الفصل الثاني

أدلة التقية وأصولها التشريعية
المبحث الاَول
أدلة التقية من القرآن الكريم
لا شكّ أنَّ من قال بالقرآن الكريم صدَق ، ومن حكم به عَدَل ، ومن عمل به أُجِر ، ومن دعا إليه هُدِي إلى صراط مستقيم .
وكيف لا ، وهو يهدي للتي هي أقوم ، مع كونه بياناً للناس وهدىً وموعظة للمتقين ؟
ومع هذه الحقيقة الناصعة التي طفحت بها آيات الكتاب ، وأكدتها السُنّة النبوية بأعظم التأكيد ، إلاّ إنّك قد تجد من يسيء إلى المفاهيم القرآنية الواضحة فيه أبلغ الاساءة كمفهوم التقية ، فيدّعي أنها من النفاق !
وهذا يكشف عن كون اتخاذ القرار في التخطيط لاَية مسألة فكرية تتصل بعقيدة المسلمين ، أو الاَحكام الشرعية وفهمها فهماً دقيقاً لا يناط أبداً بغير المخلص الكفوء ، خشيةً من الوقوع في الانحراف الفكري عن قصد أو بدون قصد .

( 32 )
والعجب إنّك ترى تلك الاساءة ممن يدّعي العلم والفهم وتلاوة القرآن الكريم ، وكأنه لم يمر ـ في تلاوته ـ أبداً على ما سنتلوه عليك من آيات بينات وما قاله المفسرون بشأنها .
إنَّ الآيات القرآنية الدالة على اليسر ونفي الحرج وعدم إلقاء النفس إلى التهلكة ، أو المشيرة إلى أنّ المُكرَه أو المضطر إلى المحرم لا جرم عليه ، غير خافية على أحد ، ولا ينكرها إلاّ الجاهل المتعسف أو المعاند الصلف، وكلامنا ليس مع هذا الصنف ، بل مع من يعي أن نبينا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بعث بالحنيفية السمحة ثم يشتبه عليه أمر التقية .
ونحن إذ نتعرض هنا للاَدلة القرآنية الدالة على مشروعية التقية ، نود التذكير بأن الدليل الواحد المعتبر الدال على صحة قضية يكفي لاثباتها ، فكيف لو توفّرت مع إثباتها أدلة قرآنية كثيرة ، لم يُختَلَف في تفسيرها ؛ لاَنّها محكمة يُنبىء ظاهرها عن حقيقتها ولا مجال لمتأوّلٍ فيها ؟
ومع هذا سوف لا نكتفي بدليل قرآني واحد ، بل سنذكر أربع آيات مباركة ، من بين الآيات القرآنية الكثيرة الدالة على مشروعية التقية .
والسبب في هذا الحصر والانتقاء ، إنّا وجدنا القرآن الكريم قد تعرض إلى بيان تقية المؤمنين في الاُمم السالفة بآيتين صريحتين ، كما وجدناه قد أمضى تلك التقية بتشريعاته الخالدة في أكثر من آية ، انتقينا منها آيتين فقط ، لما فيهما من وضوح تام حول امتداد ظل ذلك التشريع العظيم إلى وقت مبكر من عمر الرسالة الخاتمة .
ومن هنا قسّمنا الاَدلة المذكورة على قسمين : أحدهما ، ما اتصل بالتقية قبل الاِسلام ، والآخر : ما اتصل بها عند انطلاق دعوة الحق من
( 33 )
البيت العتيق ، واليك التفصيل :
أولاً : الاَدلة القرآنية الدالة على التقية قبل الاِسلام .
الآية الاُولى : حول تقية أصحاب الكهف .
قال تعالى : ( وَكَذلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبثْنَا يَوماً أو بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابعَثُوا أحَدَكُمْ بِوَرَقِكُمْ هذِهِ إلى المَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أيُّها أزكى طَعَاماً فلْيأتِكُمْ بِرِزقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أحَداً * إنَّهُمْ إنْ يَظْهَرُوا عَلَيكُمْ يِرْجُمُوكُمْ أوْ يُعِيدُوكُمْ في مَلَّتِهم وَلَن تُفلِحُوا إذاً أبداً ) (1).
في هاتين الآيتين المباركتين أصدق تعبير على أنّ التقية كانت معروفة وجائزة في شرع ما قبلنا (نحن المسلمين) وهي صريحة في تقية أصحاب الكهف رضي الله تعالى عنهم ، وقد أفاض المفسرون في بيان قصتهم وكيف أنّهم كانوا في ملّة كافرة وأنهم كانوا يكتمون إيمانهم قبل أن يدعوهم ملكهم إلى عبادة الاَصنام ، فلجأوا إلى الكهف بدينهم (2).
ولكن قد يقال بأنَّ الله عزَّ وجلَّ أورد من نبأهم ما يدل على عدم تقيتهم، كقوله تعالى : ( وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِم إذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمواتِ والاَرضِ لَنْ نَدْعُوا مِن دُونِهِ إلهاً لَقَدْ قُلْنَا إذاً شَطَطاً ) (3)وهذا القول
____________
1) سورة الكهف : 18 | 19 ـ 20 .
2) راجع : تفصيل قصتهم في مجمع البيان| الطبري 5 : 697 ـ 698 . وزاد المسير | ابن الجوزي 5 : 109 ـ 110 . والجامع لاَحكام القرآن | القرطبي 10 : 357 ـ 359 . وتفسير الطبري 15 : 50 . والدر المنثور | السيوطي 5 : 373 . والتفسير الكبير | الفخر الرازي 21 : 97 . وتفسير أبي السعود 6 : 209 . وقد وردت قصتهم عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة وغيرهم .
3) سورة الكهف : 18 | 14 .

( 34 )
دالٌ على عدم تقيتهم .
وقولهم : ( رَبُّنَا رَبُّ السَّمواتِ وَالاَرضِ لَنْ نَدْعُوا مِنْ دُونِهِ إلهاً ) ، هو قول من لا يرى التقية أصلاً ، فاين تقية أصحاب الكهف إذن ؟!
والجواب : إنَّ ما صدر عنهم من أقوال معبِّرة عن عدم تقيتهم إنّما صدر بعد انكشاف أمرهم ، إذ كانوا قبل ذلك يكتمون إيمانهم عن ملكهم كما في لسان قصتهم ، على أن في القصة ذاتها ما يعبر بوضوح عن إيصائهم لمن بعثوه بعد انتهاء رقدتهم بالتقية ، كما يفهم من عبارة (وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أحَداً ) .
ومن هنا قال الفخر الرازي : (وقوله : ( وَلْيَتَلَطَّفْ ) أي : يكون ذلك في سر وكتمان ، يعني دخوله المدينة وشراء الطعام) (1).
وأوضح من هذا ما صرّح به القرطبي المالكي بشأن توكيل أصحاب الكهف لاَحدهم بشراء الطعام مع إيصائه بالتقية من القوم الكافرين باخفاء الحقيقة عنهم بالتكتم عليها ، فقال ما هذا نصه :
(في هذه الآية نكتة بديعة ، وهي أن الوكالة إنّما كانت مع التقية خوف ان يشعر بهم أحد لما كانوا عليه من خوف على أنفسهم ، وجواز توكيل ذوي العذر متفق عليه) (2).
إذن ، تقية أصحاب الكهف لا مجال لانكارها في جميع الاَحوال سواء قبل تصميمهم على ترك المداراة مع القوم واللجوء إلى الكهف ، أو بعد
____________
1) التفسير الكبير | الفخر الرازي 21 : 103 .
2) الجامع لاَحكام القرآن | القرطبي 10 : 376 ـ 377 .

( 35 )
انتهاء رقدتهم ، ولكن الحق ، أن تقيتهم الاُولى كانت قاسية على نفوسهم لما فيها من مجاهدة نفسية عظيمة ؛ لا سيّما إذا علمنا أنهم من أعيان القوم ومن المقربين إلى الملك الكافر دقيانوس قبل أن ينكشف أمرهم .
ولا ريب بان تقية المسلم من المسلم لا تكون مثل تقية المسلم من الكافر ، بل وما يُكرَه عليه المسلم من كافر مرة واحدة أو مرات لا يُقاس بمعاناة الفتية الذين آمنوا بربهم ، لاَنهم قضوا شطراً من حياتهم بين قوم عكفوا على عبادة الاَصنام والاَوثان .
ولهذا ورد عن الاِمام الصادق عليه السلام قوله : « ما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف ، إنْ كانوا ليشهدون الاَعياد ، ويشدّون الزنانير ، فأعطاهم الله أجرهم مرتين »(1).
أقول : كيف لا يشدّون الزنّار على وسطهم وهم عاشوا في أوساطهم ؟ وكيف لا يشهدون أعيادهم وهم من أعيانهم ؟
الآية الثانية : حول تقية مؤمن آل فرعون .
قال تعالى : ( وقالَ رَجُلٌ مُؤمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَونَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أتَقْتُلُونَ رَجُلاً أنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُم بالبَيِّناتِ مِن رَبِّكُم وإنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وإنْ يَكُ صَادِقاً يُصبكُمْ بَعْضُ الّذي يَعِدُكُمْ إنَّ اللهَ لا يَهدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) (2).
هذه الآية المباركة هي الاُخرى تحكي مشروعية التقية قبل بزوغ شمس الاِسلام بقرون .
____________
1) اُصول الكافي 2 : 174 ـ 175 | 14 و 19 كتاب الاِيمان والكفر باب التقية ، المكتبة الاِسلامية ، طهران | 1388 هـ .
2) سورة غافر : 40 | 28 .

( 36 )
وعلى الرغم من وضوح دلالة الآية على التقية سوف نذكر طائفة من أقوال المفسرين بشأنها ؛ ليُعلم اتفاقهم على مشروعية التقية قبل الاِسلام ، وسيأتي تصريحهم ببقائها إلى يوم القيامة . وفي هذا الصدد ، نقل الماوردي في تفسيره عن الحسن البصري ، أنّ هذا الرجل كان مؤمناً قبل مجيء موسى عليه السلام ، وكذلك امرأة فرعون ، فكتم إيمانه .
وأورد عن الضحاك ، بأنّه كان يكتم إيمانه للرفق بقومه ، ثم أظهره فقال ذلك في حال كتمه (1).
ولا شكّ أنَّ ما يعنيه كتمان الاِيمان هو التقية لا غير ؛ لاَنه إخفاء أمر ماخشية من ضرر إفشائه ، والتقية كذلك .
وأورد ابن الجوزي عن مقاتل بشأن مؤمن آل فرعون : (إنّه كتم إيمانه من فرعون مائة سنة) (2).
لقد بيّن لنا القرآن الكريم ـ قبل الآية المذكورة ـ السبب الذي دفع مؤمن آل فرعون إلى قوله المذكور ، وهو رغبة فرعون بقتل موسى عليه السلام ، قال تعالى : ( وقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُوني أقتُل موسى وَليَدَعُ رَبَّهُ إنِّي أخَافُ أنْ يُبدِّلَ دِينَكُمْ أوْ أن يُظهِرَ في الاَرضِ الفَسَادَ ) (3).
وهنا قد يقال ـ كما في تفسير الرازي ـ : (إنّه تعالى حكى عن ذلك المؤمن أنّه كان يكتم إيمانه ، والذي يكتم إيمانه كيف يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون ؟) .
____________
1) النكت والعيون | الماوردي 5 : 153 ، دار الكتب العلمية ، بيروت .
2) زاد المسير | ابن الجوزي 7 : 312 .
3) سورة غافر : 40 | 26 .

( 37 )
وقد بيّن الرازي أن في المسألة قولين :
الاَول : إنّ هذا المؤمن لما سمع قول فرعون : ( ذَرُوني أقْتُلْ مُوسى ) لم يصرح بأنه على دين موسى عليه السلام بل أوهم أنه مع فرعون وعلى دينه ، مبيّناً ان المصلحة تقتضي ترك قتله ، لاَنه لم يرتكب ذنباً وإنما كان يدعو إلى الله عزَّ وجلَّ ، وهذا لا يوجب القتل .
الثاني : إنّه كان يكتم إيمانه ، ولما علم بقول فرعون المذكور أزال الكتمان وأظهر كونه على دين موسى وشافه فرعون بالحق (1).
على أن تقيته واضحة جداً حتى على القول الثاني ؛ لاَنّه رضي الله عنه كان قد أظهر إيمانه وشافه فرعون بالحق بعد أن كتمه بتصريح القرآن الكريم ، وكتمان الحق وإظهار خلافه هو التقية بعينها .
وهذا الرجل العظيم لم يصفه القرآن الكريم بالنفاق ، ولا بالمحتال المخادع ، بل وصفه بأشرف الصفات وأعظمها عند الله عزَّ وجل ، صفة الاِيمان .
وكيف كان ، فقد أخرج المتقي الهندي في كنز العمال ، عن ابن النجار ، عن ابن عباس ؛ وعن أبي نعيم في الحلية ، وابن عساكر ، عن ابن أبي ليلى مرفوعاً قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « الصديقون ثلاثة : حبيب النجار مؤمن آل ياسين ، ومؤمن آل فرعون الذي قال : ( أتَقْتُلُونَ رَجُلاً أنْ يَقُولَ رَبِّي اللهُ ) ، والثالث : علي بن أبي طالب ، وهو أفضلهم» (2).
____________
1) التفسير الكبير | الرازي 27 : 60 .
2) كنز العمال | المتقي الهندي 11 : 601 | 32897 و 32898 ، ط5 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت . وفي

=


( 38 )
وفي تفسير المحرر الوجيز : قال الجوهري : (وقد أثنى الله على رجل مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأسرّه ، فجعله الله تعالى في كتابه ، وأثبت ذكره في المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر) (1).
وفي تفسير القرطبي في تفسيره الآية المذكورة قال : (إن المكلف إذا نوى الكفر بقلبه كان كافراً وإن لم يتلفظ بلسانه ، وأما إذا نوى الاِيمان بقلبه فلا يكون مؤمناً بحال حتى يتلفظ بلسانه ، ولا تمنعه التقية والخوف من أن يتلفظ بلسانه فيما بينه وبين الله تعالى ، إنما تمنعه التقية من أن يسمعه غيره، وليس من شرط الاِيمان أن يسمعه الغير في صحته من التكليف ، وإنّما يشترط سماع الغير له ؛ ليكف عن نفسه وماله) (2).
وبالجملة ، فإنّ جميع المفسرين الذين وقفت على تفسيرهم اعترفوا بتقية مؤمن آل فرعون ، ولولا خشية الاطالة لاَوردنا المزيد من أقوالهم ، ويكفي أن الخوارج الذين زعم بعضهم بأنهم ينكرون التقية قد صرّح أباضيتهم بالتقية في تفسيرهم لهذه الآية :
قال المفسر الاباضي محمد بن يوسف اطفيش عن الرجل المؤمن : (فمعنى كونه من آل فرعون أنه فيهم بالتقية مظهراً أنّه على دينهم ، وظاهر قوله ( ياقَوم ) أنّه منهم ـ إلى أن قال ـ واستعمل الرجل تقية على نفسه ، ما ذكر الله عزَّ وجلَّ عنه بقوله : ( وإنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيهِ كَذِبُهُ ) (3).
____________

=

حاشية كشف الاستار | محمد حسين الجلال : 98 مؤسسة الاَعلمي ، بيروت | 1405 هـ ، قال : (وحسّنه السيوطي) .
1) المحرر الوجيز | ابن عطية 14 : 132 ، تحقيق المجلس العلمي بفاس | 1407 هـ .
2) الجامع لاَحكام القرآن | القرطبي 15 : 307 .
3) تيسير التفسير | محمد بن يوسف بن اطفيش الاَباضي 1 : 343 ـ 345 .

( 39 )
ثانياً : الاَدلة القرآنية الدالة على امضاء التقية في الاِسلام :
الآية الاُولى : حول جواز الكفر بالله تقيةً :
ويدل عليه قوله تعالى : ( مَنْ كَفَرَ باللهِ مِنْ بَعْدِ إيمانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلبُهُ مُطْمَئنٌ بالاِيمانِ وَلكِن مَنْ شَرَحَ بالكُفرِ صَدْرَاً فَعَلَيهِمْ غَضَبٌ مَنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (1).
نزلت هذه الآية المباركة باتفاق جميع المفسرين في مكة المكرمة وفي البدايات الاُولى من عصر صدر الاِسلام ، يوم كان المسلمون يعدون بعدد الاَصابع ، ومن مراجعة ما ذكروه بشأن هذه الآية يُعلم أن التقية قد أُبيحت للمسلمين أيضاً في بدايات الاِسلام الاَولى ، وانها أُبقيت على ما كانت عليه في الاَديان السابقة ولم تنسخ في الاِسلام ، بل جاء الاِسلام ليزيدها توكيداً ورسوخاً لكي يتترس بها أصحاب الدين الفتي أمام طغيان أبي سفيان وجبروت أبي جهل كما تترس بها ـ من قبل ـ أهل التوحيد أمام ظلم المشركين فيما اقتص خبره القرآن الكريم ، وصرّح به سائر المفسرين .
فقد أخرج ابن ماجة بسنده عن ابن مسعود ما يؤكد نزول الآية بشأن عمار بن ياسر وأصحابه الذين أخذهم المشركون في مكة وأذاقوهم ألوان العذاب حتى اضطروا إلى موافقة المشركين على ما أرادوا منهم .
وقد علّق الشيخ محمد فؤاد عبدالباقي على هامش حديث ابن ماجة المذكور ، بقوله (أي : وافقوا المشركين على ما أرادوا منهم تقية ، والتقية في مثل هذه الحال جائزة ، لقوله تعالى : ( إلاَّ مَنْ أُكرِهَ وَقَلبُه مُطمئنٌ
____________
1) سورة النحل : 16 | 106 .

( 40 )
بالاِيمان) (1).
وقال الجصاص الحنفي : (هذا أصل في جواز إظهار كلمة الكفر في حال الاكراه ، والاكراه المبيح لذلك هو أن يخاف على نفسه أو بعض أعضائه التلف إن لم يفعل ما أُمِر به ، فأبيح له في هذه الحال أن يُظهِر كلمة الكفر) (2).
وفي تفسير الماوردي : (إنّ الآية نزلت في عمار بن ياسر وأبويه ياسر وسمية وصهيب وخباب ، أظهروا الكفر بالاكراه وقلوبهم مطمئنة بالاِيمان)(3).
وبالجملة ، فان جميع ما وقفت عليه من كتب التفسير وغيرها متفق على نزول الآية بشأن عمار بن ياسر وأصحابه الذين وافقوا المشركين على ما أرادوا وأعذرهم الله تعالى بكتابه الكريم ، على أن بعضهم لم يكتف ببيان هذا ، بل توسع في حديثه عن التقية ، مبيناً مشروعيتها ، مع الكثير من أحكامها بكل صراحة (4).
____________
1) سنن ابن ماجة 1 : 53 ، 150 باب 11 في فضل سلمان وأبي ذر والمقداد ، دار إحياء الكتب العربية ، وانظر التعليق عليه في الهامش رقم (1) من الصفحة المذكورة .
2) أحكام القرآن | الجصاص 3 : 192 ، دار الفكر ، بيروت .
3) تفسير الماوردي (النكت والعيون) 3 : 215 ، دار الكتب العلمية ، بيروت .
4) اُنظر : تفسير الواحدي الشافعي 1 : 466 مطبوع بهامش تفسير النووي المسمى بـ (مراح لبيد) دار إحياء الكتب العربية ، مصر ، والمبسوط للسرخسي 24 : 25 . وأحكام القرآن للكياالهراسي 3 : 246 ، دار الكتب العلمية ، بيروت | 1405 هـ . والكشاف | الزمخشري 2 : 449 ـ 550 ، دار المعرفة ، بيروت . والمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز | ابن عطية الاَندلسي 10 : 234 ـ 235 تحقيق المجلس العلمي بفاس | 1407 هـ . وأحكام القرآن | ابن العربي 2 : 1177 ـ 1182 دار المعرفة ، بيروت (وفيه كلام طويل عن التقية) . وزاد المسير في علم التفسير | ابن الجوزي 4 :

=


( 41 )
الآية الثانية : حول موالاة الكافرين تقيةً :
ويدل عليه قوله تعالى : ( لا يَتَّخِذِ المُؤمِنُونَ الكافِرينَ أوليَاءَ مِنْ دُونِ المُؤمِنينَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ في شيءٍ إلاَّ أنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وإلى اللهِ المَصيرُ ) (1).
____________

=

496 ، ط4 ، المكتب الاِسلامي ، بيروت | 1407 هـ . والتفسير الكبير | الفخر الرازي 20 : 121 ، ط3 . والمغني | ابن قدامة 8 : 262 و10 : 97 مسألة 7116 ، ط1 ، دار الفكر، بيروت| 1404 هـ . والجامع لاَحكام القرآن | القرطبي 10 : 181 ، دار إحياء التراث العربي . وأنوار التنزيل وأسرار التأويل | البيضاوي 1 : 571 ، ط2 ، مصر | 1388 هـ . وتفسير الخازن | علي بن محمد الخازن الشافعي 1 : 277 . وتفسير ابن جزي الكلبي : 366 ، دار الكتاب العربي ، بيروت | 1403 هـ . وتفسير البحر المحيط | أبو حيان الاَندلسي 5 : 538 ، ط2 ، دار الفكر ، بيروت | 1403 هـ . وتفسير القرآن العظيم| ابن كثير 2 : 609 ، ط1، دار الخير، دمشق | 1990 م . وغرائب القرآن | النيسابوري 14 : 122 مطبوع بهامش تفسير الطبري ، ط2 ، دار المعرفة ، بيروت | 1392 هـ . وفتح الباري شرح صحيح البخاري | ابن حجر العسقلاني 12 : 262 ـ 263 ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت | 1406 هـ . ومنهاج الطالبين | النووي الشافعي 4 : 137 ، 174 دار الفكر ، بيروت . وانظر تعليق الشربيني عليه في مغني المحتاج في شرح المنهاج 4 : 137 مطبوع بهامش منهاج الطالبين. وروح البيان | البرسوي الحنفي 5 : 84 ، ط7 ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت | 1405 هـ . وفتح القدير | الشوكاني 3 : 197 ، دار المعرفة ، بيروت . وتفسير النووي (مراح لبيد) 1 : 466 . ومحاسن التأويل | القاسمي 10 : 165 ، ط2 ، دار الفكر ، بيروت | 1398 هـ . وتيسير التفسير | محمد بن يوسف أطفيش الاَباضي 7 : 97 ، طبعة وزارة التراث القومي والثقافي في سلطنة عمان . وتفسير المراغي 14 : 146 ، ط2 ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت| 1985 م . وصفوة التفاسير | محمد علي الصابوني الوهابي ،ط1 ، عالم الكتب ، بيروت | 1406 هـ .
أقول : إنما ذكرنا هذه القائمة الطويلة من مصادرتفسر الآية ـ وكلها مصادر غير شيعية ـ لكي يعلم من مراجعتها اتفاقهم جميعاً على مشروعية التقية في حالة الاكراه عليها ، ولكن بعض المتطفلين على من الكلام الذي ليس له في ميزان العلم أي وزن ولا اعتبار .
1) سورة آل عمران : 3 | 28 .

( 42 )
هذه الآية المباركة ما أصرحها بالتقية ، وقد مرّ في تعريف التقية لغةً بأنه لا فرق بين علماء اللغة بين (التقاة) و (التقية) فكلاهما بمعنى واحد ، ومن هنا قرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو رجاء ، وقتادة ، والضحاك ، وأبو حيوة ، وسهل ، وحميد بن قيس ، والمفضل عن عاصم ، ويعقوب ، والحسن البصري ، وجابر بن يزيد : (تَقِيَّةَ) (1).
وقد أخرج الطبري في تفسير هذه الآية ، من عدة طرق ، عن ابن عباس، والحسن البصري ، والسدي ، وعكرمة مولى ابن عباس ، ومجاهد ابن جبر ، والضحاك بن مزاحم جواز التقية في ارتكاب المعصية عند الاكراه عليها كاتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين في حالة كون المتقي في سلطان الكافرين ويخافهم على نفسه ، وكذلك جواز التلفظ بما هو لله معصية بشرط أن يكون القلب مطمئناً بالايمان ، فهنا لا أثم عليه (2).
هذا مع اعتراف سائر المسلمين بأن الآية لم تنسخ فهي على حكمها منذ نزولها وإلى يوم القيامة ، ولهذا كان الحسن البصري يقول : (إنَّ التقية جائزة إلى يوم القيامة) . حكاه الفقيه السرخسي الحنفي ، وقال معقباً : (وبه نأخذ ، والتقية أن يقي نفسه من العقوبة بما يظهره وإن كان يضمر خلافه) (3).
واحتج إمام المذهب المالكي (مالك بن أنس) بهذه الآية ، على أن
____________
1) اُنظر : حجة القراءات | أبو زرعة : 160 . ومعاني القرآن | الزجاج 1 : 205 . وتفسير الرازي 8 : 12 . والنشر في القراءات العشر 3 : 5 . والجامع لاَحكام القرآن 4 : 57 . والبحر المحيط 2 : 424 . وفتح القدير 1 : 303 .
2) تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) 6: 313 ـ 317 ، ط2 ، دار المعرفة ، بيروت | 1392 هـ .
3) المبسوط | السرخسي 24 : 45 من كتاب الاكراه .

( 43 )
طلاق المكره تقية لا يقع ، ونسب هذه الفتيا إلى ابن وهب ورجال من أهل العلم ـ على حد تعبيره ـ ثم ذكر اسماء الصحابة الذين قالوا بذلك أيضاً ، ونقل عن ابن مسعود قوله : (ما من كلام يدرأ عني سوطين من سلطان إلاّ كنت متكلماً به) (1).
وقال الزمخشري في تفسير : ( إلاَّ أنْ تَتَّقُوا مَنْهُم تُقَاةً ) : (إلاّ أن تخافوا أمراً يجب اتقاؤه تقية.. رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم ، والمراد بتلك الموالاة : مخالفة ومعاشرة ظاهرة ، والقلب بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع) (2).
وأما الفخر الرازي فقد بين في تفسير الآية أحكام التقية ، قائلاً : (إعلم أن للتقية أحكاماً كثيرة ، إلى أن قال :
الحكم الرابع : ظاهر الآية يدل على أن التقية إنّما تحلّ مع الكفار الغالبين ، إلاّ أن مذهب الشافعي : إنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلّت التقية محاماة على النفس .
الحكم الخامس : التقية جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة لصون المال ؟
يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » ، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « من قتل دون ماله فهو شهيد » ، ولاَن الحاجة إلى المال شديدة ، والماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء ، وجاز الاقتصار على التيمم رفعاً لذلك القدر من نقصان المال ! فكيف لا يجوز هاهنا ؟) .
____________
1) المدونة الكبرى | مالك بن أنس 3 : 29 ، مطبعة السعادة ، مصر .
2) الكشاف | الزمخشري 1 : 422 .

( 44 )
ثم رجّح بعد هذا قول الحسن البصري (التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة) على قول من قال بأنّها كانت في أول الاِسلام ، وقال : (هذا القول أولى ؛ لاَن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الامكان) (1).
هذا وقد نقل أبو حيان الاَندلسي المالكي في البحر المحيط ، في تفسير الآية المذكورة قول ابن مسعود : (خالطوا الناس وزايلوهم وعاملوهم بما يشتهون ، ودينكم فلا تثلموه) .
وقول صعصعة بن صوحان لاُسامة بن زيد : (خالص المؤمن وخالق الكافر ، إنّ الكافر يرضى منك بالخُلق الحسن) .
وقول الاِمام الصادق عليه السلام : « إن التقية واجبة ، إني لاَسمع الرجل في المسجد يشتمني فأستتر منه بالسارية لئلا يراني » . ثم قال بعد ذلك ما هذا نصّه :
(وقد تكلم المفسرون هنا في التقية إذ لها تعلق بالآية ، فقالوا : أمّا الموالاة بالقلب فلا خلاف بين المسلمين في تحريمها ، وكذلك الموالاة بالقول والفعل من غير تقية ، ونصوص القرآن والسُنّة تدل على ذلك .
والنظر في التقية يكون : فيمن يتقى منه ، وفيما يبيحها ، وبأي شيء تكون من الاَقوال والاَفعال ؟
فأما من يتقى منه : فكل قادر غالب يكره يجوز منه ، فيدخل في ذلك الكفار ، وجورة الرؤساء ، والسلابة ، وأهل الجاه في الحواضر .
وأمّا ما يبيحها : فالقتل ، والخوف على الجوارح ، والضرب بالسوط ،
____________
1) التفسير الكبير | الفخر الرازي 8 : 13 .

( 45 )
والوعيد ، وعداوة أهل الجاه الجورة .
وأمّا بأي شيءٍ تكون ؟ من الاَقوال : فبالكفر فما دونه ، من بيع ، أو هبة وغير ذلك . وأمّا من الاَفعال : فكل محرم.. وقال مسروق : إن لم يفعل حتى مات دخل النار ، وهذا شاذ) (1).
ما يدل على جواز التقية بين المسلمين أنفسهم :
وجدير بالاشارة هنا ، هو ما صرّح به فقهاء الفريقين ومفسروهم من جواز التقية بين المسلمين أنفسهم استناداً إلى طائفة اُخرى من الآيات الكريمة من قبيل قوله تعالى : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) (2). فهو : (يدل على حرمة الاقدام على ما يخاف الاِنسان على نفسه أو عرضه أو ماله) (3).
وقد استدل الفخر الرازي بهذه الآية على وجوب التقية في بعض الحالات ، لقوله بوجوب إرتكاب المحرم بالنسبة لمن اُكره عليه بالسيف ، وعدّ امتناع المكره حراماً ؛ لاَنّه من القاء النفس إلى التهلكة ، مع أن صون النفس عن التلف واجب استناداً إلى هذه الآية (4)، ولا معنى لوجوب ارتكاب المكره للمحرم غير التقية .
ومن ذلك ، قوله تعالى : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) (5)، والحرج هو الضيق لغة ، والتقية عادة ما يكون صاحبها في حرج شديد ،
____________
1) تفسير البحر المحيط | أبو حيان 2 : 424 .
2) سورة البقرة : 2 | 195 .
3) مواهب الرحمن | السيد السبزواري في تفسير الآية المذكورة .
4) التفسير الكبير | الفخر الرازي 20 : 21 في تفسير الآية 106 من سورة النحل .
5) سورة الحج : 23 | 78 .

( 46 )
ولا يسعه الخروج من ذلك الحرج بدونها .
ومنه أيضاً ، قوله تعالى : ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) (1).
فقد جاء تفسيرها عن الاِمام الصادق عليه السلام بالتقية ، فقال عليه السلام : « التي هي أحسن : التقية» (2).
إلى غير ذلك من الآيات الاُخرى المستدل بها على جواز التقية بين المسلمين أنفسهم فضلاً عن جوازها للمسلمين مع غيرهم (3)، زيادة على ما سيأتي في أدلتها الاُخرى كالسنة المطهّرة ، والاجماع ، والدليل العقلي القاضي بعدم الفرق في تجنب الضرر سواء كان الضرر من مسلم أو كافر .

المبحث الثاني
أدلة التقية من السُنّة المطهّرة


القسم الاَول : الاَحاديث النبوية الدالة على التقية .
توطئة في أنه هل تجوز التقية على الاَنبياء عليهم السلام ؟
إنَّ نظرة سريعة في كتب الصحاح والسنن والمسانيد تكفي للخروج بالقناعة الكاملة على ورود التقية في أحاديث غير قليلة في تلك المصادر
____________
1) سورة فصلت : 41 | 34 .
2) اُصول الكافي 2 : 218 | 6 باب التقية .
3) راجع : جامع أحاديث الشيعة 18 : 371 ـ 372 باب وجوب التقية ، فقد ذكر في أول الباب عشر آيات ، يستفاد من بعضها جواز التقية بين المسلمين أنفسهم .

( 47 )
المعتبرة عند العامّة التي نسبت التقية إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القول والفعل معاً.
وهنا ، قد يتوهم البعض فيزعم أن التقية غير جائزة على الاَنبياء مطلقاً ! وهذا غير صحيح قطعاً ، لاَنَّ غير الجائز عليهم صلوات الله عليهم هو ما بلغ من التقية درجة الكفر بالله عزَّ وجلَّ ، أو كتمان شيء من التبليغ المعهود اليهم ونحو هذا من الاُمور التي لا تنسجم وعصمتهم عليهم السلام بحال من الاَحوال ؛ لاَنها من نقض الغرض والاِغراء بالقبيح وهم عليهم السلام منزهون عن كل قبيح عقلاً وشرعاً ، إذ لا يؤتمن على الوحي إلاّ المصطفون الذين لا يخشون في الله لومة لائم .
ومن هنا قال السرخسي الحنفي في معرض حديثه عن تقية عمار بن ياسر باظهار كلمة الكفر بعد الاكراه عليها مع اطمئنان قلبه بالايمان : (إلاّ أن هذا النوع من التقية يجوز لغير الانبياء والرسل عليهم السلام ، فأما في حق المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين فما كان يجوز ذلك فيما يرجع إلى أصل الدعوة إلى الدين الحق) (1).
ويفهم من كلامه جواز التقية على الاَنبياء والمرسلين فيما لا يمس أصل دعوتهم ، أما إنكارها ، أو كتمانها عن الخلق ، أو تكذيب أنفسهم ونحو هذا فهو مما لا يجوز عليهم .
وجملة القول : إنّ كل شيء لا يعلمه البشر ـ على واقعه ـ إلاّ من جهة المعصوم عليه السلام نبياً كان أو إماماً لا تجوز التقية فيه على المعصوم ، وأما مايجوز له فيه التقية فهو كل مالا يتنافى ومقام التبليغ والتعليم والهداية إلى الحق حتى ولو انحصر وصول الحق إلى طائفة دون اُخرى ، كما لو
____________
1) المبسوط | السرخسي 24 : 25 .

( 48 )
اتقى المعصوم عليه السلام في ظرف خاص من شرار الناس تأليفاً لقلوبهم ـ كما سيأتيك مثاله في صحيح البخاري ـ ونحو هذا من المصالح العائدة إلى نفس المعصوم أو دعوته ، وبشرط أن يبين وجه الحق لاَهل بيته ، أو لمن يثق به من أصحابه ، أو على أقل تقدير لمن لا يخشى من مغبة مفاتحته بالحقيقة ؛ لكي لا يكون ما خالفها هو السُنّة المتبعة .
هذا ، وقد ذهب ابن قتيبة الدينوري (ت | 276 هـ) إلى أبعد من ذلك فجوّز التقية على نبينا صلى الله عليه وآله وسلم في مقام التبليغ أيضاً ، فقال عن آية تبليغ الولاية من قوله تعالى : ( يا أيُّها الرسولُ بَلِّغ ما أُنزِلَ إليكَ مِنْ رَبِّك وإنْ لم تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ إنّ اللهَ لا يهدي القومَ الكافرينَ) (1)ما هذا نصه :
(والذي عندي في هذا أنّ فيه مضمراً يبينه ما بعده ، وهو إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوقّى بعض التوقّي ، ويستخفي ببعض ما يُؤمر به على نحو ما كان عليه قبل الهجرة ، فلمّا فتح الله عليه مكّة وأفشى الاِسلام ، أمرَهُ أنْ يُبلِّغ ما أُرسِل إليه مجاهراً به غير متوقٍّ ولا هائبٍ ولا متألّف . وقيل له : إن أنت لم تفعل ذلك على هذا الوجه لم تكن مبلّغاً لرسالات ربِّك . ويشهد لهذا قوله بَعدُ : ( واللهُ يَعصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) أي : يمنعك منهم .
ومثل هذه الآية قوله : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمَرْ وأعرِضْ عَنِ المُشركِين)(2)(3) .
والذي نراه : أنّ ابن قتيبة خلط في هذا بين التقية في التبليغ ، وبين
____________
1) سورة المائدة : 5 | 67 .
2) سورة الحجر : 15 | 94 .
3) المسائل والاَجوبة في الحديث والتفسير| ابن قتيبة : 222 ، ط1 ، دار ابن كثير | 1410 هـ .

( 49 )
التقية لاَجله ، والاَول من كتمان الحقّ المنزّه عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والثاني لاريب فيه ، وهو الذي نعتقده في خصوص آية التبليغ ، وبيان ذلك :
إنّ الوعيد والانذار الموجه إلى النبي الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى : ( وإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بلَّغْتَ رسَالَتَهُ ) ظاهره الوعيد والانذار وحقيقته معاتبة الحبيب لحبيبه على تريثه بخصوص الولاية ، وليس المقصود من الآية تهاون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمر الدين أو عدم الاكتراث بشأن الوحي وكتمانه ، فحاشا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك ، ولا يقول هذا إلاّ زنديق أو جاهل .
نعم ، آية التبليغ تدل على تريث النبي الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم بعض التريث لجسامة التبليغ الذي جعله الله تعالى موازياً لثقل الرسالة كلّها ، ريثما يتم له صلى الله عليه وآله وسلم تدبير الاَمر بتهيئة مستلزماته ، كجمع حشود الصحابة الذين رجعوا من حجة الوداع وكانوا يزيدون على مائة ألف صحابي ، مع تمهيد السبيل أمام هذه الحشود الكثيرة لكي تقبل مثل هذا التبليغ الخطير ، خصوصاً وإنّ فيهم الموتورين بسيف صاحب الولاية أمير المؤمنين عليه السلام ، فضلاً عن المنافقين ، والذين في نفوسهم مرض والاَعراب الذين أسلموا ولمّا يدخل الاِيمان في قلوبهم ، ولا شكّ أن وجود تلك الاَصناف في مكان واحد مدعاة للخشية على حاضر ذلك التبليغ ومستقبله .
فالتريث ـ أو سمِّه التقية إن شئت ـ لم يكن خوفاً على النفس من القتل ، بل كان تقية لاَجل التبليغ نفسه والحرص على كيفية أدائه بالوجه الاَتم ، إذ تفرّس النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وجوه تلك الاَصناف من الصحابة مخالفته ، فأخّر التبليغ إلى حين ، ليجد له ظرفاً صالحاً وجواً آمناً تنجح فيه دعوته ولايخيب مسعاه ، فأخذ صلى الله عليه وآله وسلم يعدّ للاَمر أُهبته ، ومنها طلب الرعاية الالهية لنصرة هذا التبليغ نفسه من تلك الجراثيم المحدقة ، كما يدل عليه
( 50 )
قوله تعالى : ( واللهُ يَعْصِمُكَ من الناس ) . ومما يدل على وجود تلك الخشية جملة من الاَخبار المروية في كتب العامّة أنفسهم .
فقد أخرج الحاكم الحسكاني الحنفي في شواهد التنزيل ، بسنده عن ابن عباس وجابر بن عبدالله الاَنصاري ، أنهما قالا : (أمر الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يُنَصِّب عليّاً للناس ليخبرهم بولايته ، فتخوّف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقولوا: حابا ابن عمه ، وأن يطعنوا في ذلك عليه ، فأوحى الله إليه : (ياأيُّها الرَّسُولُ بَلِّغ... ) الآية ، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بولايته يوم غدير خم) (1).
وأخرج بسنده عن أبي هريرة : (إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسرَّ أمر الولاية ، فأنزل الله تعالى : ( يا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغ... ) (2).
وأخرج بسنده عن ابن عباس هذا المعنى قائلاً : (فكره أن يحدّث الناس بشيء منها ـ أي : الولاية ـ إذ كانوا حديثي عهد بالجاهلية... حتى كان يوم الثامن عشر أنزل الله عليه : ( يا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغ... ) إلى أن قال ـ فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الغد فقال : « يا أيُّها الناس إنّ الله أرسلني إليكم برسالة وإنّي ضقت بها ذرعاً مخافة أن تتهموني وتكذّبوني حتى عاتبني ربي فيها بوعيد أنزله عليَّ بعد وعيد ، ثم أخذ بيد عليٍّ فرفعها حتى رأى الناس بياض إبطيهما ثم قال : أيُّها الناس ، الله مولاي وأنا مولاكم ، فمن كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللّهمّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وانصر من
____________
1) شواهد التنزيل | الحسكاني الحنفي 1 : 255 | 249 في الشاهد رقم 35 ، وأورده الآلوسي في روح المعاني عند تفسيره للآية 67 من سورة المائدة ، فراجع .
2) شواهد التنزيل 1 : 249 | 244 .

( 51 )
نصره ، وأخذل من خذله ، وأنزل الله : (اليوم أكملت لكم دينكم ) (1) » (2) .
وأخرج بسنده عن أبي جعفر محمد بن علي (الاِمام الباقر عليه السلام ) أنّه قال : « إنّ جبريل هبط على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال له : إنّ الله يأمرك أن تدل أُمتك على صلاتهم.. إلى أن قال ـ إنّ الله يأمرك أن تدل أُمتك على وليهم على مثل ما دللتهم عليه من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم وحجهم ليلزمهم الحجة من جميع ذلك . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا رب إن قومي قريبو عهد بالجاهلية ، وفيهم تنافس وفخر... الخبر» (3).
وقال السيوطي في تفسير آية التبليغ في الدر المنثور : (أخرج أبو الشيخ ، عن الحسن أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « إنّ الله بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً وعرفت أن الناس مكذبي ، فوعدني لاَبلغن أو ليعذبني » ، فأنزل : (يا أيُّها الرَّسُولَ بلِّغ.. ) ثم قال : (وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ؛ عن مجاهد ، قال : لما نزلت ( يا أيُّها الرَّسُولَ بَلِّغ ما أُنزِلَ إليكَ مِنْ ربِّكَ ) ، قال : « يارب ! إنّما أنا واحد ، كيف أصنع ليجتمع عليَّ الناس » فنزلت : ( وإنْ لَمْ تَفْعَلْ فما بلَّغْتَ رِسَالتَهُ.. ) (4).
وهذا هو الموافق لما ورد في بعض كتب الشيعة الاِمامية أيضاً ، فقد ذكر الطبرسي وجود هذه الاَخبار ونظائرها في كتب الفريقين مصرحاً بأن هذا هو المشهور عند أكثر المفسرين ثم قال : (وقد اشتهرت الروايات عن أبي جعفر وأبي عبدالله عليهما السلام إنّ الله أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يستخلف
____________
1) سورة المائدة : 5 | 3 .
2) شواهد التنزيل 1 : 256 ـ 258 | 250 .
3) شواهد التنزيل 1 : 253 ـ 255 | 248 .
4) الدر المنثور 3 : 117 في تفسير الآية 67 من سورة المائدة ، طبع دار الفكر ، بيروت .

( 52 )
عليّاً عليه السلام ، فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه) (1).
وفي كشف الغمة ، أورد سبب نزول الآية (يا أيُّها الرَّسُولَ بلِّغ.. ) ، عن زيد بن علي ، أنّه قال : (لما جاء جبريل عليه السلام بأمر الولاية ضاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، بذلك ذرعاً، وقال : قومي حديثوا عهد بالجاهلية، فنزلت) (2).
وسوف يأتي قريباً ما يؤيد قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن القوم حديثو عهد بالجاهلية كما في صحاح القوم وسننهم ومسانيدهم .
ومن كل ما تقدم يعلم أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ـ بعد تريثه لتدبير أمر تبليغ الولاية العامة ـ بتبليغ عاجل ، مبيناً له أهمية هذا التبليغ ، ووعده العصمة من الناس ولا يهديهم في كيدهم ، ولا يدعهم يقلبوا له أمر الدعوة بالتكذيب بعد أن يعي الولاية من يعيها ويعقلها من المؤمنين ، ولن يضر الحقيقة الالتفاف حولها بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم كما حصل في السقيفة المشؤومة ( لِيَهلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحيَى مَن حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) (3).
وهكذا تم التبليغ بخطبة وداع بعيدة عن أجواء التقية التي استخدمها من حضر الغدير لكتمان ما سمعه يوم ذاك بأذنيه وشاهده بعينيه وأدركه بلبه ووعاه بأُذنه كما سيوافيك .
فالتقية هنا وإن اتصلت بالتبليغ إلاّ أنها لاَجله ، ولم تكن لاَجل الخوف على النفس الذي هو من أشد ما يخاف عليه الاِنسان عند الاِكراه ، ومن يزعم بخلاف هذا فان القرآن الكريم يكذبه ، إذ امتدح رسل الله وانبياءه
____________
1) مجمع البيان 3 : 223 في تفسير الآية 67 من سورة المائدة، طبع دار إحياء التراث العربي ، بيروت.
2) كشف الغمة 1 : 436 ، نشر أدب الحوزة ، ط2 ، قم .
3) سورة الانفال : 8 | 42 .

( 53 )
ـ ونبينا العظيم أشرفهم وأكرمهم وأحبهم وأقربهم درجة عند الله عزَّ وجل ـ بقوله تعالى : ( الَّذينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ ويَخشَونَهُ ولا يَخشَونَ أحداً إلاّ اللهَ وكفى باللهِ حَسيباً ) (1).
نعم هي تقية لاَجل التبليغ ، تقية مؤقتة ممن كان المترقب من حالهم أنهم سيخالفونه مخالفة شديدة قد تصل إلى تكذيبه صلى الله عليه وآله وسلم .
ونظير هذا هو ما حصل في بدايات أمر الدعوة إلى الدين الجديد في مكة ، فقد اتفق الكل على بدء الدعوة إلى الاِسلام سراً ، وصرّح أرباب السِّير وغيرهم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجهر بالدعوة إلى الاِسلام إلاّ بعد ثلاث سنوات على نزول الوحي ، لان الخوف من قائد المشركين أبي سفيان وأعوانه من الشياطين كأبي جهل ونظرائه كان قائماً على أصل الدعوة وأنصارها في ذلك الحين ، فكان من الحكمة أن تمر الدعوة إلى الاِسلام بهذا الدور الخطير (2)، وفي الحديث : « إنّ الاِسلام بدأ غريباً وسيعود
____________
1) سورة الاحزاب : 33 | 39 .
2) اُنظر: السيرة النبوية| ابن هشام 1 : 280 . والسيرة النبوية| ابن كثير 1 : 427 . والسيرة الحلبية| ابن برهان 1 : 283 . والسيرة النبوية | دحلان 1 : 282 مطبوع بهامش السيرة الحلبية . واُنظر كذلك تاريخ الطبري 1 : 541 . والكامل في التاريخ | ابن الاثير 2 : 60 . والبداية والنهاية | ابن كثير 3 : 37 .
وإن شئت المزيد فراجع كتب التفسير في تفسير قوله تعالى : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمَر واعرض عن المشركين ) . سورة الحجر : 15 | 94 ، وقوله تعالى : ( وأنذِر عَشِيرَتَكَ الاَقرَبِينَ ) . سورة الشعراء : 26 | 214 .
وفي عناوين تاريخ الخميس للدياربكري 1 : 287 هذا العنوان : «ذكر ما وقع في السنة الثانية والثالثة من اخفاء الدعوة» وقد أخرج تحت هذا العنوان عن ابن الزبير أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لايظهر الدعوة إلاّ للمختصين ، وإنّه صلى الله عليه وآله وسلم أظهرها لعامّة الناس بعد ثلاث سنين عندما نزل قوله تعالى : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمَر.. ) . سورة الحجر : 15 | 94 .

( 54 )
غريباً فطوبى للغرباء» (1).
وهكذا كل دعوة إلى الحق في مجتمع متعسف ظالم ؛ لابدّ وأن تكون في بداياتها غريبة ، تلازمها التقية حتى لا يذاع سرها وتخنق في مهدها .
وعلى أيّة حال فان التقية الواردة في أفعال وأقوال النبي الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم بالنحو الذي ذكرناه أولاً مما لا مجال لانكاره ، واليك جملاً منه :
الحديث الاَول : تقية النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قريش :
أخرج البخاري في صحيحه بسنده ، عن الاسود بن يزيد ، عن عائشة ، قالت : (سألت النبي صلى الله عليه وسلم ، عن الجَدْرِ(2)أمِن البيت هو ؟
قال : « نعم .
فقلت : فما لهم لم يدخلوه في البيت ؟
قال : إنّ قومك قصرت بهم النفقة .
قلت : فما شأن بابه مرتفعاً ؟
قال : فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ، ولولا أنّ قومك حديث عهد بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أُدخِلَ الجَدْرَ في البيت وأن الصق بابه في الاَرض» ) (3).
____________
1) ورد الحديث بألفاظ متقاربة في صحيح مسلم 1 : 130 | 232 . وسنن ابن ماجة 2 : 1319 | 3986 . وسنن الترمذي 5 : 18 | 7629 . ومسند أحمد 1 : 74 .
2) الجَدْرُ والحِجْرُ بمعنى واحد ، والمراد : حِجْر الكعبة المشرفة .
3) صحيح البخاري 2 : 190| 1584 كتاب الحج ، باب فضل مكة وبنيانها ، ط1 ، دار الفكر |

=