البعد العبادي


( 129 )

قيل إن من آثار المحبة ولوازمها الشوق والانس في الخلوة مع المحبوب ، ولذة مناجاته ، كما أن من شأن المُحب أن يؤثر مراد محبوبه على مراده.
ولذا كان من شأن المُحب (1) للخالق تعالى عدم الغفلة عن عبادته وذكره في كل أحواله ( إذ من أحب شيئاً أكثر ضرورةً ذكرَه وذكر ما يتعلق به ، فمحب الله لا يخلو عن ذكر الله وذكر رسوله وذكر القرآن وتلاوته ، لانه كلامه ، ويكون محباً للخلوة ليتفرد بذكره وبمناجاته ، ويكون له كمالُ الانس والالتذاذ بمناجاته ، وفي أخبار داوود : كَذبَ من ادعى محبتي وإذا جنه الليل نام عني ، أليس كل محب يحب لقاءَ حبيبه ، فها أنا ذا موجود لمن طلبني) (2).
وكذا أيضاً من آثار المحبة للخالق عزوجل عدم الصبر على فراقه والبعد عنه ، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في دعاء كميل : فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربي صبرت على عذابك ، فكيف أصبرُ على فراقك ، وكما جاء أيضاً في مناجاة الامام زين العابدين (عليه السلام) : وغلتي لا يُبردها إلا وصلُك ، ولوعتي لا يطفيها إلا لقاؤُك ، وشوقي إليك لا يبله إلا النظر إلى وجهك ، وقراري لا يقر دون دنوي منك(3).
ومن شأن العبد المُحب أيضاً الاحساس والشعور دائماً بالتقصير نحو الخالق تعالى مهما كثرت عبادته وطالت مناجاته ، جاء في دعاء الامام زين العابدين (عليه السلام) :
____________
(1) كما لا يخفى أن محبة الله تعالى تتفاوت من شخص لاخر حسب الايمان ! وان كانوا مشتركين جميعهم في أصل المحبة باعتبارهم مؤمنين به تعالى ، فعلى هذا يترتب على المحبة شدةً أو ضعفاً آثار ولوازم.
(2) جامع السعادات للنراقي : ج3 ، ص176.
(3) جامع السعادات : ج3 ، ص154.

( 130 )

إلهي قد تقشّع الظلامُ ولم أقض من خدمتك وطراً ، ولا من حياض مُناجاتك صدراً (1).
الامر الذي يدل على الشوق والانس بمناجاة الخالق ، والرغبة الاكيدة في الاستمرار في عبادته بلا انقطاع بدون ملل ولا سأم ، كل ذلك حُباً فيه (2) وتعظيماً له واعترافاً له بالعبودية والتي سمتها الخشوع والخضوع ، جاء في دعاء الحسين (عليه السلام) يوم عرفة : وَأقمني بصدق العُبوديَّة بين يدَيكَ.
إنه الموقف الصادق في سلدك أهل بيت العصمة (عليهم السلام) والذي يُمثل أعلى مراتب الانقياد والطاعة والخشوع بين يدي المولى ، والاقرار بمقام العبودية والاذعان له تعالى ، فلا يأنسون إلا بذكره ، ولا تبرد غلتهم إلا بوصله ، ولا تنطفىء لوعتهم الا بلقائه ، فإذا ما سدل الليلُ ستَره ، ونامت العيون ، أخذوا في مناجاة خالقهم بالعبادة في بُكاء وخشوع لا يشغلهم شاغلٌ عمّاهُم عليه من التوجه إلى الباري تعالى ، فكانوا كما قال عنهم تعالى : ( كانُوا قَليلاً مِنَ الليلِ مَا يَهجَعُون ، وَبالاسحَار هُم يَستغفِروُن )(3) وقال تعالى : ( تتجافى جُنوبُهُم عن المضاجع يَدعَون رَبَّهُم خَوفاً وَطمَعاً ومِمَّا رَزَقناهُم يُنفِقُونَ )(4).
____________
(1) بحار الانوار : ج46 ، ص40.
(2) وهذه العبادة أفضل العبادات ، وهي التي تسمى بعبادة الاحرار ، روي عن أبي عبد الله عليه السلام قال : إنَّ العبادة ثلاثة : قومٌ عبدوا الله ( عزّوجل ) خوفاً فتلك عبادة العبيد ، وقومٌ عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الاجراء ، وقومٌ عبدوا الله (عزّوجلّ) حبّاً له فتلك عبادة الاحرار وهي أفضل العبادة. بحار الانوار : ج70 ، ص255.
(3) سورة الذاريات : الاية 17 و 18.
(4) سورة السجدة : الاية 16.

( 131 )

وإذا ما راجعنا سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) في خصوص هذا الامر ، وجدناه (عليه السلام) إذا ماجن عليه الليل خرج يبحث عن مكان يخلو فيه مع ربه ، كما شهدت له بُعيلاتُ النخيلِ بذلك ، وليلةُ الهرير ، وهو بين السهام والرماح ، ولم يثنه ذلك عن مناجاة الخالق تعالى.
وعلى هذا المنهج سار أولادُه الطاهرون (عليهم السلام) وإنك لتجد ذلك واضحاً في سيرتهم كجزء من حياتهم لا ينفك عنهم ولا يبتغون غيرهَ ولا يأنسون إلا به ، فهذا سيدُ شباب أهل الجنة الحسين (عليه السلام) يَحكي سيرةَ أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) وَما كان عليه حالهُ في العبادة كَماً وكيفاً.
أما كماً ، فناهيك عما حَدّثَ به من هو أعرف الناس به والمُطلع على شؤونه وأسرار حياته ، ولدُه زينُ العابدين وسيدُ الساجدين (عليه السلام) لمَّا قيل له : ما أقلَ ولد أبيك ؟ ! قال (عليه السلام) : العجبُ كيف ولدتُ له ! ! كان يصلي في اليوم والليلة ألفَ ركعة ، فمتى كان يتفرغ للنساء(1).
وأما كيفاً ، فناهيك عما يعتريه إذا حضرته الصلاةُ من شدة الخوف ، فيتغير لونُه وترتعد مفاصلهُ ، فقيلَ له في ذلك ؟! فقال (عليه السلام) حقٌ لمؤمن يقف بين يدي المَلكِ القهار أن يَصفّرَ لونُه وترتعدُ مفاصلُه(2).
وقد تعجب الناسُ الذين شاهدوا حالتَه من شدة خوفه فقالوا له : ما أعظم
____________
(1) العقد الفريد للاندلسي : ج4 ، ص384.
(2) العوالم (الامام الحسين) للبحراني : ج17 ، ص61 ، الخصائص الحسينية للتستري : ص45.

( 132 )

خوفك من ربك ؟! فقال (عليه السلام) : لا يأمن يومَ القيامة إلا من خاف الله في الدنيا(1).
فهكذا كان حاله (عليه السلام) إذا حضرته الصلاة ، وقام بين يدي الله تعالى وكأنه انتقل إلى عالم آخر ، فلا يشعر بمن حوله ، وناهيك عن صلاته يوم العاشر وهو بين الاسنة والرماح وقد أحاط به الاعداء فلم يكترث بهم ولم يشغله ذلك عن مُناجاة الله تعالى ، الامر الذي يدل على ارتباطه الشديد الوثيق بالخالق تعالى ، والذي ما انفك عنه مذ خلقه الله تعالى نوراً في الانوار

ومهلِّلين مكبرين وآدم * من مائه والطين لن يتركبا

وقد كان (عليه السلام) في بطن أُمه ـ صلوات الله عليها ـ وكانت تسمع منه الذكر والتسبيح(2).
وأما التلاوة فكان يتلو كتاب الله آناءَ الليل وأطراف النهار وقد رُفع رأسُه على الرمح وسُمع منه الذكر وقراءة القرآن فقد روي عن زيد بن أرقم انه قال : مُرَّ به عليَّ وهو على رمح ، وأنا في غرفة لي فلما حاذاني سمعته يقرأ : ( أم حَسبتَ أنَّ أصحابَ الكهف والرَّقيم كانوا مِنْ آياتناعَجباً ) (3) فوقف والله شعري وناديت رأسك والله يا بن رسول الله أعجب وأعجب (4).
وأما الدعاء فلم يبارح شفتيه وناهيك عن أدعيته في السراء والضراء وفي الاماكن المقدسة كدعاء عرفة وغيره وكأدعيته في ليلة عاشوراء ويومها إلى أن
____________
(1) مناقب آل ابي طالب : ج4 ، ص69 ، بحار الانوار : ج44 ، ص192.
(2) الخرائج والجرائح للراوندي : ج2 ، ص844 ، بحار الانوار : ج43 ، ص273.
(3) سور الكهف : الاية 9.
(4) الارشاد للشيخ المفيد : ص245.

( 133 )

غمضت عينة ولسانه لهجٌ بذكره تعالى.
هذا ما كان عليه (عليه السلام) في العبادة والذكر والمناجاة ولاجل هذا استمهل (عليه السلام) القومَ ليلة عاشوراء التي هي آخر ليلة من عمره الشريف فأراد أن تكون كسائر لياليه الماضية ، وليتزود فيها من العبادة بالصلاة والاستغفار والدعاءِ وقراءة القرآن.
وقد أفصح (عليه السلام) بهذا حين قال لاخيه العباس (عليه السلام) عصر تاسوعاء : فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة ، وتدفعهم عند العشية ، لعلنا نصلي لربِّنا الليلة وندعوه ونستغفرله ، فهو يعلم أني قد كنت أُحب الصلاة له ، وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار (1).
فجعل هذه الليلة العظيمة ليلة توديع وتزود من العبادة والمناجاة ، فبات ـ صلوات الله عليه ـ وأصحابه ولهم دوي كدويِّ النحل ، ما بين راكع وساجد ، وقائم وقاعد ، حتى الصباح فكانت ليلة عبادة ومناجاة كما أرادها (عليه السلام) .
قال أحد الشعراء :

قال امهلونا يا طغـاة إلــى غـد * وغـداً سَيحكُم بيننـا الصمصامُ
ودعــوا سواد الليل أن يَلقـى بنا * قومـاً بحبُ صلاتِهـم قد هاموا
والله يـعلـمُ أن سـبـط محمـد * مـــا راعـهُ كـرُّ ولا إقدامُ
لكنه يهــوى الصـلاةَ لــربه * ولهُ بها رَغم الخطوب غرامُ (2)

وقال آخر :

خَيّمَ الليلُ فالعبادة وهجٌ * يتمنى ألا يضيءَ الصديعُ

____________
(1) تاريخ الطبري : ج4 ، ص316 ، بحار الانوار : ج44 ، ص392.
(2) كربلاء ( ملحمة أدبية ) : للعسيلي ص289.

( 134 )

لا لان الرحيـل صعـبٌ ولكن * عشقَ النسكَ فالفراق مروعُ
حيث لو خـيروه بـين جـنان * أو رجوع لها لقال : الرجوعُ

الامر الذي يدل على تفانيه في العبادة ، وعشقه وتعلقه بالصلاة ، والمحافظة عليها ، والاهتمام بها مهما بلغ به الحال وكانت الظروف فلا يشغله شيء عن ذلك حتى لو اجتمعت عليه الانس والجن (1).
مع أنه مَنْ كان في مثل موقفه الرهيب كيف يتسنى له أن يفرغ نفسه للعبادة ، وهو في ليلة حرب وقتال مع علمه بما يجري عليه وعلى أهل بيته ؟ وأيُّ قلب يحمل مثل هذه الهموم يكون فارغاً للعبادة ويتعلق بالخالق مع تراكم الاحداث الاليمة وتعرضه للاغتيال والتشريد ، مع أن العبادة تحتاج إلى فراغ القلب وعدم الانشغال وراحة البال لتصفو له المناجاة مع الخالق.
ومع هذا كله نجد سيد شباب أهل الجنة (عليه السلام) وبما اعتراه من المصائب والالام يتوجه للعبادة ويفرغ نفسه لها وكأنه لم يحدث شيء من ذلك ، وهذا غاية التفاني في الله تعالى والتعلق به والاخلاص إليه !.
ويذكرنا ـ صلوات الله عليه ـ بهذا أن الصلاة لا تُترك بحال من الاحوال ، لانها الصلة والرابطة بين الخالق تعالى والمخلوق فهي ربيع القلوب ، وشرف المؤمن ، وعمود الدين ، وروح العبادة ، وأول ما يُسأل عنها العبد يوم القيامة ، وهذا بعض ما يُستفاد من دروس ليلة الطف الخالدة.
____________
(1) روي عن الامام الصادق (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها وأحبّها بقلبه وباشرها بجسده وتفرغ لها فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا على عُسر أم على يُسر. سفينة البحار : ج6 ، 271.
( 135 )

والجدير بالذكر أنّ هذه الليلة العظيمة من الليالي التي ينبغي إحياؤها بالعبادة وعدم إغفالها ، فقد جاء في الحديث المروي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) : من أحيا ليلة عاشوراء فكأنما عبد الله عبادة جميع الملائكة ، وأجر العامل فيها كأجر سبعين سنة (1).
وروي أيضاً عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال : إن استطعت أن تحافظ على ليلة الفطر ، وليلة النحر ، وأول ليلة من المحرم ، وليلة عاشور ، وأول ليلة من رجب ، وليلة النصف من شعبان ، فافعل وأكثر فيهن من الدعاء والصلاة وتلاوة القرآن (2).
فعلى هذا تُعدُّ ليلةُ عاشوراء من الليالي العبادية والتي ينبغي إحياؤها ، وهذا بلا شك يلحظه أهلُ البيت ـ صلوات الله عليهم ـ.
فكانت هذه الليلة الشريفة ـ ليلةُ الدعاء والعبادة ـ مع موعد لتتزامن فيه مع السبط الشهيد (عليه السلام) في مواقفه البطولية الرائدة ، لتكتنف في طياتها ما يمليه عليها ، وما يتركه من بصمات فيها ، ولتشهد الحدث والموقف ـ على تراب كربلاء الطاهر الذي شهد بعضاً منهما في السابق من مواقف بعض الانبياء (3) (عليهم السلام) لتمليهما على الاجيال في كل زمان ومكان ، وتزيل بهما الحجب والاستار عن وجه الحق.
____________
(1) الاقبال لابن طاووس : ج3 ، ص45.
(2) مصباح المتهجد للطوسي : ص783.
(3) روي عن الامام الباقر (عليه السلام) أنّه قال : خرج علي (عليه السلام) يسير بالناس حتى إذا كان بكربلاء على ميلين أو ميل تقدّم بين أيديهم حتى طاف بمكان يقال له المقذفان ، فقال قُتل فيها مائتا نبي ومائتا سبط كلّهم شهداء ، ومناخ ركاب ومصارع عشّاق شهداء ، لايسبقهم من كان قبلهم ولا يلحقهم من جاء بعدهم.
بحار الانوار : ج41 ، ص295 ،ح18.

( 136 )

فكان مما شهدته هذه الليلة العظيمة ، هو ذلك العروج الملكوتي والارتباط الروحي مع عالم الغيب ، وذلك حينما قام سيد شباب أهل الجنة (عليه السلام) مع أصحابه بين يدي الخالق منقطعين إليه الله تعالى بين راكع وساجد ، وقاريء للقرآن ، ولهم دويٌ كدوي النحل ، فتراهم خُشعاً أبصارهم ، وقد كَستهم العبادة أنواراً إلهية ، فكان لها الاثر الكبير في تهذيب نفوسهم وشَحذ قلوبِهم وصقلها فتسلحوا بها على أعدائهم ، وحققوا بها أكبرَ انتصار عرفهُ التاريخ.
يقول الشاعر :

ودويٌ كالنحـل فـي صلوات * لو أتوها على الوجود لزالا
يَشحذون الفـؤاد كي لا يهالا * حين ترتجُّ أرضُها زلزالا

وما أحقهم بوصف من قال :

لله قــومٌ إذا ما الليلُ جنّهــمُ * قـاموا مِنَ الفُرش للرحمن عُبّادا
ويركبـون مطـايا لا تملّهــمُ * إذا هُم بمنـادي الصـّج قد نادى
همُ إذا ما بياض الصبح لاح لهمْ * قالوا من الشوق ليث الليل قد عادا
همُ المُطيعون في الدنيا لسّيدهـم * وفي القيامـة سادوا كلّ مَنْ ساردا
الارضُ تبكي عليهم حين تفقدهم * لانّهــم جُعلِوا للارضِ أوتادا (1)

وقد كان لعبادتهم أيضاً أثر كبير في نفوس آخرين ، فقد اهتدى بهم ـ كما في الرواية(2) ـ اثنان وثلاثون رجلاً من معسكر بن زياد إذ عبروا إليهم ، وقد كانوا بالقُرب من خيامِهم ، وذلك لمَّا استوقفتهم تلك الاصوات الرخيمة التي كانت تعلو
____________
(1) سفينة البحار للقمي : ج5 ، ص45.
(2) اللهوف : ص41.

( 137 )

خيام الحسين (عليه السلام) بهمهمة التسبيح وتلاوة القرآن ، فجذبت قلوبَهم ورأوا أنفسهم يتحركون نحوهم حتى انضموا إلى ركبهم ، وهذا خيرُ دليل على صِدق عبادتِهم وطهارة نفوسِهم وإخلاصهم لله تعالى.
هذا وقد أمضوا ليلتهم هذه حتى الصباح في عبادة وخشوع ، ومِنْ بينهم سيدُ شباب أهل الجنة ـ صلوات الله عليه ـ وهو يرتلُ القرآنَ ترتيلاً ، وقد أحدقوا به يَستمدون من إشعاعاتهِ النورانية ما يهيئهم للقاء الله تعالى ، وقد انعكس حاله وما كان عليه من المناجاة على حالهم ، فأقبلوا معه يتضرعون إلى الله تعالى ويستغفرونه ويتلون كتابه ، فكانت عبادة بحق خالصة لوجهه الكريم ، ولهذا زادتهم صموداً واستعداداً في مواجهة الطغيان والتحدي.

ليــس فـي القارئين مثلُ حسيـن * عـالمـاً بالـجواهر الغاليــات
فهو يدري خلف السطـور سطـوراً * ليـس كلُ الاعجاز في الكلمــات
للبيان العُلويّ فـي أنفس الاطــهار * مـسـرى يفوقُ مسرى اللُغــات
وهو وقفٌ على البصيرة ، فالابصار * تـَعشوا ، في الانجم الباهــرات
يَقذفُ البحرُ للشواطـيء رَمـــلاً * والـلالي تغوصُ فـي اللُّجــات
والمصلون في الــتلاوة أشبــاهٌ * وإن الـفــروقَ بـالنيـــات
فالمناجــاةُ شعــلةٌ مـن فـؤاد * صــادقِ الحسّ مرهف الخلجات
فإذا لم تكن سوى رجــع قــول * فهـي لهــوُ الشفــاه بالتمتمات
إنما الساجـدُ المصــلي حسيـنٌ * طاهــرُ الذيـلِ طَيّبُ النفحات (1)

____________
(1) عيد الغدير لبولس سلامه : ص262.

( 138 )


( 139 )

البعد الاخلاقي والتربوي


( 140 )


( 141 )

أ ـ الصدق والصراحة في التعامل
الصدق هو : من الصفات الكريمة ومن أشرفها ، والتي تؤدي إلى سمو الانسان ورفعته وتكامل شخصيته ، وأساس ثقة الناس به ، وهو أحد الاركان التي عليها مدار نظام المجتمع الانساني.
ولذا عنى الاسلام بهذه الصفة الكريمة وبالغ في التحلي بها ، وقد أثنى على من تخلق بها ، قال تعالى : ( من المؤمنين رجالٌ صَدقُوا مَا عاهدُوا اللهَ عَليه) (1) كما أثنى تعالى على نبيه إسماعيل به وقال : ( إنه كانَ صادِقَ الوعدِ وكانَ رسولاً نبياً ) (2).
ومما ورد عن أهل بيت العصمة(عليهم السلام) في مدح هذه الخصلة الشريفة والتحلي بها : ما روي عن الامام الصادق (عليه السلام) أنه قال : إن الله لم يبعث نبياً إلا بصدق الحديث ، وأداء الامانة إلى البر والفاجر (3).
وروي عنه (عليه السلام) يوصي شيعته : كونوا دعاةً للناس بالخير بغير ألسنتكم ، ليروا منكم الاجتهاد والصدق والورع (4).
____________
(1) سورة الاحزاب : الاية 23.
(2) سورة مريم : الاية 54.
(3) أصول الكافي للكليني : ج2 ، ص104 ، ح1.
(4) أصول الكافي للكليني : ج2 ، ص105 ، ح10.

( 142 )

وكما لا يخفى أن هذه الخصلة الشريفة من خصال أهل بيت العصمة(عليهم السلام) ، والتي ظهرت بشكل واضح على أفعالهم وأقوالهم ، فهمُ الصديقون حقاً ، كما عناهم القرآن الكريم بذلك في قوله تعالى : ( يا ايُها الذينَ آمنوا اتقُوا اللهَ وكونُوا معَ الصادِقين ) (1) فهمُ الصادقونَ الذين أمر القرآنُ الكريم باتباعهم والسيرَ على منهجهم الشريف ،
وقد استأثرت هذه الخصلة الشريفة بعناية بالغة عندهَم(عليهم السلام) مؤكدين عليها ، وملتزمينَ بها في حياتهم ، وفي تعاملهم مع سائر الناس ، بعيداً عن المداهنة والخداع والتضليل ، حتى في وقت الشدائد ووقوع المكاره ، فقد اتسم طريقُهم بالصِدقِ والصراحة في جميع فترات حياتهم ، وإن أدى ذلك إلى تفرُّق الناس عنهم ، ما داموا على الحق والذي لا يعدلون به إلى غيره.
إذ ليسوا كغيرهم ـ صلوات الله عليهم ـ من أولئك الذين يصلون إلى غاياتهم ، بكل وسيلة ما دام ذلك يُعزِّرُ موقفهم والتفاف الناس حولَهم ، ويُحقق لَهمُ الفوزَ والغلبةَ على مُناوئيهم ولو بالمُداهنة والخُداع والتضليل.
إلا أن أهلَ البيت(عليهم السلام) المتميزين عن غيرهم بما خَصهُم اللهُ تعالى ومنحهمُ به ، لا يتوصلونَ للحق إلا مِنْ طريق الحق ، فهذا أمير المؤمنين (عليه السلام) لما أشار عليه المُغيرة بن شعبة أن يبقيَ معاوية بن أبي سفيان أميراً على الشام ولا يعزله كيما يستتب له الامر ، ثم بعد ذلك يعزله.
قال له (عليه السلام) : أتضمن لي عمري يا مغيرة فيما بين توليته إلى خلعه ؟ قال : لا ،
____________
(1) سورة التوبة : الاية 119.
( 134 )

قال (عليه السلام) لا يسألني الله عن توليته على رجلين من المسلمين ليلة سوداء أبداً ( وما كنتُ متخذَ المُضلينَ عَضُدا ) (1) الخبر (2).
ومما حدّث به بعضهم في فضائله (عليه السلام) قال : ثمّ ترك الخديعة والمكر والغدر ، إجتمع الناس عليه جميعاً فقالوا له : أكتب يا أمير المؤمنين الى من خالفك بولايته ثمّ اعزله ، فقال : المكر والخديعة والغدر فالنار (3)
وكذا إذا رجعنا إلى موقفه (عليه السلام) يومَ الشورى حينما بُويع بعد وفاة الخليفة الثاني على أن يعمل بسيرة الشيخين لم يُساومهم ولم يخادعهم ، بل كان صريحاً معهم في موقفه من ذلك وقال (عليه السلام) : بل على كتاب الله وسنّة رسوله واجتهاد رأيي ، فعدل عنه إلى الخليفة الثالث (4) ولم يكن (عليه السلام) بوسعه أن يسلك طريقاً لا يراه ، بل أوضح لهم المنهج الذي يَسير عليه ، وإن ذهبت الخلافةُ إلى غيره.
فهو (عليه السلام) يَبني أساس الحكم على الصدق والحق ، وعدم الالتواء مع الاخرين وإن كان ذلك يُحقق له الانتصار والغلبة ، وهذا من مميزاتهم عن سائر الاخرين.
وإلى غير ذلك من الشواهد الاخرى في سيرتهم ، والتي أوضحوا فيها منهجَهم الصادق القائم العدل والحق.
ويتضح هذا الامر أيضاً في مواقف الحسين (عليه السلام) وفي منهجه الشريف والذي اتسم بالصدق والصراحة ، بعيداً كل البُعد عن تلك الاساليب التي ينتهجها بعضهم في ساعة المحنة ،
____________
(1) سورة الكهف الاية : 51.
(2) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب : ج3 ، ص195 ، وعنه بحار الانوار : ج32 ، ص34 ، ح 20 ـ 22.
(3) بحار الانوار : ج40 ، ص 105 ، ح117.
(4) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج1 ، ص188.

( 144 )

فيخدعون الاخرين وخصوصاً أتباعهم بكل وسيلة وحيلة من أجل البقاء على سلامة رؤوسِهم ، ولو كلف ذلك إبادتهم جميعاً !!.
( فكان ـ صلوات الله عليه ـ في جميع فترات حياته لم يوارب ولم يُخادع ، ولم يَسلك طريقاً فيه أيَ التواء ، وإنما يَسلك الطريق الواضح الذي يتجاوب مع ضميره الحي ، وابتَعد على المنعطفات التي لا يقرُها دينُه وخُلقُه ، وكان من ألوانِ ذلك السلوك النير أن الوليد حاكم يثربَ دعاه في غَلس الليل ، وأحاطهُ علماً بهلاك معاوية ، وطلب منه البيعةَ ليزيد مُكتفياً بها في جنح الظلام ، فامتنع (عليه السلام) وصارحَه بالواقع قائلاً : يا أمير إنا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، بنا فتح الله وبنا ختم ، ويزيد فاسق فاجر ، شارب الخمر ، قاتلُ النفس المحرمة ، مُعلنٌ بالفسق والفجور ، ومثلي لا يبايع مثله (1) ، وكشفت هذه الكلمات عن مدى صراحته ، وسمُو ذاته ، وقوة العارضة عنده في سبيل الحق.
ومن ألوان تلك الصراحة التي اعتادها وصارت من ذاتياته أنه لما خرج إلى العراق وافاه النبأُ المُؤلم وهو في أثناء الطريق بمقتل سفيره مسلم بن عقيل (عليه السلام) ، وخُذلان أهل الكوفة له ، فقال للذين اتبعوه طلباً للعافية لا للحق :... فَمَن أحبَّ مِنكُم الانصراف فلينصرفْ ، لَيْسَ عَليه منّا ذِمامٌ (2) ، فتفرق عنه ذوو الاطماع ، وبَقى معه الصفوةُ من أهل بيته.
لقد تجَنّب (عليه السلام) في تلك الساعات الحرجة التي يتطلب فيها إلى الناصر
____________
(1) مقتل الحسين للخوارزمي : ج1 ، ص184 ، اللهوف : ص10 ، بحار الانوار : ج44 ، ص325.
(2) تاريخ الطبري : ج4 ، ص300 ، بحار الانوار : ج44 ، ص374.

( 145 )

والاغراء والخُداع ، مؤمناً أن ذلك لا يمكن أن تتصف به النفوس العظيمة المؤمنة بربها والمؤمنة بعدالة قضيتها) (1).
ويتضحُ هذا الامرُ جلياً في هذه الليلة التي خَلدّها التاريخ ، وذلك من خلال موقفه (عليه السلام) في ساعات هذه الليلة الاليمة مع أهل بيته وأصحابه ، وذلك حينما أوقف أصحابه على الامر الواقع ولم يخفِ عليهم ليكونوا على بينة من أمرهم ومستقبلهم ، فوقف قائلاً لهم : إني غداً أُقتل وكلكُم تُقتلون معي ولا يبقى منكم أحد (2) حتى القاسم وعبد الله الرضيع (3).
مؤكداً عليهم أن كلَ من يَبق معه منهم سوف يستشهد بين يديه ، فهو (عليه السلام) لا يُريد أن يتركَهُم في غَفلة من أمرهم ، ولئلا يتوهم أحدٌ منهم بأنه ربّما يُهادنُ القومَ فيما بَعد ، أو يقبل بخيار آخرَ غيرِ القتال ، ولكنه (عليه السلام) بَيّن لهم أنه يُقتل وهُم أيضاً يُقتلون إذا مَا بقُوا معه ! وبهذا يكون (عليه السلام) قد أوقفهم على حقيقة الامر.
وقد أكد هذا الامر مرةً أخرى فيما قال لهم ، مشفقاً عليهم قائلاً لهم أنتم جئتم معي لعلمِكم بأني أذهب إلى جماعة بايعوني قلباً ولساناً ، والآن تجدونَهم قد استحوذَ عليهم الشيطانُ ونسوا الله ، والان لم يكن لهم مقصدٌ سوى قتلي ، وقتل من يجاهد بين يدي ، وسبي حريمي بعد سلبهم ، وأخاف أن لا تعلموا ذلك ، أو تعلموا ولا تتفرقوا للحياء مني ، ويحرم المكر والخدعة عندنا أهل البيت (4).
____________
(1) حياة الامام الحسين ( ع ) للقرشي : ج1 ، ص119 ـ 120.
(2) نفس المهموم : ص230.
(3) مقتل الحسين للمقرم : ص215.
(4) أسرار الشهادة للدربندي : ج2 ، ص222 ، الايقاد : ص93.

( 146 )

فأحاطهم علماً بأنه يُقتل ومن معه أيضاً ، وأن حريمَه تُسبى بعد قتله ، إذ لعل بعضهم يكره هذا ، خصوصاً من جاء بنسائه فيكون على علم بهذا الامر. كما أنه (عليه السلام) عَدَّ إخفاءَ هذا الامر عليهم خُدعةً ومكراً وأن ذلك محرمٌ عندهم لا يجوز بحال من الاحوال ، إذ كانوا(عليهم السلام) أبعد الناس عن مثل هذه الامور التي لا يقرونها لاحد مهما كلف الامر.
وقد حَذَّروا من هذا الامر وذموا من يتصف به ، فقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) : أنه قال : ليس منّا مَنْ ماكر مسلماً.
وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه كان كثيراً ما يتنفس الصُعداء ويقول : واويلاه يمكرون بي ويعلمون أني بمكرهم عالم وأعرف منهم بوجوه المكر ، ولكني أعلم أن المكر والخديعة في النار ، فأصبرُ على مكرهم ولا أرتكب مثل ما ارتكبوا (1).
وهذا أيضاً مما تميز به منهجهم ـ صلوات الله عليهم ـ الذي حوى كل صفات الاخلاق الرفيعة والمُثل العليا.
ولذا وقف سيدُ الشهداء (عليه السلام) في هذه الليلة العظيمة مُشفقاً على أصحابه ، ليطلعهم على ما خفي عليهم ما داموا قد وطنوا أنفسهم معه على ذلك الامر الخطير ، فهو لا يُريد ناصراً قد منعه الحياء عن نصرته ، ما لم يكن عن علمه وبقناعته الشخصية في ذلك..
وهذا من أعظم الدروس الاخلاقية والتربوية المستفادة من ليلة الطف العظيمة ،
____________
(1) جامع السعادات للنراقي : ج1 ، ص239.
( 147 )

التي ينبغي الوقوف عليها والاستفادة منها.
وهنا لا ننسى أيضاً ظهور هذا الجانب الاخلاقي العظيم في سلوك أنصار الحسين (عليه السلام) إذ ظهر الصدقُ على أقوالهم وأفعالهم ، حينما عاهدوه على الشهادة معه والدفاع عنه ، فكانت نياتُهم في ذلك صادقةً لا يشوبها أيُّ تَردد أو ميل ، فكانوا عازمين بالفعل على نصرته والذب عنه ، وخير شاهد على ذلك هو وفاؤهم بما ألزموا به أنفسهم ، وتسابقهم إلى الشهادة بين يديه ، فلم تنحل عزيمتُهم وهم في أوج المحنة وشدتها ـ في ظهر عاشوراء ـ مع شدة العطش وحرارة الشمس ، وجراحات السنان ، وطعنات الرماح ، إذ أن النفس ساعتها ربما سَخت بالعزم وتناست الوعد ، وتعلقت بحب البقاء ، وحينها يتلاشى ما التُزم به من وعود وعهود.
إلا أنهم ـ رضوان الله عليهم ـ ثبتوا أمام الاعداء بلا تراجع أو تردد وقاتلوا بجدارة فائقة منقطعة النظير ، وَوفَوا بما التزموا به ، فوافقت ظواهُرهم بواطَنهم ، وبهذا وصلوا إلى أعلى مراتب الاخلاص في صدقهم ، كما أن الوفاءَ بالعهد أفضل أنواع الصدق القولي فكانوا بحق مصداقاً لقوله تعالى : ( رجالٌ صَدَقُوا مَا عاهدُوا اللهَ عَليه فمِنُهم مَّن قَضَى نَحبَهُ وَمِنهُم من يَنتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبِديلا ) (1).
والجديرُ بالذكر أن الحسين (عليه السلام) كان يُردد هذه الاية الشريفة حين مقتل أصحابه (2) ـ رضوان الله عليهم ـ ، الامر الذي يدل على وفائهم وصدق موقفهم النبيل.
____________
(1) سورة الاحزاب : الاية 23.
(2) تاريخ الطبري : ج4 ، ص331 ، بحار الانوار : ج45 ، ص20.