الــبــاب الأَول
الــفــطــرة والــمــعــرفــة
( 13 )
الــفــصــل الاَول
الــفــطــرة

هذا الباب بمثابة المقدمة لبقية أبواب العقائد ، وفيه بحوث كثيرة ، لكن أصوله
بشكل عام موضع اتفاق بين المسلمين ، لذلك تَتَبعنا مواد موضوعاته من المصادر
المختلفة ، وقمنا بتنظيمها وتبويبها موضوعياً تحت عناوين مناسبة ، ليسهل على
الباحث الرجوع إليها ، وبسطنا القول أحياناً في بعض موضوعاته التي قدرنا أنها
تحتاج إلى ذلك .
آيات فطرة السماوات والكون

وقد أوردنا في أول الفصل الاَول منه آيات فطرة الكون ، لاَنها تنفع في فهم فطرة
الاِنسان :

ـ فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريَ مما
تشركون . إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والاَرض حنيفاً وما أنا من
المشركين . الاَنعام 78 ـ 79

ـ قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والاَرض يدعوكم ليغفر لكم من
ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى ، قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا
عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين . إبراهيم ـ 10
( 14 )

ـ قال بل ربكم رب السماوات والاَرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من
الشاهدين . وتالله لاَكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين . الاَنبياء 56 ـ 57

يا قوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون . ويا قوم
استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا
تتولوا مجرمين . هود 51 ـ 52

ـ فاطر السماوات والاَرض جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الاَنعام أزواجاً
يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير . الشورى ـ 11

ـ الذي خلق سبع سماوات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع
البصر هل ترى من فطور . الملك ـ 3

ـ الحمد لله فاطر السماوات والاَرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى
وثلاث ورباع ، يزيد في الخلق ما يشاء ، إن الله على كل شيء قدير . فاطر ـ 1

ـ قل اللهم فاطر السماوات والاَرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك
فيما كانوا فيه يختلفون . الزمر ـ 46

ـ قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والاَرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني
أمرت أن أكون أول من أسلم ، ولا تكونن من المشركين . الاَنعام ـ 14

ـ إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والاَرض حنيفاً وما أنا من المشركين .
الاَنعام ـ 79

ـ رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الاَحاديث فاطر السماوات
والاَرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين . يوسف ـ 101
انفطار الكون عند القيامة

ـ إذا السماء انفطرت . وإذا الكواكب انتثرت . وإذا البحار فجرت . وإذا القبور
بعثرت . علمت نفس ما قدمت وأخرت . الاِنفطار 1 ـ 5
( 15 )

ـ فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيبا . السماء منفطر به كان وعده
مفعولا . إن هذه تذكرة فمن شاء إتخذ إلى ربه سبيلا . المزمل 17 ـ 19
تكاد السماوات تتفطر من عظمة الله

ـ تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون
لمن في الأرض ، ألا إن الله هو الغفور الرحيم . الشورى ـ 5 وقال في بحار الاَنوار ج 70
ص346 : تكاد السموات يتفطرن ، أي يتشققن من عظمة الله ، وروى علي بن إبراهيم
عن الباقر عليه السلام : أي يتصدعن من فوقهن . انتهى . وروى نحوه السيوطي في
الدر المنثور ج 6 ص 3
تكاد السماوات تتفطر من الاِفتراء على الله

ـ تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الاَرض وتخر الجبال هدا . أن دعوا للرحمن
ولدا . وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا . إن كل من في السماوات والاَرض إلا آتي
الرحمن عبدا . لقد أحصاهم وعدَّهم عدا . مريم 90 ـ 93
فطرة الله التي فطر الناس عليها

ـ فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ،
ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون . منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا
تكونوا من المشركين. من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون.
الروم ـ 30 ـ 32

ـ وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا ، قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من
المشركين . قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق
( 16 )
ويعقوب والاَسباط ، وما أوتي موسى وعيسى ، وما أوتي النبيون من ربهم ، لا نفرق
بين أحد منهم ونحن له مسلمون . فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ، وإن تولوا
فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم . صبغة الله ومن أحسن من الله
صبغة ونحن له عابدون . قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم
أعمالكم ونحن له مخلصون . البقرة 135 ـ 139

ـ إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون . هود ـ 51

ـ وإذ قال إبراهيم لاَبيه وقومه إنني براء مما تعبدون . إلا الذي فطرني فإنه سيهدين
. وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون . الزخرف 26 ـ 28

ـ وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين . اتبعوا من لا
يسألكم أجراً وهم مهتدون . وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون . أأتخذ من
دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لاتغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون . يس 20 ـ 23

ـ قالوا آمنّا برب هارون وموسى . قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي
علمكم السحر ، فلاَقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولاَصلبنكم في جذوع النخل
ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى . قالوا لن نؤثرك على ماجاءنا من البينات والذي فطرنا
فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا . طه 70 ـ 72
الفطرة الاَولى والفطرة الثانية

ـ وقالوا أإذا كنا عظاماً ورفاتاً أإنا لمبعوثون خلقاً جديداً . قل كونوا حجارةً أو
حديدا . أو خلقاً مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا ، قل الذي فطركم أول
مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو ، قل عسى أن يكون قريباً . يوم
يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً . الاِسراء 51 ـ 52
فطرة الناس على معرفة الله تعالى وتوحيده
ـ نهج البلاغة ج 1 ص 215

110 ــ ومن خطبة له عليه السلام : إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله سبحانه
( 17 )
وتعالى ، الاِيمان به وبرسوله ، والجهاد في سبيله فإنه ذروة الاِسلام ، وكلمة
الاِخلاص فإنها الفطرة ، وإقام الصلاة فإنها الملة . انتهى . ورواه في الفقيه ج 1 ص 205
ـ الكافي ج 2 ص 12

علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبي
عبدالله عليه السلام قال قلت : فطرة الله التي فطر الناس عليها ؟ قال : التوحيد .

ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن عبدالله بن سنان ، عن
أبي عبد الله عليه السلام قال : سألته عن قول الله عز وجل : فطرة الله التي فطر الناس عليها ، ما
تلك الفطرة ؟ قال : هي الاِسلام ، فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد ، قال :
ألست بربكم ؟ وفيهم المؤمن والكافر .

ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن أذينة ، عن زرارة عن أبي
جعفر عليه السلام قال : سألته عن قول الله عز وجل : حنفاء لله غير مشركين به ؟ قال :
الحنيفية من الفطرة التي فطر الله الناس عليها . لا تبديل لخلق الله ؟ قال : فطرهم على
المعرفة به .
ـ المحاسن للبرقي ج 1 ص 241

عنه ، عن أبيه ، عن محمد بن أبي عمير ، عن عمر بن أذينة قال سألت أبا
جعفر عليه السلام عن قول الله : حنفاء لله غير مشركين به ، ما الحنيفية ؟ قال : هي الفطرة التي
فطر الناس عليها ، فطر الله الخلق على معرفته .

ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن علي بن رئاب ،
عن زرارة قال : سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله عز وجل : فطرة الله التي فطر الناس
عليها ؟ قال : فطرهم جميعاً على التوحيد .

ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن فضال ، عن ابن أبي جميلة ، عن محمد
الحلبي ، عن أبي عبدالله عليه السلام في قول الله عز وجل : فطرة الله التي فطر الناس عليها ؟
قال : فطرهم على التوحيد .
( 18 )

ـ عنه ، عن الحسن بن علي بن فضال ، عن ابن بكير ، عن زرارة قال سألت
أباعبدالله عليه السلام عن قول الله : وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم
وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى . قال : ثبتت المعرفة في قلوبهم ونسوا
الموقف وسيذكرونه يوماً ما ، ولو لا ذلك لم يدر أحد من خالقه ولا من رازقه .

ورواه في علل الشرائع ج 1 ص 117 ، ورواه في تفسير القمي وفيه : فمنهم من أقر
بلسانه في الذر ولم يؤمن بقلبه فقال الله : فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل .
ـ التوحيد للصدوق ص 328 ـ 330

روى الصدوق عشر روايات تحت عنوان ( باب فطرة الله عز وجل الخلق على
التوحيد ) وقد تقدم أكثرها ، وجاء في السابعة منها (التوحيد ومحمد رسول الله
وعلي أمير المؤمنين ) .
ـ معاني الاَخبار للصدوق ص 350

محمد بن أبي عمير ، عن عمر بن أذينة ، عن زرارة قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن
قول الله عز وجل : حنفاء لله غير مشركين به ، وقلت : ما الحنفية ؟ قال : هي الفطرة .
انتهى . ورواه في بحار الاَنوار ج 3 ص 276 ، وروى عدداً وافراً من هذه الاَحاديث ج 3 ص
276 وج 5 ص 196 وص 223 ، والحلي في مختصر بصائر الدرجات ص 158 ـ 160 ،
والحويزي في تفسير نور الثقلين ج 2 ص 96 وج 4 ص 186 . . . . وغيرهم .
الفطرة حالة استعداد لا تعني الاِجبار وسلب الاِختيار
ـ نهج البلاغة ج 1 ص 120

اللهم داحي المدحوات وداعم المسموكات ، وجابل القلوب على فطرتها ،
شقيها وسعيدها ، إجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك على محمد عبدك
ورسولك ، الخاتم لما سبق ، والفاتح لما استقبل .
( 19 )
ـ علل الشرائع ج 1 ص 121

أبي ، قال حدثنا سعد بن عبدالله ، عن أحمد بن أبي عبدالله ، عن أبيه ، عن غير
واحد ، عن الحسين بن نعيم الصحاف قال : قلت لاَبي عبدالله عليه السلام : أيكون الرجل
مؤمناً قد ثبت له الاِيمان ينقله الله بعد الاِيمان إلى الكفر ؟ قال : إن الله هو العدل ،
وإنما بعث الرسل ليدعو الناس إلى الاِيمان بالله ، ولا يدعو أحداً إلى الكفر .

قلت فيكون الرجل كافراً قد ثبت له الكفر عند الله فينقله الله بعد ذلك من الكفر
إلى الاِيمان ؟ قال : إن الله عز وجل خلق الناس على الفطرة التي فطرهم الله عليها لا
يعرفون إيماناً بشريعة ولا كفراً بجحود ، ثم ابتعث الله الرسل إليهم يدعونهم إلى
الاِيمان بالله ، حجةً لله عليهم ، فمنهم من هداه الله ، ومنهم من لم يهده . انتهى . ورواه
في الكافي ج 2 ص 416 ، وجاء في هامشه :

قال المجلسي رحمه الله : الظاهر أن كلام السائل استفهام ، وحاصل الجواب : أن الله
خلق العباد على فطرة قابلة للاِيمان وأتم على جميعهم الحجة بإرسال الرسل وإقامة
الحجج ، فليس لاَحد منهم حجة على الله في القيامة ، ولم يكن أحد منهم مجبوراً
على الكفر لا بحسب الخلقة ولا من تقصير في الهداية وإقامة الحجة ، لكن بعضهم
استحق الهدايات الخاصة منه تعالى فصارت مؤيدة لاِيمانهم ، وبعضهم لم يستحق
ذلك لسوء اختياره ، فمنعهم تلك الاَلطاف فكفروا ، ومع ذلك لم يكونوا مجبورين
ولا مجبولين بعد ذلك من الاِيمان إلى الكفر .
ـ تفسير العياشي ج 1 ص 104

ـ عن مسعدة عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله : كان الناس أمة واحدة فبعث الله
النبيين مبشرين ومنذرين .

فقال : كان ذلك قبل نوح . قيل : فعلى هدى كانوا ؟ قال : بل كانوا ضلالاً ، وذلك
أنه لما انقرض آدم وصالح ذريته بقي شيث وصيه لا يقدر على إظهار دين الله الذي
كان عليه آدم وصالح ذريته ، وذلك أن قابيل تواعده بالقتل كما قتل أخاه هابيل ،
( 20 )
فسار فيهم بالتقية والكتمان ، فازدادوا كل يوم ضلالاً حتى لم يبق على الاَرض معهم
إلا من هو سلف ، ولحق الوصي بجزيرة في البحر يعبد الله ، فبدا لله تبارك وتعالى أن
يبعث الرسل ، ولو سئل هؤلاء الجهال لقالوا : قد فرغ من الاَمر وكذبوا إنما هي ( هو )
أمر يحكم به الله في كل عام ، ثم قرأ : فيها يفرق كل أمر حكيم ، فيحكم الله تبارك
وتعالى ما يكون في تلك السنة من شدة أو رخاء أو مطر أو غير ذلك .

قلت : أفضلالاً كانوا قبل النبيين أم على هدى ؟

قال : لم يكونوا على هدى ، كانوا على فطرة الله التي فطرهم عليها لا تبديل
لخلق الله ، ولم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم الله ، أما تسمع يقول إبراهيم : لئن لم
يهدني ربي لاَكونن من القوم الضالين ، أي ناسياً للميثاق . انتهى . ورواه في تفسير
نور الثقلين ج 1 ص 736
ـ تفسير التبيان ج 2 ص 195

فإن قيل : كيف يكون الكل كفاراً مع قوله : فهدى الله الذين آمنوا ؟

قلنا : لا يمتنع أن يكونوا كلهم كانوا كفاراً ، فلما بعث الله إليهم الاَنبياء مبشرين
ومنذرين اختلفوا ، فآمن قوم ولم يؤمن آخرون .

وروي عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال : كانوا قبل نوح أمة واحدة على فطرة الله ، لا
مهتدين ولا ضلالاً ، فبعث الله النبيين . . . .
ـ بحار الاَنوار ج 65 ص 246

وقال النيسابوري : إعلم أن جمهور الحكماء زعموا أن الاِنسان في مبدأ فطرته
خال عن المعارف والعلوم ، إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر والفؤاد وسائر القوى
المدركة حتى ارتسم في خياله بسبب كثرة ورود المحسوسات عليه حقائق تلك
الماهيات وحضرت صورها في ذهنه . ثم إن مجرد حضور تلك الحقائق إن كان كافياً
في جزم الذهن بثبوت بعضها لبعض أو انتفاء بعضها عن بعض فتلك الاَحكام علوم
( 21 )
بديهية ، وإن لم يكن كذلك بل كانت متوقفة على علوم سابقة عليها ـ ولا محالة
تنتهي إلى البديهيات قطعاً للدور أو التسلسل ـ فهي علوم كسبية . فظهر أن السبب
الاَول لحدوث هذه المعارف في النفوس الاِنسانية هو أنه تعالى أعطى الحواس
والقوى الداركة للصور الجزئية . وعندي أن النفس قبل البدن موجودة عالمة بعلوم
جمة هي التي ينبغي أن تسمى بالبديهيات ، وإنما لا يظهر آثارها عليها ، حتى إذا
قوي وترقى ظهرت آثارها شيئاً فشيئاً . وقد برهنا على هذه المعاني في كتبنا الحكمية
فالمراد بقوله : لا تعلمون شيئاً ، أنه لا يظهر أثر العلم عليهم ، ثم إنه بتوسط الحواس
الظاهرة والباطنة يكتسب سائر العلوم . ومعنى : لعلكم تشكرون ، إن تصرفوا كل آلة
في ما خلقت لاَجله ، وليس الواو للترتيب حتى يلزم من عطف ( جعل ) على
(أخرج ) أن يكون جعل السمع والبصر والاَفئدة متأخراً عن الاِخراج من البطن .
ـ بحار الاَنوار ج 1 ص 93

مص : قال الصادق عليه السلام : الجهل صورة ركبت في بني آدم ، إقبالها ظلمة ، وإدبارها
نور ، والعبد متقلب معها كتقلب الظل مع الشمس ، ألا ترى إلى الاِنسان تارة تجده
جاهلاً بخصال نفسه حامداً لها عارفاً بعيبها في غيره ساخطاً ، وتارة تجده عالماً
بطباعه ساخطاً لها حامداً لها في غيره ، فهو متقلب بين العصمة والخذلان ، فإن
قابلته العصمة أصاب ، وإن قابله الخذلان أخطأ ، ومفتاح الجهل الرضا والاِعتقاد به ،
ومفتاح العلم الاِستبدال مع إصابة موافقة التوفيق ، وأدنى صفة الجاهل دعواه العلم
بلا استحقاق ، وأوسطه جهله بالجهل ، وأقصاه جحوده العلم ، وليس شيء إثباته
حقيقة نفيه إلا الجهل والدنيا والحرص ، فالكل منهم كواحد ، والواحد منهم كالكل .

وقال في هامشه : وقوله عليه السلام : الجهل صورة ركبت .. إلخ . لاَن طبيعة الاِنسان في
أصل فطرتها خالية عن الكمالات الفعلية والعلوم الثابتة ، فكأن الجهل عجن في
طينتها وركب مع طبيعتها ، ولكن في أصل فطرته له قوة كسب الكمالات بالعلوم
والتَّنَورٌّ والمعارف .
( 22 )

قوله عليه السلام : فالكل كواحد ، لعل معناه أن هذه الخصال كخصلة واحدة لتشابه
مباديها ، وانبعاث بعضها عن بعض ، وتقوي بعضها ببعض ، كما لا يخفى .
ـ بحار الاَنوار ج 11 ص 10

. . . . عن الباقر عليه السلام أنه قال : إنهم كانوا قبل نوح أمة واحدة على فطرة الله لا مهتدين
ولا ضلالاً ، فبعث الله النبيين . انتهى .

قال المجلسي رحمه الله : وعلى هذا فالمعنى أنهم كانوا متعبدين بما في عقولهم غير
مهتدين إلى نبوة ولا شريعة .
ـ الاِقتصاد للشيخ الطوسي ص 100

فإن قيل : لو كانت المعرفة لطفاً لما عصى أحد .

قلنا : اللطف لا يوجب الفعل ، وإنما يدعو إليه ويقوي الداعي إليه ويسهله ، فربما
وقع عنده الفعل ، وربما يكون معه أقرب وإن لم يقع .
ـ شرح الاَسماء الحسنى ج 2 ص 84

. . . . كما سئل عليه السلام : أنحن في أمر فرغ أم في أمر مستأنف ؟ فقال : في أمر فرغ وفي
أمر مستأنف ، فالموضوعان السعيد والشقي الاَخرويان كما قال تعالى : يوم يأتي لا
تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد .

إن قلت: هذا فيما سوى هذا الوجه ينافي قوله صلى الله عليه وآله : كل مولود يولد على فطرة
الاِسلام ، إلا أن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ؟

قلت : كل مولود يولد على الفطرة روحاً وصورة بالجهة النورانية ، والسعيد سعيد
في بطن أمه وكذا الشقي جسداً ومادة ، وإذا جعلنا بطن الاَم النشاة العلمية فكل
مولود يولد على الفطرة وجوداً ، والسعيد سعيد ماهية ومفهوماً ، وكذا الشقي شقي
ماهية ومفهوماً ، كل منهما بالحمل الاَولي ، ليس فاقداً لنفسه ، وليس مفهوم أحدهما
هو المفهوم من الآخر ، فإن المفاهيم من أية نشأة كانت فطرتها وذاتيها الاِختلاف ،
( 23 )
والوجود أية مرتبة منه ذاته وجبلته الوحدة والاِتفاق ، ما به الاِمتياز فيه عين ما به
الاِشتراك ، به استمساك الماهيات التي هي مثار الكثرة والمخالفة ، فهو جهة ارتباطها
ونظمها وبه لا انفصام لها .

وبالجملة قد ظهر لك أن اختلاف الوجودات مرتبة في العين ، واختلاف قبول
الماهيات لمراتب الوجود المقول بالتشكيك فيه ، على طبق اختلاف الماهيات
بحسب المفهوم في العلم . وهذا معنى اختلاف الطينة في الاَزل كما هو عن
الاَئمة عليهم السلام مأثور . . . . وهو مقتضى العدل .

ويمكن التوفيق بين هذا القول التحقيقي البرهاني والذوقي الوجداني ، وبين
القول بالتسوية في الطينة باعتبار الوجود والماهية ، ولا سيما في مقام الجمع .
ـ شرح الاَسماء الحسنى ج 1 ص 54

قال صدر المتألهين : إن الله عز وجل لا يولي أحداً إلا ما تولاه طبعاً وإرادة ، وهذا
عدل منه ورحمة . وقد ورد أن الله تعالى خلق الخلق كلهم في ظلمة ثم قال : ليختر
كل منكم لنفسه صورة أخلقه عليها ، وهو قوله : خلقناكم ثم صورناكم ، فمنهم من
قال رب اخلقني خلقاً قبيحاً أبعد ما يكون في التناسب وأوغله في التنافر ، حتى لا
يكون مثلي في القبح والبعد عن الاِعتدال أحد ، ومنهم من قال خلاف ذلك ، وكل
منهما أحب لنفسه التفرد فإن حب الفردانية فطرة الله السارية في كل الاَمم التي تقوم
بها وجود كل شيَ ، فخلق الله كلاً على ما اختاره لنفسه ، فتحت كل منكر معروف
وقبل كل لعنة رحمة وهي الرحمة التي وسعت كل شيَ ، فإن الله يولي كلاً ما تولى ،
وهو قوله تعالى : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى نوله ما تولى ونصله
جهنم وساءت مصيراً ، فإن شك في ذلك شاك فليتأمل قوله تعالى : إنا عرضنا الاَمانة
على السموات والاَرض والجبال فأبين أن يحملنها .. الآية ، ليعلم أن الله تعالى لا
يحمل أحداً شيئاً قهراً وقسراً ، بل يعرضه أولاً فإن تولاه ولاه وإلا فلا . وهذا من
رحمة الله وعدله .
( 24 )

لا يقال : ليس تولي الشيَ ما تولاه عدلاً حيث لا يكون ذلك التولي عن رشد
وبصيرة فإن السفيه قد يختار لنفسه ما هو شر بالنسبة إليه وضر لجهله وسفاهته ،
فالعدل والشفقة عليه منعه إياه .

لاَنا نقول : هذا التولي والتوجيه الذي كلامنا فيه أمر ذاتي لا يحكم عليه بالخير
والشر بل هو قبلهما ، لاَن ما يختاره السفيه إنما يعد شراً بالقياس إليه لاَنه مناف لذاته
بعد وجوده ، فلذاته اقتضاء أول متعلق بنقيض هذه السفاهة ، فذلك هو الذي أوجب
أن يسمى ذلك شراً بالقياس إليه .

وأما الاِقتضاء الاَول الذي كلامنا فيه فلا يمكن وصفه بالشر ، لاَنه لم يكن قبله
اقتضاء يكون هذا بخلافه فيوصف بأنه شر ، بل هو الاِقتضاء الذي جعل الخير خيراً ،
لاَن الخير لشيَ ليس إلا ما يقتضيه ذاته . والتولي الذي كلامنا فيه هو الاِستدعاء
الذاتي الاَزلي والسؤال الوجودي الفطري الذي يسأله الذات المطيعة السامعة لقول
كن ، وقوله ليس أمر قسر وقهر ، لاَن الله عز وجل غني عن العالمين ، فكأنه قال لربه
إئذن لي أن أدخل في عدلك وهو الوجود ، فقال الله تعالى كن .
ـ تفسير الميزان ج 2 ص 346

لكن يمكن أن يقال إن الاِنسان بحسب خلقته على نور الفطرة هو نور إجمالي
يقبل التفصيل ، وأما بالنسبة إلى المعارف الحقة والاَعمال الصالحة تفصيلاً فهو في
ظلمة بعد لعدم تبين أمره . والنور والظلمة بهذا المعنى لا يتنافيان ولا يمتنع
اجتماعهما ، والمؤمن بإيمانه يخرج من هذه الظلمة إلى نور المعارف والطاعات
تفصيلاً ، والكافر بكفره يخرج من نور الفطرة إلى ظلمات الكفر والمعاصي التفصيلية.

والاِتيان بالنور مفرداً وبالظلمات جمعاً في قوله تعالى : يخرجهم من الظلمات
إلى النور ، وقوله تعالى : يخرجونهم من النور إلى الظلمات ، للاِشارة إلى أن الحق
واحد لا اختلاف فيه كما أن الباطل متشتت مختلف لا وحدة فيه ، قال تعالى : وأن
هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم . . . . الاَنعام ــ 153
( 25 )
ـ مجموعة الرسائل للشيخ الصافي 243

للشيخ المفيد في بحث الاِعتقاد بالفطرة رأي آخر غير ما ذهب إليه الشيخ
الصدوق ، ولتوضيح ذلك نقول : توجد في باب الاِعتقاد بالفطرة وآيات الفطرة
وأحاديثها كالحديث ( فطرهم على التوحيد ) أو ( كل مولود يولد على الفطرة )
ثلاثة أوجه :

الوجه الاَول : أن المراد من ذلك هو أن الله جعل فطرة الاِنسان نقية مقتضية
للتوحيد والعقائد الحقة ، وحب الحق والخير والتصديق بحسن العدل وقبح الظلم
والنفور عن الباطل والشر ، بحيث لو لم يحجب هذه الفطرة الاَمور المخالفة من قبيل
التربية فالاِنسان بنفسه سيهتدي إلى الله ويقر بوجود الصانع ، كما يتقبل العقائد الحقة
عند ما تعرض عليه .

والصدوق فسر الفطرة بهذا المعنى وقد بحثنا بتفصيل في ( رسالتنا ) في تفسير
آية الفطرة حول هذا الوجه وكونه موافقاً لاَصول العقائد الاِسلامية في الفطرة
والاَحاديث الشريفة التي تدل على هذا المعنى .

الوجه الثاني : أن معنى ( فطر الله الخلق على التوحيد ) فطرهم للتوحيد ، أي
خلق الناس للاِعتقاد بالتوحيد ، وإلى هذا المعنى ذهب الشيخ الاَعظم الشيخ
المفيد ، واختاره .

الوجه الثالث : هو أنه عبر عن إرادة التوحيد منهم بالاِرادة التكوينية ، والظاهر أن
المفيد استظهر من كلام الصدوق هذا الوجه فأجاب عن ذلك بقوله : لو كان الاَمر
كذلك لكان الجميع موحدين .

وبديهي أنه لو كان الاَمر دائراً بين الوجه الثاني والثالث ، فالقول الصحيح والمعتبر
هو قول المفيد ( الوجه الثاني ) . لكن بما أننا قلنا بأن الوجه المعتبر المستفاد من الآية
والروايات هو القول الاَول ، وهو ما اختاره الصدوق ظاهراً ، وفيه رجحان على القول
الثاني ظاهراً .