الوافية في اصول الفقه ::: 166 ـ 180
(166)
    البحث الثالث :
    للعمل بخبر الواحد في هذا الزمان شرائط ، يجمعها :
    وجود الخبر في الكتب المعتمدة للشيعة ، كالكافي ، والفقيه ، والتهذيب ، ونحوها.
    مع عمل جمع منهم به ، من غير رد ظاهر.
    ولا معارضة لما هو أقوى منه.
    سواء كان الراوي عدلا أم لا ، وسواء كانت الرواية مسندة صحيحة ، أو حسنة ، أو موثقة ، أو ضعيفة ـ بحسب الاصطلاح ـ أو مرسلة ، أو مرفوعة ، أو موقوفة ، أو منقطعة ، أو معضلة (1) ، أو معنعنة ، أو منكرة (2) أو معللة ، أو مضطربة ، أو مدرجة ، أو معلقة ، أو مشهورة ، أو غريبة ، أو عزيزة ، أو مسلسلة ، أو مقطوعة ، إلى غير ذلك من الاصطلاحات.
    والقوة : تكون باعتبار العدالة ، والورع ، والشهرة ، وعمل الاكثر ، ونحو ذلك ، مما سيجيء التنبيه عليه إن شاء الله تعالى.

    البحث الرابع :
    تعرف عدالة الراوي ، في هذا الزمان وما ضاهاه ، وكذا أعدليته ، وورعه ، وأورعيته ـ بتزكية العدل المشهور ، وقد انحصر المزكي والجارح في : الشيخ الطوسي ، والكشي ، والنجاشي ، وابن الغضائري ، وابن طاووس ،
1 ـ في ط : منفصلة.
2 ـ في ط : مكررة.


(167)
والعلامة ، ومحمد ابن شهر آشوب ، وابن داود ، وربما توجد التزكية والجرح لغيرهم أيضا في كتب الحديث ، ك‍ : الفقيه ، والكافي ، وغيرهما.
    والظاهر : الاكتفاء بالواحد في الجرح والتعديل ، ولو لم يذكر السبب ، وإلا لم يوجد خبر صحيح بالاصطلاح المشهور ، وسيجيء فيه مزيد تحقيق.
    ومع تعارض الجرح والتعديل : فقد قيل (1) : بتقديم الجرح ، لانه به يحصل الجمع بينهما.
    والظاهر : الترجيح بالقرائن ، إن أمكن ، وإلا فالتوقف.
    وبقي هنا مباحث اخر ، تركناها لقلة فائدتها ، كمباحث المطلق والمقيد ، والمجمل والمبين ، والناسخ والمنسوخ ، ومباحث المنطوق والمفهوم سيجيء ما يعتد به منها إن شاء الله تعالى.
1 ـ كذا في ط ، وفي سائر النسخ : فقيل.

(168)

(169)
    الباب الرابع
في الادلة العقلية
وتحقيق ما يعتمد عليه منها وما لا يعتمد عليه


(170)

(171)
وهي أقسام :
    الاول : ما يستقل بحكمه العقل ، كوجوب قضاء الدين ، ورد الوديعة ، وحرمة الظلم ، واستحباب الاحسان ، ونحو ذلك.
    كذا ذكره المحقق في المعتبر (1) ، والشهيد في الذكرى (2) ، وغيرهما.
    وحجية هذه الطريقة : مبنية على الحسن والقبح العقليين (3).
    والحق ثبوتهما ، لقضاء الضرورة بهما (4) في الجملة ، ولكن في إثبات الحكم الشرعي ـ كالوجوب والحرمة الشرعيين ـ بهما (5) ، نظر وتأمل.
    والواجب العقلي : ما يستحق فاعله المدح ، وتاركه الذم.
    والشرعي : ما يستحق فاعله الثواب ، وتاركه العقاب.
    وعكسه الحرام فيهما.
    ووجه النظر امور :
1 ـ المعتبر : 1 / 32.
2 ـ الذكرى : 5 / المقدمة / الاصل الرابع / القسم الاول.
3 ـ كذا في أ وب وط ، وفي الاصل : العقلي.
4 ـ كذا في أ وب وط ، وفي الاصل : به.
5 ـ كذا في ب وط ، وفي الاصل وأ : بها.


(172)
    الاول : أن قوله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) (1) ظاهر في أن العقاب لا يكون إلا بعد بعثة الرسول (2) فلا وجوب (3) ولا تحريم إلا وهو مستفاد من الرسول صلى الله عليه وآله.
    فإن قلت : يجوز أن يستحق العقاب ، ولكن لا يعاقبه الله تعالى إلا بعد بيان الرسول أيضا ، ليتعاضد (4) العقل والنقل ، لطفا منه تعالى.
    قلت : ظاهر أن الواجب شرعا مثلا ما يجوز المكلف العقاب على تركه ، فلا يتصور وجوب شرعي مثلا عند الجزم ـ بسبب إخبار الله تعالى ـ بعدم العقاب ، ولا يكون (5) حينئذ إلا (6) الوجوب العقلي.
    الثاني : ما ورد من الأخبار : كما رواه الكليني عن : « عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن علي بن الحكم ، عن أبان الاحمر ، عن حمزة بن الطيار ، عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال : قال لي : اكتب ، فأملى علي : أن من قولنا أن الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم ، ثم أرسل إليهم رسولا ، وأنزل عليهم الكتاب ، فأمر فيه ونهى أمر فيه بالصلاة والصيام ... » (7) الحديث.
    والتطبيق : كما مر.
    وأيضا : قد نقل تواتر الأخبار بأنه لم يتعلق بأحد تكليف إلا بعد بعث (8)
1 ـ الاسراء / 15.
2 ـ كذا في ط ، وفي سائر النسخ : الرسل.
3 ـ في أ وط : ولا وجوب.
4 ـ في أ : لتعاضد.
5 ـ كذا في ط ، وفي سائر النسخ : بل لا يكون.
6 ـ كلمة ( إلا ) : ساقطة من ط.
7 ـ الكافي : 1 / 164 ـ كتاب التوحيد / باب حجج الله على خلقه / ح 4.
8 ـ في ط : بعثة.


(173)
الرسول ، ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ) (1) ، وبأنه على الله بيان ما يصلح الناس وما يفسد ، وبأنه لا يخلو زمان عن إمام معصوم ، ليعرف الناس ما يصلحهم وما يفسدهم.
    والظاهر منها : حصر العلم بهما في ذلك ، وبأن أهل الفترة وأشباههم معذورون ، ويكون تكليفهم يوم الحشر (2).
    وأيضا : قد ورد : « كل شيء مطلق ، حتى يرد فيه نهي » رواه ابن بابويه في الفقيه ، في تجويز القنوت بالفارسية (3).
    فيفهم دخول غير المنصوص (4) في المباح.
    الثالث : ما عليه أصحابنا (5) ، والمعتزلة (6) ، من أن التكليف فيما يستقل به العقل لطف ، والعقاب بدون اللطف قبيح ، فلا يجوز العقاب على ما لم يرد فيه من الشرع نص ، لعدم اللطف فيه حينئذ.
    وأيضا : العقل يحكم بأنه يبعد من الله تعالى توكيل (7) بعض أحكامه (8)
1 ـ الانفال / 42.
2 ـ روى ابن بابويه في كتاب الخصال بسنده « عن زرارة ، عن أبي جعفر (ع) ، قال : إذا كان يوم القيامة احتج الله عز وجل على خمسة : على الطفل ، والذي مات بين النبيين ، والذي ادرك النبي وهو لا يعقل ، والابله ، والمجنون الذي لا يعقل ، والاصم والابكم. فكل واحد منهم يحتج على الله عزوجل ، قال : فيبعث الله عزوجل اليهم رسولا ، فيؤجج لهم نارا فيقول لهم : ريكم يأمركم أن تثبوا فيها ، فمن وثب فيها كانت عليه بردا وسلاما ، ومن عصى سيق إلى النار. ( منه رحمه الله ). الخصال : 283 / باب الخمسة ح 31.
3 ـ الفقيه : 1 / 317 ح 937.
4 ـ في ط : الخصوص.
5 ـ الذريعة : 2 / 701 ـ 702 ، تقريب المعارف : 77 ، كشف المراد : 319 ، 324 ، 327.
6 ـ المواقف : 323 بضميمة ما في ص 328 ، حاشية السيالكوتي على شرح المواقف : 393 ـ 399.
7 ـ كذا في أ وط ، وفي الاصل وب : وكول.
8 ـ في أ وط : أحكام.


(174)
إلى مجرد إدراك العقول ، مع شدة اختلافها في الادراكات والاحكام ، من غير انضباطه بنص وشرع ، فإنه يوجب الاختلاف (1) والنزاع ، مع أن رفعه من إحدى الفوائد في إرسال الرسل ، ونصب الاوصياء عليهم السلام.
    فعلى ما ذكرنا ، يشكل التعلق بهذه الطريقة في إثبات الاحكام الشرعية غير المنصوصة.
    لكن الظاهر : أنه لا يكاد يوجد شيء يندرج في هذه الطريق إلا وهو منصوص من الشرع ، ففائدة هذا الخلاف نادرة ، والله أعلم.
    الرابع : ما رواه الكليني في الصحيح : « عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : بني الاسلام على خمسة أشياء ـ إلى أن قال ـ أما لو أن رجلا قام ليله ، وصام نهاره ، وتصدق بجميع ماله ، وحج جميع دهره ، ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه ، ويكون جميع أعماله بدلالته إليه (2) ، ما كان له على الله حق في ثوابه ، ولا كان من أهل الايمان » (3) والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.
    وهذا الخبر (4) إنما يدل على أن الاحكام العملية (5) تتوقف على الشرع ، وكأنه هو الحق ، للنصوص المطلقة الدالة على تعذيب الكفار بشركهم وكفرهم ، الشاملة لأهل الفترة وغيرهم ، فلو كانت المعارف الفطرية موقوفة على الشرع من حيث الوجوب ، لم يثبت تعذيب الوثني من أهل الفترة.
    فإن قلت : الواجب العقلي : هو ما يكون تاركه مذموما عند كل عاقل وحكيم ، والحرام العقلي ما يكون فاعله مذموما كذلك ، فالحرام العقلي ـ مثلا ـ
1 ـ في أ : الاختلافات.
2 ـ هذا محل الشاهد من الخبر ، إذ لو كان للعقل دلالة لم يوجب اخذ جميع الاعمال بدلالة الامام ( هامش نسخة ط ).
3 ـ الكافي : 2 / 18 ـ كتاب الايمان والكفر / باب دعائم الاسلام / ح 4.
4 ـ في أ : الاخير.
5 ـ : في أ وط : العلمية.


(175)
لابد وأن يكون مكروها وممقوتا لله تعالى ، وليس الحرام الشرعي إلا ذلك ، لان فاعل فعل ، هو مكروه عند الله تعالى ، ممقوت له تعالى ـ مستحق لعقابه ضرورة.
    قلت : الحرام الشرعي : ما يجوز المكلف العقاب عليه ، ولا يكفي مجرد الاستحقاق ، وإن علم انتفاؤه بسبب ما ، كإخباره بذلك.
    وأيضا : بداهة استلزام المكروهية عند الله تعالى لاستحقاق عقابه ، محل نظر ومنع.
    فإن قلت : فإذا كان الامر على ما ذكرت ، فلم لم تحكم بعدم حجية هذه الطريقة على البت ؟! بل جعلت حجيتها محل التأمل ، المشعر بالشك والتردد.
    قلت : وجه التردد مما مر ، ومن : أن إخباره تعالى بنفي التعذيب ، فيما هو مذموم ومكروه عنده ـ إغراء منه تعالى للمكلف على هذا المذموم ، وهو قبيح (1) ، ونقض للغرض ، وحينئذ لا يكون ما يندرج في هذه الطريقة مندرجا في قوله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) (2) وحينئذ ، فيبقى (3) الكلام في صحة الملازمة المذكورة ، وعدمها.
    وقد قال السيد المرتضى رحمه الله في الذريعة : « وأما حد المحظور : فهو القبيح الذي قد اعلم المكلف ، أو دله على ذلك من حاله » (4).
    وذهب الفاضل الزركشي في شرح جمع الجوامع (5) إلى : أن الحسن والقبح ذاتيان ، والوجوب والحرمة شرعيان ، وأنه لا ملازمة بينهما ، فقال : « تنبيهات :
    الاول : أن المعتزلة لا ينكرون أن الله تعالى هو الشارع للاحكام ، إنما
1 ـ في ط : قبح.
2 ـ الاسراء / 15.
3 ـ في أ : فبقي.
4 ـ الذريعة 2 / 808 ، لكن فيه : أو دل.
5 ـ المسمى ب‍ : تشنيف المسامع بجمع الجوامع.


(176)
يقولون : إن العقل يدرك أن الله تعالى شرع أحكام الافعال بحسب ما يظهر من مصالحها ومفاسدها ، فهو طريق عندهم إلى العلم بالحكم (1) الشرعي ، والحكم الشرعي تابع لهما ، لا عينهما ، فما كان حسنا جوزه الشرع ، وما كان قبيحا منعه ، فصار عند المعتزلة حكمان : أحدهما عقلي ، والآخر شرعي تابع له ، فبان أنهم لا يقولون : إنه ـ يعني (2) العقاب والثواب ـ ليس بشرعي أصلا ، خلافا لما توهمه (3) عبارة المصنف ، وغيره.
    والثاني : ما اقتصر عليه المصنف من حكاية قولين (4) ، هو المشهور ، وتوسط قوم ، فقالوا : قبحها ثابت بالعقل ، والعقاب يتوقف على الشرع ، وهو الذي ذكره أسعد بن علي الزنجاني من أصحابنا ، وأبوالخطاب من الحنابلة ، وذكره الحنفية ، وحكوه عن أبي حنيفة نصا ، وهو المنصور ، لقوته من حيث الفطرة ، وآيات القرآن المجيد ، وسلامته من الوهن والتناقض ، فههنا أمران :
    الاول إدراك العقل حسن الاشياء وقبحها ، الثاني ، أن ذلك كاف في الثواب والعقاب ، وإن لم يرد شرع ، ولا تلازم (5) بين الامرين ، بدليل ، ( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم ) أي : بقبيح فعلهم (6) ( وأهلها غافلون ) (7) أي : لم تأتهم الرسل والشرائع ، ومثله : ( ولو لا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم ) أي : من القبائح ( فيقولوا ربنا
1 ـ كذا في المصدر المنقول عنه النص ، وفي النسخ كما يلي : فهما عدهم مؤديان إلى العلم بالحكم ( بالاحكام خ ل ).
2 ـ كذا في المصدر ، وفي النسخ : بمعنى.
3 ـ كذا في المصدر ، وزاد في النسخ في هذا الموضع كلمة : ظاهر.
4 ـ كذا في المصدر ، وفي النسخ : قولهم.
5 ـ كذا في المصدر ، وفي النسخ : ولا ملازمة.
6 ـ كذا في المصدر ، وفي النسخ : أي بقبح فعلهم ( افعالهم خ ل ).
7 ـ الانعام / 131.


(177)
لولا أرسلت إلينا رسولا ... ) (1) » انتهى كلام الزركشي (2).
    وليس الغرض من نقل هذا الكلام الاحتجاج به ، بل التنبيه (3) على أن الملازمة المذكورة مما قد تكلم عليه جماعة من أهل البحث والنظر.
    واعلم أن المحقق الطوسي ، ذكر في بعض تصانيفه : « أن القبيح العقلي ما ينفر الحكيم عنه ، وينسب فاعله إلى السفه » (4).
    وقال بعض المتأخرين من أصحابنا (5) : « لا يقال قوله عليه السلام « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » يبطل الحسن والقبح الذاتين.
    لانا نقول : ههنا مسألتان : الأولى الحسن والقبح الذاتيان ، والاخرى الوجوب والحرمة الذاتيان ، والذي يلزم من ذلك بطلان الثانية لا الأولى ، وبينهما بون بعيد ، ألا ترى أن كثيرا من القبائح العقلية ليس بحرام في الشريعة ، ونقيضه (6) ليس بواجب » إنتهى كلامه.
    وفي آخر كلامه نظر ظاهر.
    وقال السيد أيضا في الذريعة ـ في إثبات إباحة ما لم يرد به شرع ، بعد ادعاء انتفاء المضرة العاجلة ـ : « وأما المضرة الآجلة : فهي العقاب ، وإنما يعلم انتفاء ذلك ، لفقد السمع الذي يجب أن يرد به لو كان ثابتا ، لان الله تعالى لا بد أن يعلمنا ما علينا من المضار الآجلة التي هي العقاب ، الذي يقتضيه قبح الفعل (7) ، وإذا فقدنا هذا الاعلام ، قطعنا على انتفاء المضرة الآجلة أيضا » (8)
1 ـ القصص / 47.
2 ـ تشنيف المسامع : 1 / 133 ـ 139.
3 ـ في ط : للتنبيه.
4 ـ حكاه عنه في : الفوائد المدنية : 161.
5 ـ وهو المحدّث الأمين الاسترآبادي : الفوائد المدنية : 161.
6 ـ في أ وط : فنقيضه.
7 ـ كذا في المصدر المنقول عنه النص ، وفي النسخ : العقل.
8 ـ الذريعة : 2 / 811 ـ 812.


(178)
انتهى.

    القسم الثاني : استصحاب حال العقل ، أي : الحال السابقة ، وهي عدم شغل الذمة عند عدم دليل أو أمارة عليه ، والتمسك به أن (1) يقال : إن الذمة لم تكن مشغولة بهذا الحكم في الزمن السابق ، أو الحالة الأولى ، فلا تكون مشغولة في الزمن اللاحق أو الحالة الاخرى ، وهذا إنما يصح إذا لم يتجدد ما يوجب شغل الذمة في الزمن (2) الثاني.
    ووجه حجيته حينئذ ظاهر ، إذ التكليف بالشيء مع عدم الاعلام به ، تكليف الغافل ، وتكليف بما لا يطاق.
    ويدل عليه (3) الأخبار أيضا ، كما سيجيء مع ما فيه.

    القسم الثالث : أصالة النفي ، وهو البراء‌ة الاصلية.
    قال المحقق الحلّي رحمه الله : « أعلم أن الاصل خلو الذمة عن الشواغل الشرعية ، فإذا ادعى مدع حكما شرعيا ، جاز لخصمه أن يتمسك في انتفائه بالبراء‌ة الاصلية ، فيقول : لو كان ذلك الحكم ثابتا لكان عليه دلالة شرعية ، لكن ليس كذلك فيجب نفيه.
    ولا يتم هذا الدليل إلا ببيان مقدمتين :
    الاولى : أنه لا دلالة عليه (4) شرعا ، بأن يضبط طرق الاستدلالات الشرعية ويبين عدم دلالتها عليه.
    والثانية : أن يبين أنه لو كان هذا الحكم ثابتا لدلت عليه إحدى تلك
1 ـ كذا في أ ، وفي سائر النسخ : بأن.
2 ـ في أ وب : الزمان.
3 ـ في أ وب وط : عليها.
4 ـ في ط : لا دليل.


(179)
الدلائل ، لانه لو لم يكن عليه دلالة ، لزم التكليف بما لا طريق للمكلف إلى العلم به ، وهو تكليف بما لا يطاق ، ولو كان عليه دلالة غير تلك الادلة ، لما كانت أدلة الشرع منحصرة فيها ، لكن بينا انحصار الاحكام في تلك الطرق ، وعند هذا يتم كون ذلك دليلا على نفي الحكم » انتهى كلامه في كتابه الاصول (1).
    ولا يخفى أن بيان هاتين المقدمتين مما لا سبيل إليه إلا فيما تعم به البلوى.
    أما الاول : ـ وهو عدم السبيل إلى البيان فيما لا تعم به البلوى ـ فلان جل أحكامنا ـ معاشر (2) الشيعة ـ بل كلها ، متلقاة من الائمة الطاهرة ، صلوات الله عليهم اجمعين ، وظاهر أنهم عليهم السلام لم يتمكنوا من إظهار جميع الاحكام ، وما أظهروه لم يتمكنوا من إظهاره على ما هو عليه في نفس الامر ، للتقية ـ على أنفسهم وعلى شيعتهم ـ من الحكام الظلمة والحسدة الكفرة (3).
    نعم ، هذا.
    إنما (4) يتم عند المخالفين ، القائلين : بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أظهر كل ما جاء به عند أصحابه ، وتوفرت الدواعي على أخذه ونشره ، ولم تقع بعده فتنة أوجبت إخفاء بعضه ، ويجوز خلو بعض الوقائع عن الحكم الشرعي ، فحينئذ : إذا تتبع الفقيه ولم يجد دليلا على واقعة ، علم (5) انتفاء الحكم الشرعي فيها في نفس الامر.
    وهذا عندنا باطل ، لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أودع كل ما جاء به عند عترته الطاهرين صلوات الله عليهم اجمعين مما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة ،
1 ـ المسمى ب‍ : معارج الاصول ، راجع ص 212 ـ 213 منه.
2 ـ في أ وب وط : معشر.
3 ـ في ط : والكفرة.
4 ـ كلمة ( انما ) : اضافة من أ وط.
5 ـ في ط : جزم على انتفاء إلى آخره.


(180)
ولم تخل واقعة عن حكم حتى أرش الخدش ، كما نطقت به النصوص ، وأمر الناس بسؤالهم والرد اليهم ، فعلى هذا : فكيف يعلم من انتفاء الدليل انتفاء الحكم في نفس الامر ؟! (1).
    نعم ، يعلم عدم تكليف المكلف ، إذا لم يجد الدليل بعد التتبع ، بما في نفس الامر ، لانه تكليف بما لا يطاق ، ويدل عليه الأخبار الكثيرة : روى ابن بابويه في ( من لا يحضره الفقيه ) في بحث جواز القنوت بالفارسية ، عن الصادق عليه السلام ، قال : « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (2).
    وفي باب الاستطاعة من كتاب التوحيد ، في الصحيح : « عن حريز بن عبدالله ، عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : رفع عن امتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يطيقون ، وما لا يعلمون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكر في الوسوسة في الخلق ، ما لم ينطقوا بشفة » (3).
    وهذا الحديث مذكور في أوائل ( من لا يحضره الفقيه ) أيضا (4).
    ولا يخفى أن ما نحن فيه من قبيل : « ما لا يعلمون ».
    وذكر في باب التعريف والحجة والبيان : « حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن فضال ، عن داود بن فرقد ، عن أبي الحسن زكريا بن يحيى ، عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال : ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (5).
1 ـ زاد في ب في هذا الموضع : لانه تكليف بما لا يطاق.
2 ـ الفقيه : 1 / 317 ح 937.
3 ـ التوحيد : 353 ح 24.
4 ـ الفقيه : 1 / 59 ح 132 ، باختلاف يسير.
5 ـ التوحيد : 413 ح 9.
الوافية في اصول الفقه ::: فهرس