هذا حال آل الزبير ، وهذه سيرة شيخهم عبدالله ، فما ظنك بغيره ؟ وماذا عسى أن يكون مصعب بن الزبير في عدائه لبني هاشم ومخالفته لهم ؟!

مصعب بن الزبير يؤوي قتلة الحسين عليه السلام
مثل مصعب بن الزبير نموذجا سيئاً في الانتهاكات المرتكبة بحق أهل البيت عليهم السلام ، فهو لم يكتف بملاحقة شيعتهم فحسب ، بل بلغ من عدائه انضمام قتلة أهل البيت عليهم السلام إليه ؛ ليشكلوا قادة جيشه ، ورؤوس أنصاره .
ومصادر التاريخ تحدثنا أن مصعب بن الزبير استقطب قتلة الحسين عليه السلام وأهل بيته ، وجعلهم قادة جيشه ؛ لإحباط محاولات المختار بن أبي عبيد الثقفي ، الذي تصدى لملاحقة قتلة الحسين وأهل بيته عليهم السلام .
فإن المختار لما بعث غلاما له في طلب شمر بن ذي الجوشن ، لحق الغلام بشمر ، وكان قد خرج من الكوفة في جمع من أصحابه ، ثم كان ما كان من قتل شمر غلام المختار ، ونزوله قرية الكلتانية ، ومنها بعث بكتاب إلى مصعب بن الزبير يعلمه الالتحاق به عنوانه : للأمير المصعب بن الزبير من شمر بن ذي الجوشن .
لكن إرادة الله لم تمهل اللعين بالالتحاق بابن الزبير ، إذا عثر على الكتاب ، وعرف مكان شمر فحوصر ، وجرت معركة قتل فيها شمر(1) .
وكان سراقة بن مرداس البارقي قد اسره المختار ، فلما أحس القتل ، عمل حيلة للنجاة ، فنجا بها ، وقال : ما كنت في أيماني هذه حلفت لهم ـ يعني المختار وأصحابه ـ بها قط أشد اجتهادا ولا مبالغة في الكذب مني في أيماني هذه التي حلفت لهم بها أني قد رأيت الملائكة تقاتل معهم . فخلوا سبيله ،
____________
(1) تاريخ الطبري 52:6 .
( 107 )

فهرب ، فلحق بعبد الرحمن بن مخنف عند المصعب بن الزبير بالبصرة(1) .
وقال ابن خلدون : وبحث ـ أي المختار ـ عن مرة بن منقذ بن عبد القيس قاتل علي بن الحسين ، فدافع عن نفسه ، ونجا إلى مصعب بن الزبير ... وطلب سنان بن أنس الذي كان يدعي قتل الحسين ، فلحق بالبصرة ... وأرسل في طلب محمد بن الأشعث وهو في قريته عند القادسية ، فهرب إلى مصعب ، وهدم المختار داره . وطلب آخرين كذلك من المتهمين بأمر الحسين ، فلحقوا بمصعب ، وهدم دورهم(2) .
قال الطبري : وطلب ـ يعني المختارـ رجلا من خثعم يقال له : عبدالله ابن عروة الخثعمي ـ كان يقول : رميت فيهم باثني عشر سهما ضيعة ـ ففاته ولحق بمصعب ، فهدم داره(3) .

مصعب بن الزبير .. تركة العداء الزبيري لآل علي وشيعته
قال المسعودي : فكان جملة من أدركه الإحصاء ممن قتله مصعب مع المختار سبعة آلاف رجل ، كل هؤلاء طالبون بدم الحسين وقتلة أعدائه ، فقتلهم مصعب وسماهم الخشبية ، وتتبع مصعب الشيعة بالقتل بالكوفة وغيرها ، وأتى بحرم المختار فدعاهن إلى البراءة منه ففعلن إلا حرمتين له : إحداهما بنت سمرة بن جندب الفزاري ، والثانية ابنة النعمان بن بشير الأنصاري ، وقالتا : كيف نتبرأ من رجل يقول ربي الله ؟! كان صائم نهاره قائم ليله ، قد بذل دمه لله ولرسوله في طلب قتلة ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهله
____________
(1) تاريخ الطبري 55:6 .
(2) تاريخ ابن خلدون 34:3 ، الكامل في التاريخ 243:4 ، 244 .
(3) تاريخ الطبري 65:6 ، الكامل في التاريخ 244:4 .

( 108 )

وشيعته ، فأمكنه الله منهم حتى شفى النفوس .
فكتب مصعب إلى أخيه عبدالله بخبرهما وماقالتاه فكتب إليه : إن هما رجعتا عما هما عليه وتبرأتا منه وإلا فاقتلهما ، فعرضهما مصعب على السيف ، فرجعت بنت سمرة ولعنته وتبرأت منه وقالت : لو دعوتني إلى الكفر مع السيف لكفرت ، أشهد أن المختار كافر ، وأبت ابنة النعمان بن بشير وقالت : شهادة أرزقها فأتركها ؟ كلا انها موتة ثم الجنة والقدوم على رسول الله وأهل بيته ، والله لا يكون ، آتي مع ابن هند فأتبعه وأترك ابن أبي طالب ؟ اللهم اشهد أني متبعة لنبيك وابن بنته وأهل بيته وشيعته ، ثم قدمها فقتلت صبراً . ففي ذلك يقول الشاعر:

إن من أعجب الأعاجيب عندي       قـتل بـيضاء حـرة عطبول
قتلوها ظلماً على غـير جـرم       إن للـه درهـا مـن قـتيـل
كـتب القـتل والقـتال عـلينا       وعلـى الغانيات جرُ الذيول(1)

هذا هو مصعب بن الزبير بصورته البشعة ، يؤوي قتلة الحسين عليه السلام ويسالمهم ، ويعدهم من قادة جيشه وحملة لوائه ، فضلا عما فعله بشيعته وأنصاره والآخذين بثأره ، مما يكشف عن مدى ما يحمله من حقد وعداء لأهل هذا البيت الطاهر ، واختلافه الشديد بينه وبينهم ، بل الفجوة بين أطروحتين متغايرتين ، الأطروحة الزبيرية التي تدين بالعداء لأهل البيت ، ودفعهم عن مقامهم ، بل محاولة تصفيتهم ، وبين توجهات الأطروحة العلوية المعروفة .
____________
(1) مروج الذهب 113:3 ، وروى اليعقوبي في تاريخه 182:2 ، الحادثة بإضافات أخر ، ونسب الأبيات إلى عمر بن أبي ربيعة ، ومثله ابن عبد ربه الأندلسي في العقد الفريد 155:5 في ذكر دولة بني مروان ، خبر المختار ابن أبي عبيد ، مع اختلاف في ألفاظ البيتين الأولين .
( 109 )

فأين التقارب إذن ؟
وإذا كان هذا حال مصعب بن الزبير ومواقفه من أهل البيت عليهم السلام ، فمتى يتاح له التقارب مع بني هاشم ، الذين لا يزالون يحتفظون بمواقف التنكيل والتشريد التي ارتكبها عبدالله بن الزبير ، وقد عزم على إحراقهم وإفنائهم . ومصعب بن الزبير هو إحدى الصنائع الزبيرية التي ما فتأت تعمل على إنجاح الأطروحة الزبيرية بالتنكيل والتقتيل لأهل البيت وأشياعهم ، فهل يمكننا بعد هذه المقدمات التاريخية من استعراض حال آل الزبير ، أن يجد علي بن الحسين عليهما السلام مبررا لزواج مصعب بن الزبير من أخته «آمنة» سكينة بنت الحسين ؟!
وإذا اعترض أحدهم قائلا : بأن الزواج ـ خصوصا في ذلك الوقت ـ لا علاقة له بالمواقف الشخصية ، وأن مسألة المصاهرة لا تعدو عن اقتران بين زوجين ، لا يمثلان كل منهما توجها سياسيا أو فكريا يناقض أو يوافق الطرف الآخر .
فإن ذلك المقول غير دقيق ؛ إذ بالعكس فقد كان الزواج ـ خصوصا في ذلك الوقت ـ يمثل حالات تقارب سياسي ، واستقطاب اجتماعي ، يحصل من خلاله الشخص على تأييد أصهاره أو محاولة منه لتأمين جانبهم وتخفيف احتمال الوقيعة به ، وهذا دأب ذي الشأن منهم . وما زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تشكيلات متعددة إلا صورة لهذه الحالة السائدة لدى المجتمع القبلي ، الذي يعيش تحت وطأة التعصبات القبائلية ، والأعراف العربية الملتزمة وقتذاك . فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يستقطب في مصاهراته المتعددة بيوتات لها خطرها في التيارات السياسية المتربصة بالدين الحنيف .


( 110 )

إذن ففي خضم أحداث التنافس الزبيري لبني هاشم وعدائهم إياهم ، بل وفي هذه الأحداث السياسية الهائجة المتوترة ، لا يمكننا قبول حكاية زواج مصعب بن الزبير لسكينة «آمنة» بنت الحسين عليهما السلام ، فإن ذلك محاولة قصصية يراد من وضعها وافتعالها إلغاء ما عرف من تقليدية العداء الزبيري ـ العلوي ، وإظهار التوافق بين البيتين ، ومحاولة إسباغ الشرعية على حركة آل الزبير ، هذا من جهة .
ومن جهة أخرى ، محاولة إضفاء الشبه بين تصرفات عائشة بنت طلحة زوجة مصعب بن الزبير المعروفة بلهوها وترفها ، وبين السيدة آمنة بنت الحسين عليهما السلام المعروفة بورعها وتقواها ، ومحاولة سلخ صفة التقوى هذه عن السيدة آمنة ، والتعامل معها على أساس ما يتعامل به مع نساء الزبيريين والأمويين ، والتقليل من شأن مسحة الاحتشام والتعفف على نساء أهل هذا البيت الطاهر ، وخلط ما يقع لنساء الزبيريين والأمويين من انتهاكات شعرية ومخالفات عرفية ورميها على أهل البيت عليهم السلام .

محاولات زبيرية للطعن على أهل البيت عليهم السلام
ولم يكتف آل الزبير من أكذوبة زواج مصعب بن الزبير من السيدة آمنة عليها السلام ، بل أمعنوا في الانتقاص من مكانة أئمة أهل البيت عليهم السلام ، والازدراء بهم ، ورفع شأن مخالفيهم كما في الرواية الزبيرية التالية:
روى الاصفهاني : قال مصعب : وحدثني مصعب بن عثمان : أن علي ابن الحسين أخاها حملها إليه فأعطاه أربعين ألف دينار(1) .
هكذا يصور الزبيريون ما يحلو لهم من انتقاص قدر أهل البيت عليهم السلام ،
____________
(1) الأغاني 159:16 .
( 111 )

وحاجتهم إلى آل الزبير ، فيستعطون أرزاقهم ويتقربون لهم للحصول على أعطياتهم ، وقد تنكر الراوي إلى حقائق تاريخية تظهر شأن علي بن الحسين عليهما السلام وقدره حتى من أعدائه ، وهو عليه السلام كان يعيش بعد واقعة الطف في أخطر ظرف سياسي يتربص لتحركاته ، ومع هذا فقد هيمن عليه السلام على قلوب أعدائه ، فضلا عن شيعته ومريدية . فقد كانت وقعة الحرة في المدينة شاهدا على تعظيم علي بن الحسين عليهما السلام في أعين أعدائه فضلا عن أتباعه ، وكان مسرف بن عقبة حين دخل المدينة لم يتعرض لعلي بن الحسين عليهما السلام ، بل قال حين رأي الإمام عليه السلام : إن أمير المؤمنين أوصاني بك خيرا .
وروى ابن سعد في الطبقات أن مروان بن الحكم ، وعبدالملك بن مروان كانا يحبان علي بن الحسين عليهما السلام ويجللانه(1) .
على أن هذا التجليل لا يعني الاعتقاد ، بقدر ما يعني رضوخهما لواقع الأمر مما كان عليه الإمام عليه السلام ، من الهيمنة على قلوب المسلمين وتعظيمهم له ، بل كان له سيرته المعروفة في البر والعطاء ، وكان موفور المال غير محتاج إلى أحد ، بل كان عليه السلام يعطي للمحتاجين .
فقد روى ابن الجوزي أن علي بن الحسين عليهما السلام دخل على محمد بن أسامة بن زيد في مرضه فجعل محمد يبكي ، فقال علي : ماشأنك ؟ قال : عليّ دين ، قال : كم هو ؟ قال : خمسة عشر ألف دينار ، قال : فهو عليّ .
وما رواه أيضا من أن رجلا كان يتعرض لعلي بن الحسين عليهما السلام ، فأمر له الإمام بألف درهم وألقى عليه خميصة كانت عليه ، فكان الرجل بعد ذلك يقول : أشهد أنك من أولاد الرسول(2) .
____________
(1) الطبقات الكبرى 421:3 .
(2) صفة الصفوة 393:1 .

( 112 )

إلى غير ذلك من كرائم صفاته وجليل عطاياه ، فهل كان بعد ذلك يحتاج إلى عطايا آل الزبير ليحمل أخته إلى مصعبهم فيعطيه ألف ألف درهم ؟! ومتى عرف آل الزبير بالعطاء ؟ إذ لم ير منهم سوى الشح والضيق على الرعية ، حتى ضج الناس من بخل آل الزبير ، فقال قائلهم وهو أبو وجزة مولى الزبير:

إن المـوالي أمست وهـي عـاتبة       على الخليفة تشكو الجوع والحربا
مـاذا عـلينا ومـاذا كـان يرزؤنا       أي الملوك على ما حولنا غلبا(1)

وقال الضحاك بن فيروز الديلمي:

تـخبرنا أن سـوف تكـفيك قـبضة       وبـطنك شـبرا أو أقـل من الشبر
وأنت إذا مـا نـلت شـيئا قـضمـته       كما قضمت نار الغضى حطب السدر
فـلو كـنت تجزي إذ تـبيت بنـعمة       قريبا لردتك العطوف على عمرو(2)

وعمرو هذا هو أخو عبدالله بن الزبير ، قتله حرصا على الملك دون تحرج في سفك دماء حتى إخوته ومقربيه .
فروايات آل الزبير في الطعن على أئمة آل البيت عليهم السلام ، ورفع منزلة ذويهم ، تكذبها وقائع التاريخ ، وتناقضها شواهد أخر أعرضنا عن ذكرها .
والنتيجة: بعد استعراضنا لمقدمات تاريخية مهمة تشير إلى مواقف آل الزبير من أهل البيت عليهم السلام ، وعدائهم لهم ، وعدم توافقهم ، فإن حكاية زواج مصعب بن الزبير من السيدة آمنة بنت الحسين عليهما السلام تمنعها مقتضيات دينية واجتماعية عدة .
____________
(1) مروج الذهب 88:3 .
(2) المصدر السابق .

( 113 )

أما المقتضيات الدينية
فقد عرفنا عداء مصعب لأهل البيت عليهم السلام ، وعدم توافقه معهم ، حيث لاحق شيعتهم وقتلهم تبعا لأخيه عبدالله بن الزبير ، فقد نكل ببني هاشم وأراد تحريقهم . فعداؤهم لآل البيت عليهم السلام يكشف عن انحرافهم عن ولايتهم ، ويدل على مخالفتهم لما أمر به الله ورسوله من الطاعة لهم والالتزام بنهجهم ، وبذلك فأي تخلف عنهم ـ صلوات الله عليهم ـ يعد تخلفا عن طاعة الله ورسوله ، فطاعة الله ورسوله تدور مدار ولاية علي وطاعته ، والإيمان مرهون بالتمسك بنهج أهل البيت عليهم السلام .
أخرج الحاكم في مستدركه عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع عليا فقد أطاعني ، ومن عصى عليا فقد عصاني» (1) .
أخرج بسند صحيح عن أبي عبدالله الجدلي أنه دخل على أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الموسم مع جماعة من الناس ليسلموا عليها ، فسمعها تقول: ياشبث(2) بن ربعي ، فأجابها رجل جلف جاف : لبيك يا أمتاه ، قالت : أيسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ناديكم ؟ قال : وأنى ذلك ! قالت : فعلي بن أبي طالب ؟ قال : إنا لنقول أشياء نريد عرض الدنيا . قالت : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: « من سب عليا فقد سبني ، ومن سبني فقد سب الله تعالى» (3) .
____________
(1) المستدرك على الصحيحين 131:3 ، ح 4617 وصححه الذهبي في التلخيص .
(2) في المصدر: شبيب ، وأحسبه تصحيفا . فالأوصاف التي وصف بها لا تنطبق إلا على شبث بن ربعي الرياحي التميمي اليربوعي .
(3) المستدرك على الصحيحين 130:3 ، ح 4616 . سكت عنه الذهبي في التلخيص ؛ لأنه صحح الحديث الذي قبله ، وهو: « من سب عليا فقد سبني» . ولا يبعد أنه أراد تصحيحه ، لكن نفسه لم تطاوعه .

( 114 )

وأخرج عن أبي ذر رحمه الله كذلك قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: « ياعلي من فارقني فقد فارق الله ، ومن فارقك يا علي فقد فارقني»(1) .
وإذا استعرضنا تاريخ آل الزبير ، وما كانوا عليه من المفارقة لعلي وانحرافهم عنه ، والنيل منه وسبه ، اتضح لنا جليا مدى عدائهم وعدم توافقهم مع آل علي بعد ذلك ، على أن الإمام زين العابدين عليه السلام يتحرى مواطن الاتفاق والالتزام بولاية علي عليه السلام دون موارد الانحراف والضلال . هذا هو مقتضى سيرة المؤمنين ، فكيف بالإمام زين العابدين عليه السلام يتصاهر مع بيوت مخالفيه دون مراعاة جانب الإيمان والورع والتقوى ؟! مما يكشف لنا عن عدم إمكانية وقوع زواج مصعب من آمنة حسب المقتضيات الدينية التي كان يراعيها الإمام علي بن الحسين عليهما السلام .

أما المقتضيات الاجتماعية
وهي التي تشمل المقتضيات السياسية كذلك ، فالزبيريون طلاب منصب وإمارة كما هو معروف ، وهم المنافسون لخصومهم السياسيين من بني مروان ، الذين انكفؤوا في استغلال الفرص السياسية بعد انعزال معاوية ابن يزيد عن السلطة ، وخلو الساحة السياسية عمن يشغل منصبه ، فتسارع مروان إلى اقتناص الفرصة السياسية هذه كونه الوريث السياسي للأمويين ، فنصب نفسه لرأس نظام أموي مرواني جديد ، وهو ما حدى بمنافسيه السياسيين إلى استغلال هذه الظروف السياسية ، فوثب عبدالله بن الزبير على مكة بعد صراعات دموية عنيفة ، مقتطعا بذلك مكة وما والاها ، وضاما إلى إمارته البصرة وما حاذاها ، حتى طمع في الكوفة ، فكانت وقعة مصعب مع
____________
(1) المستدرك على الصحيحين 133:3 ، ح 4624 . قال الحاكم: صحيح الإسناد .
( 115 )

المختار ، وما نجم عنها من سفك دماء شيعة علي عليه السلام ، وإعلانها إمارة زبيرية بعد ذلك .
لم يكن هذا الوضع الزبيري قد أراح عبدالملك بن مروان الذي يعد موطد الحكم الأموي المرواني فعلا ، فابن الزبير قد امتد نفوذه في أرجاء البلاد الإسلامية وشاع أمره ، وحيل ذلك بين نفوذ بني أمية المهدد كيانهم من آل الزبير ، وبين طموحاتهم المستقبلية التي ترنو إلى السيطرة على جميع الأنحاء الإسلامية دون منافس عسكري أو معارض سياسي له سطوته وآثاره . وطبيعي أن يكون لهذا المنافس القوي في حسابات الأمويين الأولوية في تصفيته ، وانتزاع ما في يده من الإمارة ، وقد رافق ذلك تحسبا حذرا من تحركات الإمام علي بن الحسين عليهما السلام الذي فرغ توّاً من واقعة الطف ، وقد رأى مصارع أبيه وآل بيته أمامه ينفذه الأمويون بأبشع صوره ، ولا بد أن يكون علي بن الحسين عليهما السلام متربصا لآل أمية متحينا فرص الثأر والانتـقام ، فأية حركة مناقضة لبني أمية ستكون فرصة علي بن الحسين عليهما السلام بعد ذلك ، هكذا كان ظن الأمويين ، فكانوا يراقبون مواقف الإمام عليه السلام من الأحداث الجارية ، وكانوا يحسبون التأييد لآل الزبيرـ إن حصل ـ إسباغا للشرعية على آل الزبير ، لذا فهم في وجل من أية تحركات ينجم عنها تأييد علي بن الحسين عليهما السلام لمنافسيهم الأقوياء ، إلا أن الإمام عليه السلام لم يتوافق مع الحركة الزبيرية أبدا ، وذلك لما ذكرنا من عداء عبدالله بن الزبير لبني هاشم عموما ، وللإمام خصوصا . هذا من جهة .
ومن جهته علم الإمام عليه السلام ـ بغض النظر عما يكنه علمه اللدني المقدس ـ من عدم مصير الخلافة لآل الزبير ، فإن الأحداث السياسية الهائجة


( 116 )

كانت توحي بفشل حركة آل الزبير ، وعدم رغبة الناس فيهم . والإمام عليه السلام لم يجازف في تأييد حركة ابن الزبير التي ستؤول إلى السقوط ، وما سيتحمل من تبعات ذلك من قبل بني أمية ، وهو عليه السلام انعزل عن هذه الأحداث ليترك الأمور تنقشع وشيكا عن هزيمة ابن الزبير وغلبة عبدالملك بن مروان ، ومن ثم فإن الفريقين غير جديرين للنصرة والمبايعة ، وكلاهما طلاب مناصب وأتباع دنيا ، والدين لعق على ألسنتهم ، فأي توافق سيبديه الإمام زين العابدين عليه السلام مع آل الزبير حتى على مستوى المصاهرة ، يعد توافقا سياسيا وتأييدا شرعيا في حسابات النظام الأموي القادم ، فهل يبقى أدنى احتمال لإمكانية التقارب بين الإمام عليه السلام حتى يعمد إلى مصاهرة مصعب بن الزبير المغامر السياسي النزق ؟!
فالإمام علي بن الحسين عليهما السلام يتجنب التقارب الظاهري مع الزبيريين ، خوفا من عواقب ذلك المزامن لأفول النجم الزبيري وشيكا ، لذا فاحتمال زواج السيدة آمنة من مصعب بن الزبير غير ممكن تبعا لهذه الظروف الآنفة ، والأبعد من ذلك أن يكون الزواج قد تم دون رغبة الإمام عليه السلام كما سيأتي مناقشة ذلك لاحقا .

مناقـشتان
    المناقشة الأولى:
ذكر سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص ما نصه:
وأول من تزوجهاـ أي سكينة ـ مصعب بن الزبير قهرا ...(1) .
يثبت النص الذي أمامنا عدم وقوع الزواج ، وهو إحدى القرائن
____________
(1) تذكرة الخواص:249 .
( 117 )

المؤيدة إلى ما نذهب إليه . وذلك لأمرين:
الأمر الأول: يستبعد النص وجود أي توافق بين بني هاشم وبين الزبيريين ، أي أن الفجوة القائمة بين البيتين يؤكدها هذا النص ، وذلك فإن وقوع الزواج قهراً لا يعني إلا عدم التوافق وقبول أحد الطرفين بالآخر ، وهو الأمر الذي كنا نؤكده سابقا من عدم وجود أي تقارب وتفاهم بين البيتين ، وبالتالي أية رغبة في التفاهم ، بل حالة العداء والكراهية ظاهرة على تصرفات أحدهما للآخر .
الأمرالثاني: إننا نتوقف في مسألة وقوع هذا الزواج القهري ، فإن عبدالله بن الزبير لم يحكم سيطرته على المدينة بعد ، حتى يتسنى لأخيه مصعب قهر بني هاشم على الزواج من آمنة ، فالهاشميون رفضوا البيعة لعبدالله بن الزبير كما مر ، وعرفت ما اتخذه عبدالله من إجراءات مشددة في إجبار الهاشميين على بيعته ، وهددهم بتحريقهم إن لم ينصاعوا بعد ذلك ، ومع هذا فلم يستطع عبدالله بن الزبير مع سطوته أن يفرض بيعته على الهاشميين ، فإن لبني هاشم قوتهم النابعة من احترام المسلمين لهم ، مع ما عانوه من جور حكامهم إلا أن هيبتهم لا تزال تطغى على قلوب الناس ، وعلي بن الحسين عليه السلام يمثل الأنموذج الأمثل في هيمنته على القلوب وحبه وتكريمه ، وحادثة انفراج الحجيج له لاستلام الحجر بمرأى من هشام بن عبدالملك إحدى الشواهد التي تؤكد محبة الناس له ، فهو لا يزال يمثل واقعة الطف بكل فصولها الفجيعة .
والإمام عليه السلام لم يبتعد عما نزل في ساحة آله من القتل والأسر والتنكيل ، فهو لا يزال يستذكر ما حصل لأبيه الشهيد عليه السلام ولآل بيته من الذبح وسفك


( 118 )

الدماء وكان الناس يرون مظلومية الإمام الحسين عليه السلام شاخصة في ولده علي ابن الحسين عليهما السلام الذي لم يبعد أذهان الأمة عن مجريات ذلك اليوم الرهيب ، وما فعله بنو أمية بأهل هذا البيت الطاهر ، والناس وإن لم يقدموا النصرة لآل البيت عليهم السلام وقتذاك وما أظهروه من تخاذل ونكوص ، فإن المأساة تعيش في وجدانهم ، وفصولها تستعيدها ذاكرتهم ، ولا يزال الأشخاص الذين حضروا المأساة يعيشون بين ظهرانيهم ، كعلي بن الحسين عليهما السلام والسيدة آمنة وأخواتها الطاهرات ، حتى إن بني مروان تحاشوا في بادئ الأمر سفك دماء الهاشميين ، وأظهروا الورع في أول أمرهم من اضطهاد العلويين ، وذلك لما أحسوه من خطر المجازفة في دمائهم بعد واقعة الطف التي تحفظها ذاكرة الأمة ، ومظلومية أهل البيت عليهم السلام شاخصة لديهم ، لذا فإن عبدالملك بن مروان يبدي تحفظه في دماء آل أبي طالب لا عن قناعته في حرمة دمائهم ، بل عن خوفه على مستقبل دولته الفتية المحاطة بمعارضات سياسية قوية تهدد كيانه .
قال اليعقوبي في تاريخه : وكان عبدالملك قد كتب إلى الحجاج وهو على الحجاز : جنبني دماء آل أبي طالب ، فإني رأيت آل حرب لما تهجموا بها لم ينصروا(1) .
وهو ما يعكس شعور المسلمين في نظرتهم لآل البيت عليهم السلام ، فيترجمها عبدالملك بن مروان في كتابه هذا وتحفظه على سفك دماء آل أبي طالب حتى حين .
هذه مكانة آل البيت عليهم السلام في قلوب الأمة ، فمتى يتاح لمصعب وأمثاله
____________
(1) تاريخ اليعقوبي 230:2 .
( 119 )

أن يقهروا أهل هذا البيت على أمر غير راضيه ؛ ليتعاملوا معهم على أساس القهر والقوة ، وإذا كانت حادثة آمنة بنت الحسين عليهما السلام يمكن قبولها ، فإن ذلك تكذبه واقعة السيدة فاطمة بنت الحسين عليهما السلام التي حاول عبدالرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري أن يخطبها قهراً ، فأبت وشكت أمرها إلى يزيد بن عبد الملك ، فلنر ما حل بعبدالرحمن هذا في رواية اليعقوبي وغيره ، وما آل إليه مصيره بمجرد محاولة التجرؤ على قهر السيدة فاطمة بنت الحسين عليهما السلام من الزواج منه .
قال اليعقوبي : وخطب عبدالرحمن فاطمة بنت الحسين بن علي ، فأرسل إليها رجالا يحلف بالله لئن لم تفعلي ليضربن أكبر ولدها بالسياط ، فكتبت إلى يزيد بن عبدالملك كتابا ، فلما قرأ كتابها سقط عن فراشه وقال : لقد ارتقى ابن الحجام مرتقى صعبا ، من يسمعني ضربه وأنا على فراشي هذا ؟ فكتب إلى عبدالواحد بن عبدالله بن بشر النضري وكان بالطائف أن يتولى المدينة ، ويأخذ عبدالرحمن بن الضحاك بأربعين ألف دينار ، ويعذبه حتى يسمعه ضربه ، ففعل ذلك ، فرئي عبدالرحمن وفي عنقه خرقة صوف يسأل الناس (1) .
هذا مصير من حاول أن يقهر أهل البيت على أمر غير راضين به ، ولا يقل عبدالرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري شرفا عن مصعب بن الزبير ، فهو ابن أبي بحر حليم العرب وسيدها ، كما كان يلقبه معاوية بن أبي سفيان ، ومع هذا فلم يتحمل يزيد بن عبدالملك أن يتجرأ عبدالرحمن على قهر السيدة فاطمة بنت الحسين من الزواج . فاحتمال وقوع الزواج قهرا من قبل
____________
(1) تاريخ اليعقوبي 240:2 .
( 120 )

مصعب بن الزبير للسيدة آمنة أمر غير مقبول من خلال ماذكرناه من قرائن .

  المناقشة الثانية:
روى ابن عبد ربه أنه : لما قتل مصعب خرجت سكينة بنت الحسين تريد المدينة ، فأطاف بها أهل العراق وقالوا : أحسن الله صحابتك يا ابنة رسول الله ، فقالت : لا جزاكم الله عني خيرا ، ولا أخلف عليكم بخير من أهل بلد ، قتلتم أبي وجدي وعمي وزوجي ، أيتمتموني صغيرة وارملتموني كبيرة(1) .
يشير الخبر إلى مصاحبة سكينة بنت الحسين لمصعب بن الزبير عند وروده الكوفة ، والخبر رغم إرساله إلا أن مؤرخي مقتل مصعب بن الزبير أرسلوه إرسال المسلمات دون مناقشته سندا ودلالة .
أما سنده: فقد ذكرنا إرساله فهو ساقط عن الاعتبار .
وأما دلالته: فإنه يريد إثبات قضيتين أشغلت الكثير ممن نحى المنحى الزبيري في كتابة التاريخ .
أما القضية الأولى
فهي محاولة تأكيد زواج آمنة من مصعب بن الزبير ، وكونه جاء بأهله إلى الكوفة فقتل هناك .
والحق أن هؤلاء خلطوا بين «آمنة» سكينة بنت الحسين التي أوردتها روايات مصعب بن الزبير حتى ارتكز في أذهانهم أن سكينة هذه التي ترافق مصعب في مسيره إلى الكوفة هي بنت الحسين عليه السلام ، إلا أن الحق في ذلك أن
____________
(1) العقد الفريد 150:5 .
( 121 )

سكينة التي رافقت مصعبا في مسيره هي سكينة ابنته وليست زوجته ، فهي بنت مصعب من زوجته فاطمة بنت عبدالله بن السائب .
قال ابن كثير في البداية والنهاية : وكان لمصعب من الولد عكاشة وعيسى الذي قتل معه ، و«سكينة» وأمهم فاطمة بنت عبدالله بن السائب(1) .
فسكينة التي رافقت مصعبا هي ابنته وليست بنت الحسين كما اختلط على رواة الخبر ، وليس لـ«آمنة» سكينة بنت الحسين في أحداث مصعب أية دخالة .
القضية الثانية
محاولة الخبر التأكيد على نظرة أموية مختلقة ، مفادها أن الذين قتلوا الحسين بن علي عليهما السلام هم شيعة الحسين عليه السلام وليس لبني أمية دخل في ذلك ، محاولة منهم لإبعاد المسؤولية عن الأمويين ، وإلقائها على عاتق الشيعة الذين راسلوا الحسين عليه السلام وأقنعوه بالمسير إليهم ، فوثبوا عليه وقتلوه . وبهذا يحاولون أن يجردوا الأمويين عن وصمة عار ما ارتكبوه في حق سبط الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي محاولات خاسرة كما ترى . فالشيعة لا يمكن أن يتحملوا مسؤولية سفك دماء آل البيت الأطهار عليهم السلام ، والكوفة عرفت بولائها لهذا البيت الطاهر ، فهم حملة أخبارهم ورواة حديثهم وأجلة أصحابهم ، ومأساة الطف إحدى نزعات بني أمية في محاولة استئصال أهل هذا البيت عليهم السلام ، ولا يمكن للتاريخ أن يتنكر ما ارتكبه هؤلاء من سفك دماء الأطهرين منافسة لهم وخشية على سلطانهم ، والذين ناصروا بني أمية هم خوارج هذه الأمة وشذاذها من شاميين ومرتزقة يقتاتون على موائد
____________
(1) البداية والنهاية 8 : 322 .
( 122 )

الأمويين ، ولا يمكن بعد ذلك للشيعة أن يلتقوا مع أعدائهم التقليديين الأمويين ، ليتحالفوا معهم على محاربة أهل البيت عليهم السلام وسفك دمائهم .
وبهذا حاول الخبر التأكيد على قضيتي زواج آمنة من مصعب بن الزبير ، ومحاولة إلقاء مسؤولية شهادة الحسين بن علي عليهما السلام على عاتق شيعته ، وبراءة الأمويين من عار ما جنوه حرصا منهم على الملك والسلطان .
والنتيجة : عدم وقوع زواج السيدة «آمنة» بنت الحسين عليهما السلام من مصعب بن الزبير ؛ لعدم تمامية الأخبار الزبيرية الضعيفة الواردة في هذا الشأن ، فضلا عن قرائن تمنع من وقوع مثل هذا الزواج الذي صورته روايات زبيرية فقط ، رواها الزبير بن بكار ومصعب الزبيري وعروة بن الزبير ، وقد عرفت حالهم فلا نعيد .

ثانيا: عبدالله بن عثمان ابن حزام
وهو ضمن القائمة الثانية من أزواج «آمنة» سكينة بنت الحسين عليهما السلام التي روتها الأخبار ، وسنكتفي في رد الرواية لضعفها ، وذلك إذا ما علمنا أن رواة الخبر هما الزبيريان المعروفان ، الزبير بن بكار وعبدالله بن مصعب الزبيري ، وتقدم شرح حالهما من الضعف ورد أحاديثهما ، وكونهما يرويان المناكير ويكثران عن الضعفاء ، إلى غير ذلك من الطعون التي ذكرها أهل الجرح وطعنوا في وثاقتهما ، هذا أولا .
وثانيا: أن خبر زواج عبدالله بن عثمان ابن حزام أكده الزبيريون ؛ لكون أمه رملة بنت الزبير بن العوام ، فخؤولته الزبيرية تدفع بالرواة الزبيريين إلى إثباته ، محاولة منهم للحصول على موقف التوافق بين البيتين ، آل علي وآل الزبير ، وتصوير حالة من التقارب والتفاهم بينهما ، تغطية منهم على أحداث


( 123 )

الجمل ، وما كان من خروج الزبير بن العوام في تلك المعركة الخاسرة على إمام زمانه علي بن أبي طالب عليه السلام ، وأن آل البيت عليهم السلام لا يزالون ينظرون إلى الزبير وآله بعين الرضا والقبول ، وهذا ما لا يمكن قبوله فعلا ؛ إذ لا يزال الزبير وآله من الخارجين على إمام زمانهم ، ومواقف عبدالله بن الزبير العدائية لآل البيت عليهم السلام يشهد بها تاريخه المعروف بمغامراته ، ومحاولات التقارب المفتعلة لاسباغ الشرعية على البيت الزبيري موهونة لا يمكن قبولها ، ولا زال التباعد بين هذين البيتين ظاهرا على مواقف الفريقين ، فلا يمكن تحسين صورة الزبيريين بحالات الزواج المتعددة من السيدة آمنة ، وتبقى الفجوة بين الأطروحتين عميقة لا يمكن إلغاؤها ، وفي ضمن نظرة العداء والخلاف بين آل علي وآل الزبير لا يمكن أن نتصور صحة خبر زواج عبدالله بن عثمان من السيدة آمنة فضلا عن ضعف سنده وسقوطه عن الاعتبار .
ومما يثير الشك في صحة هذه الدعوى ، ما رواه أبو منصور البغدادي ، عن المدائني ، عن مجالد ، عن الشعبي: أن سكينة نشزت على زوجها عبدالله ابن عثمان ابن حزام فشكتها أمه رملة بنت الزبير بن العوام إلى عبدالملك(1) .
ولا ندري مكان عبدالملك من قضية النشوز هذه ، مع وجود أخيها الإمام علي بن الحسين عليهما السلام ، الذي بإمكانه حل هذه القضية الخاصة بأخته آمنة وزوجها ، وهي ليست من الأهمية بمكان حتى تلجأ أم عبدالله إلى رفع أمر ابنها وزوجته إلى عبدالملك ، وكان يومئذ خليفة يقيم في الشام ، ورملة بنت الزبير في المدينة ، فما الذي دعا رملة إلى أن تشكو كنتها إلى الخليفة ؟!
____________
(1) بلاغات النساء :146 .
( 124 )

وهل تقتضي هذه الحادثة الخاصة ـ التي لا علاقة لها بشؤون الخلافة ـ أن يستمع الخليفة إلى دعاوي نشوز امرأة على زوجها ؟!
ثم إن الحادثة معلومة دوافعها ، وهي محاولة تصوير السيدة آمنة بنت الحسين عليهما السلام بارتكاب مخالفات الشريعة ، والخروج عن طاعة الزوجية دون مراعاة الأحكام ، وبهذا سيحصل رواة هذا الخبر إلى تصوير أهل البيت عليهم السلام المعروفين بقداستهم وورعهم ، إلى أهل بيت من عامة الناس يرتكبون ما يرتكبه الآخرون من مخالفة أحكام الدين ومحظورات الشريعة .
أما رواة الخبر مثل مجالد والشعبي فليسا بشيء .
أما مجالد: فقد عده ابن عدي في الضفعاء .
قال علي بن المديني : قلت ليحيى بن سعيد : فمجالد ؟ قال : في نفسي منه ...(1) .
وعن بشر بن آدم ، قلت لخالد بن عبدالله الواسطي: دخلت الكوفة وكتبت عن الكوفيين ولم تكتب عن مجالد ؟ قال: لأنه كان طويل اللحية .[وهي كناية عن استخفاف الواسطي بمجالد] .
وعن يحيى قال: مجالد بن سعيد ، ضعيف .
وفي موضع آخر: مجالد وحجاج لا يحتج بحديثيهما .
وقال ابن عدي: سمعت ابن حماد يقول: قال السعدي: مجالد بن سعيد يضعف حديثه .
وعن عبدالرحمن بن مهدي يقول: سمعت سفيان يقول: أشعث ـ يعني ابن سوارـ أثبت من مجالد ، وكان يحيى يضعف حديث مجالد بن
____________
(1) الكامل في الضعفاء لابن عدي 168:8 .
( 125 )

سعيد وكان ابن مهدي لا يروي عنه .
وعن ابن مهدي : لا يروى عنه .
وعن ابن أبي عصمة ، عن أبي طالب : سألت أحمد بن حنبل عن مجالد ، فقال: ليس بشيء ، يرفع حديثا منكرا لا يرفعه الناس وقد احتمله الناس .
وقال النسائي: مجالد بن سعيد ، كوفي ضعيف(1) .
أما الشعبي: فهو عامر بن شراحيل بن عبد ، أبو عمرو الهمداني ، أنموذج من نماذج العداء والبغض لعلي وشيعته ، فكان لا يروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام على الرغم من روايته وحفظه ، واعترف بذلك ابن حجر في تهذيب التهذيب فقال: وقال الدار قطني في العلل: لم يسمع الشعبي من علي إلا حرفا واحدا ما سمع غيره (2) .
وهو يعني رواية الشعبي عن علي رواية واحدة على الرغم مما عرف به من حفظه . ولم يقتصر الأمر على ذلك ، بل أوغل في عدائه لعلي عليه السلام بحجة أن الشيعة كانوا السبب في تجنبه مروياته عنه عليه السلام فقال: لقد بغضوا إلينا حديث علي بن أبي طالب(3) .
وإذا كان هذا حال الشعبي في عدائه وبغضه لعلي عليه السلام ، فمتى يتم لنا قبول مروياته خصوصا ما يتعلق بأهل البيت عليهم السلام ، والرواية واضحة الطعن والتوهين لأهل البيت وهي من موارد الخلاف والشك في صحة الحادثة
____________
(1) الكامل في الضعفاء 169:8ـ170 .
(2) تهذيب التهذيب 62:4 .
(3) العقد الفريد لابن عبد ربه 223:2 . وراجع ما ذكره ابن عبد ربه من كلام الشعبي في الشيعة ، وكونهم يهود هذه الأمة .

( 126 )

وعدم وقوعها .
أما ما رووه عن ولادة السيدة آمنة من عبدالله بن عثمان ابن حزام ولدا اسمه قرين(1) فغير صحيح ، فإن قرينا المعروف هو قرين بن المطلب بن السائب بن أبي وداعة وأمه زبيبة(2) . وليس لقرين بن عبدالله بن عثمان من وجود ، ولم تشر إلى ذلك المصادر الرجالية ، ولعل مقتضيات الواقعة أجبرت رواتها إلى اختلاق مثل هذه الشخصية الموهومة .
إذن لم يثبت زواج السيدة «آمنة» بنت الحسين عليهما السلام من عبدالله بن عثمان ابن حزام لضعفها سندا ، وعدم تماميتها دلالة .

ثالثا: الأصبغ بن عبدالعزيز بن مروان
وهو ممن أشارت إليه روايات الإصفهاني وابن خلكان وسبط ابن الجوزي ، واتفقت على عدم الدخول بها ـ إن صح وقوع ذلك ـ إلا خبر ابن سعد في الطبقات فقال: تزوجها . ولعله أشار إلى الأعم من الدخول وعدم الدخول ، واتفاقهم على عدم الدخول يشير إلى ما قصده ابن سعد من عدم الدخول كذلك .
والخبر لا يمكن قبوله بقرينة مهمة ، وهي: أن الأصبغ بن عبدالعزيز كان واليا لعبد الملك بن مروان في مصر ، والسيدة آمنة بنت الحسين إقامتها في المدينة ، وهي لم تغادرها أبدا ، فكيف يتسنى لهذا المرواني من زواجها ؟ بل كيف ومتى وقع العقد ولم يدخل بها ؟ وما هي أسباب عدم الدخول ؟
____________
(1) وجاء في الأغاني 161:16 أن سكينة ولدت من هذا الحزامي بنتا . وقبلها في صفحة 159 ذكر أبوالفرج أن هذه البنت لمصعب بن الزبير . وأما قرين فهو المسمى بعثمان ولد زيد بن عمرو بن عثمان ، كما قال في الأغاني 163:16 . روايات الواحدة تلو الأخرى متهافتة ، وكل رواية تنقض الأخرى ، والكل في تناقض وتهافت .
(2) راجع الطبقات الكبرى لابن سعد 127:4 .