الوافية في اصول الفقه ::: 121 ـ 135
(121)
    الرابع : ورود الامر بقول : ( لبيك ربنا ) عند قراء‌ة قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا ) ، وقول : ( لا بشيء من آلاء ربي أكذب ) عند قراء‌ة قوله تعالى : ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) ، وغير ذلك مما هو مذكور في محله (1).
    الخامس : الظواهر ، وهي كثيرة :
    منها : قوله تعالى : ( لا نذركم به ومن بلغ ) (2).
    ومنها : قوله صلى الله عليه وآله في خبر الغدير : « فليبلغ الشاهد منكم (3) الغائب » (4).
    ومنها : ما رواه ابن بابويه في العيون ، بسنده « عن الرضا عليه السلام ، عن أبيه عليه السلام : أن رجلا سأل أبا عبدالله عليه السلام : ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة ؟ فقال : لان الله تبارك وتعالى لم ينزله (5) لزمان دونه زمان ، ولا لناس (6) دون ناس ، فهو في كل زمان جديد ، وعند كل قوم غض ، إلى يوم القيامة » (7).
    ومنها : ما رواه الكليني ، بسنده « عن أبي بصير ، قال : قلت لأبي عبدالله عليه السلام : ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ... ) (8) ؟ ... إلى أن قال عليه السلام : يا أبا محمد ، لو كانت إذا نزلت آية على رجل ، ثم مات ذلك الرجل ،
الشيخ في باب من يجب عليه الجهاد ، وقوله (ع) : « وبحجة هذه الآية يقاتل مؤمنوا كل زمان » اشارة إلى قوله تعالى : ( اذن للذين يقاتلون بانهم ظلموا ) الآيات. ( منه رحمه الله ).
1 ـ عيون أخبار الرضا : 2 / 183 ، الكافي : 3 / 429 ـ كتاب الصلاة / باب نوادر الجمعة / ح 6.
2 ـ الانعام / 19.
3 ـ كلمة ( منكم ) : زيادة من ط.
4 ـ الكافي : 1 / 289 ، 291 ـ كتاب الحجة / الباب 64 / ح 4 ، 6.
5 ـ كذا في المصدر ، وفي النسخ : لم يجعله.
6 ـ كذا في المصدر ، وفي النسخ : ولناس.
7 ـ عيون اخبار الرضا : 2 / 87 ح 32.
8 ـ الرعد / 7.


(122)
ماتت الآية ـ مات الكتاب ، ولكنه حي ، يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضى » (1).
    ومنها : ما رواه في الصحيح : « عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : اوصي الشاهد من امتي ، والغائب منهم ، ومن في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة ـ أن يصل الرحم ... » (2) الحديث.
    وغير ذلك من الروايات.
    احتج الخصم : بأنا نعلم بديهة (3) أنه لا يقال للمعدومين : ( يا أيها الناس ) ونحوه ، بل للصبي والمجنون (4).
    والجواب :
    أولا : تسليم ذلك في المعدومين فقط ، لا في (5) المخلوط من الموجودين والمعدومين ، ولهذا قبح خطاب الغائبين فقط بمثل : ( يا أيها الناس ) دون المركب من الغائبين والحاضرين ، كما في أكثر خطابات الرؤساء والحكام وغيرهم.
    وثانيا : تسليم ذلك فيما إذا تكلم المخاطب مشافهة ، لا فيما إذا أنزل الخطابات (6) بصورة المشافهة ، وأمر جماعة ـ واحدا بعد واحد ـ بتبليغ ذلك إلى مكلفي زمانهم ، ويكون ذلك محفوظا في الكتب ، يرجع إليه من يريد ، ولهذا تجوز الوصية بالاوامر والنواهي ، مكتوبة في طومار ـ إلى من انتسب إلى الموصي
1 ـ الكافي 1 / 192 ـ كتاب الحجة / باب أن الائمة هم الهداة / ح 3.
2 ـ الكافي : 2 / 151 ـ كتاب الايمان والكفر / باب صلة الرحم / ح 5.
3 ـ في أ وط : بديهية.
4 ـ المنتهى : 117 ، معالم الدين : 108.
5 ـ كلمة ( في ) : زيادة من أ.
6 ـ في أ : انزل الخطاب ، وفي ب : نزل الخطاب ، وفي ط : نزلت الخطابات.


(123)
بعدة بطون ، وقد وقع ذلك في وصية أمير المؤمنين عليه السلام (1) وغيره ، من غير شائبة قبح أصلا.
    وفي الصبي والمجنون ـ أيضا ـ نقول : إنه يجوز خطابهم في جماعة بخطاب (2) يفهمونه عند استجماعهم لشرائط الخطاب ، إذا علم المخاطب أنهم يصيرون بهذه المنزلة ، ويعلم بقاء خطابه.
    ولا شك ولا شبهة في جواز أن يكتب الانسان كتابا ، فيه خطابات وأوامر ونواه ، ويدفعه إلى إنسان ويقول له : إن هذه الخطابات والاوامر والنواهي لكل من اطلع على كتابي ، وينبغي لك أن تبلغها إلى الناس ، ثم من بعدك ولدك ، ثم ولد ولدك ، وهكذا ، ولا يتوقف العقل في أن المخاطب حينئذ هو كل من اطلع عليها ، موجودا كان وقت تصنيف الكتاب أو معدوما ، بل نقول : لا فرق بين خطاب الغائب والمعدوم.
    مع أن خطابات الكتب والمراسيل كلها من قبيل خطاب الغائب كما لا يخفى ، ونحن نقول : إن خطابات القرآن من هذا القبيل ، لما مر.
    ويؤيده : حديث الصحف الاثني عشر المنزلة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، للائمة الاثني عشر عليهم السلام (3) ، إذ في كل منها أوامر ونواه لامام من الائمة.
    وأيضا : خطابات المصنفين ـ مثل قولهم : ( إعلم ) و: ( تأمل ) و: ( تدبر )
1 ـ الكافي : 7 / 49 ـ كتاب الوصايا / باب صدقات النبي صلى الله عليه وآله وفاطمة (ع) والائمة (ع) ووصايهم / ح 7.
2 ـ في أ : في جماعة الخطاب بخطاب إلى آخره.
3 ـ الكافي : 1 / 279 ـ كتاب الحجة / باب أن الائمة (ع) لم يفعلوا شيئا ولا يفعلون إلا بعهد من الله عزوجل ، وأمر منه لا يتجاوزونه. و: الامامة والتبصرة من الحيرة : ص 166 / باب في أن الامامة عهد من الله تعالى / ح 20. وقد ورد هذا الحديث في مصادر عديدة ، انظر مجموع طرقه ومتونه في بحار الانوار : 36 / 192 وما بعدها / الباب 40 ـ باب نصوص الله عليهم من خبر اللوح والخواتيم وما نص به عليهم في الكتب السالفة وغيرها.


(124)
ونحو ذلك ـ من هذا القبيل.
    واعلم : أن الغرض من هذه المسألة وذكرها ، بيان الحق فيها ، وإلا فالحق أنه لا يترتب عليها أثر ، إذ الظاهر تحقق الاجماع على مساواة كل الامة في التكاليف ، وورود بها النصوص ، وقد قال الصادق عليه السلام ـ في رواية أبي عمرو الزبيري ، في الجهاد ـ : « لان حكم الله عزوجل في الاولين والآخرين ، وفرائضه عليهم ، سواء ، إلا من علة ، أو حادث يكون ، والاولون والآخرون أيضا في منع الحوادث شركاء والفرائض عليهم واحدة ، يسأل الآخرون عن أداء الفرائض كما يسأل عنه الاولون ، ويحاسبون به كما يحاسبون ... » الحديث (1).
1 ـ التهذيب : 6 / 127 ح 224.

(125)
    الاول : الحق جواز تخصيص العام إلى أي مرتبة كانت ، ما لم يستلزم استدراكا في الكلام ، حتى إلى الواحد ، بعد نصب القرينة على مرتبة التخصيص (1) ، فلا يجوز طرح نص شرعي كان العام الواقع فيه مخصصا إلى الواحد ، بعد تحقق المخصص المخصوص ، المانع من إرادة الاكثر من الواحد بلا معارض أصلا ، إلا أن الظاهر عدم وقوع تخصيص العام إلى الواحد في الشرعيات.
    والمفرد المحلي باللام المستعمل في الاحد : الظاهر أن لامه للعهد ، أو استعماله للتعظيم ، وهو كثير في الحقيقة ، كما حقق.
    لنا : أصالة الجواز من غير مانع.
1 ـ وهو اختيار السيد المرتضى : الذريعة : 1 / 297 ، والشيخ الطوسي : عدة الاصول : 1 / 149 ، وحكاه في المعالم عن السيد ابن زهرة : معالم الدين : 110 ، وللعلامة تفصيل في المقام انظره في : تهذيب الوصول : 39.

(126)
    وتحقق العلاقة بين المعنى الحقيقي للعام ـ وهو الافراد بالاسر ـ وبين الواحد والاثنين والثلاثة من تلك الافراد ، وهي الجزئية.
    احتج من ذهب إلى أنه لا بد من بقاء جمع يقرب من مدلول العام : بقبح قول القائل : ( أكلت كل رمانة في البستان ) وفيه آلاف وقد أكل واحدة أو ثلاثة (1) ، وقوله : ( أخذت كل ما في الصندوق من الذهب ) وفيه ألف ، وقد أخذ دينارا إلى ثلاثة (2) ، وكذا قوله : ( كل من دخل داري فهو حر ) ، أو : ( كل من جاء‌ك فأكرمه ) ، وفسر بواحد أو ثلاثة (3).
    والجواب : أولا : منع القبح الذي ادعاه ، مع نصف القرينة ، نعم يقبح بدون نصب القرينة ، كما يصح قول القائل : ( له علي (4) عشرة إلا تسعة ) و: ( أكرم الناس إلا الجهال ) وإن كان العالم واحدا ، اتفاقا ، من غير نقل خلاف من أحد ، مع أنه لا يصح أن يقول : ( له علي عشرة ) و: ( أكرم الناس ) ، وفسر العشرة بواحد ، والناس بزيد مثلا.
    وثانيا : بأنا لا ندعي صحة استعمال العام في واحد مخصوص من أفراده ، أو في اثنين أو في (5) ثلاثة أو نحو ذلك ، بل المراد بالتخصيص إلى الواحد والاثنين ونحو ذلك : أن يكون العام مستعملا في المعنى الكلي ، ولكن يكون الحكم المتعلق بالعام متعلقا بواحد من أفراده أو إثنين أو نحو ذلك ، بسبب المخصص.
    والفرق ظاهر بين استعمال العام في الواحد المخصوص ، وبين تعلق الحكم
1 ـ المستصفى : 2 / 91 ، المحصول : 1 / 400 ، المنتهى : 120.
2 ـ معارج الاصول : 90.
3 ـ معالم الدين : 110. والعبارة فيه : وفسره.
4 ـ كلمة ( علي ) : ساقطة من الاصل ، اثبتناها من باقي النسخ.
5 ـ كلمة ( في ) : زيادة من ط.


(127)
بالواحد المخصوص من أفراده ، فنقول : لو قال ( أكلت كل رمانة في البستان إلا الحامض ) ويكون الحلو واحدا ، فهو صحيح ، بخلاف ما لو فسر قوله : ( كل رمانة ) بواحدة حلوة.
    وكذا يصح لو قال (1) : ( أخذت كل ما في الصندوق من الذهب إلا الدمشقيات ) ويكون غير الدمشقي دينارا واحدا.
    وكذا الحال في باقي المخصصات ، من الشرط والصفة وغيرهما.
    ثم لا يخفى ما في مذهب من منع من التخصيص إلى الواحد ، فإن ثمرة هذه المسألة (2) إنما تظهر : إذا ورد نص عام ، له مخصص يخصصه إلى الواحد ، ويكون مستجمعا لشرائط جواز العمل ، وحينئذ : فكيف يجوز للمانع طرح هذا النص لاجل ما ذكره من الاعتبارات الواهية ؟!.
    ولو كان هذا النص بحيث لا يوجب مخصصه تخصيصه إلى الواحد ، بل يحتمل الاكثر ، فظاهر عدم جواز القول بأنه مخصص إلى الواحد ، لان التخصيص خلاف الاصل ، فلا يجوز إلا بقدر الضرورة.
    ثم لا يخفى عليك مما مر : أن الاستدلال على المطلوب بتصحيح علاقة المجاز ـ كما مر ـ كان مما شاة وعلى طريق التنزل (3) ، وإلا : فالحق أن العام المخصوص إنما هو مستعمل في معناه الحقيقي الذي هو العموم ، والمخصص إنما أخرج البعض عن الحكم المتعلق به ـ سواء خص بمتصل (4) : من شرط ، أو صفة ، أو غاية ، أو إستثناء ، أو نحوها ، أو بمنفصل : لفظي أو عقلي ـ لعدم الدليل (5) على المجازية ، مثلا قولنا : ( أكرم بني تميم إلى الليل ) أو : ( إن دخلوا
1 ـ في ط : ما لو قال.
2 ـ كذا في أ وب وط ، وفي الاصل : المسألتان.
3 ـ في ط : التنزيل.
4 ـ في ط : لمتصل.
5 ـ في ط : الدلالة.


(128)
الدار ) (1) الحكم على كل واحد من بني تميم ، غايته أنه ليس في جميع الازمنة في الاول ، وليس على جميع الاحوال في الثاني ، وكذا : ( أكرم بني تميم الطوال ) الحكم على كل احد ولكن لا مطلقا بل إذا اتصف بالطول ، أو المراد : أكرم طوال بني تميم ، أي : بعضهم ، وهو يؤيد عمومه ، ولهذا يصح أن يقال : ( وأما القصار منهم فلا تكرمهم ) ، وكذا : ( أكرم بني تميم إلا الجهال منهم ) الحكم على كل واحد بشرط اتصافه بالعلم ، أو الحكم على كل واحد بعد إخراج الجهال منهم.
    وكذا الحال في المنفصل ، مثل : ( أكرم بني تميم ) ، ثم يقول : ( لا تكرم الجهال من بني تميم ) معناه : أكرم علماء بني تميم.
    ولا بد في المنفصل (2) أن تكون في الكلام الاول ، أو معه ـ قرينة مقالية ، أو حالية ، بها يطلع المخاطب على مراد المتكلم ، ولا يكفي المخصص إلا مع اتحاد المجلس ، أو عدم لزوم إفهام المخاطب قبل (3) وقت الحاجة والعمل.
    إذا عرفت هذا ، فاعلم أن العام المخصص : لا بد أن يكون الحكم فيه متعلقا بالامر الكلي ، إلا أنه لا يمتنع أن يكون هذا الكلي منحصرا في فرد أو فردين أو نحو ذلك ، فلذا حسن أن يقول : ( أكلت كل رمانة إلا الحامض ) ويكون الحلو منحصرا في واحد ، وقبح أن يقوله ، ويقول : إن المراد ب‍ ( كل رمانة ) : رمانة واحدة ، فلا تغفل.

    البحث الثاني :
    اختلف في جواز التمسك بالعام قبل البحث عن مخصصه (4) ، وفي مبلغ
1 ـ كذا في ط ، وفي أ وب : وان دخلوا الدار ، والاصل هنا مشوش.
2 ـ قوله ( في المنفصل ) : زيادة من ط.
3 ـ في ط : بعد.
4 ـ فقد ذهب البيضاوي إلى جواز الاستدلال بالعام ما لم يظهر المخصص ، ولم يوجب طلبه :


(129)
البحث عنه.
    فقيل : يجب البحث حتى يحصل الظن بعدمه (1).
    وقيل : حتى يحصل القطع (2).
    والاكثر على عدم الجواز (3) ، حتى أنه نقل الاجماع عليه (4) ، وما استدلوا به عليه غير منقح.
    والاولى الاستدلال عليه : بأن إطاعة الله ، ورسوله ، والائمة عليهم السلام ، واتباعهم ـ لا تتحقق إلا بالعمل بمرادهم ، فلا بد من العلم أو الظن بمرادهم ، ولا يحصل في العام قبل البحث عن مخصصه (5) ، بل الظن بالتخصيص حاصل ، لشيوع التخصيص.
    والحاصل : أنه لا دليل على وجوب العمل بمدلولات الالفاظ بدون العلم أو الظن بأنها المراد ، والاطاعة الواجبة ونحوها لا تتحقق بدونهما ، ولا أقل من الشك في صدق الاطاعة والانقياد على
منهاج الوصول : 87 ، وذهب إلى ذلك أيضا الصيرفي والارموي والبهاري كما في : فواتح الرحموت بهامش المستصفى : 1 / 267 ، وبهذا يعلم عدم استقامة ما فعله ابن الحاجب من حصر محل الخلاف بمبلغ البحث عن المخصص : المنتهى : 144. وقال العلامة الحلّي : « ولا يجب في الاستدلال بالعام استقصاء البحث في طلب المخصص » : تهذيب الوصول : 40 ، وقد فهم من كلامه هذا أنه يرى جواز العمل بالعام قبل البحث عن المخصص مطلقا : معالم الدين : 119 ، ولكن يظهر مما ذكره في الرد على ابن سريج أن ذلك مشروط عنده بالظن بعدم المخصص ، على انه صرح في ( نهاية الوصول ) باختيار عدم جواز العمل بالعام قبل البحث عن المخصص : نهاية الوصول ورقة 100 / أ ( مصورة ).
1 ـ نسب ابن الحاجب هذا القول إلى الاكثر ، واختاره هو : المنتهى : 144.
2 ـ وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني ، كما في المستصفى : 2 / 159 ، المنتهى : 144.
3 ـ فقد ذهب إلى ذلك الشيخ الطوسي : عدة الاصول : 2 / 19. والمحقق الحلّي والمحقق الشيخ حسن ما لم يحصل الظن الغالب بعدم المخصص : معارج الاصول : 113 ، معالم الدين : 119.
4 ـ حكى الاجماع الغزالي : المستصفى : 2 / 157 ، وابن الحاجب : المنتهى : 144.
5 ـ كذا في أ وب وط ، وفي الاصل : مخصص.


(130)
ذلك التقدير (1) ، فالاطاعة الواجبة لا تتحقق في البحث.
    وفيه نظر ، لمنع عدم حصول الظن في كل فرد ، ولا ينافيه ظن أصل المخصص ، لقلة المخرج غالبا بالنسبة إلى الباقي ، وحال الاجماع عندنا في مثل هذه المسائل غير خفي.
    ويمكن الاستدلال على الجواز : بأن علماء الامصار ـ في جميع الاعصار ـ لم يزالوا يستدلون في المسائل بالعمومات ، من غير ذكر ضميمة نفي المخصص ، ولو لم يصح التمسك بالعام قبل البحث عن المخصص ، لكان للخصم أن يقول : العام لا يكفي في إثبات هذه المسألة ، ولا علم لي ببحثك عن المخصص ، الذي يوجب انتفاؤه دخول هذا الفرد المتنازع فيه ، فيفحم المستدل عن إثباته على الخصم.
    وأيضا : الاصول الاربعماء‌ة (2) ـ التي كانت معتمد أصحاب الائمة عليهم السلام ـ لم تكن موجودة عند أكثر أصحابهم ، بل كان عند بعضهم واحد ، وعند البعض الاثنان ، والثلاثة ، والاربعة ، والخمسة ، ونحو ذلك ، والائمة عليهم السلام كانوا يعلمون أن كل واحد من أصحابهم ، يعمل في الاغلب بما عنده من الاصول ، ومعلوم أن البحث عن المخصص ، لا يتم بدون تحصيل جميع تلك الاصول ، فلو كان واجبا ، لورد من الائمة عليهم السلام أمر بتحصيل كل تلك الاصول ، ونهي عن العمل ببعضها ، إذ معلوم أن جل الاحكام من قبيل العمومات والمطلقات المحتملة للتقييد.
    فالمسألة محل التوقف.
    واعلم : أنه ـ على تقدير وجوب الفحص عن المخصص ، إلى أن يحصل القطع بعدمه ـ لا يجوز العمل بشيء من العمومات والمطلقات ، المجوزة
1 ـ أي تقدير عدم العلم والظن. ( منه رحمه الله ).
2 ـ اقرأ بحثا موسعا عن ( الاصول الاربعماء‌ة ) في : دائرة المعارف الشيعية / للسيد حسن الامين.


(131)
للتخصيص ، حتى يفتش (1) عن مخصصه في جميع كتب الأخبار ، كالكتب الاربعة ، والخصال ، والعيون ، والعلل ، والامالي ، وغير ذلك ، من الكتب الاخبارية الموجودة في هذا العصر ، إذ لا يحصل القطع بعدم المخصص بدون ذلك ، وبعد التفتيش : يحصل القطع بالتكليف بالعام ، وإن كان تجويز وجود المخصص في الكتب غير الموجودة في هذا الزمان باقيا.
    وعلى تقدير الاكتفاء بالظن : يكفي ملاحظة الكتب الاربعة ، بل يكفي ملاحظة التهذيب والكافي ، بل لا يبعد الاكتفاء بالتهذيب ، لندرة وجود خبر مخصص في غير التهذيب مع تحقق عامه فيه ، ولا يكفي ملاحظة الكافي فقط (2).
    وينبغي في فحص مخصص العام المتعلق بشيء من مسائل الطهارة ملاحظة كل واحد من أبوابها في التهذيب ، وكذا الصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها ، سيما أبواب (3) الزيادات والنوادر في كل منها ، والاحسن ملاحظة الابواب المناسبة في الكتب الاخر ، أيضا ، فإن :
    في كتاب الطهارة : ما يتعلق بالنكاح ، وبالمكاسب ، وبالصلاة ، وبالصوم ، وبالطلاق ، وبالحج.
    وفي الصلاة : ما يتعلق برمضان ، وبالصوم ، وبالطهارة ، والاطعمة ، والمكاسب ، والنذر ، والميراث ، والزكاة ، والديات.
    وفي الزكاة : ما يتعلق بالصلاة ، والصوم ، والميراث ، والمكاسب ،
1 ـ في أ : نقيس.
2 ـ لقد صنفت بعد عصر المؤلف مجاميع حديثية كبرى تحملت أعباء هذه المهمة ، وكفت الفقهاء مؤنة الفحص هذه ، كوسائل الشيعة للشيخ الحرّ العاملي ، ثم المستدرك عليه للشيخ النوري ، والوافي للفيض الكاشاني ، وجامع احاديث الشيعة للسيد البروجردي ، حيث جمع في هذه المصنفات شتات جميع الأحاديث في محل واحد ، تحت عناوين الابواب المناسبة.
3 ـ كذا في أ. وفي سائر النسخ : باب.


(132)
والخمس ، والجهاد ، والضمان ، والفطرة ، والجزية ، والنكاح ، والشهادة.
    وفي الصوم : ما يتعلق بالصلاة ، والنذر ، والطهارة ، والحج ، والحدود ، والكفارات ، والطلاق.
    وفي الحج : من الزكاة ، والجهاد ، والصلاة ، والصوم ، والطهارة والمكاسب ، والذبائح ، والعقيقة ، والاجازة.
    وفي المزار : من الطهارة ، والصوم ، والصلاة ، والاطعمة.
    وفي الجهاد : من الجزية ، والزكاة.
    وفي الديون وتوابعه : من الزكاة ، والوصية ، والمكاسب ، والاقرار ، والشهادة ، والميراث ، والنكاح.
    وفي القضايا : من الصلاة ، والصلح ، والطلاق ، والضمان ، والحدود.
    وفي المكاسب : من الحج ، والخمس ، والطهارة ، والقضايا ، والجزية ، والوصايا ، والنكاح ، والضمان.
    وفي النكاح : من الميراث ، والطلاق ، والنذر ، والاطعمة ، والمكاسب ، والتدبير ، والقضايا ، والعتق ، والطهارة ، والحدود ، والجزية.
    وفي الطلاق : من الصوم ، والعتق ، والمكاسب ، والشهادة ، والوصية ، والنكاح ، واليمين ، والديات ، والميراث ، والحدود.
    وفي العتق وتوابعه : من المكاسب ، والطلاق ، والميراث ، والزكاة ، والنذر ، والصلاة ، والنكاح ، والوصية ، والشهادة ، والاقرار ، والقضاء ، والديون ، والضمان ، والحجر.
    وفي الايمان وتوابعه : من العتق ، والصدقة ، والطلاق ، والكفارات ، والحج ، والنكاح ، والصوم ، والجهاد ، والقضايا.
    وفي الصيد والذباحة : من الطهارة ، والصلاة ، والزكاة ، والمكاسب ، والنكاح ، والديات ، والشهادة.
    وفي الوقوف : من المكاسب ، والقضاء ، والتدبير.


(133)
    وفي الوصية : من الاقرار ، والقضايا ، والديون ، والضمان ، والنكاح ، والعتق ، والزكاة ، والحج ، والطهارة ، والصوم ، والذباحة ، والمكاسب ، والميراث.
    وفي الفرائض : من الديات ، والنكاح ، والقضايا ، والوصايا (1) ، والطلاق ، والحدود ، والعتق ، والقصاص ، والزكاة ، والخمس ، والكفارة ، والضمان.
    وفي الحدود : من القضايا ، والطلاق ، والنكاح ، والايمان ، والديات ، والاطعمة ، والمكاسب ، والطهارة ، والاشربة ، والذبائح ، والاقرار ، والزكاة ، والديون.
    وفي الديات : من القضايا ، والجزية ، والميراث ، والعتق ، والصلاة ، والكفارات ، والصوم ، والضمان ، والنكاح ، والمكاسب.
    وقد تكفل بجميع ذلك وغيره ، الفهرست الذي جعلته على التهذيب ، وهو من أهم الاشياء لمن يريد الفقه والترجيح ، ولم يسبقني اليه أحد ، والحمد لله.

    البحث الثالث :
    إذا ورد عام وخاص متنافيا الظاهر ، فإما أن يكونا من الكتاب ، أو من السنة ، أو العام من الكتاب والخاص من السنة ، أو بالعكس ، فهذه أربعة أقسام.
    وعلى كل تقدير : فإما أن يكونا قطعيين ، أو ظنيين ، أو العام قطعيا والخاص ظنيا ، أو بالعكس ، فهذه ستة عشر قسما.
    وعلى كل تقدير : فالقطعية والظنية : إما بحسب المتن فيهما ، أو بحسب السند فيهما ، أو بحسب المتن في العام وبحسب
1 ـ في ب. والربا. بدل : والوصايا.

(134)
السند في الخاص ، أو بالعكس ، فهذه أربعة وستون قسما.
    وعلى كل تقدير ، فالتنافي : إما بين منطوقيهما ، أو مفهوميهما ، أو منطوق العام ومفهوم الخاص ، أو بالعكس ، فهذه ماء‌تان وستة وخمسون قسما.
    وعلى كل تقدير : فإما أن يكون العام والخاص مقترنين ، أو العام مقدما والخاص مؤخرا ، أو بالعكس ، أو كلاهما مجهولي التاريخ ، أو العام فقط ، أو الخاص فقط ، فهذه ألف وخمسماء‌ة وستة وثلاثون قسما.
    والخاص المؤخر : إما بعد وقت العمل ، أو قبله ، فهذه ألف وسبع ماء‌ة وإثنان وتسعون قسما.
    وقد وقع الخلاف في كثير من هذه الاقسام ، في جواز مقاومة الخاص للعام ، وفي كونه مبنيا أو ناسخا.
    وتحقيق الحق في كل واحد (1) على التفصيل ، مما يفضي إلى غاية التطويل (2) ، فنقول : المراد بالظني : ما دل الدليل على حجيته (3) شرعا ، كخبر العدل ، وكذا المفهوم ، المراد به ـ ههنا ـ : ما دل الدليل على اعتباره ، وسيجيء تفصيله إن شاء الله تعالى.
    إذا عرفت هذا ، فاعلم أن كل خاص ، علم وروده بعد وقت العمل بالعام في الكتاب والاخبار النبوية ، فالظاهر : أنه ناسخ لحكم (4) العام في مورد ذلك الخاص ، لقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة من غير داع أصلا.
1 ـ في أ وب : في كل واحد واحد.
2 ـ انظر تفصيل بعض هذه الابحاث في : الذريعة : 1 / 315 ـ 323 ، عدة الاصول : 1 / 153 ، المستصفى : 2 / 137 ـ 152 ، المحصول : 1 / 440 ـ 447 ، معارج الاصول : 98 ـ 99 ، نهاية الوصول ورقة 109 / ب ـ 111 ب ( مصورة ) ، تهذيب الوصول : 45 ـ 46 ، معالم الدين : 142 ـ 147.
3 ـ في أ : حجته.
4 ـ في ط : بحكم.


(135)
    أللهم ، إلا أن يكون المتكلم عالما بتعذر حكم هذا العام في مورد ذلك الخاص ، فإن الظاهر حينئذ أن الخاص مبين (1) ـ كما في صورة تقديمه مطلقا ـ وهذا (2) هو الوجه في اختصاص التقسيم ـ إلى ما بعد وقت العمل ، وما قبله ـ بالخاص المتأخر في قولنا : ( والخاص المؤخر : إما بعد وقت العمل أو قبله ).
    وما عدا ذلك : فالظاهر بيانية (3) الخاص للعام ، وتخصيص العام بالخاص في أي قسم كان من الاقسام المذكورة.
    ومنع السيد المرتضى (4) ، والشيخ (5) ، وجماعة من أصحابنا (6) ، ومن العامة (7) : تخصيص الكتاب بخبر الواحد مطلقا (8).
    وتوقف بعضهم (9) ، وإليه يميل المحقق ، بناء‌ا على عدم ثبوت حجية خبر الواحد على الاطلاق (10).
    وفصل بعضهم في كل خاص ظني عارض عاما قطعيا ، فقال : إن
1 ـ في أ : بين.
2 ـ كلمة ( هذا ) : زيادة من ط.
3 ـ في أ : مباينة.
4 ـ الذريعة : 1 / 281 ، حيث قال : « على أنا لو سلمنا ان العمل بها لا على وجه التخصيص واجب قد ورد الشرع به ، لم يكن في ذلك دلالة على جواز التخصيص بها ».
5 ـ عدة الاصول : 1 / 135.
6 ـ فهو مذهب كل من منع حجية خبر الواحد. وقد تقدم من المصنف التنصيص عليهم في ص 158.
7 ـ وهو قول المعتزلة. كما في المنخول : 174 ، وجماعة من المتكلمين كما في : معارج الاصول : 96.
8 ـ وأكثر العامة على جوازه « فالمنقول عن الائمة الاربعة الجواز مطلقا ، واختاره الامام ـ أي الغزالي ـ واتباعه ، منهم البيضاوي وبه قال امام الحرمين وطوائف وبته الآمدي » ، كما في الابهاج : 2 / 171 وبذلك صرح الغزالي في ص 174 من المنخول ، واليه أيضا ذهب الفخر الرازي : المحصول : 1 / 432 ، وابن الحاجب : المنتهى : 131 ، واختار الجواز منا العلامة الحلّي مصرحا بوقوعه : تهذيب الوصول : 44 ـ 45 ، والمحقق الشيخ حسن : معالم الدين : 140.
9 ـ وهو القاضي أبوبكر الباقلاني ، كما في : المنخول : 174 ، والمنتهى : 131.
10 ـ معارج الاصول : 96.
الوافية في اصول الفقه ::: فهرس