الفصل الثامن
تفسير مقارن للآيات المتعلقة بالموضوع
الآيات المحكمة النافية لاِمكان الرؤية

ذلكم الله ربكم لا إلَه إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل . لا
تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار وهو اللطيف الخبير . الاَنعام 102 ـ 103

فاطر السماوات والاَرض جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الاَنعام أزواجاً
يذرؤكم فيه ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير . الشورى ـ 11

يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما . طه ـ 110

الذي جعل لكم الاَرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من
الثمرات رزقاً لكم ، فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون . البقرة ـ 22

ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك ، قال لن تراني ولكن
أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر
موسى صعقا ، فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين . الاَعراف ـ 143

وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم
تنظرون .. البقرة ـ 55
( 290 )

يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من
ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ، ثم اتخذوا العجل من بعد ما
جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطاناً مبينا . النساء ـ 153

وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ، لقد استكبروا
في أنفسهم وعتو عتواً كبيرا . يوم يرون الملائكة لابشرى يومئذ للمجرمين ويقولون
حجراً محجورا . الفرقان 21 ـ 22

قل هو الله أحد ، الله الصمد ، لم يلد ، ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد .
الاِخلاص 1 ـ 4
الآيات المتشابهة التي استدلوا بها على الرؤية

كلا بل تحبون العاجلة . وتذرون الآخرة . وجوه يومئذ ناضرة . إلى ربها ناظرة .
ووجوه يومئذ باسرة . تظن أن يفعل بها فاقرة . القيامة 20 ـ 25

والنجم إذا هوى . ما ضل صاحبكم وما غوى . وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا
وحي يوحى . علمه شديد القوى . ذو مرة فاستوى . وهو بالاَفق الاَعلى . ثم دنا
فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى . ما كذب الفؤاد ما
رأى . أفتمارونه على ما يرى . ولقد رآه نزلة أخرى . عند سدرة المنتهى . عندها جنة
المأوى . إذ يغشى السدرة ما يغشى . ما زاغ البصر وما طغى . لقد رأى من آيات ربه
الكبرى . النجم 1 ـ 18

أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون . سلهم أيهم بذلك
زعيم . أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين . يوم يكشف عن ساق
ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون . خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون
إلى السجود وهم سالمون . القلم 39 ـ 43
آيات : استوى على العرش

إن ربكم الله الذي خلق السماوات والاَرض في ستة أيام ثم استوى على العرش
( 291 )
يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ، ألا له
الخلق والاَمر تبارك الله رب العالمين . الاَعراف ـ 54

إن ربكم الله الذي خلق السماوات والاَرض في ستة أيام ثم استوى على العرش
يدبر الاَمر ، ما من شفيع إلا من بعد إذنه ، ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون .
يونس ـ 3

الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس
والقمر كل يجري لاَجل مسمى ، يدبر الاَمر ، يفصل الآيات ، لعلكم بلقاء ربكم
توقنون . الرعد ـ 2

طه . ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى . إلا تذكرة لمن يخشى . تنزيلاً ممن خلق
الاَرض والسماوات العلى . الرحمن على العرش استوى . له ما في السماوات وما في
الاَرض وما بينهما وما تحت الثرى . طه 1 ـ 6

الذي خلق السماوات والاَرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش
الرحمن فاسأل به خبيرا . الفرقان ـ 59

الله الذي خلق السماوات والاَرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على
العرش، ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون . السجدة ـ 4

هو الذي خلق السماوات والاَرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ، يعلم ما
يلج في الاَرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، وهو معكم أينما
كنتم والله بما تعملون بصير . له ملك السماوات والاَرض وإلى الله ترجع الاَمور .
الحديد ـ 4 ـ 5

وقد أوردنا عدداً من الاَحاديث الشريفة ومن كلمات العلماء في تفسير هذه
الآيات ، ونورد هنا ما بقي من تفسيرها ، وفيها أحاديث وآراء مشتركة بين أكثر من
آية، لاَنها وردت في موضوع الرؤية ككل .
* *
( 292 )
تفسير آية : لا تدركه الاَبصار

ذلكم الله ربكم لا إلَه إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل. لا
تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار وهو اللطيف الخبير.الاَنعام. 102 ـ 103
النبي وآله يقولون : لا تدركه الاَبصار ولا .. الاَوهام
ـ روى الصدوق في التوحيد ص 398

حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رضي الله عنه قال حدثنا محمد بن أبي عبد الله
الكوفي، قال حدثني محمد بن أبي بشير ، قال حدثني الحسين بن أبي الهيثم ، قال
حدثنا سليمان بن داود ، عن حفص بن غياث ، قال حدثني خير الجعافر جعفر بن
محمد ، قال حدثني باقر علوم الاَولين والآخرين محمد بن علي ، قال حدثني سيد
العابدين علي بن الحسين ، قال حدثني سيد الشهداء الحسين بن علي ، قال حدثني
سيد الاَوصياء علي بن أبي طالب عليهم السلام قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم جالساً في
مسجده إذ دخل عليه رجل من اليهود فقال : يا محمد إلى ما تدعو ؟

قال : إلى شهادة أن لا إلَه إلا الله ، وأني رسول الله .

قال : يا محمد أخبرني عن هذا الرب الذي تدعو إلى وحدانيته وتزعم أنك
رسوله ، كيف هو ؟

قال : يا يهودي إن ربي لا يوصف بالكيف ، لاَن الكيف مخلوق وهو مكيفه .

قال : فأين هو ؟

قال : إن ربي لا يوصف بالاَين ، لاَن الاَين مخلوق وهو أينه .

قال : فهل رأيته يا محمد ؟

قال : إنه لا يرى بالاَبصار ولا يدرك بالاَوهام .

قال : فبأي شيَ نعلم أنه موجود ؟

قال : بآياته وأعلامه .
( 293 )
قال : فهل يحمل العرش أم العرش يحمله ؟

فقال : يا يهودي إن ربي ليس بحال ولا محل .

قال : فكيف خروج الاَمر منه ؟

قال : بإحداث الخطاب في المحال .

قال : يا محمد أليس الخلق كله له ؟

قال : بلى .

قال : فبأي شيء اصطفى منهم قوماً لرسالته ؟

قال : بسبقهم إلى الاِقرار بربوبيته .

قال : فلم زعمت أنك أفضلهم

قال : لاَني أسبقهم إلى الاِقرار بربي عز وجل ؟

قال : فأخبرني عن ربك هل يفعل الظلم ؟

قال : لا .

قال : ولم ؟

قال : لعلمه بقبحه واستغنائه عنه .

قال : فهل أنزل عليك في ذلك قرآناً يتلى ؟

قال : نعم إنه يقول عز وجل : وما ربك بظلام للعبيد ، ويقول : إن الله لا يظلم الناس
شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون ، ويقول : وما الله يريد ظلماً للعالمين ، ويقول : وما
الله يريد ظلماً للعباد .

قال اليهودي : يا محمد فإن زعمت أن ربك لا يظلم فكيف أغرق قوم نوح عليه السلام
وفيهم الاَطفال ؟

فقال : يا يهودي إن الله عز وجل أعقم أرحام نساء قوم نوح أربعين عاماً فأغرقهم
حين أغرقهم ولا طفل فيهم ، وما كان الله ليهلك الذرية بذنوب آبائهم ، تعالى عن
الظلم والجور علواً كبيراً .
( 294 )

قال اليهودي : فإن كان ربك لا يظلم فكيف يخلد في النار أبد الآبدين من لم يعصه
إلا أياماً معدودة ؟

قال : يخلده على نيته ، فمن علم الله نيته أنه لو بقي في الدنيا إلى انقضائها كان
يعصي الله عز وجل خلده في ناره على نيته ، ونيته في ذلك شر من عمله ، وكذلك
يخلد من يخلد في الجنة بأنه ينوي أنه لو بقي في الدنيا أيامها لاَطاع الله أبداً ، ونيته
خير من عمله ، فبالنيات يخلد أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ، والله عز
وجل يقول : قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا.

قال اليهودي : يا محمد إني أجد في التوراة أنه لم يكن لله عز وجل نبي إلا كان له
وصي من أمته فمن وصيك ؟

قال : يا يهودي وصيي علي بن أبي طالب ، واسمه في التوراة إليا وفي الاِنجيل
حيدار ، وهو أفضل أمتي وأعلمهم بربي ، وهو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا
نبي بعدي ، وإنه لسيد الاَوصياء كما أني سيد الاَنبياء .

فقال اليهودي : أشهد أن لا إلَه إلا الله وأنك رسول الله وأن علي بن أبي طالب
وصيك حقاً ، والله إني لاَجد في التوراة كل ما ذكرت في جواب مسائلي ، وإني لاَجد
فيها صفتك وصفة وصيك ، وإنه المظلوم ومحتوم له بالشهادة ، وإنه أبو سبطيك
وولديك شبراً وشبيراً سيدي شباب أهل الجنة .
ـ وروى الكليني في الكافي ج 1 ص 98

محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن أبي نجران ، عن عبد
الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله : لا تدركه الاَبصار ، قال : إحاطة الوهم ،
ألا ترى إلى قوله : قد جاءكم بصائر من ربكم ، ليس يعني بصر العيون . فمن أبصر
فلنفسه ، ليس يعني من البصر بعينه . ومن عمي فعليها ، ليس يعني عمى العيون إنما
عنى إحاطة الوهم ، كما يقال فلان بصير بالشعر ، وفلان بصير بالفقه ، وفلان بصير
بالدراهم ، وفلان بصير بالثياب . الله أعظم من أن يرى بالعين . . . .
( 295 )

محمد بن أبي عبدالله ، عمن ذكره ، عن محمد بن عيسى ، عن داود بن القاسم
أبي هاشم الجعفري قال : قلت لاَبي جعفر عليه السلام : لا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار
فقال : يا أبا هاشم أوهام القلوب أدق من أبصار العيون ، أنت قد تدرك بوهمك السند
والهند والبلدان التي لم تدخلها ، ولا تدركها ببصرك وأوهام القلوب لا تدركه فكيف
أبصار العيون !

يد : ابن الوليد ، عن الصفار ، عن أحمد بن محمد ، عن أبي هاشم الجعفري ، عن
أبي الحسن الرضا عليه السلام قال : سألته عن الله عز وجل هل يوصف ؟ فقال : أما تقرأ القرآن
قلت بلى ، قال أما تقرأ قوله عز وجل : لا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار قلت بلى ،
قال : فتعرفون الاَبصار قلت : بلى ، قال : وما هي قلت : أبصار العيون فقال : إن أوهام
القلوب أكثر من أبصار العيون فهو لا تدركه الاَوهام ، وهو يدرك الاَوهام .
ـ وروى النيسابوري في روضة الواعظين ص 33

عن الاِمام الرضا عليه السلام في قول الله عز وجل : لا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار ،
قال : لا تدركه أوهام القلوب ، فكيف تدركه أبصار العيون .

وسئل الصادق عليه السلام هل يرى الله في المعاد ؟ فقال : سبحان الله تبارك وتعالى عن
ذلك علواً كبيرا ، إن الاَبصار لا تدرك إلا ماله لون وكيفية ، والله خالق الاَلوان والكيفية .

وقال محمد بن أبي عمير : دخلت على سيدي موسى بن جعفر عليهما السلام فقلت له :
يابن رسول الله علمني التوحيد فقال : يا أبا أحمد لا تتجاوز في التوحيد ما ذكره الله
تبارك وتعالى في كتابه فتهلك ، واعلم أن الله تعالى واحد أحد صمد لم يلد فيورث
ولم يولد فيشارك ، ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً ولا شريكاً ، وأنه الحي الذي لا يموت،
والقادر الذي لا يعجز ، والقاهر الذي لا يغلب ، والحليم الذي لا يعجل ، والدائم
الذي لا يبيد ، والباقي الذي لا يفنى ، والثابت الذي لا يزول ، والغني الذي لا يفتقر ،
والعزيز الذي لا يذل ، والعالم الذي لا يجهل ، والعدل الذي لا يجور ، والجواد الذي
( 296 )
لا يبخل . وأنه لا تقدره العقول ، ولا تقع عليه الاَوهام ، ولا تحيط به الاَقطار ، ولا
يحويه مكان ، ولا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار وهو اللطيف الخبير ، وليس
كمثله شيء وهو السميع البصير ، ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ، ولا خمسة
إلا وهو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ، وهو الاَول الذي
لا شيء قبله ، والآخر الذي لا شيء بعده ، وهو القديم وما سواه محدث ، تعالى عن
صفات المخلوقين علواً كبيرا .

وسئل الصادق عليه السلام هل لله تعالى رضى وسخط ؟ فقال : نعم ، وليس ذلك على ما
يوجد من المخلوقين ، ولكن غضب الله عقابه ورضاه ثوابه .

وقال أيضاً عليه السلام : إن الله تعالى لا يوصف بزمان ولا مكان ولا حركة ولا انتقال ولا
سكون ، بل هو خالق الزمان والمكان ، والحركة والسكون والاِنتقال ، تعالى عما يقول
الظالمون علواً كبيرا .
ـ وروى المجلسي في بحار الاَنوار ج 4 ص 46

نص : الحسين بن علي ، عن هارون بن موسى ، عن محمد بن الحسن ، عن
الصفار ، عن يعقوب بن يزيد ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام قال : كنت عند الصادق
جعفر بن محمد عليه السلام إذ دخل عليه معاوية بن وهب و عبدالملك بن أعين ، فقال له
معاوية بن وهب : يابن رسول الله ما تقول في الخبر الذي روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله رأى
ربه ، على أي صورة رآه ، وعن الحديث الذي رووه أن المؤمنين يرون ربهم
في الجنة، على أي صورة يرونه ؟ فتبسم عليه السلام ثم قال : يا معاوية ما أقبح بالرجل يأتي
عليه سبعون سنة أو ثمانون سنة يعيش في ملك الله ويأكل من نعمه ، ثم لا يعرف الله
حق معرفته .

ثم قال عليه السلام : يا معاوية إن محمداً صلى الله عليه وآله لم ير الرب تبارك وتعالى بمشاهدة العيان ،
وإن الرؤية على وجهين : رؤية القلب ، ورؤية البصر ، فمن عني برؤية القلب فهو
( 297 )
مصيب ومن عنى برؤية البصر فقد كفر بالله وبآياته ، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله : من شبه الله
بخلقه فقد كفر . ولقد حدثني أبي ، عن أبيه ، عن الحسين بن علي قال : سئل أمير
المؤمنين عليه السلام فقيل : يا أخا رسول الله هل رأيت ربك فقال : وكيف أعبد من لم أره لم
تره العيون بمشاهدة العيان ، ولكن رأته القلوب بحقائق الاِيمان . فإذا كان المؤمن
يرى ربه بمشاهدة البصر فإن كل من جاز عليه البصر والرؤية فهو مخلوق ، ولابد
للمخلوق من الخالق ، فقد جعلته إذا محدثاً مخلوقاً ، ومن شبهه بخلقه فقد اتخذ مع
الله شريكاً ، ويلهم أولم يسمعوا يقول الله تعالى : لا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار
وهو اللطيف الخبير . وقوله : لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف
تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً ، وإنما طلع من نوره على الجبل كضوء يخرج
من سم الخياط فدكدكت الاَرض وصعقت الجبال فخر موسى صعقاً ، أي ميتاً ، فلما
أفاق ورد عليه روحه ، قال سبحانك تبت إليك من قول من زعم أنك ترى ، ورجعت
إلى معرفتي بك أن الاَبصار لا تدركك ، وأنا أول المؤمنين ، وأول المقرين بأنك ترى
ولا ترى ، وأنت بالمنظر الاَعلى .

ثم قال عليه السلام : إن أفضل الفرائض وأوجبها على الاِنسان معرفة الرب والاِقرار له
بالعبودية ، وحد المعرفة أن يعرف أنه لا إلَه غيره ، ولا شبيه له ولا نظير ، وأن يعرف
أنه قديم مثبت موجود غير فقيد ، موصوف من غير شبيه ولا مبطل ، ليس كمثله شيء
وهو السميع البصير .

وبعده معرفة الرسول والشهادة بالنبوة .

وأدنى معرفة الرسول الاِقرار بنبوته ، وأن ما أتى به من كتاب أو أمر أو نهي فذلك
من الله عز وجل ، وبعده معرفة الاِمام الذي به تأتم بنعته وصفته واسمه في حال
العسر واليسر . . . .

ثم قال : يا معاوية جعلت لك أصلاً في هذا فاعمل عليه ، فلو كنت تموت على ما
كنت عليه لكان حالك أسوأ الاَحوال ، فلا يغرنك قول من زعم أن الله تعالى يرى بالبصر .
( 298 )
قال : وقد قالوا أعجب من هذا ، أولم ينسبوا آدم عليه السلام إلى المكروه !

أو لم ينسبوا إبراهيم عليه السلام إلى ما نسبوه !

أو لم ينسبوا داود عليه السلام إلى ما نسبوه من حديث الطير !

أو لم ينسبوا يوسف الصديق إلى ما نسبوه من حديث زليخا !

أو لم ينسبوا موسى عليه السلام إلى ما نسبوه من القتل !

أو لم ينسبوا رسول الله صلى الله عليه وآله إلى ما نسبوه من حديث زيد !

أولم ينسبوا علي بن أبي طالب عليه السلام إلى ما نسبوه من حديث القطيفة !

إنهم أرادوا بذلك توبيخ الاِسلام ليرجعوا على أعقابهم ، أعمى الله أبصارهم كما
أعمى قلوبهم ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا .
ـ وروى نحوه في بحار الاَنوار ج 4 ص 33 وص 39 وفيه ( إن أوهام القلوب أكثر من
أبصار العيون فهي لا تدركه ، وهو يدرك الاَوهام ) .
ـ وروى نحوه في بحار الاَنوار ج 4 ص 29 وفيه ( لا تدركه أوهام القلوب فكيف تدركه
أبصار العيون ! وقال المجلسي رحمه الله :

بيان : هذه الآية إحدى الدلالات التي استدل بها النافون للرؤية وقرروها بوجهين :

أحدهما : أن إدراك البصر عبارة شائعة في الاِدراك بالبصر إسناداً للفعل إلى الآلة،
والاِدراك بالبصر هو الرؤية بمعنى اتحاد المفهومين أو تلازمهما ، والجمع المعرف
باللام عند عدم قرينة العهدية والبعضية للعموم والاِستغراق بإجماع أهل العربية
والاَصول وأئمة التفسير ، وبشهادة استعمال الفصحاء ، وصحة الاِستثناء ، فالله
سبحانه قد أخبر بأنه لا يراه أحد في المستقبل ، فلو رآه المؤمنون في الجنة لزم كذبه
تعالى وهو محال .

واعترض عليه : بأن اللام في الجمع لو كان للعموم والاِستغراق كما ذكرتم كان قوله
تدركه الاَبصار موجبة كلية ، وقد دخل عليها النفي ، فرفعها وهو رفع الاِيجاب الكلي،
ورفع الاِيجاب الكلي سلب جزئي . ولو لم يكن للعموم كان قوله لا تدركه الاَبصار
( 299 )
سالبة مهملة في قوة الجزئية ، فكان المعنى لا تدركه بعض الاَبصار ، ونحن نقول
بموجبه حيث لا يراه الكافرون ، ولو سلم فلا نسلم عمومه في الاَحوال والاَوقات
فيحمل على نفي الرؤية في الدنيا جمعاً بين الاَدلة .

والجواب : أنه قد تقرر في موضعه أن الجمع المحلى باللام عام نفياً وإثباتاً في
المنفي والمثبت كقوله تعالى : وما الله يريد ظلماً للعباد ، وما على المحسنين من
سبيل ، حتى أنه لم يرد في سياق النفي في شيء من الكتاب الكريم إلا بمعنى عموم
النفي ، ولم يرد لنفي العموم أصلاً ، نعم قد اختلف في النفي الداخل على لفظة كل
لكنه في القرآن المجيد أيضاً بالمعنى الذي ذكرنا كقوله تعالى : والله لا يحب كل
مختال فخور ، إلى غير ذلك ، وقد اعترف بما ذكرنا في شرح المقاصد وبالغ فيه .

وأما منع عموم الاَحوال والاَوقات فلا يخفى فساده ، فإن النفي المطلق الغير
المقيد لا وجه لتخصيصه ببعض الاَوقات إذ لا ترجيح لبعضها على بعض ، وهو أحد
الاَدلة على العموم عند علماء الاَصول .

وأيضاً صحة الاِستثناء دليل عليه ، وهل يمنع أحد صحة قولنا : ما كلمت زيداً إلا
يوم الجمعة ، ولا أكلمه إلا يوم العيد ، وقال تعالى : ولا تعضلوهن ، إلى قوله : إلا أن
يأتين . وقال : ولا تخرجوهن ، إلى قوله إلا أن يأتين .

وأيضاً كل نفي ورد في القرآن بالنسبة إلى ذاته تعالى فهو للتأبيد وعموم الاَوقات
لا سيما فيما قبل هذه الآية .

وأيضاً عدم إدراك الاَبصار جميعاً لشيء لا يختص بشيء من الموجودات ،
خصوصاً مع اعتبار شمول الاَحوال والاَوقات ، فلا يختص به تعالى ، فتعين أن يكون
التمدح بعدم إدراك شيء من الاَبصار له في شيء من الاَوقات .

وثانيهما : أنه تعالى تمدح بكونه لا يرى فإنه ذكره في أثناء المدائح ، وما كان من
الصفات عدمه مدحاً كان وجوده نقصاً يجب تنزيه الله تعالى عنه ، وإنما قلنا من
الصفات احترازاً عن الاَفعال كالعفو والاِنتقام فإن الاَول تفضل ، والثاني عدل ،
وكلاهما كمال .
( 300 )
ـ الاِقتصاد للشيخ الطوسي ص 39

ولا يجوز عليه تعالى الرؤية بالبصر ، لاَن من شرط صحة الرؤية أن يكون المرئي
نفسه أو محله مقابلاً للرائي بحاسة ، أو في حكم المقابل ، والمقابلة يستحيل عليه
لاَنه ليس بجسم ، ومقابلة محله أيضاً يستحيل عليه لاَنه ليس بعرض على ما بيناه .

ولاَنه لو كان مرئياً لرأيناه مع صحة حواسنا وارتفاع الموانع المعقولة ووجوده ،
لاَن المرئي إذا وجد وارتفعت الموانع المعقولة وجب أن نراه ، وإنما لا نراه إما لبعد
مفرط أو قرب مفرط أو لحائل بيننا وبينه أو للطافة أو صغر ، وكل ذلك لا يجوز عليه
تعالى لاَنه من صفات الاَجسام والجواهر .

وبمثل ذلك بعينه يعلم أنه لا يدرك بشيء من الحواس الباقية ، فلا وجه للتطويل
بذكره ، والحاسة السادسة غير معقولة ، ولو كانت معقولة لكان حكمها حكم هذه
الحواس مع اختلافها واتفاقها في هذا الحكم .

وأيضاً قوله تعالى : لا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار ، دليل على استحالة
رؤيته ، لاَنه تمدح بنفي الاِدراك عن نفسه ، وكل تمدح تعلق بنفي فإثباته لا يكون إلا
نقصاً ، كقوله : لا تأخذه سنة ولا نوم ، وقوله تعالى : ما اتخذ الله من ولد ، وقوله تعالى:
ولم تكن له صاحبة ولا ولداً ، وقوله تعالى : لا يظلم الناس شيئاً ، وغير ذلك مما تعلق
المدح بالنفي ، فكان إثباته نقصاً . والآية فيها مدح بلا خلاف وإن اختلفوا في جهة
المدح ، والاِدراك في الآية بمعنى الرؤية ، لاَنه نفى عن نفسه ما أثبته لنفسه بقوله :
وهو يدرك الاَبصار .

وقوله : وجوه يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة ، لا يعارض هذه الآية ، لاَن النظر
المذكور في الآية معناه الاِنتظار ، فكأنه قال : لثواب ربها منتظرة .

ومثله قوله : وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة ، أي منتظرة . وليس النظر بمعنى
الرؤية في شيء من كلام العرب ، ألا ترى أنهم يقولون : نظرت إلى الهلال فلم أره ،
( 301 )
فيثبتون النظر وينفون الرؤية ، ولو كان معناه الرؤية لكان ذلك مناقضة ، ويقولون : ما
زلت أنظر إليه حتى رأيته ، ولا يقولون : ما زلت أراه حتى رأيته . ولو سلم أن النظر
بمعنى الرؤية لجاز أن يكون معناه : إلى ثواب ربها رائية ، وثواب الله يصح رؤيته .

ويحتمل أن تكون إلى في الآية واحد الآلاء ، لاَنه يقال إلى وإلي وألي ، وإنما
لم تنون لمكان الاِضافة ، فتكون إلى في الآية إسماً لا حرفاً ، فتسقط بذلك
شبهة المخالف .

وقول موسى عليه السلام : رب أرني أنظر اليك ، يحتمل أن يكون سأل الرؤية لقومه على
ما حكاه الله عز وجل في قوله : فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ،
فسأل الله تعالى ذلك ليرد الجواب من جهته فيكون أبلغ .

ويحتمل أن يكون سأل العلم الضروري الذي تزول معه الخواطر والشبهات ، أو
إظهار آية من آيات الساعة التي يحصل عندها العلم الذي لا شك فيه ، وللاَنبياء أن
يسألوا تخفيف البلوى في التكليف ، كما سأل ابراهيم عليه السلام فقال : رب أرني كيف
تحيي الموتى ، قال أو لم تؤمن ، قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ، وكل ذلك لا ينافي
الآية التي ذكرناها . انتهى . ويؤيد الوجه الاَخير الذى ذكره الشيخ الطوسي رحمه اللّه
تركيب الآية : أرني أنظر اليك ، ولم يقل أنظرك ، فهو يريد أن يريه شيئاً يجعله كأنه
يشاهد اللّه تعالى .
ـ تفسير التبيان ج 4 ص 223

قوله تعالى : لا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار وهو اللطيف الخبير ـ 103

في هذه الآية دلالة واضحة على أنه تعالى لا يرى بالاَبصار ، لاَنه تمدح بنفي
الاِدراك عن نفسه ، وكلما كان نفيه مدحاً غير متفضل به فإثباته لا يكون إلا نقصاً ،
والنقص لا يليق به تعالى . فإذا ثبت أنه لا يجوز إدراكه ولا رؤيته .

وهذه الجملة تحتاج إلى بيان أشياء : أحدها ، أنه تعالى تمدح بالآية . والثاني أن
الاِدراك هو الرؤية . والثالث أن كلما كان نفيه مدحاً لا يكون إثباته إلا نقصاً .
( 302 )

والذي يدل على تمدحه شيئان :

أحدهما ، إجماع الاَمة فإنه لا خلاف بينهم في أنه تعالى تمدح بهذه الآية ، فقولنا
تمدح بنفي الاِدراك عن نفسه لاستحالته عليه ، وقال المخالف تمدح لاَنه قادر على
منع الاَبصار من رؤيته . فالاِجماع حاصل على أن فيها مدحة .

والثاني ، أن جميع الاَوصاف التي وصف بها نفسه قبل هذه الآية وبعدها مدحة ،
فلا يجوز أن يتخلل ذلك ما ليس بمدحة . والذي يدل على أن الاِدراك يفيد الرؤية أن
أهل اللغة لا يفرقون بين قولهم : أدركت ببصري شخصاً ، وآنست ، وأحسست
ببصري . وأنه يراد بذلك أجمع الرؤية . فلو جاز الخلاف في الاِدراك لجاز الخلاف
فيما عداه من الاَقسام .

فأما الاِدراك في اللغة ، فقد يكون بمعنى اللحوق كقولهم : أدرك قتادة الحسن .
ويكون بمعنى النضج ، كقولهم أدركت الثمرة ، وأدركت القدر ، وإدرك الغلام إذا بلغ
حال الرجال .

وأيضاً فإن الاِدراك إذا أضيف إلى واحد من الحواس أفاد ما تلك الحاسة آلة فيه .
ألا ترى أنهم يقولون : أدركته بأذني يريدون سمعته ، وأدركته بأنفي يريدون شممته ،
وأدركته بفمي يريدون ذقته . وكذلك إذا قالوا : أدركته ببصري يريدون رأيته . وأما
قولهم أدركت حرارة الميل ببصري فغير معروف ولا مسموع ، ومع هذا ليس بمطلق
بل هو مقيد ، لاَن قولهم حرارة الميل تقييد لاَن الحرارة تدرك بكل محل فيه حياة ،
ولو قال أدركت الميل ببصري لما استفيد به إلا الرؤية .

وقولهم إن الاِدراك هو الاِحاطة باطل ، لاَنه لو كان كذلك لقالوا : أدرك الجراب
بالدقيق وأدرك الحب بالماء وأدرك السور بالمدينة لاِحاطة جميع ذلك بما فيه ،
والاَمر بخلاف ذلك . وقوله : حتى إذا أدركه الغرق ، فليس المراد به الاِحاطة بل
المعنى حتى إذا لحقه الغرق ، كما يقولون أدركت فلاناً إذا لحقته ، ومثله : فلما تراءى
الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ، أي لملحوقون .
( 303 )

والذي يدل على أن المدح إذا كان متعلقاً بنفي فإثباته لا يكون إلا نقصاً ، قوله : لا
تأخذه سنة ولا نوم ، وقوله : ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إلَه ، لما كان مدحاً
متعلقاً بنفي فلو ثبت في حال لكان نقصاً .

فإن قيل : كيف يتمدح بنفي الرؤية ومع هذا يشاركه فيها ما ليس بممدوح من
المعدومات والضمائر .

قلنا : إنما كان ذلك مدحاً بشرط كونه مدركاً للاَبصار ، وبذلك تميز من جميع
الموجودات ، لاَنه ليس في الموجودات ما يدرك ولا يدرك .

فإن قيل : ولم إذا كان يدرك ولا يدرك يجب أن يكون ممدوحاً .

قلنا : قد ثبت أن الآية مدحة بما دللنا عليه ، ولابد فيها من وجه مدحة فلا يخلو
من أحد وجهين : إما أن يكون وجه المدحة أنه يستحيل رؤيته مع كونه رائياً ، أو ما
قالوه من أنه يقدر على منع الاَبصار من رؤيته بأن لا يفعل فيها الاِدراك ، وما قالوه
باطل لقيام الدلالة على أن الاِدراك ليس بمعنى الاِحاطة ، فإذا بطل ذلك لم يبق إلا ما
قلناه ، وإلا خرجت الآية من كونها مدحة . وقد قيل : إن وجه المدحة في ذلك أن من
حق المرئي أن يكون مقابلاً أو في حكم المقابل ، وذلك يدل على مدحته ، وهذا
دليل من أصل المسألة لا يمكن أن يكون جواباً في الآية .

فإن قيل : إنه تعالى نفى أن تكون الاَبصار تدركه فمن أين أن المبصرين لا يدركونه؟

قلنا : الاَبصار لا تدرك شيئاً البتة فلا اختصاص لها به دون غيره ، وأيضاً فإن العادة
أن يضاف الاِدراك إلى الاَبصار ويراد به ذووا الاَبصار ، كما يقولون : بطشت يدي
وسمعت أذني وتكلم لساني ، ويراد به أجمع ذووا الجارحة .

فإن قيل : إنه تعالى نفى أن جميع المبصرين لا يدركونه ، فمن أين أن البعض لا
يدركونه وهم المؤمنون ؟

قلنا : إذا كان تمدحه في استحالة الرؤية عليه لما قدمناه ، فلا اختصاص لذلك براء
دون رائي ، ولك أن تستدل بأن تقول : هو تعالى نفى الاِدراك عن نفسه نفياً عاماً كما
( 304 )
أنه أثبت لنفسه ذلك عاماً ، فلو جاز أن يخص ذلك بوقت دون وقت لجاز مثله في
كونه مدركاً . وإذا ثبت نفي إدراكه على كل حال ، فكل من قال بذلك قال الرؤية
مستحيلة عليه . ومن أجاز الرؤية لم ينفها نفياً عاماً فالقول بنفيها عموماً ، مع جواز
الرؤية عليه قول خارج عن الاِجماع .

فإن عورضت هذه الآية بقوله : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ، فإنا نبين أنه لا
تعارض بينهما وأنه ليس في هذه الآية مايدل على جواز الرؤية إذا انتهينا إليها إنشاء الله.
ـ تفسير التبيان ج 1 ص 228

وقال قوم : إن النظر إذا كان معه إلى لا يحتمل إلا الرؤية . وحملوا قوله : إلى ربها
ناظرة على ذلك وقالوا لا يحتمل التأمل . وذلك غلط لاَنهم يقولون : إنما أنظر إلى الله
ثم إليك بمعنى أتوقع فضل الله ثم فضلك . وقال الطريح بن إسماعيل :
وإذا نظرت إليك من ملك * والبحر دونك جرتني نعماء
وقال جميل بن معمر :
إني إليك لما وعدت لناظر * نظر الفقير إلى الغني الموسر
وقال آخر :
وجوه يوم بدر ناظرات * إلى الرحمان تأتي بالفلاح
وأتوا بـ ( إلى ) على معنى نظر الاِنتظار .

والصحيح أن النظر لا يفيد الرؤية وإنما حقيقته تحديق الجارحة الصحيحة نحو
المرئي طلباً لرؤيته ، ولو أفاد الرؤية لما جعل غاية لنفسه ، ألا تراهم يقولون : ما زلت
أنظر إليه ( حتى رأيته ) ولا يقولون ما زلت أراه حتى رأيته ، ولاَنهم يثبتون النظر
وينفون الرؤية فيقولون : نظرت إليه فلم أره ، ولا يقولون رأيته فلم أره .
ـ تفسير التبيان ج 10 ص 197

ثم قسم تعالى أهل الآخرة فقال ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) أي مشرقة
مضيئة ، فالنضرة الصورة الحسنة التي تملاَ القلب سروراً عند الرؤية ، نضر وجهه
( 305 )
ينضر نضرة ونضارة فهو ناضر . والنضرة مثل البهجة والطلاقة ، وضده العبوس
والبسور ، فوجوه المؤمنين المستحقين للثواب بهذه الصفة بما جعل الله عليها من
النور علامة للخلق ، والملائكة على أنهم مؤمنون مستحقون الثواب .

وقوله : إلى ربها ناظرة ، معناه منتظرة نعمة ربها وثوابه أن يصل إليهم .

وقيل ( ناضرة ) أي مشرفة ( إلى ) ثواب ربها ( ناظرة ) وليس في ذلك تنغيص ،
لاَن الاِنتظار إنما يكون فيه تنغيص إذا كان لا يوثق بوصوله إلى المنتظر أو هو محتاج
إليه في الحال ، والمؤمنون بخلاف ذلك ، لاَنهم في الحال مستغنون منعمون ، وهم
أيضاً واثقون أنهم يصلون إلى الثواب المنتظر .

والنظر هو تقليب الحدقة الصحية نحو المرئي طلباً للرؤية ، ويكون النظر بمعنى
الاِنتظار ، كما قال تعالى ( وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة ، أي منتظرة ، وقال الشاعر :
وجوه يوم بدر ناظرات * إلى الرحمن تأتي بالفلاح
أي منتظرة للرحمة التي تنزل عليهم .

وقد يقول القائل : إنما عيني ممدودة إلى الله وإلى فلان ، وأنظر إليه أي أنتظر
خيره ونفعه وأؤمل ذلك من جهته ، وقوله : ولا ينظر إليهم يوم القيامة ، معناه لا
ينيلهم رحمته .

ويكون النظر بمعنى المقابلة ، ومنه المناظرة في الجدل ، ومنه نظر الرحمة أي
قابله بالرحمة ، ويقال : دور بني فلان تتناظر أي تتقابل ، وهو وينظر إلى فلان أي
يؤمله وينتظر خيره ، وليس النظر بمعنى الرؤية أصلاً ، بدلالة أنهم يقولون : نظرت إلى
الهلال فلم أره ، فلو كان بمعنى الرؤية لكان متناقضاً ، ولاَنهم يجعلون الرؤية غاية
للنظر يقولون : ما زلت أنظر إليه حتى رأيته ، ولا يجعل الشيء غاية لنفسه لا يقال : بما
زلت أراه حتى رأيته ، ويعلم الناظر ناظراً ضرورة ، ولا يعلم كونه رائياً بل يسأل بعد
ذلك هل رأيت أم لا .
( 306 )

ودخول ( إلى ) في الآية لا يدل على أن المراد بالنظر الرؤية ، ولا تعليقه بالوجوه
يدل على ذلك ، لاَنا أنشدنا البيت وفيه تعليق النظر بالوجه وتعديه بحرف ( إلى )
والمراد به الاِنتظار ، وقال جميل بن معمر :
وإذا نظرت إليك من ملك * والبحر دونك جدتني نعما

والمراد به الاِنتظار والتأميل .

وأيضاً ، فإنه في مقابلة قوله في صفة أهل النار : تظن أن يفعل بها فاقرة ،
فالمؤمنون يؤمنون بتجديد الكرامة وينتظرون الثواب ، والكفار يظنون الفاقرة ، وكله
راجع إلى فعل القلب .

ولو سلمنا أن النظر يعد الرؤية لجاز أن يكون المراد أنها رؤية ثواب ربها ، لاَن
الثواب الذي هو أنواع اللذات من المأكول والمشروب والمنكوح تصح رؤيته .

ويجوز أيضاً أن يكون إلى واحد إلاء وفي واحدها لغات ( ألا ) مثل قفا و ( ألي )
مثل معي و ( ألي ) مثل حدي و ( أل ) مثل حسا ، فإذا أضيف إلى غيره سقط التنوين،
ولا يكون ( إلى ) حرفاً في الآية . وكل ذلك يبطل قول من أجاز الرؤية على الله تعالى .

وليس لاَحد أن يقول : إن الوجه الاَخير يخالف الاِجماع ، أعني إجماع
المفسرين، وذلك لاَنا لا نسلم لهم ذلك ، بل قد قال مجاهد وأبو صالح والحسن
وسعيد بن جبير والضحاك : إن المراد نظر الثواب . وروي مثله عن علي عليه السلام .

وقد فرق أهل اللغة بين نظر الغضبان ونظر الراضي ، يقولون : نظر غضبان ، ونظر
راض ، ونظر عداوة ونظر مودة ، قال الشاعر :
تخبرني العينان ما الصدر كاتم * ولا حن بالبعضاء والنظر الشزر

والرؤية ليست كذلك فإنهم لا يضيفونها ، فدل على أن النظر غير الرؤية ، والمرئي هو
المدرك ، والرؤية هي الاِدراك بالبصر ، والرائي هو المدرك ، ولا تصح الرؤية وهي
الاِدراك إلا على الاَجسام أو الجوهر أو الاَلوان . ومن شرط المرئي أن يكون هو أو محله
مقابلاً أو في حكم المقابل، وذلك يستحيل عليه تعالى ، فكيف تجيز الرؤية عليه تعالى !