المبحث الثالث
صور التقية في فقه العامّة

الاَحكام الشرعية الفرعية : إمّا عبادات كالصوم والصلاة ، أو معاملات .
والمعاملات : إمّا أن تكون عقوداً مثل البيع والشراء ، أو ايقاعات كالطلاق والعتق ، أو أحكاماً مثل الحدود والتعزيرات .
ومع كون التقية من الفروع الشرعية بلا خلاف ، إلاّ أنّ فقهاء العامّة لم يفردوا لها عنواناً باسم التقية في كتبهم الفقهية ، وإنّما بحث معظمهم مسائلها في قسم العقود من المعاملات ، وتحديداً في كتاب الاِكراه .
والسبب في ذلك ، هو علاقة التقية بالاكراه مع دخول كل منهما في أغلب الفروع الشرعية . وهذا السبب ليس كافياً في الواقع ، فالشهادات مثلاً مع
( 145 )
صلتها الوثقى بالقضاء ، ودخولها في أغلب الفروع إلاّ أنهم أفردوا لها عنواناً، وكذلك الحال مع الاِقرار والصلح وغيرهما من العناوين الفقهية، وهذا مايسجل ثغرة في المنهج الفقهي الخاص بترتيب مسائل الفقه وتبويبها .
بل ، وثمّة إشكال آخر على بحث مسائل التقية تحت عنوان الاكراه ؛ لما مرّ سابقاً من انتفاء الاكراه في بعض أقسام التقية ، ولهذا ترك بعضهم مسائلها موزعة على مواردها في أغلب الاَبواب الفقهية .
ومن هنا صار بحث التقية فقهياً بحثاً مضنياً يتطلب الرجوع إلى أبواب الفقه كافة ، بغية الوقوف على مسائلها ، وهو ما حاولنا القيام به ، مع مراعاة الاختصار باجتناب الاطالة ما أمكن ، والاكتفاء بالاَهم دون المهم ، والبعد عن كلِّ ما فيه من غموض أو تعقيد .
وقد ارتأينا تقسيم مسائلها على غرار التقسيم الفقهي السائد لفروع الاحكام ، مسبوقاً بما اتصل منها بركن الرسالة الاَعظم : الاِيمان بالله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ، أو بالاَخلاق والآداب العامّة كما في مداراة الناس ومعاشرتهم بالحسنى ، كما سنبينه قبل ذلك التقسيم ، وعلى النحو الآتي .
أولاً : افتاء فقهاء العامّة بجواز التقية في لب العقيدة وجوهرها :
ويدل عليه أمور :
1 ـ قولهم بجواز تلفظ كلمة الكفر بالله تعالى والقلب مطمئن بالايمان ، عند الاكراه عليها (1).
____________
1) الجامع لاَحكام القرآن | القرطبي المالكي 10 : 180 . وأحكام القرآن | ابن العربي المالكي 3: 1177 | 1182 . والمبسوط | السرخسي الحنفي 24 : 48 . وبدائع الصنائع | الكاساني الحنفي 7 :

=


( 146 )
وقد مرّ في دليل الاجماع أكثر من تصريح لهم بالاجماع على ذلك .
2 ـ تجويزهم سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال التقية (1).
3 ـ تجويزهم أيضاً السجود إلى الصنم في مالو أُكره المسلم عليه (2).
وإذا كان كل هذا جائزاً عندهم في حال التقية ، فمن باب أولى جوازها عندهم في سائر أصول العقيدة ، بل وفي سائر فروعها أيضاً . وكيف ينال المسك وتسلم فأرته ؟
ثانياً : افتاؤهم بجواز التقية في الآداب والاخلاق العامّة :
ويدل عليه قول الشيخ المراغي : «ويدخل في التقية مداراة الكفرة ، والظلمة ، والفسقة ، وإلانة الكلام لهم ، والتبسم في وجوههم ، وبذل المال لهم لكف أذاهم ، وصيانة العرض منهم ، ولا يُعد هذا من الموالاة المنهي عنها ، بل هو مشروع» (3).
ولعلّ في مداراة الفرقة الوهابية لسائر المسلمين في عدم تهديم قبر
____________

=

175 ، ط2 ، دار الكتاب العربي ، بيروت | 1402 هـ . وأحكام القرآن | محمد بن ادريس الشافعي 2: 114 ـ 115 ، دار الكتب العلمية ، بيروت | 1400 هـ . والمغني | ابن قدامة الحنبلي 8 : 262 ، ط1 ، دار الفكر ، بيروت | 1404 هـ .
1) فتاوى قاضيخان | الفرغاني الحنفي 5 : 489 وما بعدها ، مطبوع بهامش الفتاوى الهندية ، ط4، دار إحياء التراث العربي ، بيروت | 1406 هـ .
2) الجامع لاَحكام القرآن | القرطبي 10 : 180 . وتفسير ابن جزي الكلبي المالكي : 366 دار الكتاب العربي ، بيروت | 1403 هـ .
3) تفسير المراغي 3 : 136 ـ 137 ، وقد صرّح بجواز المداراة المعتزلة كما في مسائل الهادي يحيى ابن الحسين الرسي المعتزلي : 107 نقلناه من معتزلة اليمن | علي محمد زيد : 190 ، ط2 ، دار العودة ، بيروت | 1405 هـ ، وكذلك الخوارج الاَباضية كما في المعتبر لاَبي سعيد الكديمي الاَباضي 1 : 212 طبع وزارة التراث القومي في سلطنة عُمان | 1405 هـ .

( 147 )
النبي صلى الله عليه وآله وسلم واظهارهم في ذلك بخلاف ما يعتقدون بشأن هدم القبور مطلقاً خير دليل على تقيتهم المداراتية .
ثالثاً : افتاؤهم بجواز التقية في العبادات :
ونكتفي بأهم العبادات التي جوزوا التقية فيها وقس عليها ما سواها .
1 ـ جواز التقية في الصلاة خلف الفاسق :
مرّ سابقاً عن ابن قدامة الحنبلي قوله : «لا تجوز الصلاة خلف المبتدع والفاسق في غير جمعة وعيد ، فيصليان بمكان واحد من البلد ، فان من خاف منه إن تَرَكَ الصلاة خلفه ، فإنّه يصلي خلفه تقية ثم يعيد الصلاة» .
2 ـ جواز ترك الصلاة تقية :
اتفق المالكية والحنفية والشافعية على جواز ترك الصلاة المفروضة في مالو أُكره المسلم على تركها (1).
3 ـ جواز الافطار في شهر رمضان تقية :
صرّح المالكية والحنفية والشافعية بعدم ترتب الاثم على من أفطر في شهر رمضان تقية بسبب ضغط الاكراه عليه (2).
4 ـ الافتاء العجيب بشأن الافطار المتعمد قبل الاكراه عليه :
ومن الفتاوى العجيبة الداخلة في دائرة التقية عند الاحناف ، ما رواه
____________
1) الجامع لاَحكام القرآن | القرطبي المالكي 10 : 180 وما بعدها . والمبسوط | السرخسي الحنفي 24 : 48 . والاَشباه والنظائر | السيوطي الشافعي : 207 ـ 208 .
2) الجامع لاَحكام القرآن 10 : 180 . والمبسوط | السرخسي الحنفي 24 : 48 . وفتاوى قاضيخان | الفرغاني الحنفي 5 : 487 . والاَشباه والنظائر | السيوطي الشافعي : 207 ـ 208 .

( 148 )
ابن زياد عن أبي حنيفة ، كما في قول الفرغاني الحنفي : إنّه لو أفطر الصائم في يوم من أيام شهر رمضان عن عمد واصرار ، ثم أكرهه السلطان بعد ساعة أو ساعتين على افطاره المتعمد على السفر في ذلك اليوم ، فانه سيكون حكمه حكم المكره ، وتسقط عنه الكفارة (1)!!
5 ـ سقوط الكفارة عمن جامع امرأته كرهاً في شهر رمضان :
قال الفرغاني : «لو أُكرِه الرجل على أن يجامع امرأته في شهر رمضان فلا كفارة عليه ويجب القضاء» (2).
رابعاً : افتاؤهم بجواز التقية في المعاملات :
القسم الاَول ـ العقود :
وتقتصر على بعض مسائله وهي :
1 ـ جواز التقية في البيع والشراء : تصح التقية فيهما بلا خلاف بين المالكية والحنفية(3)، كما صححها غيرهم كالظاهرية (4).
2 ـ جوازها في الوكالة : صرّح القرطبي المالكي ـ كما مرَّ في تقية أصحاب الكهف ـ بالاتفاق على صحة توكيل الانسان حال التقية ، فراجع .
3 ـ جوازها في الهبة : وهي أيضاً مما تصح فيه التقية عند المالكية
____________
1) فتاوى قاضيخان | الفرغاني 5 : 487 .
2) فتاوى قاضيخان | الفرغاني 5 : 487 .
3) البحر المحيط | أبو حيان المالكي 2 : 224 . وبدائع الصنائع | الكاساني الحنفي 7 : 175 . ومجمع الاَنهر في شرح ملتقى الاَبحر | داماد أفندي الحنفي 2 : 431 ـ 433 ، دار احياء التراث العربي ، بيروت .
4) المحلّى | ابن حزم 8 : 331 ـ 335 مسألة : 1406 .

( 149 )
والحنفية والظاهرية ، مشروطة بقيد الاكراه عليها (1).
القسم الثاني ـ الايقاعات :
ونكتفي منها بالصور الآتية :
1 ـ جواز التقية في الطلاق : لو طلق الاِنسان زوجته تقية بسبب الاكراه ، فهل يصح الطلاق ، أو لا يصح ، بمعنى : هل يقع الطلاق تقية أو لا ؟
اختلفوا في ذلك على قولين ، أحدهما الوقوع ، والآخر عدمه .
فمن اجاز طلاق المكره ، هم : أبو قلابة ، والشعبي ، والنخعي ، والزهري ، وأبو حنيفة ، وصاحباه ، قالوا : لاَنّه طلاق من مكلّف في محل يملكه ، فينفد كطلاق غير المكره .
وأما من ذهب إلى عدم وقوع مثل هذا الطلاق ؛ لاَنّه وقع تقية بلا رضا الزوج فهم : أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وعمر بن الخطاب ، وعبدالله بن عباس ، وابن الزبير ، وجابر بن سمرة ، وعبدالله بن عبيد بن عمير ، وعكرمة ، والحسن البصري ، وجابر بن زيد ، وشريح القاضي ، وعطاء ، وطاوُس ، وعمر بن عبدالعزيز ، وابن عون ، وأيوب السختياني ، ومالك ، والاوزاعي ، والشافعي ، واسحاق ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، صرّح بكل هذا ابن قدامة الحنبلي واختار القول الثاني (2).
____________
1) البحر المحيط | أبو حيان المالكي 2 : 424 . وبدائع الصنائع | الفرغاني الحنفي 7 : 175 ، والمحلى | ابن حزم 8 : 331 ـ 335 مسألة : 1406 .
2) المغني | ابن قدامة الحنبلي 8 : 260 مسألة 5846 .

( 150 )
وهو الصحيح الذي عليه المالكية (1)والشافعية (2)والحنبلية (3)، كما اختاره بعض فقهاء الاحناف (4).
2 ـ جوازها في العتق : تجوز التقية فيه عند المالكية (5)، وغيرهم (6)، مع عدم ترتب آثارها بمعنى عدم وقوع العتق في حال التقية ، لحصوله من غير رضا المُعتِق .
3 ـ جوازها في اليمين الكاذبة : لو حلف انسان بالله كاذباً ، فلا كفارة عليه إن كان مكرهاً على اليمين ، وله ذلك تقية على نفسه ، وتكون يمينه غير ملزمة عند مالك والشافعي وأبي ثور ، وأكثر العلماء على حد تعبير النووي الشافعي ، واستدل بحديث : «ليس على مقهور يمين» (7).
أقول : صرّح بهذا الشافعي ونسبه إلى عطاء بن أبي رياح (8)وقد افتى به غير واحد من فقهاء المالكية (9)ونقل القرطبي عن ابن الماجشون : إنّه لا فرق في ذلك بين ان تكون اليمين طاعة لله تعالى ، أو معصية ، وإنه
____________
1) المدونة الكبرى | مالك بن أنس 3 : 29 كتاب الايمان بالطلاق وطلاق المريض أورده تحت عنوان (ما جاء في طلاق النصرانية والمكره والسكران) ، مطبعة السعادة ، مصر . والكافي في فقه أهل المدينة المالكي | ابن عبدالبر : 503 ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت | 1407 هـ . والجامع لاَحكام القرآن | القرطبي المالكي 1 : 180 .
2) أحكام القرآن | الكيا الهراسي الشافعي 3 : 246 .
3) المغني | ابن قدامة 8 : 260 مسألة : 5846 .
4) بدائع الصنائع 7 : 175 .
5) الكافي في فقه أهل المدينة المالكي : 503 .
6) بدائع الصنائع 7 : 175 .
7) المجموع شرح المهذب | النووي الشافعي 18 : 3 ، دار الفكر ، بيروت .
8) أحكام القرآن | محمد بن ادريس الشافعي 2 : 114 ـ 115 .
9) أحكام القرآن | ابن العربي المالكي 3 : 1177 | 1182 . وتفسير ابن جزي المالكي : 366 .

( 151 )
لاحنث عند الاكراه على اليمين الكاذبة(1) وهذا هو محل اتفاق فقهاء الاَحناف (2) .
وقد كان مالك بن أنس يقول لاَهل المدينة في شأن بيعتهم للطاغية المنصور العباسي : إنكم بايعتم مكرهين ، وليس على مكره يمين (3) يحثهم بهذه الفتيا على الخروج مع إبراهيم بن عبدالله بن الحسن للثورة على المنصور .
____________
1) الجامع لاحكام القرآن | القرطبي المالكي 10 : 191 .
2) بدائع الصنائع 7 : 175 ، واُنظر تفصيل فتاوى الحنفية بشأن موارد التقية في اليمين الكاذبة وغيرها في مصادرهم التالية :
1 ـ البحر الرائق | ابن نجيم 8 : 70 .
2 ـ تحفة الفقهاء | السمرقندي 3 : 273 ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت | 1405 هـ .
3 ـ تقريرات الرافعي على حاشية ابن عابدين | محمد رشيد الرافعي 2 : 278 ، ط3 ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت | 1407 هـ .
4 ـ رد المحتار على الدر المختار| ابن عابدين 5: 80 ، ط2 ، دار احياء التراث العربي، بيروت | 1407 هـ .
5 ـ شرح فتح الغدير | ابن همام 8 : 65 ، دار احياء التراث العربي ، بيروت .
6 ـ غمز عيون البصائر | شهاب الدين الحموي 3: 203 و4 : 339، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت | 1405 هـ .
7 ـ الفتاوى الهندية| الشيخ نظام وجماعته 5 : 35 ، ط4 ، دار احياء التراث العربي، بيروت | 1406 هـ .
8 ـ الفروق | الكرابيسي 2 : 260 ، المطبعة العصرية ، الكويت | 1402 هـ .
9 ـ اللباب | الميداني 4 : 107 ، ط4 ، دار الحديث ، بيروت | 1399 هـ .
10 ـ المبسوط | السرخسي الحنفي في الجزء (24) كله تقريباً (تقدم التعريف بطبعته) .
11 ـ مجمع الضمانات | ابن محمد البغدادي : 204 ، ط1 ، عالم الكتب ، بيروت | 1407 هـ .
12 ـ النتف في الفتاوى | السغدي 2 : 296 ، مطبعة الارشاد ، بغداد | 1975 م .
13 ـ الهداية | المرغيناني 3 : 275 ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر .
3) تاريخ الطبري 4 : 427 في حوادث سنة (145) ، ط2 ، دار الكتب العلمية ، بيروت | 1408 هـ .

( 152 )
القسم الثالث : الاَحكام :
1 ـ جواز التقية في حكم الاَطعمة والاَشربة المحرمة : أفتى القرطبي المالكي بجواز التقية في شرب الخمر (1)، وقالت الحنفية : تجوز التقية إذا كان الاقدام على الفعل أولى من الترك ، وقد تجب إذا صار بالترك آثماً ، كما لو أُكرِه على أكل لحم الميتة أو أكل لحم الخنزير ، أو شرب الخمرة (2).
وهذه المحرمات المذكورة تجوز كلّها إن كان المتقي باتيانها مكرهاً عليها بغير القتل ، وأما لو كان الاكراه عليها بالقتل ، فقد صرّح الشافعية بوجوبها (3).
وقال ابن حزم الظاهري : «فمن أكره على شرب الخمر أو أكل الخنزير أو الميتة أو الدم أو بعض المحرمات ، أو أكل مال مسلم أو ذمي ، فمباح له أن يأكل ويشرب ولا شيء عليه لاَحد ولا ضمان» (4).
وقد عرفت أن التقية في شرب الخمر ممنوعة عند فقهاء الشيعة ما لم يصل الاكراه الى حد القتل .
2 ـ جوازها في الزنا : إذا أكره الرجل على ارتكاب هذه الجريمة ، واتقى على نفسه بارتكابها فهل يسقط الحد عليه أو لا ؟
____________
1) الجامع لاَحكام القرآن 10 : 180 ، وبه قال الاِمام الزيدي أحمد بن يحيى بن المرتضى في البحر الزخار 6 : 100 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت 1393 هـ ، وقد ذكرناه هنا ؛ لادعاء بعض خصوم الشيعة من الجهلة الاغبياء بان الزيدية أنكروا التقية ، ولولا خشية الاَطالة لزدت البحث فصلاً في تقيتهم .
2) فتاوى قاضيخان 5 : 489 . واُنظر : أحكام القرآن | الجصاص الحنفي 1 : 127 . والمبسوط| السرخسي 24 : 48 وما بعدها . وبدائع الصنائع 7 : 175 وما بعدها .
3) التفسير الكبير | الفخر الرازي الشافعي 20 : 121 .
4) المحلّى | ابن حزم 8 : 330 مسألة : 1404 .

( 153 )
اختلفوا على قولين :
أحدهما : سقوط الحد عنه ، وهو قول القرطبي المالكي (1)، وابن العربي المالكي (2)، والفرغاني الحنفي (3)، وابن قدامة الحنبلي (4)، وابن حزم (5) ، وقال أبو حنيفة : يسقط الحد إن كان الاكراه من السلطان ، وإلاّ حُدّ استحساناً (6).
والآخر : إقامة الحد على الزاني تقية ويغرّم مهرها ، وهو قول مالك بن أنس ، والشافعي ، وقال أبو حنيفة لا يجب المهر (7).
وأما لو استكرهت المرأة على الزنا ، فلا حدّ عليها ، قولاً واحداً (8).
3 ـ جوازها في الدماء : تقدم أن أهل البيت عليهم السلام صرّحوا بأنّ التقية إنّما شرعت لحقن الدم ، وإنّه إذا بلغت التقية الدم فلا تقية ، وبهذا أفتى فقهاء الشيعة اقتداءً بأهل البيت عليهم السلام . وقد وافقهم على هذا من فقهاء العامّة مالك بن أنس (9).
وهو ظاهر المذهب المالكي ، قال ابن العربي المالكي : «قال علماؤنا :
____________
1) الجامع لاَحكام القرآن 10 : 180 .
2) أحكام القرآن | ابن العربي 3 : 1177 | 1182 .
3) بدائع الصنائع 7 : 175 ـ 191 .
4) المغني | ابن قدامة 5 : 412 مسألة : 3971 .
5) المحلّى 8 : 331 مسألة 1405 .
6) بدائع الصنائع 7 : 175 ـ 191 .
7) المغني | ابن قدامة 10 : 155 مسألة 7167 .
8) كما في سائر المصادر المذكورة في هذه الفقرة ، وفي الصفحات المؤشرة ازائها ، وهو قول الزيدية أيضاً كما في البحر الزخار 6 : 100 .
9) تفسير بن جزي الكلبي المالكي : 366 .

( 154 )
المكرَه على اتلاف المال يلزمه الغرم ، وكذلك المكرَه على قتل الغير يلزمه القتل» (1). وهو أحد قولي الشافعي (2). وخالف بذلك أبو حنيفة وصاحبه أبو يوسف .
فقال أبو حنيفة : يصح الاكراه على القتل ، ولكن يجب القصاص على المكره ، دون المأمور .
وقال أبو يوسف : يصح الاكراه على القتل ولا يجب القصاص على أحد ، وكان على الآمر دية المقتول في ماله في ثلاث سنين (3)!!
واعترف بهذا الكاساني الحنفي ، قائلاً : «والمكرَه على القتل لا قصاص عليه عند أبي حنيفة وصاحبه محمد ، ولكن يعزر القاتل ، ويجب القصاص على المكرِه .
وعند أبي يوسف لا يجب القصاص لا على المكرِه ولا على المكرَه ، وإنّما تجب الدية على الاَوّل» (4).
وقد اعتذر السرخسي الحنفي عن أبي يوسف عن فتياه العجيبة هذه ، فقال : «وكان هذا القول لم يكن في السلف ، وإنّما سبق به أبو يوسف واستحسنه» (5).
____________
1) أحكام القرآن | ابن العربي 3 : 1298 .
2) التفسير الكبير | الرازي الشافعي 20 : 121 .
3) فتاوى قاضيخان 5 : 484 . واُنظر : الفرائد البهية في القواعد والفوائد الفقهية | مفتي الشام محمود حمزة : 219 ، ط1 ، دارالفكر ، دمشق | 1406 هـ .
4) بدائع الصنائع 7 : 175 ـ 191 . وكذلك مجمع الاَنهر 2 : 431 ـ 433 .
5) المبسوط | السرخسي 24 : 45 .

( 155 )
أقول : ومن فروع هذه المسألة عند أبي حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن الشيباني ، أنه يجوز للرجل أن يتقي في قتل أبيه ، ولا يحرم من ميراثه .
قال الفرغاني الحنفي : «لو أُكرِه الرجل على قتل موروثه بوعيد قتل فَقَتَل ، لا يحرم القاتل من الميراث ، وله أن يقتُل المُكرِه قصاصاً لموروثه في قول أبي حنيفة ومحمد» (1).
والخلاصة ، إنّ المذهب الحنفي يجوز التقية في الدماء !! وهو أحد قولي الشافعي (2).
4 ـ جوازها في قطع الاَعضاء : تصح التقية في قطع أعضاء الاِنسان ، ولا قصاص في ذلك لا على الآمر ولا على المأمور، بل تجب الدية عليهما معاً من مالهما عند أبي يوسف(3)!!
والاَعجب من كلِّ هذا ، جوازها في قطع الاَعضاء تبرعاً من غير اضطرار أو إكراه !!!
إنّه لو أكرَه السلطان رجلاً على أن يقطع يدَ رجُلٍ فقطعها ، ثم قطع يدَه الاُخرى ، أو رجله تطوعاً من غير اكراه من السلطان ، وإنّما قطعها اختياراً ، فهل يجب عليه القصاص فيما قطعه مختاراً أو لا ؟
الجواب : لا قصاص عليه ، ولا على السلطان ، بل تجب عليهما الدية
____________
1) فتاوى قاضيخان 5 : 489 .
2) التفسير الكبير | الرازي 20 : 121 .
3) فتاوى قاضيخان 5 : 486 .

( 156 )
من مالهما عند أبي يوسف (1)!!
5 ـ جوازها في هتك الاَعراض !! : ومن فتاوى العامّة المخجلة حقاً تجويزهم التقية على الاِنسان في هتك عرضه وشرفه وناموسه ، وعليه أن يقف ذليلاً وبكل نذالة وهو يرى الاعتداء على شرفه ولا يدفع عنه شيئاً !
ففي الجامع لاَحكام القرآن للقرطبي المالكي أنّه إذا أُكرِه الاِنسان على تسليم أهله لما لا يحلّ ، أسلمها ، ولم يقتل نفسه دونها ، ولا احتمل أذية في تخليصها (2).
6 ـ جوازها في قذف المحصنات : تجوز التقية في قذف المحصنات عند الجصاص الحنفي (3)، وقد زاد على ذلك السرخسي ، جواز الافتراء على المسلم تقية (4).
7 ـ جوازها في اتلاف مال المسلم : جوّز الحنفية والشافعية وغيرهم التقية في اتلاف مال المسلم لمن يُكرَه على ذلك ، ولا ضمان عليه وإنّما الضمان على من أكرهه (5).
____________
1) فتاوى قاضيخان 5 : 486 .
2) الجامع لاَحكام القرآن | القرطبي المالكي 10 : 180 وما بعدها في تفسيره الآية 106 من سورة النحل .
3) أحكام القرآن | الجصاص الحنفي 1 : 127 .
4) المبسوط | السرخسي 24 : 48 .
5) مجمع الاَنهر 2 : 431 ـ 433 . والاشباه والنظائر | السيوطي الشافعي 207 ـ 208 . والسيل الجرار على حدائق الاَزهار | الشوكاني 4 : 265 ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت | 1405 هـ . وقد قيّد بعضهم مثل هذه التقية في حالة كون الاكراه عليها بالقتل وهو ما يسمونه بالاكراه الملجيء الذي يكون معتبراً في التصرفات القولية والفعلية ، وفي مثل هذا الحال يكون الضمان على المكرِه ،

=


( 157 )
وأطلق الاِمام الزيدي أحمد بن يحيى بن المرتضى القول باباحة مال الغير بشرط الضمان في حال التقية (1).
8 ـ جوازها في شهادة الزور : صرّح السيوطي الشافعي بجواز شهادة الزور عند الاكراه عليها ، فيما لو كانت تلك الشهادة في اتلاف الاموال (2).
كلمة أخيرة عن سعة التقية في فقه المذاهب الاَربعة :
لقد تركنا الكثير جداً من المسائل التي جوّز فيها فقهاء العامّة التقية بغية للاختصار ، كتجويزهم التقية مثلاً في : الصدقة ، والاقرار ، والنكاح ، والاجارة ، والمباراة ، والكفالة ، والشفقة ، والعهود ، والتدبير ، والرجعة ـ بعد الطلاق ـ والظهار ، والنذر ، والايلاء ، والسرقة ، وغيرها من الفروع الشرعية (3) ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات. ومن هنا قال المالكية : «الاكراه، إذا وقع على فروع الشريعة لا يؤخذ المكره بشيء»(4).
وأوسع من هذا المعنى ما صرّح به موسى جار الله التركماني بقوله:«والتقية هي : وقاية النفس من اللائمة والعقوية ، وهي بهذا المعنى من الدين ، جائزة في كلِّ شيء» (5).
____________

=

وأما لو كان الاكراه غير ملجيء وهو ما كان التهديد فيه بما دون القتل فللمكرَه أن يتقي في المثال أيضاً بشرط الضمان .
اُنظر : شرح المجلة | سليم رشيد الباز : 560 المادة 1007 ط دار إحياء التراث العربي : بيروت .
1) البحر الزخار 6 : 100 .
2) الاَشباه والنظائر | السيوطي : 207 ـ 208 .
3) راجع في ذلك بدائع الصنائع 7 : 175 ـ 191 . والمحلّى 8 : 331 ـ 335 مسألة : 1406 وغيرهما مما ذكرناه من مصادر الفقه العامي .
4) أحكام القرآن | ابن العربي 3 : 1177 | 1182 .
5) الوشيعة في نقد عقائد الشيعة | موسى جارالله : 72 ، ط1 ، مطبعة الشرق ، مصر | 1355 هـ .

( 158 )
وقال أيضاً : «التقية في سبيل حفظ حياته ، وشرفه ، وحفظ ماله ، وفي حمايته ، حق من حقوقه واجبة على كلِّ أحد إماماً كان أو غيره» (1).
وبهذا وغيره مما مرّ في فصول هذا البحث يتضح أنّه لا مجال لاَحد في النقاش بمشروعية التقية في الاِسلام ، ولا مجال لانكارها بحال من الاَحوال ، وان انكارها مرض طبعت عليه قلوب المنافقين ، والحمد لله ربِّ العالمين .