها للسـجود عليها كما تداول عند الناس بدعة محضة ، وأمر محدَث غير مشـروع ، يخالف سُـنّة الله وسُـنّة رسوله ، ولن تجد لسُـنّة الله تحويلا.
    وقد أخرج الحافظ الكبير الثقة أبو بكر ابن أبي شـيبة بإسناده في « المصنّف » في المجلّد الثاني ، عن سـعيد بن المسيّب وعن محمّـد بن سيرين ، أنّ الصلاة على الطنفسـة محـدَث (1).
    وقد صحّ عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قوله : « شـرّ الأُمور محدَثاتها ، وكلّ محدَثة بدعة » (2).
1 ـ المصنّف 1 / 438 ح 1 و 2.
2 ـ صحيح مسلم 3 / 11 ، مسند أحمد 3 / 319 و 371 ، السنن الكبرى 3 / 207 و 213 و 214 ، المعجم الأوسط 9 / 269 ح 9418 ، مجمع الزوائد 1 / 171.


(68)


(69)

(70)
السـجدة على تربة كربـلاء
    هذا ، وأمّا السـجدة على تربة كربلاء واتّخاذها مسـجداً ، فإنّ الغاية المتوخّاة منها ـ للشـيعة ـ إنّما هي تستند إلى أصلين قويمَين ، وتتوقّف على أمرين قـيّمَين :
    أوّلهما :
    استحسان اتّخاذ المصلّي لنفسـه تربة طاهرة طيّبة يتيقّن بطهارتها ، من أيّ أرض أُخذت ، ومن أيّ صقع من أرجاء العالم كانت ، وهي كلّها ذات شـرع سواء سواسية ، لا امتياز لإحداهنّ على الأُخرى في جواز السـجود عليها.
    وإنْ هو إلاّ كرعاية المصلّي طهارة جسـده وملبسـه ومصلاّه ، يتّخذ المسلم لنفسـه صعيداً طيّباً يسـجد عليه في حلّه وترحاله ، وفي حضره وسـفره ، ولا سيّما في السـفر ، إذ الثقة بطهارة كلّ أرض يحلّ بها ويتّخذها مسـجداً لا تتأتّى له في كلّ موضع من المدن ، والرساتيق ، والفنادق ، والخانات ، وباحات النزل ، والساحات ، ومحالّ المسافرين ، ومحطّات وسائل السير والسـفر ، ومهابط فئات الركاب ، ومنازل الغرباء ،


(71)
أنّى له بذلك وقد يحلّ بها كلّ إنسان من الفئة المسلمة وغيرها ، ومن أخلاط الناس الّذين لا يبالون ولا يكترثون لأمر الدين في موضوع الطهارة والنجاسـة ؟!
    فأيّ وازع من أن يستحيط المسلم في دينه ، ويتّخذ معه تربة طاهرة يطمئنّ بها وبطهارتها ، يسـجد عليها لدى صلاته ، حـذراً مـن السـجدة على الرجاسـة والنجاسـة والأوساخ التـي لا يتقرّب بها إلى الله قـطّ ، ولا تجـوّز السُـنّة السـجود عليهـا ، ولا يقبله العقل السليم بعد ذلك التأكيد التامّ البالغ في طهارة أعضاء المصلّي ولباسـه ، والنهي عن الصلاة في مواطن ، منها : المزبلة ، والمجزرة ، والمقبرة ، وقارعة الطريق ، والحمّام ، ومعاطن الإبل (1) ، والأمر بتطهير المساجد وتطييبها (2) ؟!
    وكأنّ هذه النظرة الصائبة القيّمة الدينية كانت متّخذة لدى رجال الورع من فقهاء السلف في القرون الأُولى.
1 ـ سنن الترمذي 2 / 131 ح 317 ، سنن أبي داود 1 / 129 ح 49 و ص 130 ح 492 و 493 ، سنن ابن ماجة 1 / 246 ح 745 ـ 747 و ص 252 ـ 253 ح 768 ـ 770 و ج 2 / 131 ح 317 ، مسند أحمد 3 / 83 و 96 و ج 4 / 86 و ص 303 ، مصنّف ابن أبي شـيبة 1 / 421 ح 1 ـ 8 و ص 422 ح 14 و 17 و 18 ، سنن النسائي 2 / 56 ، السنن الكبرى 2 / 435 و ص 448 ـ 449 ، فتح الباري 1 / 696 ، مجمع الزوائد 2 / 26 ، كنز العمّال 7 / 339 ح 19166 و ص 342 ـ 343 ح 19181 ـ 19187 و ص 345 ح 19198.
2 ـ سنن ابن ماجة 1 / 250 ح 757 ـ 760.


(72)
    وأخذاً بهذه الحيطة المستحسنة جدّاً كان التابعي الفقيه الكبير ، الثقة العظيم ، المتّفق عليه ، مسـروق بن الأجدع (1) يأخذ في أسـفاره لبنة يسـجد عليها كما أخرجه شـيخ المشـايخ ، الحافظ الثقة ، إمام السُـنّة ومسندها في وقته ، أبو بكر ابن أبي شـيبة في كتابه « المصنّف » في المجلّد الثاني ، باب : من كان يحمل في السـفينة شـيئاً يسـجد عليه.
    فأخرج بإسنادين أنّ مسـروقاً كان إذا سافر حمل معه في السـفينة لبنة يسـجد عليها (2).
    هذا هو الأصل الأوّل لدى الشـيعة ، وله سابقة قدم منذ يوم الصحابة الأوّلين التابعين لهم بإحسان.
1 ـ مسروق بن الأجدع عبـد الرحمن بن مالك الهمداني ، أبو عائشة ، المتوفّى 62 ، تابعي عظيم ، من رجال الصحاح الستّة ، يروي عن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، كان فقيهاً عابداً ، ثقة صالحاً ، كان في أصحاب ابن مسعود الّذين كانوا يعلّمون الناس السُـنّة ، وقال حين حضره الموت ـ كما جاء في طبقات ابن سعد ـ : اللّهمّ لا أموت على أمر لم يسنّه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأبو بكر ولا عمر.
    راجع : التاريخ الكبيـر 4 ق 2 / 35 ، الطبقات الكبرى 6 / 565 ، الجرح والتعديل ـ لابن أبي حاتم ـ 4 ق 1 / 396 ، تهذيب التهذيب 10 / 109 ـ 111.
    وانظر : تهذيب الكمال 18 / 45 ـ 48 رقم 6493 ، سير أعلام النبلاء 4 / 63 ـ 69 رقم 17 ، تهذيب التهذيب 8 / 133 ـ 134 رقم 6873 ، الثقات 5 / 456.
2 ـ المصنّف 2 / 172 ح 1 و 3.


(73)
وأمّا الأصل الثاني :
    فإنّ قاعدة الاعتبار المطّردة تقتضي التفاضـل بين الأراضي ، بعضها على بعض ، وتستدعي اختلاف الآثار والشـؤون والنظرات فيها ، وهذا أمر طبيعي عقلي متسالم عليه ، مطّرد بين الأُمم طرّاً ، لدى الحكومات والسلطات والملوك العالمية برمّتهم ، إذ بالإضافات والنِسَـب تُقبل الأراضي والأماكن والبقاع خاصة ، ومزيّة بها تجري عليها مقرّرات ، وتنتزع منها أحكام لا يجوز التعدّي والصفح عنها.
    ألا ترى أنّ المستقلاّت ، والساحات ، والقاعات ، والدور ، والدوائر الرسـمية المضافة إلى الحكومات ، وبالأخصّ ما ينسـب منها إلى البلاط الملكي ، ويعرف باسـم عاهل البلاد وشـخصه ، لها شـأن خاصّ ، وحكم ينفرد بها ، يجب للشـعب رعايته ، والجري على ما صدر فيها من قانون.
    فكذلك الأمر بالنسـبة إلى الأراضي والأبنية والديار المضافة المنسوبة إلى الله تعالى ، فإنّ لها شـؤوناً خاصة ، وأحكاماً وطقوساً ، ولوازم وروابط لا مناص ولا بُـدّ لمن أسلم وجهه لله من أن يراعيها ، ويراقبها ، ولا مندوحة لمن عاش تحت راية التوحيد والإسلام من القيام بواجبها والتحفّظ عليها ،


(74)
والأخذ بها.
    فبهذا الاعتبار المطّرد العامّ المتسالم عليه انتُزع للكعبة حكمها الخاصّ ، وللحرم شـأنّ يُخصّ به ، وللمسـجدين الشـريفين ـ جامع مكّة والمدينة ـ أحكامهما الخاصة بهما ، وللمساجد العامة والمعابد والصوامع والبِيَع التي يُذكر فيها اسـم الله ، في الحرمة والكرامة ، والتطهير والتنجيس ، ومنع دخول الجنب والحائض والنفساء عليها ، والنهي عن بيعها نهياً باتاً نهائياً من دون تصوّر أيّ مسوّغ لذلك قطّ ، خلاف بقية الأوقاف الأهلية العامّة التي لها صور مسوّغة لبيعها وتبديلها بالأحسن ، إلى أحكام وحدود أُخرى منتزعة من اعتبار الإضافة إلى ملك الملوك ، ربّ العالمين.
    فاتّخاذ مكّة المكرّمة حرماً آمناً ، وتوجيه الخلق إليها ، وحجّهم إليها من كلّ فجّ عميق ، وإيجاب كلّ تلكم النُسُـك وجعل كلّ تلكم الأحكام ، حتّى بالنسـبة إلى نبتها وأبّها ، إنْ هي إلاّ آثار الإضافة ، ومقرّرات تحقّق ذلك الاعتبار ، واختيار الله إيّاها له من بين الأراضي.
    وكذلك عدّ المدينة المنوّرة حرماً إلهياً محترماً ، وجعل كلّ تلكم الحرمات الواردة في السُـنّة الشـريفة لها ، وفي أهلها وتربتها ، ومن حلّ بها ، ومن دفن فيها ، إنّما هي لاعتبار ما فيها من الإضافة والنسـبة إلى الله تعالى ، وكونها عاصمة عرش نبيّه


(75)
الأعظم صاحب الرسالة الخاتمة ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    وهذا الاعتبار وقانون الإضافة ، كما لا يُخَصّ بالشـرع فحسـب ، بل هو أمر طبيعي أقرّ الإسلام الجري عليـه ..
    كذلك لا ينحصر هو بمفاضلة الأراضي ، وإنّما هو أصل مطّرد في باب المفاضلة في مواضيعها العامّة ، من الأنبياء ، والرسل ، والأوصياء ، والأولياء ، والصدّيقين ، والشـهداء ، وأفراد المؤمنين وأصنافهم .. إلى كلّ ما يتصوّر له فضل على غيره لدى الإسلام المقـدّس.
    بل هذا الأصل هو محور دائرة الوجود ، وبه قوام كلّ شـيء ، وإليه تنتهي الرغبات في الأُمور ، ومنه تتولّد الصلات والمحبّات ، والعلائق والروابط ، وتتولّد عوامل البغض والعداء والشـحناء والضغائن.
    وهو أصل كلّ خلاف وشـقاق ونفاق.
    كما إنّه أساس كلّ وحدة واتّحاد وتسالم ووئام وسلام.
    وعليه تبنى صروح الكلّيات ، وتتمهّد المعاهـد الاجتماعية.
    وفي أثره تشـكَّل الدول ، وتختلف الحكومات ، وتحدث المنافسات والمشـاغبات والتنازع والتلاكم والمعارك والحروب الدامية.
السجود على التربة الحسينية ::: فهرس