المبحث الثالث

الاِجماع ودليل العقل

أولاً : الاِجماع :
يعتبر الاِجماع ـ في أصح أقوال المسلمين ـ أداة كاشفة عن وجود دليل متين وقويم كآية من كتاب الله عزَّ وجل أو حديث شريف ينطق بالحكم المجمع عليه ، وان اعتبره فريق منهم دليلاً قائماً بنفسه تماماً كالكتاب والسُنّة ، وهو بهذا المعنى يستحيل في حقّه الخطأ ويكون معصوماً كعصمة الكتاب والسُنّة المطهّرة ، وان من ردَّ عليه هو كمن ردّ قول الله عزَّوجل وسُنّة رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم .
ومع هذا فلم يختلف اثنان من المسلمين في أن أهم مصادر التشريع في الاِسلام هما : القرآن الكريم ، والسُنّة المطهّرة القطعية ، وانه لا يوجد مصدر تشريعي آخر يبلغ شأوهما في الحجية .
والحق ، ان ما تقدم من أدلة التقية يغني عمّا سواه ، خصوصاً مع اتفاق المفسرين والمحدثين على عدم وجود الناسخ لتلك الاَدلة ، مع انعدام الشك في ما دلت عليه من جواز التقية عند الخوف الشخصي أو النوعي ، ولهذا لم يناقش أحد منهم في ذلك ، وعليه سيكون الحديث عن الاجماع على مشروعية التقية حديثاً زائداً عند من لا يراه دليلاً مستقلاً وقائماً بنفسه .
ولهذا سنكتفي بقول من يراه دليلاً مستقلاً كالكتاب والسُنّة ، إذ سيكون ذلك أبلغ في دحض حجة كون التقية نفاقاً كما يزعم بعض أتباع القول باستقلالية الاِجماع الذي ادعاه غير واحد من علماء العامّة كما يفهم من
( 87 )
أقوالهم وإليك نموذجاً منها :
1 ـ قال أبو بكر الجصاص الحنفي (ت | 370 هـ) : (ومن امتنع من المباح كان قاتلاً نفسه متلفاً لها عند جميع أهل العلم) (1).
2 ـ ابن العربي المالكي (ت | 543 هـ) ذكر في كلامه عن حديث الرفع ـ كما مرّ ـ اتفاق العلماء على صحة معناه ، وانهم حملوا فروع الشريعة عليه وهذا يكشف عن اجماعهم على أن ما استُكرِه عليه الاِنسان فهو له ، وهذا هو معنى التقية (2).
3 ـ عبدالرحمن المقدسي الحنبلي (ت | 624 هـ) قال : (أجمع العلماء على إباحة الاَكل من الميتة للمضطر وكذلك سائر المحرمات التي لا تزيل العقل) (3) .
والاكراه داخل في المفهوم العام للضرورة كماسبق التأكيدعليه،كما أن الاضطرارإلىأكل الميتةكماقديكون بسبب المخمصة،فقديكون بسبب الاكراه من ظالم أيضاً .
4 ـ القرطبي المالكي (ت | 671 هـ) قال : (أجمع أهل العلم على أن من أُكرِه على الكفر حتى خشي على نفسه القتل انه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالايمان) (4).
5 ـ ابن كثير الشافعي (ت | 774 هـ) قال : (اتفق العلماء على أن المكره
____________
1) أحكام القرآن | الجصاص 1 : 127 .
2) أحكام القرآن | ابن العربي 3 : 1179 .
3) العدة في شرح العمدة | عبدالرحمن المقدسي : 464 ، نشر مكتبة الرياض الحديثة .
4) الجامع لاَحكام القرآن | القرطبي 10 : 180 .

( 88 )
على الكفر يجوز له ان يوالي أيضاً لمهجته ، ويجوز له أن يأبى) (1).
6 ـ ابن حجر العسقلاني الشافعي (ت | 852 هـ) قال : (قال ابن بطال ـ تبعاً لابن المنذر ـ : أجمعوا على أن من أُكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل فكفر وقلبه مطمئن بالايمان ، أنه لا يحكم عليه بالكفر) (2).
7 ـ الشوكاني (ت | 1250 هـ) قال : (أجمع أهل العلم على أن من أُكرِه على الكفر حتى خشي على نفسه القتل ، إنّه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالايمان ، ولا تبين منه زوجته ، ولا يحكم عليه بحكم الكفر) (3).
8 ـ جمال الدين القاسمي الشامي (ت | 1332 هـ) قال : (ومن هذه الآية : ( إلاَّ أنْ تَتَّقُوا مَنهُم تُقَاةً ) استنبط الاَئمة مشروعية التقية عند الخوف ، وقد نقل الاجماع على جوازها عند ذلك الاِمام مرتضى اليماني)(4).
ثانياً : الدليل العقلي :
وأما عن الدليل العقلي ، فالواقع إنّه لم يكن للعقل البشري صلاحية الاستقلال بالحكم عند جميع المسلمين بما في ذلك المعتزلة ؛ إذ لم يثبت عنهم اعتبار العقل حاكماً في المقام وتقديمه على حكم الشرع(5)،
____________
1) تفسير القرآن العظيم | ابن كثير 2 : 609 .
2) فتح الباري | ابن حجر العسقلاني 12 : 264 .
3) فتح القدير | الشوكاني 3 : 197 .
4) محاسن التأويل | القاسمي 4 : 197 . واُنظر هذه الاَقوال وغيرها من الاَقوال الاُخر المصرحة باجماع علماء العامّة على مشروعية التقية في كتاب واقع التقية | السيد ثامر هاشم العميدي : 93 ـ 96 ، ط1 ، نشر مركز الغدير للدراسات الاِسلامية ، 1416 هـ .
5) راجع مباحث الحكم عند الاصوليين | محمد سلام مدكور 1 : 162 . فقد نقل عن كتاب مسلّم الثبوت قوله : (في كتب بعض المشايخ : إنّ المعتزلة يرون ان الحاكم هو العقل) ثم نقل في ردّه عن

=


( 89 )
والصحيح من الاَقوال : إنّه الطريق الموصل إلى العلم القطعي ، والسبيل إلى معرفة حجية القرآن ودلائل الاَخبار (1).
فالعقول وإن كان لها قابلية الادراك ، إلاّ أن ادراكها يتناول الكليات ولايتعدى إلى الجزيئات والفروع التي تحتاج إلى نص خاص بها ، وهذا لا يمنع من أن يدرك العقل السليم خصائص كثيرة في تفسير النصوص بشرط أن لا يكون خاضعاً لتأثيرات اُخرى تصده عن الوصول إلى الواقع ، كما لو ناقش في الاَوليّات والبديهيات ولم يفرق بين قبح الظلم وحسن العدل مثلاً .
كما لا يمنع أيضاً من أن يستقل ببعض الاَحكام ، إذ لو عُزل العقل عن الحكم لهدم أساس الشريعة ، غير أنّه لا يتعرض للتفاصيل والاشياء الخارجية ولا يتخذ منها موضوعات لاحكامه ، وإنما يحكم بأمور كلية عامّة كما مرّ .
فهو مثلاً لا يحكم بوجوب الصوم والصلاة ، وإنّما يحكم باطاعة الشارع المقدس وامتثال أوامره التي منها الاَمر بالصوم والصلاة .
وهو لا يتعرض للبيع والاِجارة والزواج والطلاق ، بل يقرّ كل ما يصلح الجميع ويحفظ النظام العام .
وهو لا يحلل هذا أو يحرم ذاك ، وإنّما يحكم بقبح العقاب بلا بيان ، وبوجوب دفع الضرر عن النفس ، وبحرمة ادخاله على الغير .
فالعقل له القدرة في أن يحكم بهذه الكليات العامة وما إليها حكماً
____________

=

محيط الزركشي قوله : (إنّ المعتزلة لا ينكرون ان الله هو الشارع للاَحكام والموجب لها ، والعقل عندهم طريق إلى العلم بالحكم الشرعي) .
1) التذكرة باُصول الفقه | الشيخ المفيد : 28 ، مطبوع ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد في المجلد التاسع ، ط2 ، دار المفيد ، بيروت | 1414 هـ . وقد نقله عنه الكراجكي في كنز الفوائد 2 : 15 ، دار الاَضواء ، بيروت | 1405 هـ ، إذ أورد فيه مختصر التذكرة باُصول الفقه للشيخ المفيد .

( 90 )
مستقلاً ، حتى وإن لم يرد فيها نص شرعي ، ونحن نكتشفها ونطبقها على مواردها دون أيّة واسطة . وأما ما جاء في لسان الشارع من الاَحكام في الموارد التي استقل العقل بها فمحمول على الارشاد والتأكيد لحكم العقل، لا على التأسيس والتجديد ، ومن هذه الموارد :
1 ـ حكم العقل بالاحتياط : كما لو كان لديك اناءان : أحدهما طاهر ، والآخر نجس ، ولم تستطع التمييز بينهما ، أو تيقنت أنه قد فاتك فرض العشاء أو المغرب ولم تميز أحدهما . ففي مثل هذا الحال يحكم العقل بوجوب الاحتياط باجتناب الانائين في المثال الاَول ، وباداء الصلاتين في المثال الثاني . ولهذا اشتهر عن الفقهاء قولهم : (العلم باشتغال الذمة يستدعي العلم بفراغها) .
2 ـ حكم العقل البراءة : كما لو كانت هناك قضية لدى الفقيه لا يعرف حكمها هل هو الفعل أو الترك ؟ بعد أن استفرغ ما في وسعه للبحث عنها في جميع أدلة الاحكام، ومع هذا لم يجد شيئاً في خصوص تلك القضية .
فهنا يلجأ الفقيه إلى العقل الذي يحكم في مثل هذه الحالة التي لم يصل بها بيان من الشارع بقبح العقاب بلا بيان ، وبناء على هذه القاعدة العقلية يحكم الفقيه بجواز الاَمرين : الفعل والترك .
ومن هنا يتضح أن الفرق بين الاحتياط والبراءة العقليين ، هو أن مورد الاحتياط هو الشك في المكلف به بعد العلم بوجود التكليف ، ومورد البراءة هو الشك في أصل وجود التكليف .
3 ـ حكم العقل بدفع الضرر : قسّم الفقهاء الضرر على قسمين ، وهما : الضرر الدنيوي كالمتعلق بالنفس والعرض والمال ، والضرر الاخروي كالعقاب على مخالفة الشارع .
( 91 )
والواقع ، إنّ وجوب دفع الضرر لا ينكره إلاّ الجاهل الغبي ، لاَنّه من أحكام الفطرة التي فُطرت عليها النفوس ، ومن ينكر ذلك فهو أقل رتبة من الحيوانات التي تعرف ذلك بفطرتها ، ألا ترى أنها تنفر من الضرر وتسعى الى النفع بفطرتها دون توسط حكم العقل بالحسن والقبح ؟
إنّ هذه القاعدة قاعدة التحسين والتقبيح العقليين اعتنى بها المتكلمون كثيراً ، وأما علماء الاصول فهم وان لم يخصصوا لها باباً مستقلاً ، إلاّ أنهم تكلموا عنها استطراداً في مباحث الظن والاحتياط والبراءة ، وتتلخص أقوالهم بأن الضرر إما أن يكون دنيوياً ، أو أخروياً ، وكل منهما إمّا أن يكون معلوم الوقوع أو مظنوناً أو محتملاً .
أما الضرر المعلوم ، فان العقل يحكم بوجوب دفعه مهما كان نوعه .
وأما المظنون والمحتمل ، فإنّ كان اخروياً ، وكان ناشئاً عن العلم بوجود التكليف والشك في المكلَّف به ، فهو واجب الدفع ؛ لاَنّه يعود إلى وجوب الاِطاعة فيدخل في باب الاحتياط .
وان كان الخوف من الضررالاخروي ناشئاً من الشك في أصل وجود التكليف ، فالعقل لا يحكم بوجوب الدفع ؛ لوجود المؤمِّن العقلي وهو قاعدة ( قبح العقاب بلا بيان) أي : إنّ عدم البيان أمان من العقاب ، كما في قوله تعالى : (وَمَا كُنّا مُعَذِّبينَ حتّى نبعَث رسولاً)(1)زيادةعلىحديث الرفع المشهوركما تقدم ، وحديث السّعة في الكافي عن أمير المؤمنين عليه السلام ، أنّه قال : ..هم في سعة حتى يعلموا(2)وقول الاِمام الصادق عليه السلام :
____________
1) سورة الاِسراء : 17 | 15 .
2) فروع الكافي 6 : 297 | 2 باب 48 من كتاب الاَطعمة .

( 92 )
«كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (1)، وقوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نص » (2)، وهذا يعني دخوله في باب البراءة .
أما الضرر الدنيوي المظنون والمحتمل ، فإنّ العقل يحكم بوجوب دفعه ولا فرق بينه وبين الضرر المعلوم من هذه الجهة ؛ لاَنّ الاِقدام على مالا يؤمَّن معه الضرر قبيح عقلاً . فأي منا مثلاً إذا تردد عنده سائل موجود في اناء بين كونه سماً أو ماءً ولا يحكم عقله بوجوب اجتناب ذلك السائل ؟
والخلاصة : إنّ الضرر الدنيوي يحكم العقل بوجوب الابتعاد عنه معلوماً كان أو مظنوناً أو محتملاً (3).
وواضح أنّ الاستدلال بالعقل على مشروعية التقية ، إنّما هو من جهة حرص العاقل على حفظ نفسه من التلف ، بل ومن كل ما يهدد كيانه بالخطر ، أو يعرّض شرفه إلى الانتهاك ، أو أمواله إلى الضياع .
والتقية ما هي إلاّ وسيلةٌ وقائيةٌ لحفظ هذه الامور وصيانتها عندما يستوجب الاَمر ذلك ، على أن لا يؤدي استخدامها إلى فسادٍ في الدين أو المجتمع كما لو أبيحت في الدماء مثلاً .
____________
1) من لا يحضره الفقيه 1 : 208 | 937 باب 45 .
2) عوالي الآلي 2 : 44 | 111 .
3) راجع في ذلك مقالات الشيخ محمد جواد مغنية : 250 ـ 253 ، ط2، دار ومكتبة الهلال ، بيروت | 1993 م .

( 93 )

الفصل الثالث

أقسام التقية وأهميتها والفرق بينها وبين النفاق

المبحث الاَول
أقسام التقية

للتقية أقسام متعددة باعتبارات وحيثيات مختلفة ؛ ولهذا سوف نتناول تلك الاَقسام بثلاثة اعتبارات ، وهي :
أولاً : باعتبار الحكم .
ثانياً : باعتبار الاَركان .
ثالثاً : باعتبار الاَهداف والغايات .
وجدير بالذكر هو ما اعتاده الفقهاء في بحث التقية ـ بلحاظ حكمها ـ من تناولهم لها تارة : باعتبار حكمها التكليفي ، واخرى باعتبار حكمها الوضعي ، ونظراً لتعلق الاَول منهما بأقسام التقية دون الثاني المختص ببيان ما يترتب عليه من الصحة والبطلان ، لذا سيكون الحديث عن تلك الاَقسام ـ باعتبار الحكم ـ تحت عنوان :
( 94 )
أولاً : أقسام التقية باعتبار حكمها التكليفي :
تقسم التقية ـ بهذا الاعتبار ـ على خمسة أقسام ، وهي :
القسم الاَول : التقية الواجبة :
وهي ما كانت لدفع ضرر واجب فعلاً ، متوجه إلى نفس المتقي ، أو عرضه ، أو ماله ، أو إخوانه المؤمنين ، بحيث يكون الضرر جسيماً ، ودفعه بالتقية ـ التي لا تؤدي إلى فساد في الدين أو المجتمع ـ ممكناً ، وإنّه لا يمكن دفع ذلك الضرر إلاّ بالتقية .
ومن أمثلة ذلك إفطار الصائم في اليوم الاَخير من شهر رمضان إذا ما أُعلِن أنه عيدٌ من قبل قضاة الحاكم الجائر استناداً إلى شهادة من لا تقبل شهادته مع عدم ثبوت رؤية هلال شوال ، وبشرط أن يكون الصائم تحت نظر الظالم أو رعيته ، وأنّه يعلم أو يظن بأنه إذا ما استمر بصيامه لحقه ضرر لا يطاق عادة . فهنا يجب عليه الافطار تقية على أن يقضي ذلك اليوم مستقبلاً ، ومثل ذلك افطاره تقية في يوم شكٍ وهو عالم بأنّه من شهر رمضان . وقد حصل هذا فعلاً للاِمام الصادق عليه السلام مع أبي العباس السفاح أول ملوك بني العباس (1).
ومنه أيضاً التظاهر أمام الظالم عند سؤاله إياه عن شخص مؤمن يريد قتله ، بمظهر من لا يعرفه وإن كان صديقه ، حتى وان تطلب الاَمر أن يحلف بالله على عدم معرفته شخص ذلك المؤمن ، وجب عليه الحلف تقية لاَجل انقاذ أخيه المؤمن من القتل . وقد مرَّ ما يدل عليه في أحاديث
____________
1) فروع الكافي 4 : 82 ـ 83 | 7 و9 باب 9 من كتاب الصيام . وتهذيب الاَحكام 4 : 317 | 965 باب الزيادات من كتاب الصيام .

( 95 )
أهل البيت عليهم السلام .
القسم الثاني : التقية المستحبة :
وهي ما كان تركها مفضياً إلى الضرر تدريجياً ، ويكون استعمالها موجباً للتحرز من الضرر ولو مستقبلاً .
ومن أمثلتها ما مرّ من أحاديث المداراة والمعاشرة ، ومخالقة الناس بأخلاقهم ومخالفتهم بأعمالهم ؛ بحيث يؤدي ترك ذلك إلى المباينة المؤدية إلى العداوة التي تترتب عليها الاَضرار لاحقاً ، ولا يمكنه الانتقال بعيداً عنهم ، ولا مقاومتهم .
القسم الثالث : التقية المباحة :
وهي ما كان فيها التحرز من الضرر مساوياً لعدم التحرز منه في نظر الشارع المقدس ؛ لكون المصلحة المترتبة على استخدام التقية أو تركها متساويتين كما في إظهار كلمة الكفر إذا كان الاِكراه عليه بالقتل ، فإن في فعل التقية ـ هنا ـ مصلحة وهي النجاة من القتل ، وفي تركها مصلحة أيضاً وهي إعلاء كلمة الاِسلام .
ولا يخفى أن هذا يكون في حالة كون المتقي ليس قدوة للمسلمين ، وأما القدوة فعليه أن يوطن نفسه للقتل كما فعل حجر بن عدي ، ورشيد الهجري ، وميثم التمار رضوان الله تعالى عليهم ؛ لاَنّ ما يباح لعامّة الناس لا يباح ـ في مثل هذا الحال ـ لقدوتهم ، وسيأتي بعض التوضيح لهذا في قسم التقية المحرمة أيضاً ، مع التأكيد هنا على أن القدوة الذي يعلم بأن المصلحة المترتبة على بقائه لخدمة الاِسلام أعلى من مصلحة إعلاء كلمته عند الامتناع عن التقية ، فله أن يتقي لتفاوت المصلحتين ، والظاهر
( 96 )
أن ما فعله عمار بن ياسر وأصحابه من هذا القبيل ؛ لحاجة الاِسلام العزيز في ذلك الظرف إلى المؤمنين أكثر من أي شيء آخر .
والخلاصة : إنّ مسألة جواز التلفظ بكلمة الكفر والقلب مطمئن بالايمان يلاحظ فيها جملة من الامور ، وتكون بحسب الازمان والاشخاص والظروف ، ولا يمكن حملها على الجميع مطلقاً وبلا قيد وإن كان فيهم من فيهم .
ويؤيد هذا بعض المواقف البطولية التي سجلها التاريخ بأحرف من نور، نظير امتناع الصفوة من استخدام التقية في سب أمير المؤمنين عليه السلام بعد أن أكرههم الباغي اللقيط عليها ، وقدموا أنفسهم قرابين من أجل إعلاء كلمة الحق .
القسم الرابع : التقية المحرمة :
وهي ماترتب على تركها مصلحة عظيمة، وعلى فعلها مفسدة جسيمة.
والواقع أنّ هذا القسم يُعدُّ من أهمّ أقسام التقية بلحاظ حكمها ؛ لما فيه من خطورة ، زيادة على تشويه مفهوم التقية بهذا القسم من لدن بعض الجهلاء والمتعصبين ، وذلك بتعميمه على سائر موارد الاَقسام الاُخرى ، ولعل بعضهم يخفف من غلوائه فيزعم صحتها في غير موارد حرمتها إلاّ أنه يفتري على الشيعة الاِمامية ، فيزعم أنهم يجوزون التقية في كلِّ شيء حتى في ارتكاب الجرائم والموبقات كما نجده صريحاً في الموسوعة الميسرة في الاَديان والمذاهب المعاصرة (1)متناسين بذلك ما أباحه
____________
1) راجع: الموسوعة الميسرة في الاَديان والمذاهب المعاصرة: 302، الندوة العالمية للشباب الاِسلامي ، ط2 ، السعودية | 1409 هـ .

( 97 )
اعلامهم من ارتكاب أبشع الموبقات تحت ستار التقية ، كسفك الدماء وهتك الاعراض وما جرى مجراهما ، كما سيوافيك في الفصل الاَخير من فصول هذا البحث . هذا في الوقت الذي صرّح فيه فقهاء وعلماء الشيعة الاِمامية بحرمة التقية في كثير من الموارد ، ومن جملتها ما ألصقته بها زوراً الموسوعة المذكورة ، ولهذا سوف نبين بعض تلك الموارد مع اعطاء قاعدة كلية لمعرفة ما هو محرم من التقية عند الشيعة الاِمامية ، كالآتي :
من موارد التقية المحرمة عند الشيعة الاِمامية :
1 ـ التقية في الدماء .
إنّ قتل المؤمن في مورد لا يستحق فيه القتل حرام بلا كلام ، والتقية في ذلك باطلة وعلى المتقي القصاص ؛ لاَنّ المؤمنين تتكافأ دماؤهم ، ووجوب حفظ دم أحدهم لا يوجب جعل دم الآخر منهم هدراً ؛ إذ سيؤدي ذلك إلى نقض الغرض الذي شرّعت التقية لاَجله ، وهو حقن دماء المؤمنين وصيانة أنفسهم ، وقد مرّ ما يدل على ذلك في أحاديث أهل البيت عليهم السلام .
2 ـ التقية في الافتاء .
يحرم افتاء المجتهد بحرمة ما ليس بحرام بذريعة التقية ، خصوصاً إذا كان ذلك المجتهد ممن يتبعه عموم الناس ، وإنّه لا يستطيع الرجوع عن فتياه طيلة حياته ، بحيث تبقى فتياه محل ابتلاء العموم ومورد عملهم . فهنا يجب الفرار من التقية بأي وجه ، حتى ولو أدّى تركها إلى قتله .
هذا ، وقد يُشتَبَه بما صدر عن أهل البيت عليهم السلام ما هو بخلاف الحكم الواقعي عند ضغط التقية ، فيُدَّعى أن فقهاء الشيعة تجوّز الافتاء المخالف
( 98 )
للحق تقية ! وليس الاَمر كذلك ؛ لاَنّ أهل البيت عليهم السلام كانوا حريصين جداً على بيان الحكم الواقعي لاصحابهم ، وتفهيم شيعتهم ومن يطمئنون إليه من عامة المسلمين بحقيقة الاَمر وواقعه ، وإنما اقتصروا في اصدار ما هو بخلاف الحكم الواقعي على حالات معينة كانت فيها عيون السلطة تتربص بهم عليهم السلام وبشيعتهم الدوائر ، ولنأخذ مثالين على ذلك ، وقس عليهما ما سواهما ، وهما :
المثال الاَول : الافتاء بحلية ما قتل البازي والصقر .
عن أبان بن تغلب ، قال : سمعتُ أبا عبدالله عليه السلام يقول : « كان أبي عليه السلام يفتي في زمن بني أُمية أن ما قتل البازي والصقر فهو حلال ، وكان يتقيهم ، وأنا لا أتقيهم ، وهو حرام ما قتل » (1).
ونظير هذا الحديث ما رواه الحلبي ، عن الاِمام الصادق عليه السلام : أنّه قال : «كان أبي عليه السلام يفتي ، وكان يتقي ، ونحن نخاف في صيد البزاة والصقور ، وأما الآن فانّا لا نخاف ولا نحل صيدها إلاّ أن ندرك ذكاته ، فإنّه في كتاب علي عليه السلام : إنّ الله عزَّ وجلّ يقول : ( وَمَا عَلَّمتُم مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبينَ ) ، في الكلاب » (2) ، أي : في كلاب الصيد لا في البزاة ولا في الصقور .
وإذا علمنا أن الاِمام الباقر عليه السلام عاش في فترة حكم أولاد عبدالملك بن مروان وهم : الوليد بن عبدالملك (ت | 96 هـ) ، وسليمان بن عبدالملك
____________
1) فروع الكافي 6 : 208 | 8 كتاب الصيد باب صيد البزاة والصقور . ومن لا يحضره الفقيه 3 : 204 | 932 . وتهذيب الاَحكام 9 : 32 | 129 . والاستبصار 4 : 72 | 265 .
2) فروع الكافي 6 : 207 | 1 من الباب السابق . وتهذيب الاَحكام 9 : 22 | 130 . والاستبصار 4 : 72 | 266 .

( 99 )
(ت | 99 هـ) ويزيد بن عبدالملك (ت 105 هـ) ، وأدرك تسع سنين من حكم طاغيتهم هشام بن عبدالملك (ت | 125 هـ) ، اتضح لنا سرّ تلك الفتيا ، ومع هذا ، فقد أظهر الاِمام الباقر عليه السلام لشيعته ومواليه وجه الحق في تلك المسألة ، لكي لا يشتبه عليهم الحكم كما رواه عنه عليه السلام خلّص أصحابه كزرارة ونظرائه (1).
وجدير بالذكر ، هو أن المذاهب الاَربعة المالكية ، والحنفية ، والشافعية ، والحنبلية وان لم تكن موجودة أصلاً في حياة الاِمام الباقر عليه السلام إلاّ أن اتفاق أئمتهم : أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل على حلية ما قتل البازي والصقر (2)يعدُّ بحقيقته وواقعه انعكاساً لتلك الفترةالتي عاشها الاِمام الباقر وآباؤه عليهم السلام ، إذ استمدت تلك الفتوى ـ المجمع عليها عندهم ـ مقوماتها من روايات ذلك العهد الذي حاول فيه الطغاةاقصاء أهل البيت عليهم السلام وتحجيم دورهم .
ومن هنا كانا لاستدلال بفقه تلك المذاهب معبراً عن شيوع حليّة ما قتل البازي والصقر في عهد الاِمام الباقر عليه السلام ، خصوصاً وقد نسب بعض متأخري أعلامهم حليّة ذلك إلى ابن عباس ، وطاووس ، ويحيى بن كثير،
____________
1) راجع : ما روي عن الاِمام الباقر عليه السلام في حرمة ما قتل البازي والصقر في قرب الاسناد | الحميري : 51 . وفروع الكافي 6 : 407 | 4 من الباب السابق . وتهذيب الاَحكام 9 : 31 | 121 . والاستبصار 4 : 71 | 257 . وتفسير العياشي 1 : 295 | 29 . ووسائل الشيعة 23 : 354 ـ 355 | 29332 و29733 باب 10 من أبواب كتاب الصيد .
2) اُنظر : اتفاقهم على تلك الفتيا في المدونة الكبرى | مالك بن أنس 5 : 50 ـ 51 ، كتاب الشركة ، باب الرجلين يشتركان في السمك أو الطير في نصب الشرك وصيد البزاة والكلاب . وكتاب الام | الشافعي 2 : 227 باب صيد كل ما صيد به من وحش أو طير . والمبسوط| السرخسي الحنفي 11 : 223 . والمغني | ابن قدامة الحنبلي 11 : 11 ـ 12 | المسألتان : 7708 و7710 .

( 100 )
والحسن البصري ، وغيرهم ، مع ادعاء اجماع الصحابة على ذلك (1).
إذن لا معنى لوقوف الاِمام الباقر عليه السلام بوجه السلطة واعلان أن الصحابة العدول بزعمهم كانوا يأكلون الميتة من غير ضرورة ، زيادة على الطعن بفقهاء السلاطين ، إلاّ التهلكة المحققة ، وفي أقل تقدير سيكون افتاء الخصم بواقع الاَمر هواءً في شبك لا يغيّر ما اعتادوه شيئاً ، والدليل عليه هو ان فقه أهل البيت عليهم السلام كان ولا زال موجوداً ميسّراً لمن أراده ، ولكن مخالفته بالقياس ونظائره لم تزل قائمة إلى اليوم .
هذا ، وأما عن تصريح الاِمام الصادق عليه السلام بواقع الحال وعدم خشيته في تلك الفتيا ، إنّما يؤول إلى كونه عليه السلام عاش في ظل فترتين سياسيتين وجد فيهما متسعاً ومجالاً نسبياً للانطلاق في أرحب الميادين العلمية ، وهما فترة تداعي الدولة الاموية ، ثم تلاشيها على أيدي بني العباس ، وفترة انشغال الدولة الجديدة بتثبيت أقدامها ، ولكن لم تلبث تلك الدولة بعد توطيد أركانها أن حملت إمام الحق على التقية كما يُعلم من قواعد الترجيح بين الاَخبار المتعارضة التي بيّنها الاِمام الصادق عليه السلام نفسه .
المثال الثاني : وهو ما حصل في قصة علي بن يقطين في مسألة تجويز الاِمام الكاظم عليه السلام له في مسألة الوضوء البدعي الذي ما أنزل الله به من سلطان إذ كان يخشى عليه من طاغية زمانه هارون ، ثم تنبيهه عليه السلام لعلي بن يقطين بالعودة إلى سنة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في الوضوء بعد زوال الخطر عليه(2).
____________
1) المبسوط | السرخسي 11 : 223 .
2) كما في الارشاد | الشيخ المفيد 2 : 227 ـ 229 . والخرائج والجرائح | الراوندي 1 : 335 | 26 . ومناقب ابن شهر آشوب 4 : 288 . وأعلام الورى | الطبرسي : 293 .