وهذه المحاورة بين النبي الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم وزوجه ، قد أخرجها غير البخاري كلٌّ بطريقه إلى الاَسود بن يزيد ، عن عائشة ، وهم :
مسلم في صحيحه من طريقين (1)، وابن ماجة بلفظ : (ولولا أنّ قومك حديث عهد بكفر مخافة ان تنفر قلوبهم) (2)، والترمذي ثم قال : (هذا حديث حسن صحيح) (3)، والنسائي (4)، وأحمد (5).
وأخرج البخاري أيضاً من طريق عبدالله بن مسيلمة ، أنّ عبدالله بن محمد بن أبي بكر أخْبَرَ عبدالله بن عمر أن عائشة قالت : أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لها : « ألم تَرَيْ أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم ؟
فقلت : يا رسول الله ! ألا تردها على قواعد إبراهيم ؟
قال : لولا حِدْثان قومِكِ بالكفر لفعلت » (6).
____________

=

1411 هـ و2 : 179 ـ 180 ، ط دار التراث العربي ، وأعاد روايتها في الجزء التاسع ص106 باب ما يجوز من اللّوْ ، من كتاب الاَحكام .
1) صحيح مسلم 2 : 973 | 405 و 406 كتاب الحج ، باب جدر الكعبة وبابها ، ط2 ، دار الفكر ، 1398 هـ .
2) سنن ابن ماجة 2 : 985 | 2955 ، كتاب المناسك ، باب الطواف بالحجر ، دار إحياء الكتب العربية بمصر .
3) صحيح الترمذي 3 : 224 | 875 كتاب الحج ، باب ما جاء في كسر الكعبة ، تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي دار إحياء التراث العربي .
4) سنن النسائي 5 : 215 ، دار الجيل ، بيروت .
5) مسند أحمد 6 : 176 ، دار الفكر ، بيروت و7 : 253 | 24910 ، ط2 ، دار احياء التراث العربي ، 1414 هـ .
6) صحيح البخاري 2 : 190 | 1583 من الباب السابق .

( 56 )
وقد أخرجه مالك ، عن ابن شهاب ، عن سالم بسنده ومتنه (1)وعنه النسائي في سننه (2)، وأخرجه أحمد في مسنده مرتين (3)وأخرجه ثالثة وفيه أن الذي أخبرَ ابنَ عمر هو عبدالرحمن بن محمد بن أبي بكر (4).
وأخرج البخاري أيضاً بسنده عن هشام المعني ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لولا حداثة قومِكِ بالكفر لنقضت البيت ثم لبنيته على أساس إبراهيم عليه الصلاة والسلام ـ فإن قريشاً استقصرتْ بناءه ـ وجعلتُ له خَلْفاً ـ أي : باباً من الخلف ـ » (5) .
وقد رواه أحمد (6)، والنسائي (7).
وقريب من لفظه ما أخرجه البخاري في بابه المذكور بسنده عن عروة ابن الزبير ، عن عائشة (8)، ومثله النسائي (9).
هذا وقد أخرج أحمد في مسنده حديث عائشة بألفاظ متقاربة عن غير من ذكرناه . فقد أورده من رواية عبدالله بن الزبير بطريقين ، وعبدالله بن أبي ربيعة ، والحرث بن عبدالله ، كلهم ، عن عائشة (10).
____________
1) موطأ مالك : 233 | 813 كتاب الحج ، باب ما جاء في بناء الكعبة .
2) سنن النسائي 5 : 216 .
3) مسند أحمد 7 : 253 | 24912 و7 : 352 | 25569 ، والطبعة الاولى 6 : 147 و177 .
4) مسند أحمد 7 : 164 | 24306 ، والطبعة الاُولى 6 : 112 .
5) صحيح البخاري 2 : 190 | 1585 .
6) مسند أحمد 7 : 85 | 23776 ، والطبعة الاُولى 6 : 57 .
7) سنن النسائي 5 : 215 .
8) صحيح البخاري 2 : 190 | 1586 .
9) سنن النسائي 5 : 216 .
10) اُنظر : رواية ابن الزبير في مسند أحمد 7 : 257 | 24935 و24938 والطبعة الاُولى 6 : 179

=


( 57 )
وقد أخرج الحاكم حديث ابن الزبير ، عن عائشة بلفظ آخر مستدركاً به على البخاري ومسلم ، ثم قال : (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه هكذا) (1).
كما أخرج أبو داود بسنده عن علقمة ، عن أمه ، عن عائشة ، ما يؤكد ان قريشاً أخرجوا الحجر من البيت حين بنوا الكعبة (2).
ومن كل ما تقدم يعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتقي قومه في عدم رد الحِجْر إلى قواعد إبراهيم عليه السلام مخافة أن تنفر قلوبهم ، لحداثة عهدهم بالكفر وقربهم من شرك الجاهلية ، وعلى حد تعبير العلاّمة السندي في حاشيته على سنن النسائي : (إنّ الاِسلام لم يتمكن في قلوبهم ، فلو هُدّمت لربما نفروا منه !!) (3).
ولهذا نجد محاولة ابن الزبير في تهديم الكعبة وإعادة بنائها وإدخال الحجر في البيت ، قد باءت بالفشل ، إذ هدم عبدالملك بن مروان ما بناه ابن الزبير وأخرج الحجر من البيت ليعيده إلى ما كان عليه في عهد من لم يتمكن الاِسلام يوماً في قلوب أكثرهم (4).
هذا ، وقد يقال : إنّ هذا الحديث ونظائره الاُخرى لا علاقة لها بالتقية ، وإنّما هي من صغريات قانون التزاحم وتقديم الاَهم على المهم ، أو دفع
____________

=

و180 . ورواية ابن أبي ربيعة فيه 7 : 360 | 25620 والطبعة الاُولى 6 : 253 . ورواية الحرث فيه أيضاً 7 : 373 | 25724 والطبعة الاُولى 6 : 262 .
1) مستدرك الحاكم 1 : 479 ـ 480 ، دار الفكر ، بيروت | 1398 هـ .
2) سنن أبي داود 2 : 221 | 2028 ، كتاب المناسك ، باب في الحجر ، دار الجيل ، بيروت | 1412 هـ.
3) حاشية العلاّمة السندي مطبوع بهامش سنن النسائي 5 : 214 طبع دار الجيل ، بيروت .
4) راجع : مسند أحمد 7 : 360 | 25620 تجد التصريح بذلك في ذيل الحديث .

( 58 )
الاَفسد بالفاسد !
والجواب : إنّها كذلك ، ولكن لا يمنع من أن تصب بعض موارد التزاحم في التقية ومنها هذا المورد ، إذ كما يحصل التزاحم بين أمرين بلا اكراه كمن دخل في صلاته وشاهد تحريفاً في أنفاسه الاَخيرة ، فالواجب حينئذ هو قطع الصلاة وانقاذ الغريق أخذاً بقانون تقديم الاَهم على المهم ، فقد يحصل بالاكراه أيضاً كما لو أُكرِه شخص على قتل آخر أو سلب أمواله وإلاّ قتل ، فالواجب هنا أن يتقي بسلب الاَموال أخذاً بقانون دفع الاَفسد بالفاسد ، وحينئذ يتحقق التزاحم والتقية في آن واحد .
ومن مراجعة أمثلة التزاحم في كتب الاُصول (1)يعلم امكان دخول الكثير منها في دائرة التقية ، على ان السيد السبزواري قال عن التقية : (إنّها ترجع إلى القاعدة العقلية التي قررتها الشرائع السماوية ، وهي تقديم الاَهم على المهم ، فتكون التقية من القواعد العقلية الشرعية) (2).
الحديث الثاني : تقية النبي صلى الله عليه وآله وسلم من فاحش :
أخرج البخاري من طريق قتيبة بن سعيد ، عن عروة بن الزبير ، أن عائشة أخبرته أن رجلاً استأذن في الدخول إلى منزل النبي فقال صلى الله عليه وآله وسلم : «إئذنوا له فبئس ابن العشيرة ، أو بئس أخو العشيرة ، فلما دخل ألان له الكلام ، فقلت له : يا رسول الله ! قلت ما قلت ثم ألِنتَ له في القول ؟ فقال : أي عائشة ، إنّ شرَّ الناس منزلة عند الله من تركه أو وَدَعَهُ الناس اتقاء
____________
1) راجع : مصباح الاُصول 3 : 361 و2 : 562 .
2) مواهب الرحمن في تفسير القرآن | السيد السبزواري 5 : 202 في تفسير الآية 28 من سورة آل عمران .

( 59 )
فحشه »(1).
ونظير هذا الحديث ما أخرجه الطبراني من حديث ابن بريدة ، عن أبيه، قال : (كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأقبل رجل من قريش ، فأدناه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقرّبه ، فلمّا قام ، قال : « يا بريدة أتعرف هذا » ؟
قلتُ : نعم ، هذا أوسط قريش حسباً ، وأكثرهم مالاً ؛ ثلاثاً ، فقلت : يارسول الله أنبأتك بعلمي فيه ، فأنت أعلم . فقال صلى الله عليه وآله وسلم : « هذا ممن لايقيم الله له يوم القيامة وزناً » (2).
وهذان الحديثان يكشفان عن صحة ما سيأتي في تقسيم التقية ، وأنها غير منحصرة بكتمان الحق وإظهار خلافه خوفاً على النفس من اللائمة والعقوبة بسبب الاِكراه ، وإنّما تتسع التقية إلى أبعد من هذا ، فيدخل فيها ما ذكره المحدثون في باب المداراة ، سيّما إذا كان في خُلُقِ الشخص المدارى نوع من الفحش كما في هذا الحديث ، أو فيه نوع من الشكاسة كما كان في خُلُق مخرمة .
فقد أخرج البخاري نفسه من طريق عبدالوهاب ، عن أبي مليكة ، قال : (إنّ النبي صلّى الله عليه (وآله) وسلم أُهدِيَت له أقبية من ديباج مزررة بالذهب ، فقسمها في ناس من أصحابه ، وعزل منها واحداً لمخرمة ، فلما
____________
1) صحيح البخاري 8 : 38 كتاب الاكراه ، باب المداراة مع الناس . وسنن أبي داود 4 : 251 | 4791 و4792 و4793 . وسنن الترمذي 4 : 359 | 1996 باب 59 وقال (هذا حديث حسن صحيح) . ومسند أحمد 7 : 59 | 23856 ، والطبعة الاُولى 6 : 38 . واُنظر : اُصول الكافي 2 : 245 | 1 كتاب الايمان والكفر ، باب من يتقى شرّه .
2) المعجم الاَوسط | الطبراني 2 : 165 | 1304 . ومجمع الزوائد | الهيثمي 8 : 17 .

( 60 )
جاء ، قال : « خبأت هذا لك » (1).
قال الكرماني في شرح الحديث المذكور : (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبأت هذا لك . وكان ملتصقاً بالثوب وأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يري مخرمة أزاره ليطيب قلبه به ، لاَنّه كان في خلق مخرمة نوع من الشكاسة) (2).
وقد استخدم هذا الاسلوب من التقية بعض الصحابة أيضاً .
قال السرخسي الحنفي في المبسوط : (وقد كان حذيفة ممن يستعمل التقية على ما روي أنه يداري رجلاً ، فقيل له : إنّك منافق !!
فقال : لا ، ولكني اشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كلّه) (3).
وواضح من كلام هذا الصحابي الجليل ، أنّ ترك التقية ليس مطلقاً في كل حال وان عدم مداراة الناس تؤدي إلى نفرتهم ، وعزلته عنهم ، وربما ينتج عنها من الاضرار ما يذهب بالدين كلّه .
ومن هنا روي عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : « المؤمن الذي يخالط الناس ، ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم » (4).
ولا يخفى على عاقل ما في مخالطة الناس من أمور توجب مداراتهم سيما إذا كانت المخالطة مع قوم مرجت عهودهم واماناتهم وصاروا حثالة.
____________
1) صحيح البخاري 8 : 38 ، كتاب الاَدب ، باب المداراة مع الناس .
2) صحيح البخاري بشرح الكرماني 22 : 7 | 5756 ، كتاب الاَدب ، باب المداراة مع الناس .
3) المبسوط | السرخسي 24 : 46 ، من كتاب الاكراه .
4) سنن ابن ماجة 2 : 1338 | 4032 . وسنن البيهقي 10 : 89 . وحلية الاولياء | أبو نعيم 5 : 62 و7: 365 . والجامع لاَحكام القرآن | القرطبي 10 : 359 .

( 61 )
فقد أخرج الهيثمي ، من طريق إبراهيم بن سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : « كيف أنتم في قوم مرجت عهودهم واماناتهم وصاروا حثالة ؟ وشبّك بين أصابعه ، قالوا : كيف نصنع ؟ قال : اصبروا وخالقوا الناس بأخلاقهم ، وخالفوهم بأعمالهم » (1).
وهذا الحديث أخرجه الطبراني في الاَوسط بسنده عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « يا أبا ذر كيف أنت إذا كنت في حثالة من الناس ـ وشبّك بين أصابعه ـ قلتُ : يا رسول الله ، ما تأمرني ؟ قال : صبراً ، صبراً ، خالقوا الناس بأخلاقهم ، وخالفوهم في أعمالهم » (2).
وأخرجه الهيثمي عن أبي ذر أيضاً (3).
أقول : إنّ أبا ذر سُيّر إلى الشام ، وبعد أن أفسد الشام على معاوية بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر أُعيد إلى المدينة ، ثم نُفي ـ بعد ذلك ـ إلى الربذة ومات فيها غريباً وحيداً بلا خلاف بين سائر المؤرخين ، ومنه يعلم من هم الناس الذين وصفوا بالحثالة !
هذا ، وقد روى الشيخ المفيد في أماليه بسنده عن أمير المؤمنين الاِمام علي7 أنه قال : خالطوا الناس بألسنتكم وأجسادكم ، وزايلوهم بقلوبكم وأعمالكم (4).
ولست أدري كيف تكون مخالقة حثالة الناس بأخلاقهم ومخالطتهم باللسان والمخالفة في الاَعمال والمزايلة بالقلوب من غير تقية ؟!
____________
1) كشف الاَستار | الهيثمي 4 : 113 | 2324 .
2) المعجم الاَوسط | الطبراني 1 : 293 | 473 .
3) مجمع الزوائد | الهيثمي 7 : 282 ـ 283 ، كتاب الفتن ، باب في أيام الصبر..
4) أمالي الشيخ المفيد : 131 | 7 المجلس الخامس عشر .

( 62 )
الحديث الثالث : أمرُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمّار بن ياسر بالتقية :
وهو ما أشرنا إليه في قصة عمار وأصحابه الذين أظهروا كلمة الكفر بلسانهم وقلوبهم مطمئنة بالايمان .
فقد روى الطبري بسنده عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر ، أنه قال : (أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا ، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « كيف تجد قلبك ؟ قال : مطمئناً بالايمان ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : فان عادوا فعد » (1).
وفي تفسير الرازي أنه قيل بشأن عمار : (يا رسول الله ! إنّ عماراً كفر ! فقال : « كلاّ ، إنّ عماراً مليء إيماناً من فرقه إلى قدمه ، واختلط الاِيمان بلحمه ودمه ، فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يبكي ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح عينيه ويقول : ما لكَ ؟ إن عادوا لك فعد لهم بما قلت » (2).
الحديث الرابع : النهي عن التعرّض لما لا يطاق :
ويدل عليه ما أخرجه الترمذي ـ وحسّنه ـ بسنده عن حذيفة قال : (قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : « لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه ، قالوا : وكيف يذل نفسه ؟ قال : يتعرض من البلاء لما لا يطيق » (3).
وفي مسند أحمد بلفظ : « لا ينبغي لمسلم... » (4).
وأخرجه في كشف الاستار عن ابن عمر (5).
____________
1) تفسير الطبري 14 : 122 .
2) التفسير الكبير | الرازي 20 : 121 .
3) سنن الترمذي 4 : 522 | 2254 باب رقم 67 بدون عنوان .
4) مسند أحمد 6 : 562 | 22934 والطبعة الاُولى 5 : 405 .
5) كشف الاَستار | الهيثمي 4 : 113 | 2324 ، ط2 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت | 1404 هـ .

( 63 )
ووجه الاستدلال بهذا الحديث على مشروعية التقية أوضح من أن يحتاج إلى بيان ؛ لاَنّ ما يخافه المؤمن من تهديد ووعيد الكافر أو المسلم الظالم ؛ لا شكّ أنه يخلق شعوراً لديه بامتهان كرامته لو امتنع عن تنفيذ ما أُريد منه ، لاَنّه معرّض ـ في هذه الحال ـ إلى بلاء ، فان عزم على اقتحامه وهو لا يطيقه فقد أذلّ نفسه ، هذا مع أن بامكانه أن يخرج من هذا البلاء بالتقية شريطة أن لا تبلغ الدم ، لاَنّها شُرِّعت لحقنه .
قال الاِمام الباقر عليه السلام : « إنّما جُعِلَت التقيّة لِيُحقَن بها الدمُ ، فإذا بلغ الدم فليس تقية » (1) .
الحديث الخامس : في تقية المؤمن الذي كان يخفي إيمانه وقتله المقداد :
وهو ما رواه الطبراني ، بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : (بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية فيها المقداد بن الاَسود ، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا ، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح ، فقال : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، فأهوى إليه المقداد فقتله ، فقال له رجل من أصحابه : قتلت رجلاً قال : لا إله إلاّ الله ، والله ليذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم . فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قالوا : يا رسول الله ! إنَّ رجلاً شهد أن لا إله إلاّ الله فقتله المقداد ؟ فقال : « ادعوا لي المقداد ، فقال : يا مقداد قتلت رجلاً قال : لا إله إلاّ الله ، فكيف لك بـ (لا إله إلاّ الله) ؟ قال : فأنزل الله : ( يا أيُّها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن أُلقي اليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا * فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله
____________
1) اُصول الكافي 2 : 174 | 16 كتاب الايمان والكفر ، باب التقية . والمحاسن | البرقي : 259 | 310 كتاب مصابيح الظلم ، باب التقية . والظاهر : (إذا بلغت) وقد يكون في الكلام حذف ، والتقدير : (فإذا بلغ أمرها الدم) ، فلاحظ .

( 64 )
عليكم ) (1) .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « كان رجلاً مؤمناً يخفي إيمانه مع قوم من الكفار فقتلته ، وكذلك كنت أنت تخفي ايمانك بمكة » (2).
وقصة نزول هذه الآية أوردها البخاري مختصرة في صحيحه بسنده عن عطاء ، عن ابن عباس أيضاً ، ولم يذكر فيها المقداد بل جعل القاتل هو جماعة المسلمين (3).
وأخرجها بلفظ الطبراني الحارث بن أبي اُسامة في مسنده كما في المطالب العالية (4)، كما أخرجها الطبري في تفسيره من طريق وكيع (5).
وقد عرفت أن في هذا الحديث تصريحين من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحدهما : ان المقتول كان مؤمناً يكتم ايمانه خوفاً من الكفار ، وهذا هو عين التقية .
والآخر : إنّ القاتل ـ وهو المقداد ـ كان حاله بمكة كحال المقتول .
الحديث السادس : إذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمحمد بن مسلمة وابن علاط السلمي بالتقية :
وهو حديث البخاري الذي أخرجه بسنده عن جابر بن عبدالله الاَنصاري رحمه الله قال : (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « مَنْ لكعب بن الاَشرف فإنّه قد آذى اللهَ ورسولَهُ ؟ فقام محمد بن مَسْلَمَةَ ، فقال : يا رسول الله ! أتُحبُّ أنْ أقتُلَهُ ؟ قال : نعم . قال فأذنْ لي أنْ أقول شيئاً . قال : قل .
____________
1) سورة النساء : 4 | 94 .
2) المعجم الكبير | الطبراني 12 : 24 ـ 25 | 12379 .
3) صحيح البخاري 6 : 59 ، كتاب التفسير ، باب سورة النساء .
4) المطالب العالية | ابن حجر 3 : 317 | 3577 في باب تفسير سورة النساء الآية : 94 .
5) تفسير الطبري 5 : 142 ، في تفسير الآية 94 من سورة النساء .

( 65 )
فأتاه محمد بن مسلمة ، فقال : إنّ هذا الرجلَ قد سألنا صدقةً وإنّه قد عنانا ، وإني قد أتيتك استسلفك.. الخبر) (1).
ثم ذكر البخاري تمام القصة التي انتهت بقتل ابن الاَشرف على يد محمد بن مسلمة وجماعته من الصحابة الذين أرسلوا معه .
وفي أحكام القرآن لابن العربي ، أن الصحابة الذين كلّفوا بقتل ذلك الخبيث ، وكان محمد بن مسلمة من جملتهم ، أنهم قالوا : (يا رسول الله أتأذن لنا أن ننال منك ؟) فأذن لهم (2).
ولا يخفى أن ما طُلب من الاِذن ، إنما هو لاَجل الحصول على ترخيص نبوي بالقول المخالف للحق بغية الوصول إلى مصلحة إسلامية لا تتحقق إلاّ من هذا الطريق ، فجاء الاِذن الشريف بأن يقولوا ما يشاؤون بهدف الوصول إلى تلك المصلحة .
ومنه يعلم صحة ما مرّ سابقاً بأن التقية كما قد تكون بدافع الاِكراه ، قد تكون أيضاً بغيره ، كما لو كان الدافع اليها غاية نبيلة ومصلحة عالية .
ونظير هذا الحديث بالضبط ما رواه أحمد في مسنده ، والطبري ، وعبدالرزاق ، وأبو يعلى ، والطبراني وغيرهم من حديث الصحابي الحجاج بن علاط السلمي وقصته بعد فتح خيبر ، إذ استأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أن يذهب إلى مكة لجمع أمواله من مشركي قريش على أن يسمح له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول شيئاً يسرّ المشركين ، فأذن له النبي الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، وفعلاً قد ذهب إلى مكة ولما قَرُبَ منها رأى رجالاً من المشركين يتسمعون الاَخبار ليعرفوا ما انتهى إليه مصير المسلمين في غزوتهم
____________
1) صحيح البخاري 5 : 115 ، باب قتل كعب بن الاَشرف .
2) أحكام القرآن | ابن العربي المالكي 2 : 1257 .

( 66 )
الجديدة (خيبر) . فسألوا ابن علاط عن ذلك ـ ولم يعلموا باسلامه ـ فقال لهم : (وعندي من الخبر ما يسركم) !
قال : (فالتاطوا بِجَنْبَيْ ناقتي يقولون : إيه يا حجاج !
قال : قلت : هُزموا هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط) !!
ثم أخذ يعدد لهم كيف أنّ اليهود تمكنوا من قتل المسلمين ، وتتبع فلولهم ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقع أسيراً بأيديهم ، وأنهم أجمعوا على أن يبعثوه مقيداً بالحديد إلى قريش ليقتلوه بأيديهم وبين أظهرهم !!! .
هذا مع علمه علم اليقين كيف قلع أمير المؤمنين عليه السلام باب خيبر ، وكيف دُكّت حصون اليهود وولّوا الدُبر ، لكنه أراد بهذا أن يجمع أمواله من المشركين على أحسن ما يرام ، وقد تمّ له ذلك بفضل التقية التي شهد فصولها حينذاك العباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي اغتمّ أولاً ثم استرّ بعد أن سرّه ابن علاط بحقيقة الخبر (1).
الحديث السابع : حديث الرفع المشهور :
صلة الحديث بالتقية :
يتصل حديث الرفع بالتقية من جهتين ، وقد تضمنهما الحديث نفسه ، وهما :
الاَولى : اشتماله على عبارة (وما أكرهوا عليه) ، والتقية غالباً ما تكون
____________
1) اُنظر : تقية الحجاج بن علاط في مسند أحمد 3 : 599 ـ 600 | 12001 والطبعة الاُولى 3 : 138ـ 139 . ومصنف عبدالرزاق 5 : 466 | 9771 . والمعجم الكبير | الطبراني 3 : 220 | 3196 . ومسند أبي يعلى الموصلي 3 : 399 ـ 403 | 3466 . وتاريخ الطبري 2 : 139 في حوادث سنة 7 هجرية . ومثله في الكامل | ابن الاثير 2 : 223 . والبداية والنهاية | ابن كثير 4 : 215 . والاصابة| ابن حجر 1 : 327 . وقال في مجمع الزوائد 6 : 155 : ورجال أحمد رجال الصحيح .

( 67 )
باكراه ، وقد بيّنا سابقاً صلة الاكراه بالتقية ، ونتيجة لتلك الصلة فقد علم جميع المفسرين بلا استثناء دلالة قوله تعالى : ( إلاّ من أُكره وقلبه مطمئن بالاِيمان ) على جواز التقية في الاِسلام ولم يناقش أحد منهم في ذلك .
الثانية : اشتمال الحديث ـ في بعض مصادره ـ على عبارة (وما اضطروا إليه) ، وقد تبين سابقاً ان من الاضطرار ما يكون بغير سوء الاختيار ، وان من أسبابه هو فعل الغير كما في الاكراه . كما تبين في أركان الاكراه ما يدلُّ على ان الاكراه الذي لا يضطر معه المكرَه إلى ارتكاب المحظور لا تجوز معه التقية إذ لم يعد الاكراه اكراهاً في الواقع لفقدانه أحد أركانه ، فيكون اكراهاً ناقصاً بخلاف التام الذي يولد اضطراراً أكيداً للمكره ، وإذا اتضح هذا اتضحت صلة العبارة بالتقية . ومما يقطع النزاع بتلك الصلة حديث الاِمام الصادق عليه السلام : « إذا حلف الرجل تقية لم يضره إذا هو أُكرِه واضطرَّ إليه»(1) ، على أن لهتين العبارتين آثارهما الواضحة في ادخال التقية في موارد كثيرة في فروع الفقه مع عدم ترتب آثارها الواقعية بفضل هاتين العبارتين من قبيل صحة التقية في طلاق المكره مع الحكم بعدم وقوع الطلاق ، وصحتها في بيع المكره ولكن مع فساد البيع وهكذا الحال في العتق والمباراة والخلع وغيرها كثير .
وزيادة على ذلك نورد ماقاله الشيخ الاَنصاري في بحث التقية ، قال : (ثم الواجب منها يبيح كل محظور من فعل الواجب وترك المحرم . والاَصل في ذلك أدلة نفي الضرر، وحديث : «رفع عن أمتي تسعة أشياء» ، ومنها : وما اضطروا إليه..) (2)وواضح من هذا الكلام صلة القواعد الفقهية
____________
1) وسائل الشيعة 23 : 228 | 29442 باب 12 من أبواب كتاب الاَيمان .
2) التقية | الشيخ الاَنصاري : 40 .

( 68 )
الخاصة بازالة الضرر بالتقية كما أشرنا إليه سابقاً ، كقاعدة لاضرر وغيرها .
وأما عن أصل الحديث ومصادره فهو معروف لدى الفريقين ، فقد أخرجه العامّة بلفظ : رفع الله من أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما اسْتُكِرهوا عليه » (1) . وعدّه السيوطي من الاَحاديث المشهورة (2)وصرح ابن العربي المالكي باتفاق العلماء على صحة معناه فقال عند قوله تعالى : (إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطمَئِنٌ بِالاِيمانِ ) : (لما سمح الله تعالى في الكفر به.. عند الاكراه ولم يؤاخِذ به ، حمل العلماء عليه فروع الشريعة ، فإذا وقع الاكراه عليها لم يؤاخذ به ، ولا يترتب حكم عليه ، وعليه جاء الاَثر المشهور عند الفقهاء : « رفع عن أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه » ، ـ إلى ان قال عن حديث الرفع ـ : (فإنّ معناه صحيح باتفاق من العلماء) (3).
والحديث المذكور رواه الصدوق في كتاب التوحيد بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ : « رفع عن أُمتي تسعة : الخطأ ، والنسيان، وما أكرهوا عليه ، وما لا يطيقون ، وما لا يعلمون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكر في الوسوسة في الخَلْق ما لم ينطق بشفة » (4).
وأورده مسنداً في (الخصال) ، مع تقديم كلمة (وما لا يعلمون) على
____________
1) مسند الربيع بن حبيب 3 : 9 ، نشر مكتبة الثقافة . وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 5 : 160 ـ 161 ، دار احياء التراث العربي ، بيروت | 1406 هـ . وكشف الخفاء | العجلوني 1 : 522 ، ط5 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت | 1405 هـ . وكنز العمال | المتقي الهندي 4 : 233 | 10307 ، ط5 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت | 1405 هـ .
2) الدرر المنتثرة في الاَحاديث المشتهرة | السيوطي : 87 ، ط1 ، مطبعة الحلي ، مصر .
3) أحكام القرآن | ابن العربي 3 : 1177 ـ 1182 وفيه تفصيل مطول عن الاَحكام المتصلة بحديث الرفع ، فراجع .
4) التوحيد | الصدوق : 353 | 24 باب الاستطاعة .

( 69 )
(وما لا يطيقون) (1).
وأرسله في (الفقيه) بهذه الصورة : « وضع عن أُمتي تسعة أشياء : السهو ، والخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، والطيرة ، والحسد ، والتفكر في الوسوسة في الخَلْق ما لم ينطق الانسان بشفة » (2).
كما أورده الشيخ الحر في (الوسائل) ، تارة عن الصدوق (3)، وأُخرى عن نوادر أحمد بن محمد بن عيسى (4).
وهذا الحديث الذي تحدث عنه علماء الاصول من الشيعة الاِمامية في صفحات عديدة في باب البراءة من الاُصول العملية ، صريح برفع المؤاخذة عن المكره .
وقد نصّ القرآن الكريم في أكثر من آية على ذلك ، وهذا يدل على صحة ما تضمنه الحديث حتى مع فرض عدم صحته في نفسه ، ومن بين تلك الآيات زيادة على ما مرّ ، قوله تعالى : ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن اردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فان الله من بعد اكراههن غفور رحيم ) (5).
____________
1) الخصال | الصدوق 2 : 417 | 9 باب التسعة .
2) من لا يحضره الفقيه | الصدوق 1 : 36 | 132 باب 14 .
3) وسائل الشيعة | الحر العاملي 15 : 369 | 20769 باب 65 من أبواب جهاد النفس ، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاِحياء التراث .
4) وسائل الشيعة 23 : 237 | 29466 باب 16 من أبواب كتاب الايمان . واُنظر : نوادر أحمد بن محمد بن عيسى : 74 | 157 .
5) سورة النور : 24 | 34 . واُنظر : سبب نزولها في صحيح مسلم 8 : 244 كتاب التفسير باب قوله تعالى : ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ) .

( 70 )
ومن هنا درأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحدَّ عن امرأة زنت كرهاً في عهده الشريف ، وأمر بإقامة الحد على من استكرهها (1).
وقد مرّ فيما سبق وحدة الملاك بين الاكراه والتقية في بعض صورها ، مما يعني أن دلالة حديث الرفع على مشروعية التقية لالبس فيه ولا خفاء.
ونكتفي بهذا القدر من الاَحاديث المروية عن النبي الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، في أصح كتب الحديث عند العامّة ؛ لننتقل بعد ذلك إلى تراث النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم الذي حفظه أهل بيته عليهم السلام ـ وأهل البيت أدرى بالذي فيه ـ لنقتطف منه جزءاً يسيراً من أحاديث التقية المروية في كتب الحديث عند شيعتهم ، سيّما وقد علم الكل كيف أينعت مفاهيم الشريعة على أيديهم عليهم السلام ، وكيف أغدقت علومهم بفاكهة القرآن ؛ لاَنّهم صنوه الذي لن يفارقه حتى يردا على النبي الحوض (2)، وكيف فاح عطر الاِيمان وأريج الحق من بيوتهم التي أذن الله لها أن ترفع ويذكر فيها اسمه . فنقول :
القسم الثاني : أحاديث أهل البيت عليهم السلام في التقية :
إنّ الاَحاديث المروية عن أهل البيت عليهم السلام في التقية كثيرة وقد بلغ رواتها الثقات عدداً يزيد على الحد المطلوب في التواتر ، وفي تلك الاَحاديث تفصيلات كثيرة تضمنت فوائد التقية ، وأهميتها ، وكيفياتها ، وموارد حرمتها ، مع الكثير من أحكامها فيما يزيد على أكثر من ثلاثمائة حديث تجدها مجموعة في كتب الحديث المتأخرة كوسائل الشيعة
____________
1) صحيح الترمذي 4 : 155 كتاب الحدود ، باب ما جاء في المرأة إذا استكرهت على الزنا .
2) كما في حديث الثقلين المتواتر عند جميع المسلمين وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض » .

( 71 )
ومستدركه ، وجامع أحاديث الشيعة وذلك في أبواب كتاب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومن هنا أصبحت دراستها في بحث مختصر كهذا متعذرة ، بل حتى الاكتفاء بعرض نصوصها كذلك أيضاً ، ولما لم نجد بداً من التعرض السريع إليها ارتأينا جمع ما اشترك منها في معنىً واحدٍ تحت عنوان واحد، ومن ثم الاستدلال على ذلك العنوان ببعض أحاديثه لا كلّها سيما وان القدر المشترك في أحاديث كل عنوان يبلغ حد التواتر المعنوي ، وقد اكتفينا ببعض العناوين المهمة وتركنا الكثير منها ، إذ لم يكن الهدف سوى وضع صورة مصغرة عن التقية في الاَحاديث المروية عن أهل البيت عليهم السلام ، وبالنحو الآتي :
أولاً : الاَحاديث المستنبطة جواز التقية من القرآن الكريم :
هناك جملة وافرة من الاَحاديث التي فسّرت بعض الآيات القرآنية بالتقية ، نذكر منها :
1 ـ عن هشام بن سالم ، عن الاِمام الصادق عليه السلام ، في قول الله تعالى : (أولئِكَ يُؤتَوْنَ أجْرَهُمْ مَرَّتَينِ بِمَا صَبَرُوا ) قال : « بما صبروا على التقية (ويدرؤنَ بالحَسَنَةِ السَّيِّئةَ ) (1)قال : الحسنة : التقية ، والسيئة : الاِذاعة»(2) .
2 ـ وعنه عليه السلام في قوله تعالى : ( ولا تستوي الحَسَنَةُ ولا السَّيِّئةُ ) قال : «الحسنة : التقية ، والسيئة : الاِذاعة » . وقوله عزَّ وجل : ( إدْفَعْ بالَّتي هيَ أحسَن ) ... قال : « التي هي أحسن : التقية ـ ثم قرأ عليه السلام ـ : ( فإذا الَّذي بَيْنَكَ
____________
1) سورة القصص : 28 | 54 .
2) اُصول الكافي 2 : 217 | 1 ، كتاب الاِيمان والكفر ، باب التقية .

( 72 )
وَبَيْنَهُ عَدَاوةٌ كأنَّهُ وليٌّ حَمِيمٌ ) » (1).
ولا يخفى : أن تفسير الحسنة بالتقية ، والسيئة بالاِذاعة ، هو من باب تفسير الشيء ببعض مصاديقه ، وهذا مما لا ينكر ، فلو توقف مثلاً صون دم مسلم على التقية فلا شك في كونها حسنة ، بل من أعظم القربات ، وأما لو ترتب على الاِذاعة سفك دم حرام ، فلا ريب بِعدِّ الاِذاعة سيئة بل من أعظم الموبقات .
هذا ، وقد تجد في هذا النمط من الروايات ما يدل على عمق تاريخ التقية في الحياة البشرية ، باعتبارها المنفذ الوحيد المؤدي إلى سلامة الاِنسان أزاء ما يعرضه للفناء ، أو يقف حجراً في طريق المصالح المشروعة ، كما حصل ذلك لبعض الاَنبياء عليهم السلام ، ومن تلك الروايات :
عن أبي بصير ، قال : (قال أبو عبدالله عليه السلام : « التقية من دين الله ، قلت : من دين الله ؟ قال : إي والله من دين الله ، ولقد قال يوسف : ( أيَّتُها العِيرُ إنَّكُم لَسارِقُونَ ) (2)والله ما كانوا سرقوا شيئاً . ولقد قال إبراهيم عليه السلام : ( إنّي سَقِيمٌ) (3) والله ما كان سقيماً » (4) .
ومما يجب التنبيه عليه هنا ، هو أن تقية يوسف عليه السلام إنّما هي من جهة قول المؤذن الآتي ، الذي صحت نسبته إلى يوسف عليه السلام باعتبار علمه به مع تهيئة مقدماته .
____________
1) اُصول الكافي 2 : 218 | 6 باب التقية . ومثله في المحاسن | البرقي : 257 | 297 . والآية من سورة فصلت : 41 | 34 .
2) سورة يوسف : 12 | 70 .
3) سورة الصافات : 37 | 89 .
4) اُصول الكافي 2 : 217 | 3 باب التقية . ومثله في المحاسن للبرقي 258 | 203 . وعلل الشرائع | الصدوق : 51 | 1 ، 2 .

( 73 )
فانظر إلى قوله تعالى : ( وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ ءَاوَى إليهِ أخَاهُ قالَ إنِّي أنا أخُوكَ فَلا تَبتَئسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِم جَعَلَ السِّقايةَ في رَحلِ أخِيهِ ثُمَّ أذَّنَ مؤذِّنٌ أيَّتُها العِيرُ إنَّكُم لَسَارِقُونَ ) (1).
ستعلم ان قول المؤذن كان بتدبير يوسف عليه السلام وعلمه ، وهو لم يكذب عليه السلام ، لان أصحاب العير كانوا قد سرقوه من أبيه وألقوه في غيابات الجب حسداً منهم وبغياً .
ومما يدل على صدق يوسف عليه السلام أن اخوته لما قالوا له بعد ذلك : (ياأيُّها العزِيزُ إنَّ لَهُ أباً شَيخاً كبيراً فَخُذْ أحَدَنا مَكانَه ) (2). لم يقل عليه السلام لهم بأنا لا نأخذ إلاّ من سرق متاعنا ، بل قال لهم : ( مَعَاذَ اللهِ أنْ نأخُذَ إلاّ مَنْ وَجَدْنا مَتَاعَنَا عَنْدَه.. ) (3).
وبالجملة فان تقية النبي يوسف عليه السلام إنّما هي من جهة ظهوره بمظهر من لا يعرف حال اخوته مع اخفاء الحقيقة عنهم مستخدماً التورية في حبس أخيه . وعليه تكون تقيته هنا ليست من باب الاحكام وتبليغ الرسالة حتى يُزعم عدم جوازها عليه ، بل كانت لاَجل تحقيق بعض المصالح العاجلة كاحتفاظه بأخيه بنيامين ، والآجلة كما يكشف عنها قوله لهم بعد إن جاءوا من البدو : ( ادْخُلُوا مَصْرَ إنْ شاءَ اللهُ آمنينَ ) (4).
وجدير بالذكر أن البخاري قد أخرج في صحيحه بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ من طريقين ـ أنه قال :« .. ولو لبثت في السجن ما لبث
____________
1) سورة يوسف : 12 | 69 ـ 70 .
2) سورة يوسف : 12 | 78 .
3) سورة يوسف : 12 | 79 .
4) سورة يوسف : 12 | 99 .

( 74 )
يُوسُفَ لاَجِبتَ الدَّاعي » (1)!!
ولا أعلم فريّة تجوّز على أشرف الاَنبياء والرسل صلى الله عليه وآله وسلم التقية في ارتكاب ما أبى عنه يوسف عليه السلام واستعصم فيما لو جُعل صلى الله عليه وآله وسلم مكانه عليه السلام من هذه الفرية التي ليس بها مرية .
هذا ، وأما عن تقية إبراهيم عليه السلام ، فهي نظير تقية يوسف عليه السلام ، وذلك باعتبار أنه أخفى حاله واظهر غيره بهدف تحقيق بعض المصالح العالية التي تصب في خدمة دعوة أبي الاَنبياء عليه السلام إلى التوحيد ونبذ الشرك ، مثل تكسير الاَصنام وتحطيمها ، وليس في قوله : ( إنّي سقيمٌ ) أدنى كذبٍ ، لاَنّه ورّى عما سيؤول إليه حاله مستقبلاً ، بمعنى أنه سيسقم بالموت ، فتكون تقيته عليه السلام في موضوع لا في حكم حتى يُتأمَّل فيها .
ومن هنا كانت كلمة أهل البيت عليهم السلام قاطعة في صدق إبراهيم عليه السلام في تقيته. ولكن أبى البخاري إلاّ أن يكذّب إبراهيم عليه السلام ، فقد أخرج في صحيحه من طريقين عن أبي هريرة نفسه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : «لم يكذب إبراهيم إلاّ ثلاثاً» وفي لفظ آخر : «لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلاّ ثلاث كذبات» (2).
ولم يكتف البخاري بهذا ، بل أخرج بسنده عن أبي هريرة نفسه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: (.. إنّ الله يجمع يوم القيامة الاَولين والآخرين في صعيد واحد... فيأتون إبراهيم فيقولون : أنتَ نبيُ الله وخليله من الاَرض اشفع لنا إلى ربّك، فيقول ـ فذكر كذباته ـ : نفسي ، نفسي ، اذهبوا إلى موسى) .
____________
1) صحيح البخاري 6 : 97 باب سورة يوسف ، من كتاب التفسير .
2) صحيح البخاري 4 : 171 باب قول الله تعالى : ( واتَّخَذَ اللهُ إبراهِيمَ خَلِيلاً ) من كتاب بدء الخَلق .

( 75 )
ثم قال البخاري : (تابعه أنسٌ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) (1)!!
أقول : معاذ الله أن نصدّق بهذه الاَكاذيب وان قالوا بوثاقة رواتها !، وكيف لا نكذّبهم وقد رموا من قد رفع الله محلّه ، وارسله من خلقه رحمة للعالمين وحجة للمجتهدين ؟
وفي هذا الصدد قال الفخر الرازي في تفسيره عن خبر أبي هريرة : (ماكذب إبراهيم إلاّ ثلاث كذبات) قال : (قلت لبعضهم : هذا الحديث لاينبغي أن يقبل ؛ لاَنّ نسبة الكذب إلى إبراهيم عليه السلام لا تجوز ، وقال ذلك الرجل : فكيف يحكم بكذب الرواة العدول ؟ فقلت : لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبته إلى الخليل عليه السلام ، كان من المعلوم بالضرورة أن نسبته إلى الراوي أولى) (2).
ثانياً : الاَحاديث الدالة على أن التقية من الدين :
دلّت جملة من الاَحاديث المروية عن أهل البيت عليهم السلام بأن التقية من دين الله عزَّ وجل ومن الاِيمان وان من يتركها في موارد وجوبها فهو غير مكتمل التفقه في الدين ، من ذلك :
1 ـ عن أبي عمر الاعجمي ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : « يا أبا عمر ، ان تسعة أعشار الدين في التقية ، ولا دين لمن لا تقية له » (3).
وهذا الحديث لا شكَّ فيه ، فهو ناظر من جهة إلى كثرة ما يبتلى به المؤمن في دينه ولا يخرج من ذلك إلاّ بالتقية خصوصاً إذا كان في مجتمع يسود أهله الباطل .
____________
1) صحيح البخاري 4 : 172 باب يَزِفُّونَ النَّسَلانُ في المشي من كتاب بدء الخَلق .
2) التفسير الكبير | الفخر الرازي 16 : 148 .
3) اُصول الكافي 2 : 172 | 2 . والمحاسن | البرقي : 359 | 309 . والخصال | الصدوق : 22| 79 .

( 76 )
ومن جهة اُخرى إلى قلة أنصار الحق وكثرة أدعياء الباطل حتى لكأن الحق عشر ، والباطل تسعة أعشار ، وعليه فلا بدَّ لاَهل الحق من مماشاة أهل الباطل في حال ظهور دولتهم ليسلموا من بطشهم .
على أن وصف الحق بالقلة والباطل بالكثرة وكذلك أهلهما صرّح به القرآن الكريم في أكثر من آية ، كقوله تعالى : ( وما أكثرُ النَّاسِ وَلو حَرصْتَ بمُؤمِنِينَ ) (1)وقوله تعالى : ( إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الَّصالِحَاتِ وَقَليلٌ مَّا هُمْ) (2).
كما أن الحديث لا يدل على نفي الدين عمّن لا يتقي بل يدل بقرينة أحاديث أُخر أنه غير مكتمل التفقه ، بل ليس فقيهاً في دينه ، وهكذا في فهم نظائره الاُخر . ومما يدل عليه ما رواه عبدالله بن عطاء قال : قلتُ لابي جعفر الباقر عليه السلام : رجلان من أهل الكوفة أُخذا ، فقيل لاَحدهما : ابرأ من أمير المؤمنين ، فبرىء واحد منهما وأبى الآخر ، فَخُلِّيَ سبيل الذي برىء وقُتل الآخر ؟
فقال عليه السلام : « أما الذي برىء فرجل فقيه في دينه ، وأما الذي لم يبرأ فرجل تعجَّل إلى الجنة » (3).
هذا ، ولا يمنع أن يكون الحديث دالاً أيضاً على سلب الاِيمان والدين حقيقة ممن لا يتقي في موارد وجوب التقية عليه ، كما لو أُكره مثلاً على أن يعطي مبلغاً زهيداً ، وإلاّ عرّض نفسه إلى القتل ، فامتنع حتى قتل ، فهذا لاشكّ أنه من إلقاء النفس بالتهلكة ، وقد مرّ تصريح علماء العامّة بأن مصير
____________
1) سورة يوسف : 12 | 103 .
2) سورة ص : 38 | 24 .
3) اُصول الكافي 2 : 175 | 21 ، باب التقية .

( 77 )
مثل هذا يكون في جهنم ، ومن غير المعقول ان تكون جهنم مأوى المؤمن المتدين ، بل هي مأوى الكافرين والمنافقين وأمثالهم . ونظير هذا الحديث :
2 ـ عن معمر بن خلاد ، عن أبي الحسن عليه السلام قال : قال أبو جعفر عليه السلام : «التقية من ديني ودين آبائي ، ولا إيمان لمن لا تقية له » (1).
3 ـ عن أبان بن عثمان عن الاِمام الصادق عليه السلام قال : « لا دين لمن لا تقية له ، ولا إيمان لمن لا ورع له » (2).
4 ـ عن عبدالله بن أبي يعفور ، عن الاِمام الصادق عليه السلام قال : اتقوا على دينكم فاحجبوه بالتقية ، فإنّه لا إيمان لمن لا تقية له (3).
ثالثاً : الاَحاديث الواردة في بيان أهمية التقية :
وصِفت التقية في جملة من الاَحاديث بأنها ترس المؤمن ، وحرزه ، وجنته ، وإنّها حصنه الحصين ونحو هذه العبارات الكاشفة عن أهمية التقية .
وربما قد يستفاد من ذلك الوصف والتشبيه وجوبها في موارد الخوف أحياناً ، فكما أن استتار المؤمن ـ في سوح الوغى ـ بالترس من ضرب السيوف وطعن الرماح قد يكون واجباً أحياناً ، فكذلك استتاره بالتقية في موارد الخوف لحفظ النفس من التلف ، ومن هذه الاَحاديث :
1 ـ عن عبدالله بن أبي يعفور ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : « التقية ترس المؤمن ، والتقية حرز المؤمن » (4).
2 ـ عن محمد بن مروان ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : « كان أبي عليه السلام
____________
1) اُصول الكافي 2 : 219 | 12 ، باب التقية .
2) صفات الشيعة | الشيخ الصدوق : 3 | 3 .
3) اُصول الكافي 2 : 218 | 5 ، باب التقية .
4) اُصول الكافي 2 : 221 | 23 ، باب التقية .

( 78 )
يقول: وأي شيء أقر لعيني من التقية ؟ إن التقية جُنّة المؤمن » (1).
3 ـ وعن الاِمام الصادق عليه السلام أنّه قال للمفضل : « إذا عملت بالتقية لم يقدروا في ذلك على حيلة ، وهو الحصن الحصين وصار بينك وبين أعداء الله سداً لا يستطيعون له نقباً » (2).
رابعاً : الاَحاديث الدالة على عدم جواز ترك التقية عند وجوبها :
1 ـ من مسائل داود الصرمي للامام الجواد عليه السلام قال : قال لي : « يا داود ، لو قلت إن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقاً » (3).
2 ـ أورد الشيخ الطوسي في أماليه بسنده عن الاِمام الصادق عليه السلام أنه قال: « ليس منا من لم يلزم التقية ويصوننا عن سفلة الرعية » (4).
3 ـ وعن أمير المؤمنين عليه السلام : « التقية من أفضل أعمال المؤمن يصون بها نفسه واخوانه عن الفاجرين » (5).
خامساً : الاَحاديث الدالة على أن التقية في كلِّ ضرورة ، وأنها تقدّر بقدرها وتحرم مع عدمها ، مع بعض مستثنياتها :
1 ـ ما رواه زرارة عن الاِمام الباقر عليه السلام قال : « التقية في كل ضرورة
____________
1) اُصول الكافي 2 : 220 | 14 ، باب التقية .
2) تفسير العياشي 2 : 351 | 86 . واُنظر : الوسائل 16 : 213 | 21389 باب 24 من أبواب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
3) وسائل الشيعة 16 : 211 | 21382 باب 24 من أبواب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، نقله عن مستطرفات السرائر ، وأورده الصدوق في الفقيه عن الاِمام الصادق عليه السلام . واُنظر : الفقيه 2 : 80 | 6 باب صوم يوم الشك .
4) أمالي الشيخ الطوسي 1 : 287 .
5) تفسير الاِمام العسكري عليه السلام : 320 | 163 .

( 79 )
وصاحبها أعلم بها حين تنزل به » (1).
2 ـ وعن إسماعيل الجعفي ، ومعمر بن يحيى بن سام ، ومحمد بن مسلم ، وزرارة كلهم قالوا : (سمعنا أبا جعفر عليه السلام يقول : « التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له » ) (2).
3 ـ وعن أبي عمر الاَعجمي ، عن الصادق عليه السلام أنّه قال : « ... والتقية في كل شيء إلاّ في النبيذ والمسح على الخفّين » (3).
4 ـ وفي مضمر زرارة ، قال : (قلتُ له : في مسح الخفين تقية ؟ فقال : «ثلاثة لا أتقي فيهن أحداً : شرب المسكر ، ومسح الخفين ، ومتعة الحج ») (4) .
وأورده الصدوق بلفظ : (وقال العالم عليه السلام) (5)ولا أثر لهذا الاضمار والوصف في تحديد اسم القائل على حجية الخبر ؛ لاَنّ قرينة (عليه السلام) كافية في تعيين كونه من الاَئمة الاثني عشر عليهم السلام ، وهو في المورد المذكور مردد بين الاِمامين الباقر والصادق عليهما السلام .
هذا ، وقد حمل زرارة المنع عن استخدام التقية في المسكر ، ومسح الخفين ، ومتعة الحج على شخص الاِمام عليه السلام ، لاَنه قال في ذيل الحديث برواية الكافي : (ولم يقل الواجب عليكم أن لا تتقوا فيهن أحداً)، فلاحظ .
____________
1) اُصول الكافي 2 : 219 | 13 ، باب التقية .
2) اُصول الكافي 2 : 220 | 18 ، باب التقية . ومثله في المحاسن للبرقي : 259 | 308 .
3) اُصول الكافي 2 : 217 | 2 ، باب التقية . ومثله في المحاسن : 259 | 309 . والخصال | الصدوق : 22 | 79 .
4) فروع الكافي 3 : 32 | 2 باب مسح الخفين من كتاب الطهارة .
5) من لا يحضره الفقيه 1 : 30 | 95 باب حد الوضوء وترتيب ثوابه .

( 80 )
وقد يكون السبب أن هذه الاُمور الثلاثة مما هي معلومة جداً من مذهبه عليه السلام ، وإن التقية فيها لا تجدي نفعاً لاَن كل من عاصر الاِمام الصادق عليه السلام يعلم رأيه في هذه الثلاثة ، فلا حاجة لان يتقي فيهن أحداً .
5 ـ وفي حديث آخر بالغ الاَهمية مع علو اسناده وصحته ، عن مسعدة ابن صدقة قال : (سمعتُ أبا عبدالله عليه السلام يقول وسئل عن إيمان من يلزمنا حقه واخوَّته كيف هو وبما يثبت وبما يبطل ؟ فقال عليه السلام : « إنّ الاِيمان قد يتخّذ على وجهين : أما أحدهما : فهو الذي يظهر لك من صاحبك ، فإذا ظهر لك منه مثل الذي تقول به أنت ، حقت ولايته وأخوّته إلاّ ان يجيء منه نقض للذي وصف من نفسه وأظهره لك ، فإنّ جاء منه ما تستدل به على نقض الذي أظهر لك ، خرج عندك مما وصف لك وأظهر ، وكان لما أظهر لك ناقضاً إلاّ أن يدّعي أنّه إنما عمل ذلك تقية ، ومع ذلك ينظر فيه :
فإن كان ليس مما يمكن أن تكون التقية في مثله ، لم يقبل منه ذلك ؛ لاَن للتقية مواضع ، من أزالها عن مواضعها لم تستقم له . وتفسير ما يتقى مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق وفعله ، فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنّه جائز » (1).
سادساً : الاَحاديث الدالة على حرمة استخدام التقية في الدماء :
1 ـ عن محمد بن مسلم ، عن الاِمام الباقر عليه السلام قال : « إنّما جعلت التقية ليحقن بها الدم ، فإذا بلغ الدم فليس تقية » (2).
____________
1) اُصول الكافي 2 : 168 | 1 باب فيما يوجب الحق لمن انتحل الايمان وينقضه ، من كتاب الايمان والكفر .
2) اُصول الكافي 2 : 220 | 16 . والمحاسن : 259 | 310 .

( 81 )
2 ـ وعن أبي حمزة الثمالي ، عن الاِمام الصادق عليه السلام : « ... إنّما جعلت التقية ليحقن بها الدم ، فإذا بلغت التقية الدم فلا تقية » (1).
وجدير بالذكر ، إنّ بعض فقهاء العامّة جوّز التقية في الدماء وهتك الاَعراض كما سيوافيك مفصلاً في محلّه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
سابعاً : الاَحاديث المبيّنة لحكم التقية في بعض الموارد :
ونذكر من هذه الموارد ما يأتي :
1 ـ ما دلَّ على مخالطة أهل الباطل ومداراتهم بالتقية :
أ ـ عن إسماعيل بن جابر ، واسماعيل بن مخلد السراج ، كلاهما عن الاِمام الصادق عليه السلام ، في رسالته إلى أصحابه : « وعليكم بمجاملة أهل الباطل ، تحملوا الضيم منهم ، وإياكم ومماظتهم ، دينوا فيما بينكم وبينهم إذا أنتم جالستموهم وخالطتموهم ونازعتموهم الكلام ، فإنّه لا بدَّ لكم من مجالستهم ومخالطتهم ومنازعتهم الكلام بالتقية التي أمركم الله أن تأخذوا بها فيما بينكم وبينهم..» (2).
ب ـ وعن هشام الكندي ، عن الاِمام الصادق عليه السلام ، قال : إياكم ان تعملوا عملاً يعيّرونا به ، فإن ولد السوء يُعيّر والده بعمله ، كونوا لمن انقطعتم إليه زيناً ولا تكونوا عليه شيناً ، صلوا في عشائرهم ، وعودوا مرضاهم ، واشهدوا جنائزهم ، ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير فانتم أولى به منهم ، والله ما عُبد الله بشيء أحب إليه من الخبء .
____________
1) تهذيب الاَحكام | الشيخ الطوسي 6 : 172 | 335 باب النوادر ، من كتاب الجهاد وسيرة الاِمام عليه السلام .
2) روضة الكافي 8 : 2 | 1 .

( 82 )
قلتُ : وما الخبء ؟ قال : التقية » (1).
جـ ـ وعن أبي بصير قال : قال أبو جعفر عليه السلام : « خالطوهم بالبرانية ، وخالفوهم بالجوانية إذا كانت الاِمرة صبيانية » (2).
وقد مرّ هذا المعنى أيضاً في رواية الشيخ المفيد في أماليه بسنده عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال : « خالطوا الناس بألسنتكم وأجسادكم ، وزايلوهم بقلوبكم وأعمالكم » .
كما مرّ أيضاً ما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كتب العامّة ، أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال : «كيف أنتم في قوم مرجت عهودهم وأماناتهم وصاروا حثالة ؟ وشبك بين أصابعه ، قالوا : كيف نصنع ؟ قال : اصبروا وخالطوا الناس بأخلاقهم ، وخالفوهم في أعمالهم » (3).
وقد مرّ في حديث مسعدة بن صدقة عن الاِمام الصادق عليه السلام ما يدل عليه .
وبالجملة ، فان مخالطة أهل الباطل عند غلبتهم ضرورة لا بدّ منها وقد نهجها من قبل مؤمن آل فرعون وأصحاب الكهف كما مرّ في الاَدلة القرآنية، فراجع .
2 ـ ما دلَّ على عدم الحنث والكفارة على من حلف تقية :
ويدل عليه ما رواه الاَعمش ، عن الاِمام الصادق عليه السلام قال : «...واستعمال التقية في دار التقية واجب ، ولا حنث ولا كفارة على من
____________
1) اُصول الكافي 2 : 219 | 11 باب التقية .
2) اُصول الكافي 2 : 220 | 20 باب التقية .
3) اُنظر ما ذكرناه حول الحديث الثاني في هذا الفصل .

( 83 )
حلف تقية يدفع بذلك ظلماً عن نفسه (1).
أقول : سيأتي إن شاء الله تعالى جواز الحلف تقية عند العامّة ولا أثر يترتب عليه عندهم .
3 ـ ما دلَّ على حكم التقية في شرب الخمر :
عن درست بن منصور ، قال : (كنت عند أبي الحسن موسى عليه السلام ، وعنده الكميت بن زيد ، فقال للكميت : أنت الذي تقول :
فالآن صرت إلى أُميّة * والاُمور لها مصائر ؟
قال : قلت ذاك ، والله ما رجعت عن إيماني ، وإني لكم لموالٍ ، ولعدوكم لقالٍ ، ولكني قلته على التقية .
قال : « أما لئن قلت ذلك ، إن التقية تجوز في شرب الخمر » (2).
وقد فُسِّر هذا الحديث عند بعضهم بعدم جواز التقية في شرب الخمر، بتقريب : إنّ الاِمام عليه السلام لم يقتنع بعذر الكميت ، وأجابه : بأن باب التقية لو كان واسعاً بهذه السعة لجازت التقية حتى في شرب الخمر ! ومعنى هذا أنه لا تجوز التقية فيه (3).
ولكن في هذا التفسير تأمل ؛ لاَنّ اللام في قوله عليه السلام (لئن قلت هذا...) هي اللام الموطئة للقسم و (إن) شرطية ، وجواب الشرط محذوف يمكن تقديره بالاِباحة أي : والله لئن قلت ذلك فهو مباح لك أن تقول مثل هذا القول الباطل المحرّم كما أُبيح شرب الخمر تقية على عظمة حرمته .
____________
1) الخصال | الصدوق : 607 | 9 .
2) رجال الكشي 2 : 465 | 364 .
3) القواعد الفقهية | ناصر مكارم الشيرازي 3 : 417 .

( 84 )
وبهذا تكون جملة : (إن التقية تجوز في شرب الخمر) جملة ابتدائية لاصلة لها بجواب الشرط ، ويدل عليه عدم اقترانها بالرابط .
وأما لو وجد الرابط ، لكان جواب القسم الذي سدَّ مسد جواب الشرط هو (فأن التقية تجوز في شرب الخمر) وعندها سيكون المعنى على طبق التفسير المتقدم .
والحق : إنّ مسألة تحريم التقية في شرب الخمر وإن لم تثبت بهذه الرواية ، لاِمكان الخدش في دلالتها ، إلاّ أنّه يمكن الاستدلال بروايات أُخر على التحريم .
كرواية الصدوق في (الخصال) في حديث الاَربعمائة ، بسنده عن أمير المؤمنين عليه السلام ، قال : « ليس في شرب المسكر والمسح على الخفين تقية ».
ورواية (دعائم الاِسلام) عن الاِمام الصادق عليه السلام قال : « التقية ديني ودين آبائي إلاّ في ثلاث : في شرب المسكر ، والمسح على الخفين ، وترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم » .
وفي (فقه الاِمام الرضا عليه السلام ) ، عن العالم عليه السلام : « ولا تقية في شرب الخمر، ولا المسح على الخفين ، ولا تمسح على جوربك إلاّ من عدوّ أو ثلج تخاف على رجليك » .
وفي (الهداية) للصدوق : «ولا تقية في ثلاث أشياء : شرب المسكر ، والمسح على الخفين ، ومتعة الحج» (1)، والمعروف أن فتاوى الصدوق في سائر كتبه منتزعة من نصوص الاَخبار .
ومن كل ما تقدم يُعلَم عدم صحة تأويل زرارة المتقدم ؛ لعدم تقييد
____________
1) اُنظر هذه الموارد في جامع أحاديث الشيعة 2: 391 ـ 392| 22 ـ 25 باب 26 من أبواب الوضوء.

( 85 )
النهي في هذه الاَخبار بشخص المعصوم عليه السلام . هذا فيما إذا كان الاكراه على شرب الخمر بما دون القتل ، وأما مع القتل فلا شك في جوازه عندهم .
4 ـ ما دلَّ على جواز اظهار كلمة الكفر تقيةً :
وقد مرّ ما يدل عليها في الدليل القرآني ، وأما من الحديث فيدل عليه ما رواه مسعدة بن صدقة عن الاِمام الصادق عليه السلام في حديث طويل ذكر فيه قصة عمار بن ياسر وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمار : « ياعمار، إن عادوا فعد » (1).
5 ـ ما دلَّ على جواز التقية في الوضوء البدعي :
ويدل عليه ما أخرجه العياشي بسنده عن صفوان ، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام في غسل اليدين ، قال : (قلتُ له : يُردُّ الشعر ؟ فقال عليه السلام : « إن كان عنده آخر فعل وإلاّ فلا » ) (2).
والمراد بـ (الآخر) هو من يتقى شرّه ، وأما ردّ الشعر ، فهو كناية لطيفة عن الوضوء البدعي المنكوس ؛ لاَنّ ردّ الشعر من لوازمه .
أقول : لا يخفى على الفطن ما في هذا الحديث من دلالة واضحة على انشائه تقية فضلاً عن كونه في التقية ، إذ كان السائل فيه لبقاً وحذراً فجاء بالكناية المعبرة عن مراده ، كما كان الاِمام عليه السلام حذراً في جوابه إذ جاء تجويز الوضوء المنكوس تقية بلفظ متسق مع طبيعة السؤال من غير تصريح ، وهذا يكشف عن كون السؤال والجواب كانا في محضر من يتقى شرّه .
____________
1) اُصول الكافي 2 : 219 | 10 باب التقية ، وقد تضمن هذا المعنى الحديث رقم 15 و21 من الباب المذكور .
2) تفسير العياشي 1 : 300 | 54 .