4 ـ القصائد ونقدها



( 213 )

1 ـ للشيخ ابراهيم النصيراوي (1)
ليلة الحزن

يا لـيلةَ الحـزنِ خُطي للنُهى علم * فقـد كتبنـاكِ فــي أعمـاقِنا ألمـا
ثـارت بك الاُسدُ والعلياءُ مقصدُها * لِتحصُدَ الغيَّ مِمـنْ عـاثَ أو ظلمـا
هـزَّتْ عروشَ بني سفيـان قاطبة * ًبصرخة أسمعت من يـشتكي الصمَما
قـومٌ قليلـونَ لكـنْ عزمهُم جبلٌ * إذا دنــا السيفُ منـهم رنَّ وارتطما
اُولاءِ سُلـاّكُ درب قصـده وهـج * مـِنَ الضميرِ يرى فيـضَ الدما نِعَما
يحدو بهم للمنايا نصـرُ مبدئِــهم * فعــانقوا الفجرَ يَسقـونَ العدى حِمما
مازّل يوماً لهم في مـوقف قــدمٌ * ومــا أقـروا عـلى ظُلم لِمَنْ حكما
يستبشرون وهم في ليـلة مُـلئتْ * رُعبـاً كــأنّ المنـايا كانـت الحُلما
جَنَّ الظلـامُ وأرضُ الطفِ مشرقةٌ * بأوجه لـم يُخالِـط حُسنــها السأما
تدنو المــنيةُ والاصحابُ في شُغل * عن الحياةِ ولــم يَبــدو لهـا ندما
ويعجبُ النــاسُ إن الليلَ حين بدا * يَمدُ جُنـحاً مـن الظلماءِ مُحتدمــا
قال الحسينُ لهــم خُفّوا على عجل * فما ســُوايَ أرادَ المــعتدونَ دما

____________
(1) هو : الخطيب الشاعر الفاضل الشيخ إبراهيم بن علوان النصيراوي ، ولد سنة 1376 هـ في محافظة العمارة ـ العراق ، أكمل دراسته الاعدادية ثم التحق بالحوزة العلمية في النجف الاشرف عام 1399 هـ ، وبعد أن أكمل مراحلها الاولى حضر درس السيد الخوئي (قدس سره) ، ومن تأليفاته : 1 ـ حديث كربلاء 2 ـ القواعد النحوية 3 ـ أعلام الفقهاء 4 ـ ديوان شعر (مخطوط) ، وله مشاركات في النوادي الادبية والثقافية والدينية.
( 214 )

هَبّــوا وأعُينهـم بالدمعِ ناطقةٌ * واللهِ دونكَ نرجو الساعةَ العدما
لو قطَّعونا بأسياف لهــم إربا * ًلَمـا رضخنا ونمضي للفدا قُدُما
إنَّا على العهد لم نخذلكَ في غدنا * وكيفَ يخذلُ مَنْ في حُبكم فُطما

* * *
ثـم انـثنى لبنـات الوحي ينظرها * رأى الجلال على تلك الوجوه سمـا
قد جللتهن أيــدي المكـرمات فما * أرجفن في القول أو ثبطن من عزما
تقودهن إلـى العليــاء زينبهــم * تلك التي ورثت مــن حيدر عظما
قد ودّعــت إخـوة عزت نظائرها * بأدمع البشر منــها سال وانتظمـا
تظــم فــي كفهـا قلبا لها وجلا * وعزمها يتحــدى ظالمــاً رغما
تحكي علياً ويــوم الـروع يعرفه * يعطي البسالة حقاً صارمـاً وفمــا
ما احتج إلا وكان النــد منكسـرا * أو كر إلا وكـان الخصـم منهزما
وهــؤلاء بنـوه الوارثــون أباً * بسيفــه وبـه جبريــل قد قسما
هـم هـؤلاء لهم يهوى العلا شرفا * هم هؤلاء رقـوا في مجـدهم قمما
قد جنهـم ليل حزن حاملا غصصاً * لو مست الطود أضحى صلده رمما
جيشان جيش يحاكي الشمس منظره * وآخر راح في درب الضلال عمى
يعمرون لهــم ديناً علــى وهم * وإن أخسر شيء من بنى وهمــا
إبراهيم النصيراوي
8 / ذو القعدة / 1416 هـ




( 215 )

الشيخ إبراهيم النصيراوي

هناك قلّة من خطباء المنبر الحسيني من يستطيع أن يفلت من متطلبات الخطابة عندما ينظم ، فهم ـ ومنهم النصيراوي ـ ذوو حس يتفوق عليهم فيوظّفون كل معارفهم لخدمة هذه الوسيلة المباركة للاتصال المحاطة بالعناية الالهية المسددة.
فلا محيص من التسليم بنفور الشعر من أن يصغي ويعمل وفقاً لشروط ومتطلبات من خارج قوانينه ، فلذا تتميز القصيدة المنبرية بمميزات سنشرحُها عندما نتعرض لنصوص الشيخ محد سعيد المنصوري وإني آمل من خلال معرفتي برغبة ونزوع الشيخ النصيراوي لتطوير قابليته الشعرية والخطابية أن يكون من القلّة من الخطباء الشعراء
وأنوّه أن للنصيراوي قصائد ولائية أخرى نلمس فيها بدقة هذا المنحى الذي لانجده في قصيدته هذه عن ليلة عاشوراء.


( 216 )

2 ـ للشيخ ابن حمّاد ـ رحمه الله ـ
وفاء الأصحاب
لست أنساهُ حين أيقن بالموت * دعاهم فقـام فيهــم خطيبا
ثم قال الحقــوا بـأهليكم إذ * ليس غيري أرى لهم مطلوبا
شكر الله سعيكم إذ نصحتـم * ثم أحسنتم لـي المصحوبـا
فأجابوه ما وفيناك إن نحـن * تركناك بالطفوف غــريبا
أي عذر لنا يــوم نلقــى * الله والطهر جدّك المندوبا (1)
حاش لله بل نواسيك أو يأخذ * كلّ مـن المنـون نصيبـا
فبكى ثـم قـال جزيتم الخير * فما كـان سعيـكم أن يخيبا
ثم قال اجمعوا الرجال وشبّوا * النار فيها حتى تصير لهيبا
وغدا للقتال في يوم عاشوراء * فأبدى طعناً وضرباً مُصيبا
فكأنّي بصحبه حوله صرعى * لدى كربلا شباباً وشيبا(2)

____________
(1) هكذا ورد في المنتخب وواضح أن صدر البيت جاء على مجزوء المتدراك المرفّل أي ( فاعلن فاعلن فاعلاتن ) وليس من بحر الخفيف الذي نظمت عليه القصيدة.
(1) المنتخب للطريحي : ص399 ـ 400.

( 217 )

3 ـ للشيخ ابن مغامس ـ رحمه الله ـ
الإمام المفدّى
فديتك من ناع إلى الناس نفسَهُ * وموذنِ أهليـه بوشكِ وبــال
كأن حياةَ النفسِ غيــر أحينة * فمالك لا تـرنو لهـا بوصـالِ
لعمرك إن الموتَ مـُرُّ مـذاقُه * فما بالُ طعم الموتِ عندك حالي
فديتُ وحيداً قد أحاط برحــلهِ * لال أبي سفــيان جيشُ ظلالِ
يقـول لانصـار له قـد أبحتُكُمْ * ذمامي وعهدي فاسمعـوا لمقالِ
ألا فارحلوا فالليلُ مـرخ سدولَهُ * عليكم ومنهاجُ البسيـطةِ خـالِ
فمالهم مــن مطلب قـد تألَّبوا * عليه سوى قتلي ونهبِ رحالـي
فقالوا جميعاً ما يُقــال لنا وما * نقولُ جـواباً عــندَ ردِّ سؤالِ
تقيكَ مـن الموتِ الشديدِ نفوسُنا * ويرخصُ عندَ النفسِ ما هو غالِ
أمِنْ فــَرَق نبغي الفريق وكلُّنا * لاولاده والعيــش بعـدك قالِ
فطوبى لهـم قد فاز والله سعيُهُم * فكلُهم في روضة وظـلالِ (1)

____________
(1) المنتخب للطريحي : ص301.
( 218 )

4 ـ للسيد أحمد العطار (1) ـ رحمه الله ـ

اللؤلؤُ المنثور
لسـت أنسى إذ قام في صحبه * ينثر من فيه لؤلؤاً منثــورا
قائلاً ليس للعـدى بغية غيري * ولا بـُدَّ أن أردّى عــفيرا
اذهبوا فالدجى ستيرٌ وما الوقت * هجيـراً ولا السبيـل خطيرا
فأجابــوه حاش لله بل نفديك * والموت فيــك ليس كثيـرا
لا سلمنا إذن اذا نحـن اسلمـ * ناك وتراً بين العدى موتورا
انخليّك فـي العــدو وحيـدا * ًونولّي الادبـار عنك نفورا
لا أرانــا الالــه ذلك واختا * روا بدار البقاء مُلكـاً كبيرا
بذلوا الجهد فـي جهاد الاعادي * وغدا بعضهم لبعض ظهيرا
ورموا حـزب آل حرب بحرب * مأزقٌ كان شره مستطيـرا
كــم أراقـوا منهم دماً وكأي * من كمّي قد دمروا تدمـيرا
فدعاهم داعــي المنون فسّروّا * فكأن المنون جـاءت بشيرا

____________
(1) هو : الحجة الفاضل السيد أحمد بن محمد بن علي بن سيف الدين الحسني البغدادي الشهير بالسيد أحمد العطار ، ولد في النجف الاشرف سنة 1128 هـ ، كان فاضلاً فقيهاً اصولياً رجالياً ، أديباً شاعراً ، عَلماً من اعلام عصره ، وله مؤلفات في الفقه والادب منها 1 ـ التحقيق في الفقه 2 ـ اصول الفقه في مجلدين 3 ـ رياض الجنان في اعمال شهر رمضان 4 ـ الرائق في الشعر والادب ، توفي عليه الرحمة في النجف الاشرف سنة 1215 هـ راجع : ادب الطف للسيد جواد شبر : ج6 ص69 ـ 70.
( 219 )

فاجأبوه مسرعين إلــى القتــل * وقـد كــان حظهــم موفورا
فلئن عانقــوا السيـوف ففي مقـ * عدِ صــدق يُعانقــون الحورا
ولئن غـودروا على الترب صرعى * فسيــجزون جنــةً وحـريرا
وغــداً يشربــون كأسـاً دهاقا * ويُلقّــون نظـرةً وســرورا
كان هذا لـهم جـــزاءً مــن * الله وقــد كـان سعيهم مشكورا
فغدا السبط بعدهم في عراص الطف * يبغــي مـن العـدو نصيـرا
كان غوثــاً للعــالميـن فأمسى * مستغيثاً يـا للـورى مستجيـرا
فأتاه سهــمٌ مشـومٌ بــه انقضّ * جديلاً على الصعيـد عفيــرا
فاصــأب الفــؤاد منــه لقـد * اخطأ من قد رمـاه خـطأ كبيرا
فأتاه شمرٌ وشَمّــَر عــن سـا * عد أحقــاد صـدره تشميـرا
وارتقى صــدره اجتــراءً على * الله وكــان الخبُّ اللئيم جسورا
وحسين يقول ان كنت مــن يجهل * قــدري فاسـأل بذاك خبيـرا
فبرى رأســه الشــريف وعلاّ * ه على الرمح وهو يُشـرق نـورا
ذبح العــلمَ والتقــى إذ بــراه * وغدا الــحقّ بعـده مقهـورا
عجباً كيف تلفح الشمـس شمســا * ًليس ينفك ضوؤهـا مستنيــرا
عجباً للسمــاء كيــف استقـرت * ولبدر السمــاء يبـدو منيـرا
كيف من بعده يضيء اليس البــدر * من نـوره وجـهه مستعيــرا
غادروه على الثرى وهو ظــل الله * فـي أرضه يقاسي الحرورا (1)

____________
(1) أدب الطف للسيد جواد شبر : ج6 ، ص64 ـ 66.
( 220 )

5 ـ للاُستاذ بولس سلامه (1)
(1)
مناجاة الحسين (عليه السلام)

ناولــوني القرآن قــال حسـين : * لذويه » وجــدَّ فــي الـركعات
ِفرأى في الكتــاب سِفــرَ عزاء * ومشى قلبـه علــى الصفحــاتِ
ليس فــي القــارئين مثلُ حسين * عالمــاً بالجـواهــر الغاليـات
ِفهــو يدري خلف السطورا سطوراً * اًليــس كـلُ الاعجاز في الكلمات
ِللبيان العُلوي ، فـي اُنفس الاطهار ، * مسرى يفــوقُ مســرى اللغات
ِوهو وقفٌ على البصيرة ، فالابصار * ُتعشو ، فــي الانجــم الباهرات
ِيقذف البحـرُ للشواطـىء رمــلا * ًواللالــي تغوص فــي اللُّجـاتِ
والمصلُّـون فــي التـلاوة أشبـاه * وإنَّ الفــــروق بالنيّــــاتِ
فالمناجـاة شعلــةٌ مــن فـؤاد * صادق الــحس مُـرهف الخلجات

____________
(1) هو : الاديب اللبناني الكبير الاستاذ بولس سلامه ،ولد سنة 1910 م في قضاء جزين ـ لبنان ، درس الحقوق في الجامعة اليسوعية ، وعمل قاضياً سنة 1928 م ، وتوفي سنة 1979 م ، له عدة دراسات أدبية وفكرية معروفة ، من مؤلفاته : 1 ـ أيام العرب ( ملحمة ) ، 2 ـ عيد الغدير (ملحمة إسلامية) ، تناول فيها سيرة أهل البيت (عليهم السلام) في أهم ما يتصل بهم واختتمها بمأساة كربلاء ، وقد انتج هذه الملحمة على فراش الالم كما يُذكر ، وذلك باقتراح من المرحوم الحجة السيد عبدالحسين شرف الدين (قدس سره).
( 221 )

ِفإذا لم تكن سوى رجع قول * فهي لهـوُ الشفـاه بالتمتمات
ِإنما الساجد المُصلي حسـين * طاهرُ الذيل ، طيّب النفحات
ِفتقبّلْ جبريـلُ أثمارَ وحـي * أنت حُمّلتـهُ إلـى الكائناتِ
إذ تلقَّـاه جـدُّه وتـــلاه * مُعجزات ترنُّ في السجعاتِ
وأبوه مُدوّن الذكر ، اجـراه * ضياءً علـى سوادِ الدواةِ
فالحسين الفقيهُ نجلُ فقيــه * أرشد المؤمنين للصلـواتِ
أطلق السبط قلبه في صـلاة * فالاريج الزكي في النسماتِ
المناجاة ألسُنٌ مـن ضيـاء * ِنحو عرش العليِّ مرتفعاتِ

الامام الحسين (عليه السلام) يرى جدّه (صلى الله عليه وآله)
وهمت نعمــةُ القديـر سلاما * ًوسكــوناً للاجفــن القلقاتِ
ودعاهُ إلــى الرقــاد هدوء * ٌكهُـدوءِ الاسحـار في الربواتِ
وصحــا غبَّ ساعــة هاتفاً * «اختاهُ بنت العــواتك الفاطماتِ
إنني قــد رأيت جـدي واُمي * وأبي والشقيقُ فـــي الجناتِ
بَشّــروني أنـي إليهم سأغدو * مُشرقَ الوجه طائرَ الخطـواتِ»
فبكت والدمـوع في عين اُخت * نفثات البُركان فــي عبراتِ
صرختْ :ويلتاه ، قال : خلاك الشرُّ * فالـويل مــن نصيب العـتاةِ

الامام الحسين (عليه السلام) يأذن لاصحابه بالتفرّق عنه
ودعا صحبَه فخفُّوا إليه * فغدا النسر في إطار البُزاةِ


( 222 )

قــال إنــي لقيت منكــم وفاءً * وثباتاً فــي الهول والنائــباتِ
حسبكــم ما لقيتــم مــن عناء * فدعوني فالقوم يبغــون ذاتـي
وخذوا عترتي ،وهيموا بجُنح الليل ، * فالليــل درعُــكم للنجــاةِ
إن تظلــوا معــي فــإن أديم * الارض هذا يغصُ بالامــواتِ

جواب الانصار للحسين (عليه السلام)
هتفــوا يــا حسين لسنا لئاماً * فَنخلّيــك مُفــرداً في الفــلاةِ
فتقــول الاجيـال ُ ويلٌ لصحب * خلَّفوا شيخهم أسيــر الطغــاةِ
فَنكونُ الاقــذارَ في صفحةِ التـأ * ريخ والعارَ فــي حـديثِ الرُواةِ
أو سُباباً علــى لسـان عجـوز * أو لسان القصّاص فــي السهراتِ
يتوارى أبناؤنــا فــي الزوايا * من أليـم الهــجاء واللعنــاتِ
ستـرانا غــداً نشـرّفُ حَــدَّ * السيفِ حتــى يَذوبَ في الهبواتِ
يشتكــي مـن سواعد صاعقات * وزنــود سخيــّةِ الضربـاتِ
إن عطشنا فليـس تَعطـشُ أسياف * ٌتعبُّ السخين فــي المهجــاتِ
لا ترانا نرمي البواتــر حتــى * لا نُبقّي منها ســوى القبضـاتِ
ليتنا يا حسين نسقــط صرعـى * ثم تحيا الجسوم فــي حيـواتِ
وسنُفديك مــرةً بعـد اُخـرى * ونُضحّي دمـــاءنا مــرّاتِ

* * *



( 223 )

أصبحوا هانئين كالقوم في عرس * سكــوت مُعــطّل الزغرداتِ
إن درع الايمان بالحــق درعٌ * نسجتــه أصــابعُ المُعجزات
يُرجع السيف خائبـــاً ، ويردُ * الرمـح ، فالنصلُ هازىء بالقناةِ
مثلما يطعــن الهــواء غبي * ٌّفيجــيب الاثيــرُ بالبسمـاتِ
يغلب المــوتَ هـازئاً بحياة * لا يراها إلاّ عمــيق سُبــاتِ
فاللبيبُ اللبيبُ فيها يجـوبُ العمر * في زحمة مــن التـرّهــاتِ
ويعيش الفتـى غــريقـاً بجهل * فإذا شاخ عــاش بالـذكريـاتِ
ألمٌ فــي شبابـه ، فمـتى ولّى * فدمعُ الحرمــان فــي اللفتاتِ
إن ما يكســب الشـهيدُ مضاءً * أمل كالجنائـــن الضـاحكاتِ
فهو يطوي تحـت الاخامص دُنيا * لينــال العُلــى بدهر آتِ (1)

____________
(1) عيد الغدير لبولس سلامة : ص 262 ـ 265.
( 224 )

الأستاذ بولس سلامة

بسلاسة الألفاظ وعذوبتها ورقتها الوجدانية وجمال التراكيب والعبارات والجمل وبهاء صياغاتها ، وبكفاءة التخيّل وقدرة التأمّل والتصوّر تم لبولس سلامة ـ كشاعر متميز ـ أن يدور حول الحوادث والشخصيات والأمكنة في ليلة العاشر من المحرم ليقتنص ظلالها الشفّافّة فيوثّق التاريخ بريشة ساحرة ويرسم معادِلاً شعرياً للأفكار يحاذي ثباتها بمتغيراته ، ويوازي قطعيّتها باحتمالاته ، ويساوق أبديتها بلحظاته فيصطاد الرؤى الشعرية ويضع لها أجنحة تحلّق في آفاق الإبداع ويحيط الانفعال ليحرقه وقوداً للفكرة المقدسة الأبدية ، سنبدأ مع بولس سلامة من بيت جميل يقول فيه : ـ

فرأى في الكتاب سفر عزاء * ومشى قلبه على الصفحات

كيف يستطيع قلب أن يمشي على صفحات كتاب ؟ هذا ما سَنُسميه خرق المألوف وتجاوز السائد في اللغة والكلام اليوميين ، وهذا يتم للشاعر بعد إختياره الواعي بين أنساق الكلام وألفاظ اللغة ثمّ التأليف المتبصّر للكل من الأجزاء فيجد الشاعر مبرراته المقنعة للخروج على الاُلفة والعادات اللغوية كونه يتعامل مع البيان الإلهي ومع الإنسان الكامل ـ الإمام الحسين عليه السلام ـ فيقول مفسراً :

للبيان العلوي في ، أنفس الأط * هار مسرى يفوق مسرى اللغات

ومن هنا نرى أن القلب الذي يمشي على صفحات القرآن متابعاً للمسرى والطريق الإلهي الذي يجعل القلوب تتمشي على مفرداته والفاظه ونرى ـ أيضاً ـ أن
( 225 )

الشاعر يولي لفظة (القلب) إهتماماً خاصاً بقصد أو بدون قصد فنرى : ـ
1 ـ (ومشى قلبه.....)
2 ـ (فالمناجاة شعلة من فؤاد صادق الحس.....)
3 ـ (أطلق السبط قلبه في صلاة فالاريج الزكي في النسمات )
ويكون التجاوز متمثلاً في تحول القلب الى طائر مرتهن في قفص يطلقه الإمام الحسين عليه السلام في صلاته فيضوع من أثر التحوّل أريج يغمر النسمات.
هذا الإجتهاد المتميز في تركيب صور متجددة ومثيرة لهو نتاج الكفاءة في التخيّل المبدع والشاعرية المتحسّسة الدفّاقة التي تجتلي حالة الإتصال بالله تعالى عبر نورية المناجاة فتصوّرها هكذا :
فالمناجاة شعلة من فؤاد أو المناجاة ألسن من ضياء.
فالمناجاة عندما تكون قلبية فهي شعلة من فؤاد.. وعندما تكون لسانية فهي ألسن من ضياء.. ومن إشتعال الفؤاد وإنطاق الضياء يتحدد الإتصال من الإمامل عليه السلام بالله الخالق الحق الذي أفاض من نوريته على الإمام وعلى أبيه عليهما السلام أيضاً.

فأبوه مدوّن الذكر ، أجراه * ضياء على سواد الدواة

فتتجمع الأجزاء النورية في وحدة عضوية تلفّ بناء القصيدة وتمنحه تماسكاً خفياً وقوة باطنية واُ سّاً شاخصاً في مركز ثقل هيكل البناء ، ونقطة من نقاط الإرتكاز والثبات في عالم المعنى.
وهناك آلية اُخرى يستخدمها الشاعر ليؤكّد شاعرية نصه واختلافه ومغايرته لما هو سائد من آليات اللغة ، هذه الآلية الظاهرة في معالجته للمحسوسات والمجردات في تفاعل شعري يجمعهن ليعطي صفة إحداهن للاُخرى وبالعكس ،


( 226 )

في تآلف عجيب يؤكد غرائبية التصوّر والرؤيا التي تتفتّح على آفاق متعددة قابلة للقراءات المختلفة والتأويل المشروع ، فهو يهيّيء لحالة الحلم التي يتم خلالها التواصل بين الإمام عليه السلام وجده الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله [ بعد أن تم التواصل بينه وبين الخالق الحق ـ عزوجل ـ ] عبر هذه الآلية فنرى :
( وهمت نعمة القدير...
إن نعمة القدير كمفهوم مجرّد إتخذت صفة حسية عندما (همت) أي سالت أو جرت ، لكن هذه السيولة أو الجريان الحسيّين توافقا مع مفهومين آخرين : ـ الاوّل مجرد هو السلام ، والثاني حسّيّ هو السكون ، في تآلف يجمعهما الإشتراك اللفظي في صوت حرف السين الذي تبدأ به اللفظتان (سلام ـ سكون) نقول مثلما قال الشاعر : إن نعمة القدير قد جرت سلاماً وسكوناً وهذا الجريان أو السيولة جريان بلين ورقّة ، فالفعل (همى) يعني السيولة أو الجريان برقة مثل تساقط الدموع السائلة على الخدود أو تساقط قطرات الندى من الأغصان فجراً ، فما أبرعه من تصوير للحلم لأن هذه النعمة الإلهية قد تساقطت على (الأجفن القلقات) لتمنحها (السلام والسكون) برؤيتها لسيد المخلوقات (الرسول الاكرم محمد صلى الله عليه وآله)

وهمـت نعمة القدير سلاماً * وسكوناً للأجــفن القلقـات
ودعاه إلى الرقــاد هدوء * كهدوء الأسحار فى الربوات

وهناك امثلة اُخرى على هذه الآلية في تبديل موقع الحسّي بالمجرد أو بالعكس كما في (معجزات ترن) أو في (المناجاة شعلة..) (المناجاة ألسن..).
وهذه الآلية تصب ـ أيضاً ـ في مركز ثقل هيكل القصيدة كما قدمنا
هناك ـ أيضاً ـ تأثير الآداب المجاورة التي لابدّ أن تلقي ظلالها ـ بوعي من


( 227 )

الشاعر أو من غير وعي ـ فتظهر في نتاجه بشكل يدّل على التداخل أو إذا شئنا أن نستعير من أبي حيّان التوحيدي مايدعوه بـ(المقابسة) والذي يسمى حديثاً بـ(التناصّ) والذي كان الجهد النقدي القديم يعدّه من السرقات عندما لا يتعاطف مع النصوص المتداخلة فيؤلف كتاب حول (الابانة عن سرقات المتنبي) ويكون الرّد المتعاطف مع آليات التداخل بعبارة (وقع الحافر على الحافر).
ويُعلن النقد الأكثر حداثة عن عدم براءة أي نص من التداخل ونرى مثلاً في أحد أبيات القصيدة

مثلما يطعن الهواء غبيّ * فيجيب الأثير بالبسمات

اقتباساً واضح المعالم من الكاتب الأسباني سرفانتيس في روايته (دون كيشوت) الفارس الذي يقاتل طواحين الهواء برمحه في عبثية وغباء.
ثم نرى مسألة اُخرى تزيد النص وحدة وتماسكاً وهي النظرة الى علاقات الإمام عليه السلام فهو يبدأ في الاتصال بالله ـ عزوجل ـ عبر قنوات ثلاث هي :
1 ـ القرآن..

ناولوني القرآن قال حسين * لذويه وجدّ في الركعات
2 ـ الصلاة..
إنما الساجد المصلي حسين * طاهر الذيل ، طيب النفحاة



( 228 )

3 ـ المناجاة..

المناجاة السن من ضياء * نحو عرش العليّ مرتفعات

ليحدث بعد ذلك تصعيد جديد في علاقات الامام عليه السلام في اتصاله بجده رسول الله صلى الله عليه وآله عبر قناة الحلم و يكون في معيّة الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله ايضاً اُمه الزهراء وأبوه أمير المؤمنين وأخوه الحسن عليهم السلام

إنني قد رأيت جدي وامي * وأبي والشقيق في الجنات

ليحدث تصعيد ثالث في علاقاته من خلال إتصاله بشقيقته زينب عليها السلام

وصحا غب ساعة هاتفاً * اُختاه بنت العواتك الفاطمات

ثم يحدث التصعيد الرابع في لقائه بأصحابه وأهل بيته :

ودعا صحبه فخفوا اليه * فغدا النسر في إطار البزاة

وتتم الدورة باللقاء بالله ـ عزوجل ـ شهيداً والانتقال الى العالم الآخر

إن مــا يكسـب الشهيد مضاء * أمل كالجنائن الضاحكـات
فهو يطوى تحت الاخامص دنيا * لينـال العــلى بدهر آت

هذه الحركات الخمس أعطت للقصيدة إيقاعاً داخليا وهّاجاً ليضيف لهيكل القصيده دعائم بنائية متواشجة مع نقاط الارتكاز الاُخرى أو لِنَقُل : الخيوط التعبيرية والتوصيلية التي تنسج شبكة النص.
هناك ـ ايضاًـ إستخدام الحوارات المختصرة المعبرة بشكل فني ينمّ عن وعي مسرحي عال يترجم الحوارات الاصلية التي قيلت ليلة العاشر من المحرم

حسبكم ما لقيتم من عناء * فدعوني فالقوم يبغون ذاتي

مقابل ( إنّ القوم إنما يطلبونني ولو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري )


( 229 )

أو :

وخذوا عترتي وهيموا بجنح الليل * فالليــل درعكــم للنجــاة

مقابل : ( وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ـ هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا )
أو :

ليتنا يا حسين نسقط صرعى * ثم تحيا الجسوم فى حيوات
وسنفديك مــرة بعد اُخرى * ونضحي دمــاءنا مـرات

مقابل :( قال زهير بن القين : والله وددت إني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أُقتل كذا ألف مرة )
وربما تكون بعض المقتضيات الفنية قد جعلته يبتكر في الحوارات مالم يُقل نصّاً بل مايُستشعر بأنه سيقال حتى أنه جاء بلغة معاصرة لا يمكن لأنصار الحسين أن يقولوا مثلها في زمنهم بل يقولونها بلغة عصرهم الذي عاشوا فيه :

فنكون الأقذار في صفحة التاريخ * والعار فـي حديث الــروات
أو سبابــاً على لسان عجوز * أو لسان القصّاص في السهرات
يتــوارى أبنائنـا في الزوايا * من اليم الــهجاء واللعنــات

و هذا التمكن في إستخدام أدوات الفنون الاُخرى كالمسرح أضفى على القصيدة درامية في التعبير تضاف الى الحصيلة العامة مما أسميناه بالخيوط التعبيرية والتوصيلية الناسجة لشبكات الإتصال بين النص والمتلقي حين تنكشف معطيات القصيدة كإنجاز نوعي على مستوى المبنى الحامل للمعنى بموقف جمالي متقدم.


( 230 )

(2)
الكوكبُ الفرد

أنــزلوه بكــربلاء وشادوا * حوله من رماحــهم أســوارا
لا دفاعاً عــن الحسين ولكن * أهل بيت الرسول صاروا أُسارى
قال : ماهــذه البقـاعُ فقالوا * كربلاء فقــال : ويحــكِ دارا
هاهنا يشربُ الثرى مـن دمانا * ويثيرُ الجمـادَ دمــعُ العذارى
بالمصير المحتوم أنبأنـي جدي * وهيهــات أدفـــع الأقـدارا
إن خَلَتْ هـذه البقـــاع من * الأزهار تمسي قبورُنا أزهــارا
أو نجوماً عـلى الصعيد تهاوت * في الدياجير تُطلـعُ الأنـــوارا
تتلاقى الأكبـادُ من كُل صوبٍ * فوقَها والعيــونُ تهمـي ادّكارا
مَنْ رآها بكـى ومن لم يزرها * حَمَّل الــريحَ قلبُه تـِذكــارا
كربلاء !! ستصبــحين محجاً * وتصيرين كالهـواءِ انتشــارا
ذكركِ المفجع الألــيم سيغدو * في البرايا مثلَ الضيـاءِ اشتهارا
فيكون الهدى لمــن رام هدياً * وفخاراً لمـن يــرومُ الفخارا
كُلّما يُذكـر الحســينُ شهيداً * موكبُ الــدهر يُنبت الأحرارا
فيجيءُ الأحرار في الكون بعدي * حيثما ســرتُ يلثمون الغبارا
وينادون دولــةَ الظلـم حيدي * قد نقلنا عــن الحسين الشعارا
فليمت كــلُ ظالـــمٍ مستبدٍّ * فإذا لــم يمــت قتيلاً توارى
ويعــودون والكــرامةُ مَدّت * حول هامــاتهم سنـاءً وغارا


( 231 )

فإذا أُكــرهوا ومــاتوا ليـوثاً * خَلّدَ الحـقُ للأُســود انتصـارا
سَمِعَتْ زينبُ مقــالَ حســينٍ * فأحستْ في مُقلتيــها الــدوارا
خالتْ الأزرقَ المفضّض ســقفاً * أمسكتُهُ النــجومُ أن ينهــارا
خالتْ الأرضَ وهـي صمّاءَ حزنٌ * حمأً تحـتَ رجِلهــا مَــوّارا
ليتني مـُتُّ يـاحســينُ فلــمْ * اسمع كَلاماً أرى عَليـه احتضارا
فُنيــتْ عِتــرةُ الرسولِ فأنتَ * الكــوكبُ الـفردُ لا يزالُ منارا
مات جدي فانــهدَّت الوردةُ الـ * زهـراءُ حزنـاً ، وخلَّفتنا صغارا
ومضي الوالـدُ العــظيمُ شهيداً * فاستــبدّ الزمـانُ والظلُّ جارا
وأخوك الــذي فقدنـاهُ مسموماً * فبتنا مـن الخــطوبِ سُكارى
لا تَمُتْ يـا حســينُ تفديكَ منّا * مُهجــاتٌ لـم تقرب الأوزارا
فتقيكَ الجفــونُ والهُدب نرخيها * ونلقـي دون المنــون ستارا
شقّت الجيــبَ زينـبٌ وتلتهـا * طاهــراتٌ فمـا تركن إزارا
لا طمــاتٍ خـُدودهـنَّ حُزانى * ناثراتٍ شعــورهنَّ دثــارا
فدعاهـنَّ لاصـطبــارٍ حسينٌ * فكأنَّ المياه تُطفــيء نــارا
قــال : إن مـتُّ فالعـزاءُ لكنّ * الله يُعطي من جــوده إمطارا
يلبـسُ العاقلُ الحكيمُ لباسَ الصبر * إن كانــتْ الخــطوبُ كبارا
إنّ هــذه الدنيـا سحابةُ صيفٍ * ومتــى كانـت الغيومُ قرارا
حُـبّيَ المـوتُ يُلبسُ الموتَ ذلاً * مثلمـا يكسفُ الّهيبُ البخارا (2)

____________
(1) عيد الغدير : بولس سلامة : ص 250 ـ 253.