المبحث الثالث
الفَرقُ بين التقية والنفاق

حينما نقول : إنّ في التقية عز المؤمن ، فلا شك أن في النفاق ذل المنافق ، وحينما نقول : إنّ في التقية المداراتية يلمُّ شمل المسلمين وتأتلف قلوبهم ، فلا شكّ أن في النفاق فرقتهم وشرذمتهم وزرع العداوة والبغضاء في ما بينهم .
وهكذا حينما نرجع إلى فوائد التقية ، نعلم جيداً ، أن كل فائدة من فوائدها يشكّل نقيضها صفة للنفاق ، وحينئذ تُعلم الفروق الشاسعة بينهما، لوضوح أن النفاق ـ مع خلّوّه عن كل فائدة ـ يُعد من أخس الصفات وأسوءها ، ويكفي أن أعلن الشارع المقدس عن مصير المنافقين وشدد النكير عليهم بقوله الكريم : ( إنّ المنافقينَ في الدَّركِ الاَسفل مِنَ النّارِ وَلَن تَجِد لَهُم نصِيراً ) (1). بينما جاء وصف من استخدم التقية في موردها كما مرّ في أدلتها بأنه من المؤمنين .
ومع وضوح هذا الاَمر ؛ إلاّ أنّا سنبين باختصار بعض الفروق بين التقية والنفاق ، إذ ربما لا يستهدي البعض إليها من خلال مراجعة فوائد التقية وتصور نقائضها في النفاق ، لا سيّما مع وجود من لم يفرّق بينهما كما يظهر من بعض البحوث والكتابات المعاصرة ، ومن بين هذه الفروق ما يأتي :
الفرق الاَول : التقية ثبات القلب على الاِيمان وإظهار خلافه باللسان
____________
1) سورة النساء : 4 | 145 .

( 123 )
فقط ، لضرورة مقبولة شرعاً وعقلاً . والنفاق عكس ذلك تماماً فهو ثبات القلب على الباطل واظهار الحق على اللسان فقط ، بحيث لا يتعدى فعل المنافق إلى فعل المؤمن ، واين هذا من ذاك ؟
الفرق الثاني : التقية لا تكون من غير ضرورة أو مصلحة معتد بها شرعاً، وأما النفاق فهو خالٍ من كلِّ ذلك تماماً ، فهو مرض في قلوب المنافقين الذين يحسبون كل صيحة عليهم ، فكيف يستويان ؟ ومن هذا النفاق الدخول على سلاطين الجور والامراء الفسقة واطرائهم بما ليس فيهم وتزكيتهم من دون أدنى ضرورة وبلا اكراه وإنّما لاَجل التزلف إليهم ثم ذمهم عند الخروج منهم كما كان يفعله عريف الهمداني، وعروة بن الزبير، وناس من التابعين ؛ مما حمل بعض الصحابة على تنبيههم على هذا النفاق (1).
الفرق الثالث : اعتنى القرآن الكريم ببيان رفع الحرج والعسر والشدة والضرر ، وكذلك السُنّة النبوية ، زيادة على طرح الفقهاء لجملة من القواعد الفقهية المبيّنة لذلك، وكل هذا يدخل في دائرة التقية وبيان حكمها الشرعي ، وفي المقابل جاء التحذير الشديد بشأن النفاق وبيان مساوئه ، ولم يعد القرآن الكريم مَن اتّقى إلاّ بكلِّ خير ، بينما وعد المنافقين بكل عذاب مهين .
الفرق الرابع : جواز التقية ثابت بنص القرآن الكريم ، وحرمة النفاق ثابتة بعشرات النصوص القرآنية ، ولو جاز القول بأن التقية نفاق ، فلم يبق
____________
1) اُنظر : صحيح البخاري 9 : 89 ، باب ما يُكرَه من ثناء السلطان ، وإذا خرج قال غير ذلك ، من كتاب الاَحكام . والسنن الكبرى | البيهقي 8 : 164 و 165 . والسنن الواردة في الفتن | أبو عمرو الداني 1 ـ 2 : 408 ـ 409 | 149 . وفتح الباري 3 : 170 .

( 124 )
إلاّ القول بأنّ الشريعة الاِسلامية أحلّت للمسلمين النفاق ثم نُسخ هذا الحكم بالحرمة ، وهو كما ترى قول مضحك لا يقوله إلاّ السفيه الاَحمق .
الفرق الخامس : التقية فضيلة ـ كما مرّ ـ والنفاق رذيلة بلا شكٍّ ، فكيف يجوز حمل أحدهما على الآخر .
الفرق السادس : قولهم بنظرية عدالة الصحابة يثبّت الفرق بين التقية والنفاق بأوضح وجه ؛ لثبوت عمل الصحابة بالتقية كما سنبرهن عليه في الفصل الرابع ، ومعنى قولهم أنّ التقية نفاق يعني أن عدول الصحابة منافقون . وهذا مالا يرتضيه المنافقون أنفسهم .
ونكتفي بهذه الفروق لنبيّن باختصار الاَسباب المؤدية إلى هذا القول الساذج البعيد كل البعد عن العلمية والموضوعية .
أسباب القول بأنّ التقية من النفاق :
هناك جملة من الاَسباب الداعية إلى هذا القول (المعاصر) على الرغم مما يترتب عليه من آثار سلبية خطيرة تحدد مقدار ما يمتلكه أصحابه من الثقافة الاِسلامية ، مع مدى موضوعيتهم ، وقيمة مزاعمهم ، فضلاً عن درجة صلتهم برسالة الاِسلام ؛ لما مرّ من أن التقية من المفاهيم الاِسلامية الثابتة ثبوت أي مفهوم اسلامي آخر متفق عليه ، وأنّها ضرورة شرعية لايختلف ثبوتها عن ثبوت أيّة ضرورة شرعية أُخرى ، زيادة على كونها ضرورة عقلية أيضاً ، وأبعد من ذلك أنّها من الغرائز الفطرية التي يشترك بها الاِنسان والحيوان معاً ، ومن هنا كان السعي إلى النفع واتقاء الخطر مُشاهداً حتى عند الحيوانات التي ليس من شأنها أن تفقه دليلاً شرعياً كان أو عقلياً .
( 125 )
وهذا يدل على أنّ انكار التقية ووصفها بالنفاق ، إنّما هو انكار للفطرة ، فضلاً عن كونه انكاراً لضرورة شرعية وعقلية .
وعليه لابدّ من التوفر على أسباب هذا القول الساذج المتطرف ، فنعرضها كالآتي :
السبب الاَول : الجهل بمعنى التقية ، وعدم القدرة الكافية على التفريق بينها وبين النفاق لشبهة اشتراكهما بصفة إظهار الاِنسان لشيءٍ هو على خلاف ما يُبطن .
السبب الثاني : حسن ظن الخلف بما قاله المتعصب (1)أو الشاذ من السلف (2). مع تقليدهم تقليداً أعمى من غير روية ولا تحقيق أو تدقيق (3)!
____________
1) كالفخر الرازي في كتابه : محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين : 365 ، ط1 ، دار الكتاب العربي ، بيروت | 1404 هـ . والشهرستاني في الملل والنحل 1 : 159 ـ 160 ، ط3 ، مطبعة أمير ، قم | 1409 هـ ، فقد ذكرا أنّ التقية من وضع الرافضة !
وهو كما ترى لا يليق بشأنهما بأي وجه من الوجوه .
2) كمؤسس الفرقة الوهابية محمد عبدالوهاب في رسالته (في الرد على الرافضة) : 20 ، تحقيق الدكتور ناصر بن سعيد ، نشر دار طيبة ، الرياض (بدون تاريخ) .
3) اُنظر على سبيل المثال لا الحصر ما في الكتب الآتية بشأن التقية من تقليد أعمى أو كذب وافتراء :
1 ـ بطلان عقائد الشيعة | محمد عبدالستار التونسوي : 52 و 72 و 73 و 78 و 79 ، دار العلوم ، القاهرة | 1983 م ، نشر المكتبة الامدادية بمكة المكرمة .
2 ـ تبديد الظلام | إبراهيم سليمان الجبهان : 483 ، ط3 ، السعودية | 1408 هـ .
3 ـ التشيع بين مفهوم الاَئمة والمفهوم الفارسي | الدكتور محمد البنداري : 235 ، دار عمان ، الاَردن | 1408 هـ .
4 ـ الثورة الاِيرانية في ميزان الاِسلام | محمد منظور نعماني الهندي ، ترجمة الدكتور محمد البنداري : 122 و 180 و 182 ـ 187 و 222 ، ط1 ، دار عمان ، الاَردن | 1408 هـ .
5 ـ الخطوط العريضة | محب الدين الخطيب : 9 و 10 ، ط9 ، جدّة ، السعودية | 1380 هـ .

=


( 126 )
السبب الثالث : التمسك بالقسم المحرّم من التقية ، لعدم معرفة أقسامها الاُخر من الوجوب ، والاِباحة ، والاستحباب ، والكراهة ، كما بيّناه في أقسامها .
السبب الرابع : نصرة الآراء الموروثة والتعصب لها ، وعدم تحقيق الاُمور على وجوهها ، مع تعميم هذا الاتجاه السلبي بين البسطاء من الناس ؛ لكي يتمرنوا تدريجياً على قبوله واعتقاد صحته ، ورفض ما خالفه مهما كانت أدلته .
السبب الخامس : الخوف الحقيقي من التقريب بين المذاهب
____________

=

6 ـ دراسات في عقائد الشيعة | الدكتور عبدالله محمد الغريب : 17 ، ط1 ، مطبعة طيبة ، الرياض | 1402 هـ .
7 ـ دراسات في الفرق والعقائد | الدكتور عرفان عبدالحميد : 53 ، ط1 ، مطبعة سعد ، بغداد | 1977 م.
8 ـ رجال الشيعة في الميزان | عبدالرحمن الزرعي : 6 و 17 ـ 18 و 50 ـ 51 و 126 و 148 و 173 ، ط1 ، دار الاَرقم ، الكويت | 1403 هـ .
9 ـ سراب في ايران | الدكتور أحمد الافغاني : 25 ـ 27 ، ط2 ، عمّان | 1415 هـ .
10 ـ الشيعة الاثني عشرية في دائرة الضوء | الدكتور عبدالمنعم البري : 260 ومابعدها ، ط1 ، دار السلام ، القاهرة | 1410 هـ .
11 ـ الشيعة في التصور الاِسلامي | علي عمر فريج : 150 ـ 152 و 154 و 165 و 183 ، دار عمار ، الاَردن | 1405 هـ .
12 ـ الشيعة معتقداً ومذهباً | الدكتور صابر عبدالرحمن طعيمة : 5 و88 و118 ، ط1 ، المكتبة الثقافية ، بيروت | 1408 هـ .
13 ـ الشيعة وتحريف القرآن | محمد مال الله : 35 و 36 ، ط2 ، شركة الشرق الاَوسط للطباعة ، عمّان ، الاَردن | 1405 هـ .
14 ـ الشيعة والتشيع | إحسان الهي ظهير : 79 و 84 ، ط4 ، لاهور ، باكستان | 1405 هـ .
15 ـ الصراع بين الاِسلام والوثنية | عبدالله علي القصيمي : 458 و459 (المعلومات الاُخرى لم تذكر).
16 ـ الوشيعة في نقد عقائد الشيعة | موسى جار الله : 104 ، ط1 ، مطبعة الشرق ، مصر | 1355 هـ .

( 127 )
الاِسلامية ، والعمل بكلِّ وسيلة للاطاحة بكلِّ المساعي الشريفة الرامية إلى جمع كلمة المسلمين ؛ لاَنّ في وحدة المسلمين القضاء المحتم على تلك الشرذمة التي عرفت بشذوذها اصولاً وفروعاً .
السبب السادس : اشاعة الكذب المحض على الشيعة الاِمامية بهدف التشنيع عليهم ولو بالكذب على جميع المسلمين كزعمهم أن التقية من النفاق ، أو كقولهم عن الشيعة الاِمامية : «... وهم يتوسعون في مفهوم التقية إلى حد اقتراف الكذب والمحرمات» (1)ونحو هذا من الاكاذيب المعبّرة عن عدم الشعور بالمسؤولية ، مع انعدام الحياء ، وفقدان الورع والتقوى .
السبب السابع : الدعم المادي الذي تقدمه بعض الجهات المشبوهة بصلاتها المعروفة مع أعداء المسلمين لمن باع ضميره وذمته لقاء ثمن بخس دراهم معدودة لترويج الباطل الذي يضمن سلامة عروشهم عبر ديمومة الوضع الراهن وبقائه في مجتمعنا الاسلامي ، حتى وإن أدى ذلك إلى الطعن بمفاهيم الاِسلام كمفهوم التقية وغيرها من المفاهيم الاِسلامية الناصعة مثل التوسل بالاَنبياء والصالحين ، وزيارة قبورهم ، وطلب شفاعتهم ونحوها .
ولكي تتضح الحقيقة أكثر ، وتغلق المنافذ بوجه المشعوذين والمشنعين على الشيعة بالتقية ، فلابدّ من بيان بعض الصور الواردة في كتب العامّة في التقية على مستوى القول والفعل والفتوى ، لكي يكون ذلك بمثابة المرآة الصافية التي يمكن النظر من خلالها إلى ما هو موجود
____________
1) الموسوعة الميّسرة في الاَديان والمذاهب المعاصرة : 302 ، ط2 ، الرياض | 1409 هـ .

( 128 )
فعلاً من صور التقية في كتب العامّة ، وهو ما سنتناوله في الفصل الرابع من هذا البحث ، مراعين بذلك الاختصار فيما سنذكره من تلك الصور في مباحثه الثلاثة الآتية .

( 129 )

الفصل الرابع

صور التقية في كتب العامّة

المبحث الاَول

الصور القولية في التقية

روى العامّة الكثير من التقية القولية الصادرة عن الصحابة والتابعين وغيرهم ، منبهين على أن الاَخبار أو الآثار التي سنوردها من كتب العامّة في هذا الفصل لا تعبر بالضرورة عن التزامنا بدلالتها على التقية واقعاً ؛ لا سيّما فيما سيأتي من الصور الفعلية في المبحث الثاني ؛ لكون بعضها أقرب إلى النفاق منه إلى التقية ، وإلاّ فهو ـ على أقل تقدير ـ من التقية ، ولكن في غير موضعها المطلوب شرعاً .
ومهما يكن ، فسوف نذكر من الصور القولية في التقية ما يأتي :
تقية عمّار بن ياسر وجماعته :
وهي أوضح من نار على علم ، والاطالة فيها اطالة في الواضحات ، ويكفي أنّه نزل في عذره على ما واقى المشركين عليه من القول ، قرآناً مبيناً ، وقد علم الكل منزلة عمّار من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويكفي أنّه ملىء
( 130 )
ايماناً من فرقه إلى قدمه .
تقية ابن مسعود :
عن الحارث بن سويد قال : «سمعتُ عبدالله بن مسعود يقول : ما من ذي سلطان يريد أن يكلفني كلاماً يدرأ عني سوطاً أو سوطين إلاّ كنت متكلماً به».
أخرجه ابن حزم في المحلى ، وقال : «ولا يعرف له من الصحابة رضي الله عنهم مخالف» (1).
تقية أبي الدرداء وأبي موسى الاَشعري :
أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن أبي الدرداء أنّه كان يقول : «إنّا لنكشر في وجوه أقوام ، وإن قلوبنا لتلعنهم» (2).
وقد بيّنا سابقاً من نسب هذا القول إلى أبي موسى الاَشعري ، كما ورد نظيره عند الاِمامية منسوباً إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وقد تقدم أيضاً .
تقية ثوبان واباحته الكذب في بعض المواطن :
أورد عنه الغزالي أنّه كان يقول : «الكذب إثم إلاّ ما نفع به مسلماً ، أو دفع عنه ضرراً» (3).
علماً بأن التقية لم تكن من الكذب كما يتصورها بعض الجهلاء ، ويدل على ذلك أن الله تعالى أخرجها عن حكم الافتراء فقال عزَّ وجلَّ : ( إنَّما يَفتَري الكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤمِنُونَ بآياتِ الله وأُولئك هم الكاذبون * مَنْ كَفَرَ باللهِ
____________
1) المحلّى | ابن حزم 8 : 336 مسألة 1409 ، دار الآفاق الجديدة ، بيروت .
2) صحيح البخاري 8 : 37 ، كتاب الاَدب ، باب المداراة مع الناس .
3) إحياء علوم الدين | الغزالي 3 : 137 .

( 131 )
مِن بَعدِ إيمانِهِ إلاّ مَنْ أُكرِهَ وَقَلبُهُ مُطمئنٌ بالاِيمان ) (1).
قال تاج الدين الحنفي في تفسيره : «والمعنى : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ، واستثنى منه المكره ، فلم يدخل تحت حكم الافتراء» (2).
أقول : أخرج ابن أبي الدنيا بسنده عن سوار بن عبدالله ، قال : «إنّ ميموناً (3) كان جالساً وعنده رجل من قرّاء أهل الشام ، فقال : إن الكذب في بعض المواطن خير من الصدق ، فقال الشامي : لا ، الصدق في كل المواطن خير . فقال ميمون : أرأيت لو رأيت رجلاً وآخر يتبعه بالسيف ، فدخل الدار فانتهى إليك . فقال : أرأيت الرجل ؟
ما كنت فاعلاً ؟
قال : كنت أقول : لا .
قال : فذاك» (4).
على أن الكذب هو ما عقد كذباً ، والتقية إنّما تعقد للاحسان ، والاصلاح ، ودفع الضرر ، وتحقيق المصالح المشروعة ، وفي الحديث الشريف : « إنّما الاَعمال بالنيات » ، ثم كيف تكون التقية كذباً ! وقد اتقى قومَه أشرفُ الاَنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ؟
____________
1) سورة النحل : 16 | 105 ـ 106 .
2) الدر القيط من البحر المحيط | تاج الدين الحنفي 5 : 537 ـ 538 في تفسير الآيتين المتقدمتين .
3) هو ميمون بن مهران التابعي (ت | 117 هـ) .
4) الاِشراف على مناقب الاَشراف | ابن أبي الدنيا : 118 | 216 ، دار الكتب العلمية ، بيروت | 1412 هـ .

( 132 )
تقية أبي هريرة :
أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة أنّه قال : «حفظت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعاءين : فأما أحدهما ، فبثثته . وأما الآخر ، فلو بثثته قطع هذا البلعوم» (1).
وقد صرّح ابن حجر في فتح الباري بأن العلماء حملوا الوعاء الذي لم يبثه على الاَحاديث التي تبيّن أسامي أمراء السوء وأحوالهم ، وأنّه كان يكني عن بعضه ولا يصرّح به خوفاً على نفسه منهم ، كقوله : (أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان) يشير إلى حكم يزيد بن معاوية ؛ لاَنّها كانت سنة ستين من الهجرة (2).
تقية ابن عباس من معاوية :
أخرج الطحاوي بسنده عن عطاء أنّه قال : «قال رجل لابن عباس رضي الله عنه : هل لك في معاوية أوترَ بواحدة ؟ ـ وهو يريد أن يعيب معاوية ـ فقال ابن عباس : أصاب معاوية» .
هذا في الوقت الذي بيّن فيه الطحاوي ما يدل على انكار ابن عباس صحة صلاة معاوية ، فقد أخرج بسنده عن عكرمة ، قال : «كنت مع ابن عباس عند معاوية نتحدث حتى ذهب هزيع من الليل ، فقام معاوية فركع ركعة واحدة ، فقال ابن عباس : من أين ترى أخذها الحمار ؟» .
قال الطحاوي بعد ذلك : «وقد يجوز أن يكون قول ابن عباس : (أصاب
____________
1) صحيح البخاري 1 : 41 كتاب العلم ، باب حفظ العلم (آخر أحاديث الباب) .
2) فتح الباري | ابن حجر العسقلاني 1 : 173 .

( 133 )
معاوية) على التقية له» ثم أخرج عن ابن عباس في الوتر أنه ثلاث(1).
أقول : هو عين التقية ، إذ كيف يستصوب حبر الاُمة صلاة حمار !
تقية سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب :
أخرج أبو عبيدة القاسم بن سلام عن حسان بن أبي يحيى الكندي ، قال: سألت سعيد بن جبير عن الزكاة ؟ فقال : ادفعها إلى ولاة الاَمر . قال : فلما قام سعيد تبعته ، فقلت : إنّك أمرتني أن أدفعها إلى ولاة الاَمر ، وهم يصنعون بها كذا ، ويصنعون بها كذا ؟! فقال : ضعها حيث أمرك الله ، سألتني على رؤوس الناس فلم أكن لاَخبرك (2).
وأخرج أيضاً عن قتادة أنّه سأل سعيد بن المسيب السؤال نفسه ؟ فسكت ابن المسيب ولم يجبه .
قال الدكتور الهراس في هامشه : «يظهر أن سعيداً رحمه الله كان لا يرى دفع الزكاة إلى ولاة بني أمية ، ولهذا سكت» (3).
هذا وقد أورد العلاّمة الاَميني تقية سعيد بن المسيب من سعد بن أبي وقاص في سؤاله إياه عن حديث الغدير ، فراجع (4).
تقية رجاء بن حيوة :
قال القرطبي المالكي : «وقال ادريس بن يحيى : كان الوليد بن عبدالملك
____________
1) شرح معاني الآثار| الطحاوي 1 : 389، باب الوتر ، ط2، دار الكتب العلمية، بيروت | 1407 هـ .
2) كتاب الاَموال | أبو عبيدة القاسم بن سلام : 567 | 1813 ، تحقيق الدكتور محمد خليل هراس ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت | 1406 هـ .
3) كتاب الاَموال : 565 | 1801 .
4) الغدير | العلاّمة الاَميني 1 : 380 ، ط5 ، دار الكتاب العربي، بيروت | 1403 هـ .

( 134 )
يأمر جواسيس يتجسسون الخلق ، ويأتون بالاَخبار ، فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حيوة فسمع بعضهم يقع في الوليد ، فرفع ذلك إليه .
فقال : يا رجاء ! أُذكَرُ بالسوء في مجلسك ولم تغيّر ؟!
فقال : ما كان ذلك يا أمير المؤمنين .
فقال له الوليد : قل الله الذي لا إله إلاّ هو .
قال : الله الذي لا إله إلاّ هو .
فأمر الوليد بالجاسوس ، فضُرب سبعين سوطاً . فكان يلقى رجاء فيقول : يا رجاء ! بك يُستسقى المطر وسبعين سوطاً في ظهري !!
فيقول رجاء : سبعون سوطاً في ظهرك خيرٌ لك من أن يُقتل رجل مسلم» (1).
أقول : إنّ تقية رجاء هنا مضاعفة .
أما أولاً ، فباظهاره خلاف الواقع تقية .
وأما ثانياً ، فبمخاطبته لمثل الوليد الفاسق اللعين بخطاب الموافقين تقية أيضاً .
وقد حصل نظير هذه التقية لسعيد بن أشرس ـ صاحب مالك بن أنس ـ مع سلطان تونس ، إذ كان قد آوى رجلاً يطلبه السلطان ، ولما أُحضر أنكر ذلك وحلف بأنّه ما آواه ولا يعلم له مكاناً (2).
____________
1) الجامع لاحكام القرآن | القرطبي 10 : 124 .
2) الجامع لاَحكام القرآن 10 : 124 .

( 135 )
تقية واصل بن عطاء :
قال ابن الجوزي الحنبلي : خرج واصل بن عطاء يريد سفراً في رهط ، فاعترضهم جيش من الخوارج فقال واصل : «لا ينطقن أحد ودعوني معهم ، فقصدهم واصل ، فلمّا قربوا بدأ الخوارج ليُوقِعوا . فقال : كيف تستحلّون هذا وما تدرون من نحن ، ولا لاَي شيءٍ جئنا ؟ فقالوا : نعم ، من أنتم ؟ قال : قوم من المشركين جئناكم لنسمع كلام الله . قال : فكفوا عنهم ، وبدأ رجل منهم يقرأ القرآن ، فلما أمسك ، قال واصل : قد سمعت كلام الله ، فأبلغنا مأمننا حتى ننظر فيه وكيف ندخل في الدين ! فقال : هذا واجب ، سيروا . قال : فسرنا والخوارج ـ والله ـ معنا يحموننا فراسخ ، حتى قربنا إلى بلد لا سلطان لهم عليه ، فانصرفوا» (1).
تقية عمرو بن عبيد المعتزلي :
بعد ثورة إبراهيم بن عبدالله وأخيه محمد ذي النفس الزكية على المنصور العباسي التي انتهت بقتلهما ، قال المنصور ـ يوماً ـ لعمرو بن عبيد : «بلغني أن محمداً بن عبدالله بن الحسن كتب اليك كتاباً» قال عمرو: قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه .
قال : فبم أجبته ؟ قال : أوليس قد عرفت رأيي في السيف أيام كنت تختلف الينا ، أنّي لا أراه ؟!
قال المنصور : أجل ، ولكن تحلف لي ليطمئن قلبي !! قال عمرو : لئن كذبتك تقية ، لاَحلفنَّ لك تقية . قال المنصور : والله ، والله ، أنت الصادق البر» (2).
____________
1) كتاب الاَذكياء | ابن الجوزي : 136 ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت | 1405 هـ .
2) تاريخ بغداد | الخطيب البغدادي 12 : 168 ـ 169 | 6652 في ترجمة عمرو بن عبيد المعتزلي .

( 136 )
تقية أبي حنيفة من القاضي ابن أبي ليلى :
أخرج الخطيب البغدادي في تاريخه بسنده عن سفيان بن وكيع قال : «جاء عمر بن حماد بن أبي حنيفة فجلس إلينا ، فقال : سمعتُ أبي حماد يقول : بعث ابن أبي ليلى إلى أبي حنيفة فسأله عن القرآن ؟ فقال : مخلوق. فقال : تتوب وإلاّ أقدمت عليك ؟ قال : فتابعه فقال : القرآن كلام الله .
قال : فدار به في الخلق يخبرهم أنّه قد تاب من قوله : القرآن مخلوق .
فقال أبي : فقلت لاَبي حنيفة : كيف صرت إلى هذا وتابعته ؟
قال : يا بني خفت أن يقدم عليَّ فاعطيته التقية» (1).
ولعدم جدوى الاكثار من صور التقية القولية سنكتفي في اختتام هذا المبحث بما قاله الشيخ مرتضى اليماني ـ بهذا الصدد ـ فيما نقله عنه جمال الدين القاسمي في تفسيره .
قال : «وزاد الحق غموضاً وخفاءً أمران :
أحدهما : خوف العارفين ـ مع قلتهم ـ من علماء السوء ، وسلاطين الجور وشياطين الخلق ، مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن ، واجماع أهل الاِسلام ، ومازال الخوف مانعاً من إظهار الحق ، ولا برح المحقّ عدواً لاَكثر الخلق..» (2).
____________
1) تاريخ بغداد 13 : 379 ـ 380 | 7297 في ترجمة أبي حنيفة تحت عنوان (ذكر الروايات عمن حكى عن أبي حنيفة القول بخلق القرآن) .
2) محاسن التأويل | جمال الدين القاسمي 4 : 82 ، ط2 ، دار الفكر، بيروت | 1398 هـ .

( 137 )

المبحث الثاني
الصور الفعلية في التقية


إنّ الاَفعال الواردة تقية ، المنسوبة إلى الصحابة أو التابعين وغيرهم من علماء المذاهب والفرق الاِسلامية في كتب العامّة أكثر من أن تحصى ، وسوف نقتطف منها ما يأتي :
ما فعله ابن مسعود وابن عمر :
كان ابن مسعود يتقي من الوليد بن عقبة بن أبي معيط والي عثمان على المدينة ، فيصلي خلفه ، على الرغم من أنّ الوليد هذا كان مشهوراً بالفسق وشرب الخمر ، حتى أنّه جُلد على شرب الخمر في عهد عثمان (1)، وكان يأتي المسجد ثملاً ويؤم الصحابة في الصلاة .
وفي شرح العقيدة الطحاوية : «أنّه صلّى بهم الصبح مرّة أربعاً !! ثم قال: أزيدكم ؟ فقال له ابن مسعود : مازلنا معك منذ اليوم في زيادة» (2).
وأما ابن عمر فقد كان يصلي خلف العتاة الفاسقين ويأتم بهم كالحجاج ابن يوسف الثقفي (3)وكان المعروف عنه أنّه «لا يأتي أمير إلاّ صلّى خلفه وأدّى إليه زكاة ماله» (4).
____________
1) صحيح مسلم 3 : 1331 | 1707 كتاب الحدود ، باب الخمر .
2) شرح العقيدة الطحاوية | القاضي الدمشقي 2 : 532 ، ط1 ، مؤسسة الرسالة، بيروت | 1408 هـ .
3) المصنف | ابن أبي شيبة 2 : 378 ، الدار السلفية ، بومباي ، الهند . والسنن الكبرى | البيهقي 3 : 122 ، دار المعرفة ، بيروت .
4) الطبقات الكبرى | ابن سعد 4 : 149 .

( 138 )
وفي حديث جابر بن عبدالله الانصاري ، قال : «سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على منبره يقول : لا تؤمّنَ امرأة رجلاً ، ولا يؤم اعرابي مهاجراً ، ولا يؤم فاجرٌ مؤمناً إلاّ أن يقهره بسلطانه أو يخاف سوطه أو سيفه» .
وبهذا الحديث احتج ابن قدامة الحنبلي قائلاً : «لا تجوز الصلاة خلف المبتدع والفاسق في غير جمعة وعيد ، يصليان بمكان واحد من البلد ، فان من خاف منه إن ترك الصلاة خلفه، فانه يصلي خلفه تقية ثم يعيد الصلاة»(1).
ومنه يعلم أنّه لا معنى لصلاة ابن مسعود وابن عمر خلف الفاسقين غير التقية .
ويؤيد خوف ابن مسعود من الظالمين ما مرّ في تقيته القولية من قوله : «ما من سلطان يريد أن يكلفني كلاماً يدرأ عني سوطاً أو سوطين إلاّ كنت متكلماً به» .
وأما خوف ابن عمر فيدل عليه مبايعته ليزيد بن معاوية وانكاره على عبدالله بن مطيع خروجه على يزيد أبان ما كان من موقعة الحرّة الشهيرة (2) مع أن يزيد كان فاسقاً كافراً باجماع أهل الحق من هذه الاُمّة .
ويدل على خوفه أيضاً ما رواه الهيثمي بسنده عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : «سمعتُ الحجاج يخطب ، فذكر كلاماً انكرته ، فاردت ان أغيّر، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه ،
____________
1) المغني | ابن قدامة 2 : 186 ، 192 . والحديث في سنن ابن ماجة 1 : 343 (نقلنا ذلك من بحث «التقية في آراء علماء المسلمين | الشيخ عباس علي براتي : 82» منشور في مجلة رسالة الثقلين، العدد الثامن ، السنة 1414 هـ ، اصدار المجمع العالمي لاَهل البيت عليهم السلام ، قم) .
2) صحيح مسلم 3 : 1478 | 1851 ، كتاب الامارة ، باب رقم | 13 .

( 139 )
قال : قلت : يا رسول الله ! كيف يذل نفسه ؟ قال : يتعرض من البلاء لما لايطيق ») (1).
ويظهر من تاريخ ابن عمر أنّه وقرَ هذا الحديث في سمعه وطبقه في غير موضعه مراراً في حياته .
منها : مبايعته ليزيد حينما خاف سيفه ولم ينكر عليه كما أنكر الاحرار من هذه الاُمّة .
ومنها : أنّه حينما أمن من سوط أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وسيفه ، لم يبايعه واعتزل الاَمر ، ولو كان هناك أدنى خوف على حياته لبايع راغماً .
ومنها : سكوته على التعريض المباشر الذي وجهه إليه معاوية بعد أحداث قصة التحكيم المعروفة بقوله ـ كما في صحيح البخاري ـ : «من كان يريد أن يتكلم في هذا الاَمر فليطلع لنا قرنه، ولنحن أحقّ به منه ومن أبيه»(2).
وقد صرّح العلماء بأن مراد معاوية بقوله : (منه ومن أبيه) هو التعريض بابن عمر ، أي : ولنحن أحق به من عبدالله بن عمر ومن أبيه عمر بن الخطاب(3).
وقد فهم ابن عمر هذا التعريض ولكنه سكت هلعاً من معاوية وزبانيته، باعترافه هو كما في ذيل حديث البخاري ، قال ابن عمر :
____________
1) كشف الاَستار عن زوائد مسند البزار على الكتب الستة | نور الدين الهيثمي 4 : 112 | 3323 ، ط2 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1404 هـ .
2) صحيح البخاري 5 : 140 كتاب بدء الخلق ، باب غزوة الخندق .
3) اُنظر ما قاله العيني في عمدة القارى 17 : 185 ـ 186 . وابن حجر في فتح الباري 7 : 223 . والقسطلاني في ارشاد الساري 6 : 324 ـ 325 ، كلّهم في شرح حديث البخاري المتقدم .

( 140 )
«فحللت حبوتي ، وهممت أن أقول : أحق بهذا الاَمر من قاتلك وأباك على الاِسلام ، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع ، وتسفك الدم» .
ما فعله عبدالله بن حذافة السهمي القرشي :
هذا الصحابي أرسله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكتابه إلى كسرى يدعوه إلى الاِسلام ، في قصة مشهورة ، وقد أسرته الروم في بعض غزواته على قسارية في عهد عمر ، واكرهه ملك الروم على تقبيل رأسه فلم يفعل فقال له ـ في قول ابن عباس ـ : «قبّل رأسي وأطلقك وأطلق معك ثمانين من المسلمين . قال : أما هذه فنعم ، فقبّل رأسه وأطلقه ، وأطلق معه ثمانين من المسلمين ، فلمّا قدموا على عمر بن الخطاب قام إليه عمر فقبّل رأسه، قال : فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمازحون عبدالله ، فيقولون : قبلت رأس علجٍ . فيقول لهم : أطلق الله بتلك القبلة ثمانين من المسلمين»(1).
ما فعله جابر بن عبدالله الاَنصاري من بسر بن أبي أرطأة :
أورد اليعقوبي في تاريخه : أن معاوية وجّه بسر بن أبي أرطأة في ثلاثة آلاف رجل إلى المدينة ثم مكّة ثم صنعاء ليدخل الرعب في نفوس المسلمين ، فطبق وصيته حتى أنّه خطب بأهل المدينة وشتمهم قائلاً : يا معشر اليهود وأبناء العبيد.. أما والله لاَوقعن بكم وقعة تشفي غليل صدور المؤمنين.. ودعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه،.. وتفقد جابر بن عبدالله..
فانطلق جابر بن عبدالله الانصاري إلى أُم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إنّي خشيت أن أقتل ، وهذه بيعة ضلال ؟
____________
1) أُسد الغابة في معرفة الصحابة | ابن الاثير 3 : 212 ـ 213 | 2889 في ترجمة عبدالله بن حذافة ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت .

( 141 )
قالت : «إذن فبايع ، فإن التقية حملت أصحاب الكهف على أن كانوا يلبسون الصلب ، ويحضرون الاَعياد مع قومهم» (1).
ونظيرها في رواية ابن أبي الحديد أيضاً (2).
ما فعله حذيفة بن اليمان :
هذا الرجل الصحابي كان معروفاً بالمداراة ، حتى قال السرخسي الحنفي في مبسوطه : «وقد كان حذيفة رضي الله عنه ممن يستعمل التقية على ما روي أنه يداري رجلاً ، فقيل له : إنّك منافق !! فقال : لا ، ولكني اشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كلّه» (3).
ما فعله الزهري في كتم فضائل أمير المؤمنين علي عليه السلام :
أخرج ابن الاَثير في أُسد الغابة في ترجمة جندع الانصاري الاَوسي بسنده عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري قال : «سمعت سعيد بن جناب يحدث عن أبي عنفوانة المازني ، قال : سمعت أبا جنيدة جندع بن عمرو بن مازن ، قال : سمعتُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : « من كذّب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار » وسمعته ـ وإلاّ صُمَّتا ـ يقول : وقد انصرف من حجة الوداع ، فلمّا نزل غدير خم ، قام في الناس خطيباً وأخذ بيد علي ، وقال : « من كنت وليّه فهذا وليّه ، اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه » .
قال عبيدالله : فقلت للزهري : لا تحدث بهذا بالشام ، وأنت تسمع ملء
____________
1) تاريخ اليعقوبي 2 : 197 ـ 199 ، دار صادر ، بيروت .
2) شرح نهج البلاغة | ابن أبي الحديد 2 : 9 ـ 10 ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، ط2 ، دار احياء التراث العربي ، بيروت | 1385 هـ .
3) المبسوط | السرخسي 24 : 46 ، من كتاب الاِكراه .

( 142 )
أذنيك سب عليٍّ . فقال : والله إنّ عندي من فضائل علي ما لو تحدثت بها لقتلت» (1).
أقول : وقد كان زيد بن أرقم الصحابي المعروف يتقي من الامويين وأذنابهم في كتم حديث الغدير ، وقد أشار لهذا أحمد في مسنده من طريق ابن نمير ، عن عطية العوفي قال : «سألت زيد بن أرقم فقلت له : إنّ ختناً لي حدثني عنك بحديث في شأن علي يوم غدير خم، فأنا أحب أن اسمعه منك ؟
فقال : إنكم معشر أهل العراق فيكم ما فيكم ! فقلت له : ليس عليك مني بأس... الخبر» (2).
ما فعله أبو حنيفة مع المنصور العباسي :
كان أبو حنيفة يجاهر في أمر إبراهيم بن عبدالله بن الحسن ، ويفتي الناس بالخروج معه على المنصور العباسي ، ولكن لما انتهت ثورة إبراهيم بقتله ، تولى أبو حنيفة نفسه مهمة الاِشراف على ضرب اللِّبن وعدّه في بناء مدينة بغداد بأمر المنصور العباسي (3).
ولا شكّ أنّه كان كارهاً لذلك ، ولكنه اتقى من بطش المنصور في هذه الوظيفة التي كُلِّف بها من قبل المنصور نفسه الذي كان على علم بموقفه من ثورة إبراهيم بن عبدالله ، فحاول أن يجد مبرراً لقتله في هذه المهمة ،
____________
1) أُسد الغابة 1 : 364 | 812 .
2) مسند أحمد 4 : 368 واُنظر تعليق العلاّمة الاميني عليه في الغدير 1 : 380 .
3) تاريخ الطبري 1 : 155 في حوادث سنة 145 هـ . وأحكام القرآن | الجصاص 1 : 70 ـ 71 في تفسير الآية 124 من سورة البقرة .

( 143 )
ولكن أبا حنيفة أدرك ذلك منه فاتقاه في قبول ذلك العمل .
ومن تقيته الفعلية مع المنصور أيضاً ما رواه الخطيب في تاريخه من أن أبا حنيفة قبل قضاء الرصافة في آخر أيامه بعد الضغط الشديد عليه بحيث لم يجد بداً من ذلك .
وقد أيّد هذا ابن خلكان أيضاً ، فذكر أن المنصور لمّا أتم بناء مدينة بغداد أرسل إلى أبي حنيفة ، وعرض عليه قضاء الرصافة فأبى ، فقال المنصور : إن لم تفعل ضربتك بالسياط ! قال أبو حنيفة : أو تفعل ؟
قال : نعم .
فقعد أبو حنيفة في القضاء يومين ، فلم يأته أحد ، فلما مضى يومان اشتكى أبو حنيفة ستة أيام ثم مات (1).
ما فعله مالك بن أنس مع الاَمويين والعباسيين :
ويدل على تقيته من الامويين ما قاله الذهبي في ميزان الاعتدال ، قال : «وقال مصعب ، عن الدراوردي ، قال : لم يرو مالك ، عن جعفر ، حتى ظهر أمر بني العباس» (2).
وقد صرّح أمين الخولي (ت | 1385 هـ) ، بان امتناع مالك بن أنس من الرواية عن الاِمام جعفر الصادق عليه السلام في عهد الامويين ، إنّما هو بسبب خشيته منهم (3).
____________
1) تاريخ بغداد | الخطيب البغدادي 13 : 329 . ووفيات الاَعيان | ابن خلكان 5 : 47 ، دار صادر ، بيروت | 1398 هـ .
2) ميزان الاعتدال 1 : 414 | 1519 .
3) مالك بن أنس | أمين الخولي : 94 ، ط1 ، القاهرة | 1951 م .

( 144 )
وأما عن تقيته من العباسيين فهي كنار على علم لا تخفى على معظم الباحثين المطلعين على حياته في ظل الدولة العباسية .
فقد كان مؤيداً لثورة محمد بن عبدالله وأخيه إبراهيم على المنصور العباسي ولكن سرعان ما تم توطيد العلاقة بينه وبين المنصور نفسه بفضل التقية حتى أصبح ذلك الرجل الناقم على المنصور جبروته وطغيانه والمفتي بالخروج عليه والمحث على خلع بيعته ، هو نفسه ـ كما جاء في مقدمة تحقيق كتابه الموطأ ـ الرجل الذي يأمر بحبس من يشاء ، أو يضرب من يريد وفي دولة المنصور نفسه (1)!!
____________
1) راجع مقدمة تحقيق كتاب الموطأ ، ط 1 ، دار القلم ، بيروت | 1382 هـ .