ـ فضلاً عن الإمرة ـ ضرر كبير ، وفتق واسع على الاسلام ـ لا يمكن بعد ذلك
رتقه ـ لم يجد بُداً من حربه ومنابذته .
والخلاصة : أن الإمامية يقولون : نحن شيعة علي وتابعوه ، نسالم من
سالمه ، ونحارب من حاربه ، ونعادي من عاداه ، ونوالي من والاه ، إجابة
وامتثالا لدعوة النبي صلى الله عليه وآله : « اللهم وال من والاه ، وعاد من
عاداهُ » .
وحبنا وموالاتنا لعلي عليه السلام وولده إنما هي محبة وموالاة للنبي
صلى الله عليه واله وإطاعه له .
تالله ما جهل الأقوام موضعها * لكنهم ستروا وجه الذي علموا
وهذا كله أيضاً خارج عن القصد ، فلنعد إلى ما كنا فيه من إتمام
حديث الإمامية ، فنقول : إن الإمامية تعتقد أن الله سبحانه لا يخلي الأرض
من حجة على العباد ، من نبي أو وصي ، ظاهر مشهور ، أو غائب مستور ،
وقد نص النبي صلى الله عليه وآله وأوصى إلى علي ، وأوصى علي ولده
الحسن ، وأوصى الحسن أخاه الحسين ، وهكذا إلى الإمام الثاني عشر
المهدي المنتظر عليهم السلام وهذه سنة الله سبحانه في جميع الأنبياء ، من
آدمهم إلى خاتمهم .
وقد ألف جم غفير من أعاظم علماء الدين مؤلفات عديدة في إثبات
الوصية ، وها أنا اورد لك أسماء المؤلفين في الوصية ، من القرون الأولى
والصدر الأول قبل القرن الرابع :
( كتاب الوصية ) لهشام بن الحكم المشهور.
( الوصية ) للحسين بن سعيد .
( الوصية ) للحكم بن مسكين .
( 224 )
( الوصية ) لعلي بن المغيرة .
( الوصية ) لعلي بن الحسين بن الفضل .
( كتاب الوصية ) لمحمد بن علي بن الفضل .
( كتاب الوصية ) لابراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال .
( الوصية ) لأحمد بن محمد بن خالد البرقي ، صاحب المحاسن .
( الوصية ) للمؤرخ الجليل عبدالعزيز بن يحيى الجلودي .
وأكثر هؤلاء من أهل القرن الأول والثاني ، أمّا أهل القرن الثالث فهم
جماعة كثيرة أيضاً :
( الوصية ) لعلي بن رئاب .
( الوصية ) لعيسى
(1) بن المستفاد .
( الوصية ) لمحمد بن أحمد الصابوني .
( الوصية ) لمحمد بن الحسن بن فروخ .
( كتاب الوصية والإمامة ) للمؤرخ الثبت الجليل علي بن الحسين
المسعودي ، صاحب مروج الذهب .
( الوصية ) لشيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي .
( الوصية ) لمحمد بن علي الشلمغاني المشهور.
( الوصية ) لموسى بن الحسن بن عامر.
أما ما ألف بعد القرن الرابع فشيء لا يستطاع حصره .
وذكر المسعودي في كتابه المعروف بـ ( إثبات الوصية ) لكل نبي اثني
____________
(1) الطبعات متضاربة في ذلك ، ففي نسختي النجف وايران : يحيى ، وفي نسخة بيروت :
محمد ، وجميعها مصحف ، والصواب : عيسى كما أثبتناه . وهو : أبو موسى البجلي
الضرير ، روى عن أبي جعفر الثاني عليه السلام ، ذكره النجاشي في رجاله ( 297|809 )
وقال : له كتاب الوصية ، وكذا الطهراني في الذريعة ( 25 : 103|565 ). .
( 225 )
عشر وصياً ، ذكرهم باسمائهم ، ومختصر من تراجمهم ، وبسط الكلام بعض
البسط في الأئمة الاثني عشر. وقد طبع في إيران طبعة غير جيدة
(1) .
هذا ما ألفه العلماء في الإمامة ، لاقامة الأدلة العقلية والنقلية عليها ،
ولسنا بصدد شيء من ذلك ، نعم في قضية المهدي عليه السلام قد تعلو
نبرات الاستهتار والاستنكار من سائر فرق المسلمين ـ بل ومن غيرهم ـ على
الإمامية في الإعتقاد بوجود إمام غائب عن الأبصار ليس له أثر من الآثار ،
زاعمين أنه رأي فائل ، وعقيدة سخيفة . والمعقول من إنكارهم يرجع إلى
أمرين :
الأول : استبعاد بقائه طول هذه المدة التي تتجاوز الألف سنة ،
وكأنهم ينسون أو يتناسون حديث عمر نوح الذي لبث في قومه بنص الكتاب
ألف سنة إلا خمسين عاما
(2) ، وأقل ما قيل في عمره : ألف وستمائة سنة ،
وقيل أكثر إلى ثلاثة آلاف
(3).
وقد روى علماء الحديث من السنة لغير نوح ما هو أكثر من ذلك ، هذا
النووي ـ وهو من كبار محدثيهم ـ يحدث في كتابه ( تهذيب الأسماء ) ما
نصه : اختلفوا في حياة الخضر ونبوته ، فقال الأكثرون من العلماء : هو حي
موجود بين أظهرنا ، وذلك متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة ،
وحكاياتهم في رؤيته ، والاجتماع به ، والأخذ عنه ، وسؤاله وجوابه ، ووجوده
في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تحصى ، وأشهر من أن
____________
(1) اُعيد طبعه في النجف الاشرف وايران مع بعض التصحيحات المهمة .
(2) إشارة إلى قوله تعالى في الاية ( 14) من سورة العنكبوت ( ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث
فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ).
(3) انظر : تفسير الكشاف للزمخشري 3 : 200 ، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3 : 418 ،
زاد المسير لابن الجوزي 6 : 261 .
( 226 )
تذكر.
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه : هو حي عند جماهير
العلماء والصالحين والعامة معهم ، وإنما شذ بانكاره بعض المحدثين .
انتهى
(1) .
ويخطر لي أنه قال هو في موضع اخر ، والزمخشري في ( ربيع
الأبرار ) : إن المسلمين متفقون على حياة أربعة من الأنبياء ، إثنان منهم في
السماء وهما : إدريس وعيسى ، واثنان في الأرض : الياس والخضر ، وأن
ولادة الخضر في زمن إبراهيم أبي الأنبياء
(2).
والمعمرون الذين تجاوزوا العمر الطبيعي إلى مئات السنين كثيرون ،
وقد ذكر السيد المرتضى في أماليه
(3) جملة منهم ، وذكر غيره كالصدوق في
( إكمال الدين )
(4) أكثر مما ذكر الشريف .
وكم رأينا في هذه الأعصار من تناهت بهم الأعمار إلى المائة
والعشرين وما قاربها ، أو زاد عليها .
على أن الحق في نظر الاعتبار أن من يقدر على حفظ الحياة يوماً
واحداً يقدر على حفظها آلافاً من السنين ، ولم يبق إلا أنه خارق العادة ، وهل
خرق العادة والشذوذ عن نواميس الطبيعة في شؤون الأنبياء والاولياء بشيء
عجيب أو أمر نادر ؟ !
راجع مجلدات ( المقتطف ) السابقة ، تجد فيها المقالات الكثيرة ،
والبراهين الجلية العقلية لأكابر فلاسفة الغرب في إثبات إمكان الخلود في
____________
(1) تهذيب الاسماء واللغات 1 : 176 .
(2) تهذيب الاسماء واللغات 1 : 177 ، ربيع الابرار 1 : 397 .
(3) أمالي المرتضى 1 : 232 ـ 72 .
(4) اكمال الدين :555 ـ 575 .
( 227 )
الدنيا للانسان . وقال بعض كبار علماء ، اوروبا : لولا سيف ابن ملجم لكان
علي بن أبي طالب من الخالدين في الدنيا ، لأنه قد جمع جميع صفات
الكمال والاعتدال . وعندنا هنا تحقيق بحث واسع لا مجال لبيانه .
الثاني : السؤال عن الحكمة والمصلحة في بقائه مع غيبته ، وهل
وجوده مع عدم الإنتفاع به إلا كعدمه ؟ .
ولكن ليت شعري هل يريد اولئك القوم أن يصلوا إلى جميع الحكم
الربانية ، والمصالح الإلهية ، وأسرار التكوين والتشريع ، ولا تزال جملة
أحكام إلى اليوم مجهولة الحكمة ، كتقبيل الحجر الأسود ، مع أنه حجر لا
يضر ولا ينفع ، وفرض صلاة المغرب ثلاثاً ، والعشاء أربعاً ، والصبح اثنتين ،
وهكذا إلى كثيرمن أمثالها ، وقد استأثر الله سبحانه بعلم جملة أشياء لم يطلع
عليها ملكا مقربا ، ولا نبياً مرسلاً ، كعلم الساعة وأخواته (
إن الله عنده علم
الساعة وينزل الغيث )
(1) .
وأخفى جملة أمور لم يعلم على التحقيق وجه الحكمة في إخفائها ،
كالاسم الأعظم ، وليلة القدر ، وساعة الإستجابة .
والغاية : أنه لا غرابة في أن يفعل سبحانه فعلا أو يحكم حكماً
مجهولي الحكمة لنا ، إنما الكلام في وقوع ذلك وتحقيقه ، فإذا صح إخبار
النبي وأوصيائه المعصومين عليهم السلام لم يكن بد من التسليم والإذعان ،
ولا يلزمنا البحث عن حكمته وسببه ، وقد أخذنا على أنفسنا في هذا الكتاب
الوجيز أن لا نتعرض لشيء من الأدلة ، بل هي موكولة إلى مواضعها ،
والأخبار في ( المهدي ) عن النبي صلى الله عليه واله من الفريقين
مستفيضة ، ونحن وإن اعترفنا بجهل الحكمة ، وعدم الوصول إلى حاق
____________
(1) لقمان 31 : 34 .
( 228 )
المصلحة ، ولكن كان قد سألنا نفس هذا السؤال بعض عوام الشيعة ، فذكرنا
عدة وجوه تصلح للتعليل ، ولكن لا على البت ، فإن المقام أدق وأغمض من
ذلك ، ولعل هناك اموراً تسعها الصدور ، ولا تسعها السطور ، وتقوم بها
المعرفة ، ولا تأتي عليه الصفة .
والقول الفصل : إنه إذا قامت البراهين في مباحث الإمامة على وجوب
وجود الإمام في كل عصر ، وأن الأرض لا تخلو من حجة ، وأن وجوده لطف ،
وتصرفه لطف آخر ، فالسؤال عن الحكمة ساقط ، والأدلة في محالها على
ذلك متوفرة ، وفي هذا القدر من الإشارة كفاية إن شاء الله .
( 229 )
ويراد به : الاعتقاد بان الله سبحانه لا يظلم أحداً ، ولا يفعل ما
يستقبحه العقل السليم . وليس هذا في الحقيقة أصلاً مستقلاً ، بل هو مندرج
في نعوت الحق ووجوب وجوده المستلزم لجامعيته لصفات الجمال
والكمال ، فهو شأن من شؤون التوحيد ، ولكن الأشاعرة لما خالفوا العدلية ،
وهم المعتزلة والإمامية ، فانكروا الحسن والقبح العقليين ، وقالوا : ليس
الحسن إلا ما حسنه الشرع ، وليس القبح إلا ما قبحه الشرع ، وأنه تعالى لو
خلد المطيع في جهنم ، والعاصي في الجنة ، لم يكن قبيحا ، لأنه يتصرف
في ملكه (
لا يسئل عمّا يفعلّ وهم يسئلون )
(1).
حتى أنهم أثبتوا وجوب معرفة الصانع ، ووجوب النظر في المعجزة
لمعرفة النبي من طريق السمع والشرع لا من طريق العقل ، لأنه ساقط عن
منصة الحكم ، فوقعوا في الاستحالة والدور الواضح .
أما العدلية فقالوا : إن الحاكم في تلك النظريات هو العقل مستقلاً ،
ولا سبيل لحكم الشرع فيها إلا تأكيداً وإرشاداً ، والعقل يستقل بحسن بعض
الأفعال وقبح البعض الآخر ، ويحكم بأن القبيح محال على الله تعالى لانه
حكيم ، وفعل القبيح مناف للحكمة ، وتعذيب المطيع ظلم ، والظلم قبيح ،
وهو لا يقع منه تعالى .
وبهذا أثبتوا لله صفة العدل ، وأفردوها بالذكر دون سائر الصفات إشارة
إلى خلاف الأشاعرة ، مع أن الأشاعرة في الحقيقة لا ينكرون كونه تعالى
عادلاً ، غايته : أن العدل عندهم هوما يفعله ، وكل ما يفعله فهو حسن ، نعم
____________
(1) الانبياء 21 : 23 .
( 230 )
أنكروا ما أثبته المعتزلة والإمامية من حكومة العقل ، وإدراكه للحسن والقبح
على الحق جل شأنه ، زاعمين أنه ليس للعقل وظيفة الحكم بأن هذا حسن
من الله وهذا قبيح منه.
والعدلية بقاعدة الحسن والقبح العقليين ـ المبرهن عليها عندهم ـ
أثبتوا جملة من القواعد الكلامية : كقاعدة اللطف ، ووجوب شكر المنعم ،
ووجوب النظر في المعجزة . وعليها بنوا أيضاً مسألة الجبر والاختيار ، وهي
من معضلات المسائل التي أخذت دوراً مهماً في الخلاف ، حيث قال
الأشاعرة بالجبر أو بما يؤدي اليه ، وقال المعتزلة : بأن الإنسان حر مختار له
حرية الإرادة والمشيئة في أفعاله .
غايته : أن ملكة الاختيار وصفته كنفس وجوده من الله سبحانه ، فهو
خلق العبد وأوجده مختاراً ، فكلي صفة الاختيار من الله ، والاختيار الجزئي
في الوقائع الشخصية للعبد ومن العبد ، والله جل شأنه لم يجبره على فعل ولا
ترك ، بل العبد اختار ما شاء منهما مستقلاً ، ولذا يصح عند العقل والعقلاء
ملامته وعقوبته على فعل الشر ، ومدحه ومثوبته على فعل الخير ، وإلا لبطل
الثواب والعقاب ، ولم تكن فائدة في بعثة الأنبياء وإنزال الكتب والوعد
والوعيد.
ولا مجال هنا لأكثر من هذا ، وقد بسطنا بعض الكلام في هذه
المباحث في آخر الجزء الأول من كتاب ( الدين والاسلام )
(1) وقد أوضحناها
____________
(1) يقع الكتاب في جزءين ، ضمن مؤلفه رحمه الله تعالى الجزء الأول منه ثلاثة فصول تمهد
لها خمسة سوانح يتعرض فيها إلى الأخطار المحيطة بالاسلام ، ومكائد الغربيين له ، وتأثر
البعض من المسلمين بالآراء والمعتقدات الغربية . ثم ينفذ من ذلك إلى تبيان دور العلم
والعمل في رقي الاديان وثبات اصولهما ، مع شرح موجز لماهية الشرف والسعادة ، ودور
=
( 231 )
بوجه يسهل تناوله وتعقله للأواسط ، فضلاً عن الأفاضل ، وإنما الغرض هنا :
أن من عقائد الامامية واصولهم أن الله عادل ، وأن الانسان حر مختار.
____________
=
الاخلاق في رقي الشعوب ، ونبذ من أقوال الحكماء ومؤلفاتهم ، والاشارة من خلالها إلى
القصور الذي يحيط البعض في كيفية الدعوة الى الأسلام وتبيان عقائده وافكاره ، وغير ذلك .
والمؤلف رحمه الله تعالى يتعرض في الفصل الأول منه إلى مسالة اثبات الصانع جل
اسمه بشكل علمي رصين ، حين يتعرض في فصله الثاني إلى اثبات وحدة الصانع تبارك
وتعالى ، ونفي الشريك عنه ، ثم يتناول بالشرح في الفصل الثالث منه ماهية العدل وكيفية
القيام به ، بشكل مفصل ومسهب .
وأما الجزء الثاني من الكتاب فقد تعرض المؤلف رحمه الله تعالى فيه إلى ايضاح كلي
للنبوة ووجوبها والحاجة إليه ، منطلقاً من خلال ذلك إلى كثير من الجوانب الأخرى المتعلقة
بها وصولاً إلى تبيان الاعجاز القراني الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وما يتعلق
به.
( 232 )
يعتقد الامامية ـ كما يعتقد سائر المسلمين ـ : أن الله سبحانه يعيد
الخلائق ويحييهم بعد موتهم يوم القيامة للحساب والجزاء ، والمعاد هو
الشخص بعينه ـ وبجسده وروحه ـ بحيث لو رآه الرائي لقال : هذا فلان.
ولا يجب أن تعرف كيف تكون الاعادة ، وهل هي من قبيل إعادة
المعدوم ، أو ظهور الموجود ، أو غير ذلك .
ويؤمنون بجميع ما في القرآن والسنة القطعية من الجنة والنار ، ونعيم
البرزخ وعذابه ، والميزان ، والصراط ، والأعراف ، والكتاب الذي لا يغادر
صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وأن الناس مجزيون باعمالهم إن خيراً فخير
وإن شراً فشر (
فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً
يره )
(1). إلى غير ذلك من التفاصيل المذكورة في محلها من كل ما صدع به
الوحي المبين ، وأخبر به الصادق الأمين .
هذا تمام الكلام في الشطر الأول من شطري الايمان بالمعنى
الأخص ، وهو ما يرجع إلى وظيفة العقل والقلب ، ومرحلة العلم والاعتقاد ،
ونستأنف الكلام فيما هو من وظيفة القلب والجسد ، أعني مرحلة العمل
بأركان الإيمان من أفعال الجوارح .
____________
(1) الزلزلة 99 : 7 ـ 8 .
( 233 )
يعتقد الإمامية : أن لله ـ بحسب الشريعة الاسلامية ـ في كل واقعة
حكماً حتى أرش الخدش ، وما من عمل من أعمال المكلفين ـ من حركة أو
سكون ـ إلا ولله فيه حكم من الأحكام الخمسة : الوجوب ، والحرمة ،
والندب ، والكرا هة ، والإباحة .
وما من معاملة على مال ، أوعقد نكاح ، ونحوهما إلا وللشرع فيه حكم
صحة أو فساد .
وقد أودع الله سبحانه جميع تلك الأحكام عند نبيه خاتم الأنبياء صلى
الله عليه وآله ، وعرفها النبي بالوحي من الله تعالى أو الالهام ، ثم انه سلام
الله عليه ـ حسب وقوع الحوادث ، أو حدوث الوقائع ، أو حصول الابتلاء ،
وتجدد الآثار والأطوار ـ بين كثيراً منها للناس ، وبالأخص لأصحابه الحافين
به ، الطائفين كل يوم بعرش حضوره ، ليكونوا هم المبلغين لسائر المسلمين
في الآفاق (
لتكونوا شهداء على الناس ويلكون الرسول عليكم شهيدا )
(1).
وبقيت أحكام كثيرة لم تحصل الدواعي والبواعث لبيانها ، أما لعدم
الابتلاء بها في عصر النبوة ، أو لعدم اقتضاء المصلحة لنشرها.
والحاصل : إن حكمة التدريج اقتضت بيان جملة من الأحكام وكتمان
جملة ، ولكنه سلام الله عليه أودعها عند أوصيائه ، كل وصي يعهد بها إلى
ألاخر لينشرها في الوقت المناسب لها حسب الحكمة ، من عام مخصص ،
أو مطلق مقيد ، أو مجمل مبين ، إلى أمثال ذلك .
فقد يذكر النبي عاماً ، ويذكر مخصصه بعد برهة من حياته ، وقد لا
____________
(1) البقرة 2 : 143 .
( 234 )
يذكره أصلاً ، بل يودعه عند وصيه إلى وقته.
ثم أن الأحاديث التي نشرها النبي صلى الله عليه واله في حياته قد
يختلف الصحابة في فهم معانيها على حسب أختلاف مراتب أفهامهم
وقرائحهم (
أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها )
(1) .
ولكن تأخذ الأذهان منه * على قدر القرائح والفهوم
ثم إن الصحابي قد يسمع من النبي في واقعة حكماً ، ويسمع الآخر
في مثلها خلافه ، وتكون هناك خصوصية في أحدهما اقتضت تغاير
الحكمين ، غفل أحدهما عن الخصوصية أو التفت إليها وغفل عن نقلها مع
الحديث ، فيحصل التعارض في الأحاديث ظاهراً ، ولا تنافي واقعاً .
ومن هذه الأسباب وأضعاف أمثالها احتاج حتى نفس الصحابة ـ الذين
فازوا بشرف الحضور في معرفة الأحكام إلى الاجتهاد والنظر في الحديث ،
وضم بعضه إلى بعض ، والإلتفات على القرائن الحالية ، فقد يكون للكلام
ظاهر ومراد النبي خلافه ، اعتماداً على قرينة كانت في المقام ، والحديث نقل
والقرينة لم تنقل . وكل واحد من الصحابة ممن كان من أهل الرأي
والرواية . . . ـ إذ ليس كلهم كذلك بالضرورة ـ تارة يروي نفس الفاظ
الحديث للسامع من بعيد أو قريب ، فهو في الحال راو ومحدث ، وتارة يذكر
الحكم الذي استفاده من الرواية أو الروايات بحسب نظره واجتهاده ، فهو في
هذا الحال مفت وصاحب رأي ، وأهل هذه الملكة مجتهدون ، وسائر
المسلمين ـ الذين لم يبلغوا إلى تلك المرتبة ـ إذا أخذوا برأيه مقلدون .
وكان كل ذلك قد جرى في زمن صاحب الرسالة ، وبمرأى منه
____________
(1) الرعد 13 : 17 .
( 235 )
ومسمع ، بل وربما رجع بعضهم إلى بعض ، على أن الناس من هذا بازاء أمر
واقع لا محالة .
وإذا أمعنت النظر فيما ذكرناه ، اتضح لديك أن باب الاجتهاد كان
مفتوحاً في زمن النبوة وبين الصحابة ، فضلا عن غيرهم ، وفضلاً عن سائر
الأزمنة التي بعده ، نعم غايته : أن الاجتهاد يومئذٍ كان خفيف المؤنة جداً
لقرب العهد ، وتوفر القرائن ، وإمكان السؤال المفيد للعلم القاطع .
ثم كلما بعد العهد من زمن الرسالة ، وتكثرت الاراء ، واختلطت
الأعارب بالأعاجم ، وتغير اللحن ، وصعب الفهم للكلام العربي على حاق
معناه ، وتكثرت الأحاديث والروايات ، وربما دخل فيها الدس والوضع ،
وتوافرت دواعي الكذب على النبي صلى الله عليه وآله ، أخذ الاجتهاد
ومعرفة الحكم الشرعي يصعب ويحتاج إلى مزيد مؤنة ، واستفراغ وسع ،
للجمع بين الأحاديث ، وتمييز الصحيح منها من السقيم ، وترجيح بعضها
على البعض ، وكلما بعد العهد ، وانتشر الاسلام ، وتكثرت العلماء والرواة ،
ازداد الأمر صعوبة .
ولكن مهما يكن الحال ، فباب الاجتهاد كان في زمن النبي صلى الله
عليه واله مفتوحاً ، بل كان أمراً ضرورياً عند من يتدبر ، ثم لم يزل مفتوحاً
عند الإمامية إلى اليوم ، والناس بضرورة الحال لا يزالون بين عالم وجاهل .
وبسنة الفطرة ، وقضاء الضرورة أن الجاهل يرجع إلى العالم .
فالناس إذاً في الأحكام الشرعية بين عالم مجتهد ، وجاهل مقلد يجب
عليه الرجوع في تعيين تكاليفه إلى أحد المجتهدين .
والمسلمون متفقون أن أدلة الأحكام الشرعية منحصرة في الكتاب
والسنة ، ثم العقل والإجماع . ولا فرق في هذا بين الإمامية وغيرهم من فرق
المسلمين .
( 236 )
نعم يفترق الإمامية عن غيرهم هنا في امور :
منها: إن الإمامية لا تعمل بالقياس ، وقد تواتر عن أئمتهم عليهم
السلام : ( أن الشريعة إذا قيست محق الدين )
(1) .
والكشف عن فساد العمل بالقياس يحتاج إلى فضل بيان لا يتسع له
المقام .
ومنها : أنهم لا يعتبرون من السنة ـ أعني الأحاديث النبوية ـ إلا ما
صح لهم من طرق أهل البيت عليهم السلام عن جدهم صلى الله عليه
وآله ، يعني : ما رواه الصادق ، عن أبيه الباقر ، عن أبيه زين العابدين ، عن
الحسين السبط ، عن أبيه أمير المؤمنين ، عن رسول الله سلام لله عليهم
جميعاً.
أما ما يرويه مثل : أبي هريرة ، وسمرة بن جندب ، ومروان بن الحكم ،
وعمران بن حطان الخارجي ، وعمرو بن العاص ، ونظائرهم ، فليس لهم عند
الإمامية من الاعتبار مقدار بعوضة ، وأمرهم أشهر من أن يذكر ، كيف وقد
صرح كثير من علماء السنة بمطاعنهم ، ودل على جائفة جروحهم
(2).
ومنها : أن باب الاجتهاد ـ كما عرفت ـ لا يزال مفتوحاً عند الإمامية ،
بخلاف جمهور المسلمين ، فإنهم قد سُدّ عندهم هذا الباب ، وأقفل على
ذوي الألباب ، وما أدري في أي زمان ، وبأي دليل ، وبأي نحو كان ذلك
الانسداد ، ولم أجد من وفى هذا الموضوع حقه من علماء القوم ، وتلك أسئلة
لا أعرف من جواباتها شيئاً ، والعهدة في إيضاحها عليهم .
وما عدا تلك الأمور فالإمامية وسائر المسلمين فيها سواء ، لا يختلفون
____________
(1) انظر : الكافي 1 : كتاب فضل العلم ، باب البدع والرأي والمقائس .
(2) تقدم منا الحديث عن ذلك ، فراجع.
( 237 )
إلا في الفروع ، كاختلاف علماء الإمامية أوعلماء السنة فيما بينهم من حيث
الفهم والاستنباط .
والمراد بالمجتهد : من زاول الأدلة ومارسها ، واستفرغ وسعه فيها حتى
حصلت له ملكة وقوة يقدر بها على استنباط الحكم الشرعي من تلك الأدلة .
وهذا أيضا لا يكفي في جواز تقليده ، بل هنا شروط اخرى ، أهمها
العدالة ، وهي : ملكةٌ يستطيع معها المرء الكف عن المعاصي ، والقيام
بالواجب ، كما يستطيع من له ملكة الشجاعة اقتحام الحرب بسهولة ،
بخلاف الجبان.
وقصاراها : إنها حالة من خوف الله ومراقبته تلازم الانسان في جميع
أحواله ، وهي ذات مراتب ، أعلاها العصمة التي هي شرط في الامام .
ثم أنه لا تقليد ولا اجتهاد في الضروريات ، كوجوب الصلاة والصوم
وأمثالها ، مما هو مقطوع به لكل مكلف ، ومنكره منكر لضروري من
ضروريات الدين .
كما لا تقليد في اصول العقائد : كالتوحيد ، والنبوة ، والمعاد ، ونحوها
مما يلزم تحصيل العلم به من الدليل على كل مكلف ولو إجمالا ، فإنها
تكاليف علمية ، وواجبات اعتقادية ، لا يكفي الظن والاعتماد فيها على رأي
الغير ( فاعلم أنه لا إله إلا ) .
وما عداها من الفروع فهو موضع الاجتهاد والتقليد .
وأعمال المكلفين ـ التي هي موضوع لأحكام الشرع ، يلزم معرفتها
اجتهاداً أو تقليداً ، وبُعاقب من ترك تعلمها بأحد الطريقين ـ لا تخلو إما أن
يكون القصد منها المعاملة بين العبد وربه ، فهي العبادات الموقوف صحتها
على قصد التقرب بها إلى الله ، [ وهي أما ] بدنية : كالصوم ، والصلاة ،
والحج . أو مالية : كالخمس ، والزكاة ، والكفارات .
( 238 )
أو المعاملة بينه وبين الناس ، وهي أما أن تتوقف على طرفين : كعقود
المعاوضات والمناكحات ، أو تحصل من طرف واحد : كالطلاق والعتق
ونحوهما.
أو المعاملة مع خاصة نفسه ، ومن حيث ذاته : كأكله ، وشربه ،
ولباسه ، وأمثال ذلك .
والفقه يبحث عن أحكام جميع تلك الأعمال في أبواب أربعة :
[1] العبادات .
[2] المعاملات .
[3] الايقاعات .
[4] الأحكام .
وامهات العبادات ست :
اثنتان بدنية محضة ، وهما : الصلاة والصوم .
واثنتان مالية محضة وهما : الزكاة ، والخمس .
واثنتان مشتركة على المال والبدن وهما : الحج والجهاد (
جاهدوا
بأموالكم وأنفسكم )
(1) .
أما الكفارات فعقوبات خاصة على جرائم مخصوصة .
____________
(1) التوبة 9 : 41 .
( 239 )
هي عند الإمامية ـ بل عند عامة المسلمين ـ : عمود الدين ، والصلة
بين العبد والرب ، ومعراج الوصول إليه .
فإذا ترك الصلاة فقد انقطعت الصلة والرابطة بينه وبين ربه ، ولذا ورد
في أخبار أهل البيت عليهم السلام : أنه ليس بين المسلم وبين الكفر بالله
العظيم إلا ترك فريضة أو فريضتين
(1).
وعلى أي : فإن للصلاة ـ بحسب الشريعة الإسلامية ـ مقاماً من
الأهمية لا يوازيه شيء من العبادات ، وإجماع الإمامية على أن تارك الصلاة
فاسق لا حرمة له قد انقطعت من الإسلام عصمته ، وذهبت أمانته ، وحلت
غيبته ، وأمرها عندهم مبني على الشدة جداً .
والواجب منها بحسب أصل الشرع خمسة أنواع : الفرائض اليومية ،
صلاة الجمعة ، صلاة العيدين ، صلاة الآيات ، وصلاة الطواف . وقد يوجبها
المكلف على نفسه بسبب من نذر أو يمين أو استئجار ، وما عدا ذلك فنوافل .
وأهم النوافل عندنا : الرواتب ، يعني رواتب اليوم والليلة ، وهي ضعف
الفرائض التي هي سبع عشرة ركعة ، فمجموع الفرائض والنوافل في اليوم
والليلة عند الشيعة إحدى وخمسون .
وخطر على بالي هنا ذكر ظريفة أوردها الراغب الاصفهاني في كتاب
( المحاضرات ) وهو من الكتب القيمة الممتعة :
قال : كان بأصبهان رجل يقال له الكناني ، في أيام أحمد بن
____________
(1) راجع كتاب الوسائل للحر العاملي رحمه الله تعالى ، الجزء الرابع ، باب ثبوت الكفر
والارتداد بترك الصلاة الواجبة جحوداً لها واستخفافاً .
( 240 )
عبدالعزيز ، وكان يتعلم أحمد منه الإمامة ، فاتفق أن تطلعت عليه ام أحمد
يوماً فقالت : يا فاعل ، جعلت ابني رافضياً .
فقال الكناني : يا ضعيفة العقل ! الرافضة تصلي كل يوم إحدى
وخمسين ركعة ، وابنك لا يصلي في كل أحد وخمسين يوماً ركعة واحدة ،
فأين هو من الرافضة
(1)؟ !
ويليها في الفضل أو الأهمية : نوافل شهر رمضان ، وهي ألف ركعة
زيادة عن النوافل اليومية ، وهي كما عند إخواننا من أهل السنة ، سوى أن
الشيعة لا يرون مشروعية الجماعة فيها ( إذ لا جماعة إلا في فرض ) والسنة
يصلونها جماعة ، وهي المعروفة عندهم بالتراويح .
وباقي الفرائض : كالجمعة ، والعيدين ، والآيات ، وغيرها ، كبقية
النوافل قد استوفت كتب الإمامية بيانها على غاية البسط ، وتزيد المؤلفات
فيها على عشرات الالوف . ولها أوراد وأدعية وآداب وأذكار مخصوصة قد
أفردت بالتأليف ، ولا يأتي عليها الحصر والعد .
ولكن تتحصل ماهية الصلاة الصحيحة عندنا شرعاً من أمور ثلاثة :
الأول : الشروط : وهي أوصاف تقارنها ، واعتبارات تنتزع من أمور
خارجة عنها ، وأركان الشروط التي تبطل بدونها مطلقاً ستة : الطهارة ،
الوقت ، القبلة ، الساتر ، النية .
أما المكان فليس من الأركان وإن كان ضرورياً ، ويشترط إباحته
وطهارة موضع السجود .
الثاني : أجزاؤها الوجودية التي تتركب الصلاة منها : وهي نوعان :
ركن تبطل بدونه مطلقاً ، وهو أربعة : تكبيرة الإحرام ، والقيام ،
____________
(1) محاضرات الادباء 4 : 448 ـ 449 .
( 241 )
والركوع ، والسجود .
وغير ركن ، وهي : القراءة ، والذكر ، والتشهد ، والتسليم .
والطمأنينة معتبرة في الجميع ، والأذان والإقامة مستحبان مؤكدان ، بل
الأخير وجوبه قوي مع السعة .
الثالث : الموانع : وهي أمور بوجودها تبطل الصلاة ، وهي أيضا نوعان :
ركن تبطل به مطلقاً ، وهو : الحدث ، والاستدبار ، والعمل الكثير
الماحي لصورتها .
وغير ركن تبطل بوجوده عمداً فقط ، وهو : الكلام ، والضحك ـ بصوت ـ
والبكاء كذلك ، والإلتفات يميناً وشمالاً ، والأكل والشرب .
والطهارة : وضوء وغسل ، ولكل منهما أسباب توجبهما ، وإذا لم يتمكن
منهما ـ إما لعدم وجود الماء ، ، أو لعدم التمكن من استعماله لمرض أو برد
شديد أو ضيق وقت ـ فبدلهما التيمم (
فتيمموا صعيداً طيباً )
(1) .
واختلف الفقهاء واللغويون في معنى الصعيد ، فقيل : خصوص
التراب ، وقيل : مطلق وجه الأرض ، فيشمل الحصى والرمل والصخور
والمعادن قبل الإحراق ، ويجوز السجود عليها ، وهذا هو الأصح .
وهذا موجز من الكلام في الصلاة ، وفيها أبحاث جليلة وطويلة
تستوعب الملجدات الضخمة .
____________
(1) النساء 4 : 43 ، والماثدة5 : 6 .
( 242 )
هو عند الإمامية ركن من أركان الشريعة الإسلامية ، وينقسم من حيث
الحكم إلى ثلاثة أقسام :
واجب ، وهو قسمان : واجب بأصل الشرع ، وهو صوم شهر رمضان .
وواجب بسبب كصوم الكفارة ، وبدل الهدي ، والنيابة ، والنذر ، ونحوها .
ومستحب : كصوم رجب وشعبان ونحوهما ، وهو كثير.
وحرام : كصوم العيدين وأيام التشريق.
قيل : ومكروه : كصوم يوم عرفة ، وعاشوراء ، وهو نسبي .
وللصوم شروط وموانع واداب وأذكار مذكورة في محلها ، وقد ألفت
الإمامية فيه ألوف المؤلفات .
والتزام الشيعة بصيام شهر رمضان قد تجاوز الحد ، حتى أن الكثير
منهم يشرف على الموت من مرض أو عطش وهو لا يترك الصيام ، فالصلاة
والصوم هما العبادة البدنية المحضة .