وراثة نبوية

«وأما الحسين فله جودي وشجاعتي» (1)

هكذا كان ميراثه صلى الله عليه وآله وسلم لولديه ، فورث الحسين عليه السلام جوده وشجاعته ، وورث الحسن عليه السلام هيبته وسؤدده . كان هذا الإرث النبوي يتقاسمه الوريثان من قبل ومن بعد ، فقبل وفاة جدهما كانت بوادر الإرث النبوي قد بدت على الغلاميين الهاشميين ، وهما يرفلان في عناية إلهية ما انفكت عنهم وعن أبويهما يوم جللهما بالكساء اليماني ، وقال : « اللهم هؤلاء آلي فصل على محمد وعلى آل محمد » وأنزل الله عز وجل : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) (2)(3) . ولطالما كان يقول صلى الله عليه وآله وسلم : « أنا حرب لمن حاربكم
____________
(1) الإرشاد للمفيد 7 : 2 ، إعلام الورى بأعلام الهدى للطبرسي : 210 ، الخصال للصدوق77 : 1 وفيه : جرأتي وجودي وفي رواية أخرى : سخائي وشجاعتي ، بحار الأنوار 293 : 43 ، مقتل الحسين للخوارزمي 105 : 1 ، الإصابة لا بن حجر 316 : 4 رقم 481 ترجمة زينب بنت أبي رافع ، أسد الغابة130 : 7 رقم 6955 ، البداية والنهاية 161 : 8 ، ذخائرالعقبى لمحب الدين الطبري : 129 ، المعجم الأوسط للطبراني 136 : 7 ح 6241 وفيه : كرامتي وجودي ، مجمع الزوائد 185 : 9 ، وأخرجه ابن منده ، وابن عساكر في تاريخه ، والمتقي الهندي في كنز العمال ، وأبو نعيم وغيرهم .
(2)الأحزاب 33 : 33 .
(3) المستدرك على الصحيحين 160 : 3 ح 4709 ، دار الكتب العلمية .

( 28 )

وسلم لمن سالمكم»(1) .
ولكم كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينوه عن حبه لابنيه هذين حتى أنه صلى الله عليه وآله وسلم ما ترك مناسبة إلا وأشهد المسلمين على حبه إياهما .
فما رواه أسامة بن زيد قال : طرقت باب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة لبعض الحاجة ، فخرج إلي وهو مشتمل على شيء لا أدري ماهو ، فلما فرغت من حاجتي قلت : ما هذا الذي أنت مشتمل عليه ؟ فكشف فإذا حسن وحسين على وركيه فقال : « هذان ابناي وابنا ابنتي ، اللهم إني أحبهما فأحبهما ، وأحب من يحبهما»(2) .
ولم يكن ذلك التنويه مقتصرا لأصحابه بل خص أهله وعمومته وأقرهم على حبهما وعظيم منزلتهما حتى صار ذلك مركوزا لدى الهاشميين من أهله كما هو مركوز عند المسلمين طرا .
وعن مدرك بن عمارة قال : رأيت ابن عباس آخذا بركاب الحسن والحسين فقيل له : أتأخذ بركابهما وأنت أسن منهما ؟ فقال : إن هذين ابنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أوليس من سعادتي أن آخذ بركابهما(3)؟!
هذه عناية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لولديه ، ولم تنقطع هذه الرعاية الخاصة بانقطاع الوحي ، عند رحيله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ملكوت الله الأعلى ؛ ليكون قرير العين بسبطيه هذين وأبويهما ، وهم يحملون عيبة علمه ومكنون حكمته ، وضن عليهم من التخلف عنهم وتركهم ، فقال : « يا أيها الناس إني تارك فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي ، أمرين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض
____________
(1) المستدرك على الصحيحين 3 : 161 ح 4713 .
(2) سنن الترمذي 5 : 656 ح 3769 كتاب المناقب ، ب31 مناقب الحسن والحسين .
(3) ترجمة الإمام الحسين لابن عساكر من تاريخ دمشق ، تحقيق المحمودي : 146 ح188 .

( 29 )

و عترتي أهل بيتي ، وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض»(1) .
ولم تكن أمته قد سمعت ما وعته بالأمس حتى تستعدي عليهم اليوم ، فهذا علي عليه السلام يهجره المهاجرون ، ويخذله الأنصار ، ويحيلونه إلى مأمور بعد ما كان أميرهم في غدير خم ، تلك الواقعة التي أكحلت عيون قوم وزكمت أنوف آخرين . فما كان من هؤلاء إلا ويسوقون عليا عليه السلام إلى بيعتهم مكثورا ، يخذله قومه وأهل مودته ، إلا نفر ثبت رغم بريق السيوف وشروع الأسنة ، وليس للحسن بن علي عليهما السلام شأن للنصرة عند هؤلاء القوم ، الذين آثروا ابن حرب على حربهم مع سبط الرسول فأسلموه عند الوقعة ، وأحبوا العافية عند نصرة الحق ، واختاروا الخضوع على العزة في ظل كتاب الله وعترة نبيهم ، ولم يحيلوا بينه وبين عدوه ، الذي جرعه غصص الفتن قبل أن يجرعه كأس المنون على يد زوجته جعدة بنت الأشعث ، فذهب صابرا محتسبا يشكو مالاقاه لربه ، ويبث ما عناه لجده .
وفي كربلاء موعد القوم مع آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، حيث يناجزون سبطه الحبيب بكل خسيسة حرب ودخيلة صدور ، فينكفئون على آله بسيوف الحقد وسهام الغدر ، يرمونهم من كل ناحية ؛ ليكون لرضيعه سهم المنون كما كان له نصيب من الظمأ ، وانهالوا على أهله قتلا وتنكيلا . فأحرقوا خيامهم ، وأركبوهم أسارى بغير وطاء ولا غطاء .
لم تنته واقعة الطف بعد ، بل كأنها بدأت منذ لحظة تسييرهم سبايا ، فهذا الإمام زين العابدين عليه السلام يتصدى لخطط هؤلاء القوم ، الذين أذاعوا بين العامة أنهم أسرى خوارج ، فيقول عند دخوله الكوفة : «أيها الناس من عرفني
____________
(1) المعجم الكبير للطبراني 3 : 65 .
( 30 )

فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أنا ابن من انتهكت حرمته وسلبت نعمته وانتهب ماله وسبي عياله ، أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا تراث ، أنا ابن من قتل صبرا وكفى بذلك فخرا .
أيها الناس ناشدتكم الله هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه وأعطيتموه من أنفسكم العهود والميثاق والبيعة وقاتلتموه ، فتبا لكم لما قدمتم لانفسكم ، وسوأة لرأيكم ، بأية عين تنظرون إلى رسول الله إذ يقول لكم : قتلتم عترتي ، وانتهكتم حرمتي ، فلستم من أمتي » .
فارتفعت الأصوات بالبكاء وقالو : هلكتم وما تعلمون(1) .
وهكذا يدأب الإمام على كشف الحقائق وفضح الأباطيل ، ثم هو بعد ذلك يتصدى لإحباط المحاولات في التمويه على الواقع ، ولم يقتصر الأمر على الإمام في جهده المقدس لكشف الحقائق ، فإن لربيبة الوحي دورا تلقيه ظروف الدعوة هذه .
بعد وصول الركب إلى الكوفة كانت زينب بنت علي عليهما السلام تلملم جراحها ، وترنو إلى الإمام لئلا يصيبه مكروه ، وإلى العائلة لئلا تكترث من هول الوقعة ، وفجيعة المصاب ، ثم هي تقف ثابتة بثبات المبدأ ، شامخة بشموخ الرأس الشريف ، الذي علا على رمح عال يتطلع إلى ما يجري حوله من تخاذل القوم وصمود الآل .
كانت زينب عليها السلام صامدة رغم ما تعانيه من تتابع الأهوال ، وهي في هذا تتابع الأحداث ، والخطب جلل ، والجرح لما يندمل ، فقالت من خطبة لها :
«ويلكم يا أهل الكوفة أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم ؟ وأي كريمة له أبرزتم ؟ وأي دم له سفكتم ؟ وأي حرمة له انتهكتم ؟ لقد جئتم شيئاً إداً ، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق
____________
(1) مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرم : 316 و317 .
( 31 )

الأرض وتخر الجبال هدّاً .
ولقد أتيتم بها خرقاء شوهاء ، كطلاع الأرض وملء السماء ، أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون ؟ فلا يستخفنكم المهل ، فإنه لا يحفزه البدار ، ولا يخاف فوت الثأر ، وإن ربكم لبالمرصاد»
(1) .
كان أهل الكوفة على موعد مع صوت علي بن أبي طالب عليه السلام صوت العدالة الهادر .. فهذه هي ابنته تفرغ عن لسان أبيها كل ما كان يجلجل في خطرات القلوب ، وحبس الضمائر على باطل جلي ، يتضور منه الحق ، وتندك من خذلانه العزائم .
وكان علي عليه السلام كلما علا منبرا تطأطأت معه تلاع النفاق ، وخبت جذوة الفتن ، وأماط القناع عن أهل الضغائن ، وأطاح بمخلفات التحالف يوم كانت تتربص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قعودا عن كل نجدة في الدفاع عن الدين الحنيف . فهزيمة الأصحاب في أحد .. يرثها المخلفون من أهل النفاق يوم تغص صفين بحربها الضروس ، ويرتد أهل الفتنة في حرب الجمل الهزيل عن كل حق ، والبطين بكل خسيسة ؛ ليحمل أمهم الخرقاء ، فتقودهم إلى مساومات السياسة وتجارة المناصب .
هذه هي زينب عليها السلام في وقفتها الكوفية ، نطقت فأخرست ألسن النفاق ، وتجلببت فمزقت حجب الزور وهي ترنو إلى قصر الإمارة الخاوي عن كل حقيقة ، وقد أسس على جرف هار عندما شيدت يد الغدر جدران السقيفة ، وعقدت سداسية الشورى بمؤامراتها الهزيلة ، وصرح الخضراء الشامي تعقد فيه ليال حمراء على خرافة زهد الشيخين ، اللذين بعثا بالطليق ليطلق
____________
(1) مقتل الحسين للمقرم : 312 .
( 32 )

كل غدر على آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
ولم تدع ربات الحجال أن ينقطع صوت علي عليه السلام ، حتى لا يبيغ الباطل بأهله ، وتلتبس على الجاهل سبل الحق بطرائق الأهواء . فتلتحف فاطمة بثبات فاطمة ، لتقف أمام القوم كما وقفت أمها من قبل ، تجلجل بصرختها ممزقة أستار دسائس الغدر في دياجير العقبة الدامسة ، حتى صبيحة السقيفة ، ولتكشف بخطبتها خطط القوم ، وهم مقنعون بلباس الصحبة البالي الذي راح يرتديه قطاع طرق الأحداث ، ومحترفو مساومات الجاه ، ومتسكعو المناصب البليدة .
كانت فاطمة بنت الحسين عليهما السلام تحكي في خطبتها قصة تاريخ ملبد بالمكائد ، ومواقف النكوص . فبدأت في كلامها بحمد الله والثناء عليه ، والشهادة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة ، ثم عرفت القوم بأولاده حيث قالت :
«اللهم إني أعوذ بك أن أفتري عليك ، وأن أقول عليك خلاف ما أنزلت من أخذ العهود والوصية لعلي بن أبي طالب المغلوب حقه من غير ذنب ، كما قتل ولده بالأمس في بيت من بيوت الله تعالى ، فيه معشر مسلمة بألسنتهم ، تعسا لرؤوسهم ، ما دفعت عنه ضيما في حياته ولا عند مماته ، حتى قبضه الله إليه محمود النقيبة ، طيب العريكة ، معروف المناقب ، مشهور المذاهب ، لم تأخذه في الله لومة لائم ، ولا عذل عاذل ، هديته ـ اللهم ـ للإسلام صغيرا ، وحمدت مناقبه كبيرا ، ولم يزل ناصحا لك ولرسولك ، زاهدا في الدنيا غير حريص عليها ، راغبا في الآخرة ، مجاهدا لك في سبيلك ، رضيته فاخترته وهديته إلى صراط مستقيم .
أما بعد يا أهل الكوفة ، يا أهل المكر والغدر والخيلاء ، فإنا أهل بيت ابتلانا الله بكم ، وابتلاكم بنا ، فجعل بلاءنا حسنا ، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا ، فنحن عيبة علمه ، ووعاء فهمه وحكمته ، وحجته على الأرض في بلاده لعباده ، أكرمنا الله بكرامته ، وفضلنا بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم على كثير ممن خلق الله تفضيلا .



( 33 )

فكذبتمونا وكفرتمونا ، ورأيتم قتالنا حلالا ، وأموالنا نهبا ، كأننا أولاد ترك أو كابل ، كما قتلتم جدنا بالأمس ، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد متقدم ، قرت لذلك عيونكم ، وفرحت قلوبكم افتراء على الله ، ومكرا مكرتم ، والله خير الماكرين ، فلا تدعونكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا ، ونالت أيديكم من أموالنا ، فإن ما أصابنا من المصائب الجليلة ، والرزايا العظيمة في كتاب من قبل أن نبرأها ، إن ذلك على الله يسير ، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ، ولا تفرحوا بما آتاكم ، والله لا يحب كل مختال فخور»(1) .
هكذا كان آل الحسين عليهم السلام بعد قفولهم من أرض الفداء كربلاء الشهادة ، يوضحون للأمة كل ما أخفاه حقد الأعداء وكيد أزلامهم ، فكانوا غصة في حلق هؤلاء ، وشجة في لسان نصرهم المزعوم . فلم يكد آل أمية يتبجحون بسوأتهم هذه حتى تصك أسماعهم واعية الحسين عليه السلام على لسان زينب بنت علي ، وفاطمة بنت الحسين عليهم السلام ، ولا زالت خطب الإمام السجاد عليه السلام تلعلع في خلوات الحق حينما ينطق كاظم الغاوين ، وينبغ خامل الأقلين ، ويهدر فنيق المبطلين ، كما شخصت ذلك سيدة النساء في ملحمتها الفدكية ، وسجلت بذلك ملاحم الفتن ، وموارد النكوص ، وبوائق الخذلان .
ولم يفتأ آل حرب عن حرب آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فبين قتيل أو طريد أو شريد ، يحصون عليهم أنفاسهم ، ويتحينون كل ما وسعهم في تنكيلهم والوقيعة فيهم ، فكلما أوقدوا للحرب نارا أطفأها الله ، وكلما أرادوا إطفاء نورهم أبى الله إلا أن يتم نوره ، ووجد آل حرب أن حربهم لآل الله لا يزيد قدرهم إلا علوا ، ولا شأنهم إلا سموا ، ولا ذكرهم إلا رفعة . فعكفوا على تزوير الحق ، والكذب ، والطعن ، واختلاق كل ما من شأنه أن يظهر منقصة
____________
(1) مقتل الحسين للمقرم : 314 .
( 34 )

يقتنصونها ، وقبيحة يستقبحون بها أهل الطهر والفضائل ؛ ليساووهم بأهل العهر والرذائل .
هكذا أراد آل أمية أن يحاربوا آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فراحوا إلى كل ما لصق بهم من مساوئ وبوائق الرذيلة ، عاكفين أن يجعلوها في آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فأبى الله إلا أن يظهر الحق ، ويميط النقاب عن كل إفك وكذب وتزوير ، فكانت قصة سكينة بنت الحسين عليهما السلام جهدا أمويا خالصا ، حرصوا فيه على تشويه الحقائق وتزويرها ، فكان الله من ورائهم محيط .


( 35 )

قصة سكينة بنت الحسين عليهما السلام
قلنا : إن آل الرسول صلوات الله عليهم ، لم ينهوا معركتهم مع الكفر والظلال بقتل الحسين عليه السلام ، وسفك دماء آله الأطهار ، بل توهجت ثورتهم واشتد ضراها بعد رجوعهم من واقعة الطف الدامية ، فكان لعلي بن الحسين عليهما السلام وقع في خطبه وبياناته ، وكان لسيدات بيت النبوة زينب وأم كلثوم وفاطة بنت الحسين أثر في بيان الحقائق ، وذاكرة الأمة قد سجلت كل شيء ، ووعت كل صغيرة وكبيرة ، وارتسمت في أذهانها صور الكفاح والجهاد لهذا الجمع العلوي المقدس ، وهم يهتفون بالحق ، ويميطون الأستار عن كل ما أخفاه آل أبي سفيان من حقائق وأحداث ، كما أن الأمة تحتفظ كذلك بقداسة هؤلاء أمناء الحق ، فهم قديسون كما هم مجاهدون ، وهم مظلومون كما هم مقارعون أقوياء ، يزلزلون الأرض تحت أقدام أعدائهم بصيحات الحق التي لا تقر ، فكيف بعد ذلك يتاح لأعدائهم أن يغمزوهم ، أويطعنوا عليهم ، أويسوموهم بما تأباه قداسة الطهر ، وكرائم النبوة ؟!


( 36 )

لم يتح لسكينة الحسين عليهما السلام ما أتيح لآل الحسين من الظهور على ساحة أحداث كربلاء ؛ لتلهب الأجواء بالخطب والبيانات ، فإن مهمة ذلك موكول إلى الكبار من أهل هذا البيت الطاهر . فمع وجود أخيها الإمام ، وعمتها العقيلة ، وأم كلثوم ، وأختها فاطمة ، فإن سكينة كانت في عداد الهاشميات الصغيرات ، والمخدرات اللواتي لم يتحملن مهمة التبليغ بعد ، ولم تظهر إلا بعد أن حط الآل ركبهم في المدينة ، وأخذت تستذكر فيما بعد أحداث الفاجعة ؛ لتروي لنا نتفا مما علقت بها ذاكرتها من محن وأحداث .
وإذا كانت سكينة بنت الحسين عليهما السلام لم تسلط عليها أضواء أحداث الفاجعة ؛ يتعامل معها وجدان الأمة كأحد مظلومي هذا البيت الطاهر ، ولم تستطع الأمة أن تستعرض السيدة سكينة في ركب المظلومين من آل الحسين عليهم السلام ، الذين شاهدوا مصارع ذويهم الأبرار ، كما أن اسم السيدة سكينة لم تتعاطف معه الضمائر والوجدانيات بعد ، مع الذين يعدهم الناس من آل الحسين عليهم السلام المظلومين .. أمكن للدعايات الأموية ، والطعون الزبيرية ان تأخذ دورها في إدخال اسم « سكينة » ضمن مسلسل الأقاصيص ، التي تسيء الى أهل بيت الحسين الأقدس ، الذين ما فتأت الأمة تستذكر فيهم طهارة الرسالة ، وقداسة الحق العلوي ، ومن ثم تحتفظ في ذاكرتها صور المأساة التي أقدمت عليها يد البطش الأموي ، التي لم تحفظ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرمته في أهل بيته المطهرين من كل دنس ، والمبرئين من كل عيب .
عمدت الدعاية الأموية إلى تدنيس سمعة أهل هذا البيت الطاهر ؛ لتقلل من عبء وزر جناياتها ، وتخفف من ثقل ما ارتكبه الأمويون في حق أهل هذا البيت ، ولتصرف الأذهان عن مظلوميتهم إلى حياة ترفهم المزعوم ، التي كانت تمثله السيدة سكينة حسب دعواهم ، وبهذا يستطيع الأمويون


( 37 )

التقليل من شأن أهل هذا البيت ، وحجم مظلوميتهم ، وانصراف الناس إلى التحدث بما فعلته السيدة سكينة من مجالس اللهو ، ومنادمة الشعراء ، وما قيل فيها ، وما قالته ، ليستملح ذلك السذج من الناس ، وتلقى بذلك مظلوميتهم من أذهان هؤلاء ؛ لتنصرف إلى حياة خاصة يعيشها أهل هذا البيت كما يزعمون .
ولم يكن آل الزبير بأقل مما عمده الأمويون من الإساءة إلى أهل البيت عليهم السلام ، فقد كان لآل الزبير طموح سياسي جامح ، ارتكبوا من خلاله أبشع المجازر من أجل الوصول إلى مناصب مؤقتة ، وإمارات محدودة ، كلفت الأمة فتنا ودماء وأموالا ، ثم هي لم تدم طويلا حتى قطع الله شأفتهم ، وأسكت عقيرة النفاق ، وأذهب عادية الشقاق ، وأطفأ الله نائرتهم من الجمل وما سفكوه من الدماء ، إلى مكة وما سببوه من هدم الكعبة وهتك حرمة البيت الحرام ، إلى الكوفة وما أباحوا فيها من حرم الآخذين بثأر الحسين ، والمنتقمين من أعداء الله ، وهم يجدون أن أهل البيت عليهم السلام يعدون المنافسين الأقوياء لوجودهم ، وأن أية محاولة من آل الزبير لم تعد تلقى قبولا مع وجود الشرعية المتمثلة بأئمة آل البيت عليهم السلام ، إضافة إلى ما لحقت آل الزبير سمعة الأحاديث السيئة لسكينة بنت خالد بن مصعب بن الزبير ، التي كانت تجتمع مع عمر بن أبي ربيعة في محافل الغناء ، ومجالس الشعراء ، وهم بذلك سيفقدون من سمعتهم الشيء الكثير ، فاولوا إحالة هذه التهمة إلى عقيلة بيت الوحي سكينة بنت الحسين عليهما السلام وسيأتي مزيد تفصيل ذلك .

اسم ابنة الحسين عليه السلام آمنة وليس سكينة
على أن المتتبع لكتب الأنساب والسير ليجد شيئا أغفلته كتابات السير


( 38 )

التي ترجمت للسيدة آمنة بنت الحسين ونسبتها إلى سكينة ، وهي غفلة متعمدة أكدتها مشاريع الزبيريين ، ومن ورائهم مشاريع الأمويين ، حتى صار ذلك أحد المرتكزات لدى العوام ، واستشرى ذلك إلى كتابات الآخرين ، فجعلوها من المسلمات غفلة منهم ، وقلة تحقيق لديهم في هذا المضمار .
إن الاسم الحقيقي للسيدة سكينة والتي اشتهرت على الألسن ، هو آمنة بنت الحسين ، وإنما سكينة لقب لقبته به أمها الرباب ، وذلك لسكينتها وهدوء في طبعها غلب عليها ، حتى كانت السكينة صفة لها .
اختلف المؤرخون في اسماها بين آمنة وأميمة ، واتفقوا على أن «سكينة» صفة لها ، وممن ذهب إلى ذلك :
1ـ ابن عساكر في «تاريخ مدينة دمشق» :
قال : أخبرنا الحسين بن الفراء وأبو غالب وأبو عبدالله ابنا البناء قالوا : انا أبو جعفر ، انا أبو طاهر ، انا أحمد بن سليمان ، انا الزبير [ابن أخ مصعب بن الزبير] قال في تسمية ولد الحسين :
وسكينة ، واسمها آمنة ، وإنما سكينة لقب لقبتها أمها الرباب بنت امرئ القيس . وتزوج سكينة بنة الحسين عبدالله بن حسن بن علي ، أمه بنت الشليل بن عبدالله البجلي ... فقتل مع عمه الحسين بالطف قبل أن يبني بها ...(1) .
2ـ ابن تغري بردي في«النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة» :
قال : واسمها آمنة وأمها الرباب(2) .
____________
(1) تاريخ دمشق ، قسم تراجم النساء : 156 ، طبع دمشق ، تحقيق سكينة الشهابي .
(2) النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 1 : 276 .

( 39 )

3ـ ابن الجوزي في «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم»
قال : سكينة بنت الحسين واسمها آمنة ، وقيل : أميمة ، وسكينة لقب عرفت به(1) .
4ـ سبط ابن الجوزي في«تذكرة الخواص» :
اسمها آمنة ، وقيل : أميمة(2) .
5ـ النديم في «الفهرست» :
كما نقله عن محمد بن السائب الكلبي النسابة ، قال محمد بن السائب الكلبي : سألني عبد الله بن حسن [بن حسن] عن اسم سكينة بنة الحسين عليه السلام فقلت : أميمة(3) ، فقال : أصبت .
قال النديم في ترجمة محمد بن السائب الكلبي :
من علماء الكوفة بالتفسير والأخبار وأيام الناس ، ويتقدم الناس بالعلم بالأنساب(4) .
____________
(1) المنتظم 7 : 175 حوادث سنة 117 هـ .
(2) تذكرة الخواص : 249 .
(3) لا نستبعد التصحيف في أميمة هنا ، وكونه في الأصل آمنة ، وذلك لما سيأتي بعد هذا من سؤال رجل لعبدالله ابن الحسن بن الحسن عن اسم سكينة ، وتخطئة عبدالله لابن الكلبي الذي كان يقول بأميمة ، كما في الشق الثاني من الرواية ، إذ كيف يصوب له أميمة هنا ، ولا يقبل منه أميمة هناك على قول نقل السائل ؟
على أننا لا نستبعد أيضا التصحيف في صدر الرواية بقوله : أمينة ، والأظهر في الأصل آمنة ، واستظهارنا هذا تؤيده الرواية الأخرى الأتية في التسلسل (11) عند نقل ما أورده صاحب الأعيان عن الأغاني من رواية ابن الكلبي ، عن أبيه ، وهي صريحة واضحة في هذا المعنى .
ثم أخيرا رواية المدائني ، عن أبي إسحاق المالكي التالية في الأغاني ، وتصحيح أبو الفرج الإصفهاني لاسم آمنة بعد الرواية مباشرة بقوله : وهذا هو الصحيح .
كل ذلك يدل صراحة أن أمية هنا مصحف عن آمنة .
وقوله : أصبت ، لآمنة لا أميمة . وإلا لزم التناقض في كلامه .
(4) الفهرست : 107 في أخبار محمد بن السائب .

( 40 )

6ـ أبوالفرج الإصفهاني في «الأغاني» :
قال : اسم سكينة أميمة ، وقيل : أمينة ، وقيل : آمنة ، وسكينة لقب لقبت به(1) .
وقال أيضا : وروي أن رجلا سأل عبدالله بن الحسن [بن الحسن] عن اسم سكينة ، فقال : أمينة .
فقال له : إن ابن الكلبي يقول : أميمة . فقال : سل ابن الكلبي عن أمه ، وسلني عن أمي .
ونقل عن المدائني قوله : حدثني أبو إسحاق المالكي قال : سكينة لقب ، واسمها : آمنة .
ثم أردف الإصفهاني قوله : وهذا هو الصحيح(2) .
وقال في مقاتل الطالبين : واسم سكينة أمينة ، وقيل : أميمة ، وإنما غلب عليها سكينة وليس اسمها(3) .
7ـ ابن العماد الحنبلي في « شذرات الذهب» :
قال : اسمها أميمة ، وقيل : أمينة ، وسكينة لقب(4) .
8ـ اليافعي في«مرآة الجنان» :
قال : قيل : اسمها أمينة ، وقيل : أميمة ، وهو الراجح ، وسكينة لقب لها(5) .
____________
(1) الأغاني 16: 146 .
(2) المصدر السابق : 147 .
(3) مقاتل الطالبيين : 94 .
(4) شذرات الذهب 2: 82 وفيات سنة 117 .
(5) مرآة الجنان 1: 251 .

( 41 )

9ـ ابن خلكان في «وفيات الأعيان» :
قال : اسمها آمنة ، وقيل : أمينة ، وقيل : أميمة ، وسكينة لقب لقبتها به أمها الرباب ... وأورد سوال عبدالله بن الحسن لمحمد بن السائب الكلبي المذكور آنفا(1) .
10ـ عمر رضا كحالة في «أعلام النساء» :
قال : واسمها آمنة أو أميمة ، وسكينة لقبها(2) .
11ـ السيد محسن الأمين العاملي في «أعيان الشيعة» :
عنونها هكذا :
أميمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب المعروفة بسكينة .
ثم نقل بعض الأقوال المتقدمة وقال :
روى في الأغاني بسنده ، عن ابن الكلبي(3) ، عن أبيه ، قال : قال لي عبدالله بن الحسن [بن الحسن] : ما اسم سكينة بنت الحسين ؟ فقلت له : سكينة ، فقال : لا ، اسمها آمنة(4)(5) .
والظاهر تعدد الحادثتين ، أحدها هذه ، ولعلها هي الأسبق زمانا ، والأخرى ما أوردناه عن النديم من أن محمد بن السائب الكلبي كان قد سأله عبدالله بن الحسن هذا عن اسم سكينة ، فقال : هي أميمة ، واستظهرنا هناك في التسلسل (5) في تعليقتنا على أميمة ، من أنها تصحيف آمنة .
____________
(1) وفيات الأعيان 1: 378 في ترجمة سكينة .
(2) أعلام النساء 2 : 202 .
(3) ابن الكلبي ينصرف إلى هشام بن محمد بن السائب الكلبي ، وروايته عن أبيه أي عن محمد بن السائب الكلبي ، مما يدل أن الراوي واحد مع تعداد الحادثتين ، وهو الموافق لاستظهارنا .
(4) الأغاني لأبي الفرج الإصفهاني 16 : 147 .
(5) أعيان الشيعة 3 : 491 .

( 42 )

واستظهارنا بتعدد الحادثتين ، كون رواية الأغاني هنا في صدد تصحيح ما علق بذهن محمد بن الكلبي ، وما اشتهر من لقبها بين الناس من أنها سكينة ، فصحح عبدالله اسمها بأنها آمنة .
ورواية النديم في الفهرست (1) أن عبدالله بن الحسن سأل محمد بن الكلبي عن اسم سكينة ، فلما ذكر أن اسمها آمنة صوب له ذلك وأقره عليه حينما قال : أصبت ، وكأنه في صدد تذكيره على ما صححه من قبل والتأكيد عليه بأن اسمها آمنة وليس سكينة .
وتأكيد عبدالله بن الحسن على محمد بن الكلبي له خصوصيته ، فأن ابن الكلبي كونه نسابة ، وعبدالله بن الحسن حريص على تصحيح الاسم بواسطة محمد بن الكلبي لرجوع الناس إليه .
12ـ السيد عبدالرزاق الموسوي المقرم في«سكينة بنت الحسين عليهما السلام» :
قال : وأما سكينة فقد ذكر المؤرخون أنه لقب من أمها الرباب ، وكأنه لسكونها وهدوئها ، وعليه فالمناسب فتح السين المهملة وكسر الكاف ، وهذا الرأي نسبه الصبان إلى المشهور . وأما اسمها ، فالذي اختاره ابن تغري بردي أنه آمنة(2) .
13ـ الشيخ محمد حسين الأعلمي في «تراجم أعلام النساء» :
قال : سكينة لقبها ، واسمها آمنة أو أمينة أو أميمة(3) .
14ـ المحدث الشيخ عباس القمي في «منتهى الآمال» :
قال : وكان اسم سكينة آمنة أو أميمة ، فلقبتها أمها رباب بسكينة ، فهي
____________
(1) راجع صفحة(39) لتقف على الرواية وتقارنها برواية الأغاني .
(2) سكينة بنت الحسين : 140 .
(3) تراجم أعلام النساء 2 : 200 .

( 43 )

عقيلة قريش ، وذات عقل ورأي صائب(1) .
هذا اتفاق أهل الأخبار والمحققين من الفريقين ، أن سكينة هو لقب آمنة أو أميمة بنت الحسين .
على أنا نرجح ما رجحه أهل التحقيق بأن اسمها آمنة بنت الحسين وميلهم إلى ذلك . بل هو الأقرب على ما في رواية أبي إسحاق المالكي ، كما نقله أبو الفرج الإصفهاني في الأغاني عن المدائني ، قال : حدثني أبو إسحاق المالكي قال : سكينة لقب ، واسمها آمنة ، ثم تصحيح الإصفهاني عقيب الرواية بقوله : وهذا هو الصحيح . وقد أشرنا إليه آنفا .
كما أن أبا الفرج نقل في موضع من الأغاني (2) : قال مصعب فيما أخبرني به الطوسي ، عن زبير ، عنه : اسمها آمنة .
وهناك رواية أخرى للمدائني ، عن أبي إسحاق المالكي ، قال : قيل لسكينة ـ واسمها آمنة ، وسكينة لقب ـ : أختك فاطمة ناسكة ، وأنت تمزحين كثيرا ؟ ... ثم جواب السيدة آمنة بأنكم : «سميتموني باسم جدتي التي لم تدرك الإسلام» ، تعني آمنة بنت وهب ، أم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(3) .
ومع مؤاخذاتنا على هذه الرواية ، إلا أن الذي يعنينا منها الآن هو ترجيح اسم آمنة على غيره من الأسماء .
وهذا ما حدى بالسيد محس الأمين العاملي في أعيان الشيعة(4) إلى القول بعد إيراده لهذه الرواية في أخبارها : هذا يدل على أن اسمها آمنة . رغم
____________
(1) منتهى الآمال 1 : 818 .
(2) الأغاني 16 : 146 .
(3) المصدر السابق : 149 .
(4) إعيان الشيعة 3 : 492 .

( 44 )

أنه عنونها باسم أميمة ، ولعل اختياره كان مسايرة لما عليه الأكثر ليس إلا .
من هنا يتأكد لنا الاسم الحقيقي للقب سكينة وهو آمنة بنت الحسين عليهما السلام ، لذا فالأمانة العلمية تدعونا إلى إثبات اسمها الصحيح ، والتعامل معه تعاملا جديا ، وذلك لغلق الطريق على الأكاذيب التي عهد إليها البعض للإساءة إلى بيت النبي الأطهر ، وتمحلات الآخرين الذين حسبوها أنها مرتكزات تاريخية ، دون أن يتكلفوا أدنى مطالب التحقيق في شأن هذه الحادثة الخطيرة ، لذا فإننا نأمل من ذوي التحقيق وأهل الإنصاف ، أن يرتكز في أذهانهم اسم آمنة بنت الحسين ، والتعامل معه تعاملا حقيقا ، والإعراض عن لقبها الذي استغله بعض أهل الأهواء ، والسذج من بسطاء العوام ، الذين لا خلاق لهم بتحقيق الوقائع ، ومعرفة الأحداث ، ومالهم بذلك إلا المطامع ، أو النعيق مع كل ناعق .

مصالح أموية ومطامع زبيرية
لم تزل الروايات التاريخية تحت مطرقة الأهواء والأغراض السياسية ، بل انجر ذلك حتى إلى رواية الحديث النبوي ، وقد أشرنا إلى ذلك بشيء من التفصيل في كتابنا «تاريخ الحديث النبوي بين سلطة النص ونص السلطة» ، ولا يزال تاريخنا مخبوءا خلف ظروف روائية أسهم في إيجادها رواة وظفتهم السياسة ؛ لإيجاد حبكات قصصيةٍ وروايات توهم الآخرين بأنها ضمن تراثنا التاريخي الإسلامي ، في حين لم تكد مدونات التاريخ تستعرض واقعة تاريخية ، أو تسبر سيرة شخصية ، إلا وتجد مشكلة الوضع تخترق الحدث ، وتحيله إلى قراءة لتوجهات سياسية ، تتحكم فيها أغراض الراوي الذي ينتسب إلى تلك الجهة المعنية ، أو تلك الرؤية المحسوبة ،


( 45 )

وهكذا تتدخل هذه التوجهات لتأسيس تاريخ مشوه ، أو روايات موضوعة ، أو حدث مفتعل تجيد صياغته تارة أو تضطرب أخرى ، فتبدو القضية متناقضة غير حقيقية ، بأدنى تأمل ودقة نظر .
من هنا يمكننا أن نستعرض لهذه الظاهرة نموذجين من الوضع والتزوير ، تتدخل فيها عدة توجهات سياسية معينة :
أحدها : المصالح الأموية التي ما برحت تكيد لآل علي عليهم السلام منذ عهد معاوية بن أبي سفيان .
وثانيا : المطامع الزبيرية التي ما فتئت تلاحق المجد العلوي منذ حرب الجمل ، حتى ما ارتكبه آل الزبير من تأسيس مجدهم الزائل على جماجم شيعة علي عليه السلام وأصحابه ، ولاننسى ما بذله عبدالله بن الزبير وآله من محاربة العلويين وملاحقتهم ، كنفي محمد بن الحنيفة ، أو إخراج عبدالله بن عباس ، ومثلهم من بني هاشم عن مكة ، وإعلان العداء لهم منذ قيام دولتهم يومذاك . بمعنى أن الزبيريين عرفوا بمنافستهم الشديدة لآل علي عليه السلام ، وكانوا يحسدون ما يحرزه العلويون من تقدم في كل المجالات ، والأمة تتعامل مع العلويين بأنهم يمثلون الشرعية التي لا يمكن لأحد إغفالها أو تجاوزها ، وإذا لم تدم الجهود الزبيرية في تأسيس دولتهم يومذاك ، فلا بد أن يبحثوا عن مجد يحيلهم إلى أسياد الشرعية ، وقادة الأمة . حينئذ كيف يتم ذلك وملاحم العبث تملأ الأخبار ؟ وقصص عمر بن أبي ربيعة وسكينة بنت خالد بن مصعب يتداولها الناس ، ويتغنى بها أهل المجون والغناء ، وهذه مشكلة يستشعر منها الزبيريون إحدى المعضلات التي تعرقل دعاواهم في شرعيتهم المدعاة . إلى جانب ذلك ترى الأمة قداسة آل علي عليهم السلام ، وطهارة


( 46 )

بيتهم النبوي الذي لم تدنسه محاولات الأعداء ، فبقي مشعا بعطائه ، شاهدة الأمة لهم بالقداسة والإيمان ، وهذا يعني أن جهود منافسيهم سوف تعرقلها هذه النظرة المقدسة الزكية لآل علي عليهم السلام .
فالأمويون عرفوا بعبث خلفائهم ، حتى صار ذلك من تشريفات البلاط الأموي ، وآل الزبير يقرأون ويشاهدون أمامهم ملاحم بطلة الغرام سكينة بنت خالد الزبيرية ، فيحالون إلى بيت عبث وغناء ، لا كما يدعون من أنهم أهل خلافة وإمرة وقيادة ، وفي مثل هذا الحال سيتاح لآل علي عليهم السلام المنافس الأقوى لآل أمية وآل الزبير من التحرك بشكل طبيعي ؛ من أجل تمثيل شرعيتهم الإلهية المتمثلة بأئمة آل البيت عليهم السلام .
إذن فعلى الأمويين والزبيريين أن يختلقوا قضية يرمون بها منافسيهم الأقوياء ، وقلنا من قبل : إن شخصية الإمام زين العابدين عليه السلام لا يمكن أن تنالها دعايات الأعداء ، وقداسة بنات علي عليهم السلام لا تدنسها محاولات الأقلام الجائرة والأهواء العابثة ، فلم يجدوا إذن إلا شخصية «آمنة» سكينة بنت الحسين عليهما السلام ، التي لم تساهم ـ كما ذكرنا ـ في الإعلام العلوي يوم كان آل البيت يتولون مهمة التبليغ وبيان الحقائق ، وكان لصغر سنها أثر في تحجيم دورها يومذاك ، هذا من جهة .
ومن جهة أخرى وجدت الدعايات الزبيرية ، والإعلام الأموي ، أن لتشابه اسمي سكينة بنت خالد بن مصعب صاحبة ملاحم عمر بن أبي ربيعة واسم سكينة بنت الحسين عليهما السلام ، محاولة ناجحة في الخلط والتدليس ، واختراع القصص الماجنة ، ورمي شخص «آمنة» سكينة بنت الحسين عليهما السلام ، ووجدت هذه المحاولة نجاحها على أيدي رواة متخصصين في صياغة


( 47 )

الحدث ، ووضع القضية موضعا يستسيغ تناقله العامة ، ويلهج به البسطاء ، ويتعامل معه السذج تعامل المسلمات .
وبهذا احتلت روايات «آمنة» سكينة بنت الحسين عليهما السلام مساحة واسعة من كتب الحكايات ، وملاحم الغزل ، ووسائل القصاصين ؛ ليحيلوا قداسة البيت العلوي إلى دناسة أموية وعبث زبيري ، ويأبى الله إلا ظهور الحقائق والإطاحة بمحاولات الشرذمة من أهل الأهواء السياسية فيحيلها ، إلى ملاحم تحكي حقيقة هؤلاء الوضاعين من الأمويين والزبيريين .