الإستاذ عبود الأحمد النجفي

عبود الأحمد النجفي شاعر يصارع الألم ولايزال في تفاصيل حياته ، فلذا يتبدّى ولاؤه للمأساة الحسينية في أشكال ذاتية يتحسسها بقرب روحي عميق ، وإذا أضفنا إلى ذلك تمرّسه في الكتابة باللهجة المحلية للمنبر الحسيني لسنين طويلة فسوف تختمر تجربته وتتصاعد ، فلا غرو أن تستجيب شاعريته لموضوعة محدّدة التفاصيل مثل ليلة عاشوراء ليصوّرها من أفق الانتظار :

في غد يشرق الصباح مدمّى * وعلى الترب أنجم مطفــآت

ليُصور الغد الدامي بتجربة مبتورة إذا نظرنا إلى بقية شعره ، فأنا قد لاحظت قبلاً على النجفي سمة الإرتقاء الشعري من قصيدة إلى أخرى لكنه في هذه المحطة لم يقلْ ما تريده حصيلته الشعرية المتصاعدة ولا أعلم سبباً وجيهاً لهذا النكوص ، فالنجفي لاتضغط على شاعريته المناسبة فهو من فرسانها المجلّين مع ثُلّة من إخوانه من شعراء الولاء ، لكنه بدأ مع تراكم تجربته في الكتابة بالتوجه إلى منحى آخر في التأمل والرؤيا الشعرية إزدانت به مجموعته ـ اهتزاز الذاكرة ـ مما أثرى تجربته بإرتياد مناطق كانت مجهولة لديه وإنفتح عليها نبوغه وتطلّعه ولعلي أصيب حين أسميه بالنابغة النجفي تيمناً بنوابغ الشعر العربي الأصيل ، فعبود الأحمد النجفي كتب الشعر الفصيح متأخراً فتصحّ عليه هذه التسمية ولعله يقبلها برحابة صدره المعهودة.


( 303 )

20 ـ للشيخ علي بن عبد الحميد ـ رحمه الله ـ

العزمات الصادقة

فلما رأى أن لا مناص من الـردى * وإنّ مراد القــوم منه كبـيـــرُ
فقال لأهليه وباقـي صحـبـــه * ألا إنّ لبثـي فيكــمُ ليسـيـــرُ
عليكم بهذا الليل فاستـتـروا بــه * وقوموا وجدّوا في الظلام وسيـروا
ويأخذ كلُّ منكــم يـدَ واحـــدٍ * من الآن وخفّوا في البلاد و غوروا
فما بُغيةُ الأرجاس غيري وخالقـي * على كلّ شيءٍ يبتغـيــه قديــرُ
فقالوا معاذَ الله نسلمك للـعــدى * وتضفى علينا للحـيـاة ستـــورُ
فأيُّ حياة بعد فقـدك نرتـجــي * وأيُّ فــؤادٍ يعتـريـه ســرورُ
ولكن نقي عنك الـردى بسيوفـنـا * لتحظى بنا دارُ النعـيـم وحــورُ
فقال جُزيتم كلّ خيــرٍ فأنتــمُ * لكلّ الورى يوم القيـامـة نــورُ
فأصبح يدعو هل مغيثٌ يُغيثُنــا * فقلّ مُجيبــوه وعـزّ نصـيــرُ
ولم تبقى إلا عصبةٌ علـويـــةٌ * لهم عزماتٌ ما بهـنَّ قـصــورُ
ولمّا شبّت نار الحروب وأضرمت * وقتْ نفسَه هـامٌ لهــم ونحــورُ
ولم أنسه يوم الهيــاج كأنـــه * هزبرٌ له وقعُ السيـوف زئيـــرُ
يكرُّ عليهـم والحســام بكفــه * فلم يرَ إلا صــارخٌ وعفيـــرُ
وراح إلى نحو الخيـام مودعــاً * يُهمهمُ بالقرآن حيــثُ يسيـــرُ


( 304 )

فقمنَّ إليه الفاطميـات حُسَّــراً * يفدينه والمعـولات كثيـــرُ
فقال استعينوا بالإلــه فإنَّــه * عليمٌ بما يُخفي العباد بصيــرُ
ألا لاتشقنَ الجيوب ولا يُــرى * لكُنَّ عويلٌ إنَّ ذاك غـــرورُ
ألم تعلمي ياأختُ إنَّ جميعَ مـن * على الأرضِ كلٌ للمماتِ يصيرُ
عليك بزين العابديــن فإنّــه * إمامكِ بل للمؤمنيــن أميــرُ
أطيعي له إنْ قال مولىً فإنَّــه * المطاعُ بأحكام الكتاب خبيرُ (1)

____________
(1) المنتخب للطريحي : ص121 ـ 122.

( 305 )

21 ـ للشيخ علي الفرج (1)

حديث النجوم

أغسلي يا نجوم عن سأم الليـ * ل جفونَ الحسينِ والأصحـابِ
وَدّعي ذلك الزعيمَ ودمعــا * ذابَ فيه طبعُ انكسارِ السحـابِ
دمعةٌ منه أنبتتْ للمــلاييـ * ـن حِراباً من سُنةٍ وكتــابِ
ودّعيه دماً تأهبّ فـي الأقـ * ـداح كيما يُراق في الأكـواب
دمُه صبغة السماءِ وأين السـ * ـيفُ منه وهو انتماء التُـراب

***

حدّثي يا نجومُ عن خيم الوحـ * ـي ودمـعٍ من زينبٍ سَكّـابِ
ليلُها...أين ليلُهـا ؟! نسيتْــه * نسيتْ صمتَه انتظارَ العــذابِ
حولهَا من خواطر الظمـأ المرِّ * ضبابٌ في عُتمـةٍ من ضبـابِ

____________
(1) هو : الشاعر فضيلة الشيخ علي بن عبدالله الفَرَج ، ولد في القديح إحدى مناطق القطيف سنة 1391 هـ ، انهى المرحلة الثانوية ثم التحق بالحوزة العلمية في النجف الأشرف سنة 1410 هـ ثم درس شطراً في سوريا سنة 1412 هـ وأخيراً التحق بالحوزة العلمية في قم المقدسة سنة 1416 هـ ، ولا يزال يواصل دراسته العلمية فيها ، وله ديوان شعر : أصداء النغم المسافر ، وكتابات اُخرى ، وله مشاركات في النوادي الأدبية والثقافية في القطيف وسوريا وقم المقدسة.

( 306 )

قسماً لو جرى الفرات وريـــداً * في دماها كسلســلٍ مُنســـابِ
هدرته مـاءً فتجتمـــع الأطـ * ـفال ، فيه تعود ملأى القِــرابِ

***

حدّثيني عن الاُسود كم امتـــدَّ * بهم للسمـا خيـوطُ انتســـابِ
زرعوا الليل أعيناً تحرس الغـا * ب كَسربٍ من الردى جـــوّابِ
أنت يا ليلة انخساف المرايـــا * في وجوه السنيـن والأحقـــاب
غُرست فيك آهتي واحتضـاري * ونمت فيك صرختي واغترابــي
عجبٌ أن أراك سـوداءَ والشمـ * ـس بجنبَيـكِ معبـدُ الأهــداب
عجبٌ أن أرى لديك ( دويَّ النـ * ـحل) يهتزُّ من أُسـود الغــاب
سهروا بين جانحيــك جبــالاً * وغدوا فوق راحتيـك روابـــي

***

حدّثيني عن الظلام وما احمــرَّ * بأعماقــه مــن الأِرهـــاب
ضاع في رُعبه أنينُ يتامـى الـ * ـغد ضاعت مباسـم الأحبــاب
وفؤاد الحسيـن ذاب حنانـــاً * وعجيبٌ يذوب فـوق الحــرابِ

على الفَرَج
10 / 11 / 1416 هـ
قم المقدسة





( 307 )

الشيخ علي الفرج

شاعرية علي الفرج من الشاعريات القليلة التي تُجبر متلقيها على الإقرار بضرورة الشعر في حياة الإنسان وتجعله متقرباً بأكثر من وسيلة الى التفاعل والإنصهار مع الظواهر الشعرية في كل تجلياتها وكشوفها... فهو حدّاء أصيل يراقب قافلة التلقي والقراءة بأكثر من حاسّة ويحنو على قارئه حنوّ المشفق ، فُيصاحبه صحبة إدهاش وإبهار بسحر الألفاظ المنتقاة وجمال صياغته للتراكيب الموحية وهو يفعل هذا برقّة وشفافية تنمّ عن طبع شعري متجذّر وخُلق فني راسخ ، بعيداً عن دنس تنفير الآخرين وازدرائهم ومقتهم.
فشاعريته بها نزوع نحو التلاحم مع الناس بطيبة صادقة ونيّة حسنة ليقرّر رسالة الشعر ووظيفته كنداء من ضمير ووجدان جماعي يعبّر عن كل الآمال وجميع الآلام ، ولذا فهو يمتلك من إمكانات الإختيار في خطابه الشعري الشيء الكثير ، وله قدرة متشعّبة في توليد التراكيب غير النمطيّة يعاضده إنتقاء واع لألفاظه ، فلا تستطيع أيّة لفظة كانت أن تعبر سياج حقوله الشعرية بلا إذن من رقابته الصارمه وتفحصه الدؤوب ، ولا شك أنّ البساطة التي تظهر بسيولة في شعره هي بساطة مصنوعة بتعب وإخلاص وتفانِ وهناك جهد آخر يقوم به الفرج في إخفائه لآثار الصنعة في بساطة شعره وعذوبته وسيولته ، ولعل السيولة أقرب إليه من غيرها فهو شاعر الماء بحق وهو (نهّام) يؤدي مواويله البحرية لكي يدفع عجلة الحياة ، وإذا تسنّى للفحص والإختبار النقدي أن يولي قصيدة ( حديث النجوم ) إهتمامه فسوف


( 308 )

يتأكد رسوخ الصور والألفاظ والتراكيب المائية في نسيج القصيدة ، وربما تجاوز الماء الى كل الظواهر والأشياء السائلة بحيث نرى أنه لايكاد أن يخلو بيت شعري لعلي الفرج من ذلك ، وسنحصي ذلك بالترتيب في قصيدته ( اغسلي ، دمعاً ، ذاب ، السحاب ، دمعة ، دماً ، الأقداح ، يُراق ، الأكواب ، دمه ، سكّاب ، الظمأ ، ضباب ، جرى ، الفرات ، وريداً ، دماها ، سلسل ، منساب ، ماء ، ملأى ، القراب ) في الأبيات العشرة الاولى فيحقق إنسيابية سيّالة لرؤاه وصوره لكي يشكل مدخلاً الى مشهد الفجيعة الذي يتعمد فيه الشاعر عدم إستخدام مفرداته المائية ليصوّر ليلة عاشوراء ويخاطبها واصفاً إياها بليلة إنخساف المرايا فلا إنعكاس أمام وجه الزمن لكن الشاعر يخرج من هذا المشهد وينهي القصيدة بهذا البيت :

وفؤاد الحسين ذاب حنانـاً * وعجيب يذوب فوق الحراب

فحتى الشهادة العظيمة لسيد الشهداء عليه السلام يصوّرها علي الفرج بصورة الذوبان فوق الحراب مبدياً عجبه لذلك ، لكننا لا نعجب فالشاعر يريد للشهادة المحببة الى نفسه أن تتزيىّ بحلّة الماء الذي يحقق حيوية شاعرية علي الفرج المنفتحة على مصاديق الآية الكريمة ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) على مستويين : شعوريّ يصاحبه الإختيار الواعي ، ولا شعوري دفين في رغبات وأماني علي الفرج الذي يختار لقصائده أوزاناً منسابة برشاقة الإيقاع الشعري كبحريّ الخفيف والبسيط اللذين طالما كتب بهما أجمل قصائده.


( 309 )

22 ـ للشاعر الأستاذ فرات الأسدي(1)
(1)
مشيئة الدم


عليه اُغمضُ روحي ـ حلمَه العجبا ـ ! * فكيف فــرَّ إلى عينــيَّ مُنسربـــا
ومن أضــاءَ له حُــزني فغــادره * إلى فضـاء قصيّ اللمـح فاقتربـــا !
حتى تسلّــل من حُبٍّ ومن وجـــعٍ * دمعاً يُطهّر نبعَ القلــب لا الهدبـــا
رأيتُ فيما رأيتُ الدهشـة انكســـرت * وخضّبت جســداً للمستحيــل كبــا
وكـان يَلقى سيوفَ الليـل منصلتـــاً * ويستفزُّ مُـدىً مجنونـــة وظبـــى
وكان يعبر فـي أشفارهــا فزعـــاً * مُرّاً ، وترتدُّ عن أوداجـه رُعبـــا !
تمتد لهفتهــا حيــرى فيُسلمُهـــا * إلى ضلوع تشظّـت تحتهــا نهبـــا
مَنْ ينحرِ الماء مَنْ يخنـقْ شواطئــه ؟ * والنهر مدَّ يديـه نحــوه... وأبـى !
فناولني دمــه ياليلـــة عبـــرت * إلى النزيف جريح الخطـو منسكبـــا

***

____________
(1) هو : الشاعر الأستاذ فرات الأسدي ، ولد سنة 1380 هـ ، من عائلة علمية معروفة ، أنهى شطراً من الدراسة الاكاديمية ودرس عدة مراحل في الحوزة العلمية ، ومن نتاجه الأدبي 1 ـ ذاكرة الصمت والعطش ( مطبوع ) 2 ـ صدقت الغربة يا ابراهيم 3 ـ النهر وجهك 4 ـ الخناجر الميتة ( رواية ) ، وله مساهمات فعالة في النوادي الأدبية والثقافية والدينية ، كما شارك في الصحافة والكتابة الأدبية ، ويدير الآن دار الأدب الأسلامي : مشروع النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته في الشعر العربي.
( 310 )

يا نافراً مثل وجه الحـلم رُدَّ دمــي * إلى هواك... دمي الممهور ما اغتربـا
يطلُّ ظلُّك فيه... بــوحَ اُغنيـــةٍ * ظمآنةٍ عبَّ منهـا لحنُهــا اللهـبــا
رأيتُ فيما رأيتُ الليـلَ متّشحـــاً * عباءةَ الشمس مختـالاً بهـا طربـــا
وفوق أكتافه فجرُ النعوش هـــوت * نجومُه...والمدى يرتـجُّ منتحـبـــا
قبل الحرائق كـان الورد يُشبهـــهُ * وبعده لرماد الريـح صــار سبـــا
قبل الفجيعة من لون الفـــرات له * شكلٌ ، ومن طينه وجهٌ يفيض صبــا
وبعدها سقطت في النار خضرتــه * وحال عن بهجة مسحورة ، حطبـــا
وما تألّـق من جمـرٍ فبسمتــــهُ * غارت ، وتحت رمادٍ باردٍ شحبــا !

***

وأنت ، دون عزيف الموت ، صرختنا * وأنت.. تنفخ فيها صوتهـا.. نسبــا
وأنت عنـدك مجــدُ الله... آيتــهُ * بيارقاً نسلــت... جـرارةً حقبـــا
وأنت تلوي عنان الأرض ثمّ إلـــى * أقدارها تطلـق الأقـدار والشُهبــــا
وعند جرحك مات الموت وانبجسـت * من الصهيل خيـولٌ تنهـب الصخبــا
فاحملْ دمَ الكوكب الغضّ الذبيح وسـر * إلى الخلــود فقد أرهقتَــه نصَبــا
وقف...فحيث مدار الكون صرت له * مشيئةً تكتب التاريــخ ، أو قطـبــا

فرات الأسدي
8 / ذو القعدة / 1416 هـ




( 311 )

الاستاذ فرات الاسدي
مشيئة الدم

قصيدة عمودية في ظاهرها فقط ، أما جّوها وبناؤها ولغتها وصورها وتراكيب جملها فهي برزخية الإنتماء تتقاطع مع التراث والمعاصرة في مفترقات وملتقيات عدة لتبرز هويتها غير المنحازة وغير المتعيّنة على وجه الدقة ، وهي قصيدة خروج على السائد في كل محاورها وخصوصاً على الثوابت النحوية ـ التي لفرات الأسدي رسوخ طويل بها ـ فهي تقفز منذ صدر البيت الاول فوق المعايير لتلجيء المتلقي الى التأويل والتمحّل لما هو بين شارحتين ـ حلمه العجبا ـ فلا يصل الى شيء ، ويتأكد هذا القفز فوق الثوابت النحوية في مشاكسات ومحاولات للخروج الواعي أو هي على الأقل إشعار بذلك ، مما يُنبيء أن الشاعر يضيق ذرعاً بالمعيارية التي تمتد ضاغطة على الرؤى غير المتشكّلة بعد ، وعلى القواعد التي تحاصر فضاءه وهو ( فضاء قصي اللمح ) فهو يفرض الحيرة على المتلقي مثلاً في

مَن ينحرِ الماء مَنْ يَخنُقْ شواطئه ؟ * والنهر مدّ يديه نحــوه.. وأبـى

فهل ( من ) إستفهامية أم شرطية وكيف جزمت الفعلين ؟ إن التعمد والقصدية واضحان في التجاوز ونُضيف الى ذلك ما يمكن أن نسميه بـ ( إزدحام الأفعال ) كظاهرة بارزة في القصيدة حتى وصل عدد الأفعال المستخدمة في بيت واحد الى خمسة أفعال :

رأيت فيما رأيت الدهشة إنكسرت * وخضّبت جسداً للمستحيــل كبا


( 312 )

ولإن الفعل في العربية ـ غالباً ـ ما يشكل بدايات الجمل فهذا البيت يطالب ذهن المتلقي أن يقف خمس وقفات ليبتدأ من إنطلاقات الجمل فيحتاج الى تأمل أكثر ووقت أطول فتتعدد المفاتيح الباحثة عن أبواب النص وهناك لدى فرات الأسدي ظاهرة نحوية اخرى يتعمدها في نصّه وهي حشد الضمائر المتصلة فعلى إمتداد (22) بيتاً هناك (53) ضميراً متصلاً على الأقل بحيث تعسر الإحالة ويصعب الإرجاع وسنرى هذا المثال :

وكان يلقى سيوف الليل منصلتاً * ويستفزّ مُدىً مجنونـة وظُبـى
وكان يعبر في أشفارها فزعـاً * مرّاً وترتدّ عن أوداجه رعبــا
تمتدّ لهفتها حيرى فيسلمهــا * الى ضلوع تشظت تحتها نهبـا

فاذا أردنا معرفة عائدية الضمير ( ها ) المتصل بالفعل ( يسلم ) فلن نستطيع ذلك ، لإنه قابل للإحالة الى ( اللهفة ، الأشفار ، الظُبى ، المُدى ، سيوف الليل ) وإذا أضفنا الى ذلك العُسر صعوبة تمييز فاعل الفعل ( يسلم ) هل هو فاعل ( كان يعبر ) أي الفاعل الأساس أم هو الفزع المرّ أم الرعب ؟ تشابكت القراءات وتنافرت على المحور الدلالي العام مما يصوّب رأينا القائل أن قصيدة فرات مكتوبة لكي يقرأها المتلقي لا لكي يسمعها فهي نخبوية متوغّلة في موقف جمالي عميق لايشف وهي درامية البناء قائمة على النفور من العواطف والإنفعالات البسيطة لذا نراها تجاهلت المدخليات المألوفة الى ليلة عاشوراء ودارت محاورها على لغة حلمية عميقة تعتمد الإيحاء والإيماء والغموض البرّاق في التعامل مع الأحداث بصدق فني لا يتطابق مع الصدق الواقعي بل يتضمنه ويلازمه في تجربة غنية حافلة بالاجتراح وشاعرية جامحة متمرسة طالما أغنت ساحتها تجارب كثيرة مميزة.


( 313 )

(2)
الليلة الآخِرة


عكفتْ تشحــذُ للمــوتِ النصـــالا * أو تهزُّ الليــلَ ذكــراً وابتهـــالا
فـتــيــةٌ نــاداهـمُ ربُّــهُـــم * أقدِموا ، فاستسهلوا الاُخـرى منـــالا
ومضوا عن هذه الدنيـــا عُجالـــى * وسرَوا للخُلدِ يبغــونَ الـوِصـــالا
بسَمَ المجـــدُ لهم فابـتـسـمـــوا * وإلى أسيــافهــمْ مالــوُا فَمــالا
وارتدَوا من عدَّةِ الحـــربِ هُـــدىً * ووفـــاءً ومُــروءاتٍ ثِـقـــالا
جَنَّهُمْ في الطـفِّ لـيـــلٌ وهُـــمُ * بالحسينِ الطُهرِ قد جَنُّــوا خَبـــالا
فاشهــدي ياليلة الضــوء هـــوىً * نضراً يبتكـر الرؤيـــا جمـــالا

***

يا مسـاءً لم يلُــــحْ في أفْقــــهِ * غيـرُ وجهِ اللهِ ، والسبطِ ـ تعالـى ـ !
ترقـــبُ الفجـــرَ به أمنـيـــةٌ * حُرَّةٌ لم تُلقِ لـلـرَّهـبـــةِ بـــالا
رغبتْ أن تشهـد الفتــحَ غــــداً * بدمٍ ما سـالَ بـل صـالَ وجـــالا !
فأعدَّتْ لـلِـقـــاهُ صَـبــرَهــا * ونفوساً أنفـت تهــوى الضـــلالا
وتمدّ اليــدَ لــلـطـاغــي وقـد * عاثَ بالديـن حــرامـاً وحـــلالا
ترِبَـتْ كــفُّ أبيــهِ.. ليتَــــهُ * نَصبَ القـردَ أميـراً.. واستقـــالا !



( 314 )

أيُّ ليلٍ ضمَّ للحــقّ رجــالا * يرخِصون الروحَ أصحابــاً وآلا
ونساءً حُجِبـتْ في خـــدرِها * واطمأنَّتْ في حِمى الصِيد عيـالا
وصغاراً هَوَّمَــتْ أعينُهـــا * وعن الأقدار لم تُحفِ الســـؤالا
لو أطلّتْ لرأتْ خيـل العــدى * ترمَحُ الأرضَ جنوباً وشمـــالا
عاهدتْ شيطانَها لـن تنثنـــي * يومَها أو تطأ القـومَ مجـــالا
وبناتُ الوحي تُسبـى ذُعَّـــراً * وخيامُ الوحيِ تنهدُّ اشتعــــالا
وبأطراف القنا رأسُ الهـــدى * وعلى العُجْف السبايا تتوالـــى
وعليٌ يقدِمُ الركــبَ وفـــي * عُنْقهَ من رجلهِ القيدُ استطـــالا
وله زينـبُ تشكــو ذُلَّهـــا * وهُموماً عاينتْ منها المَحـــالا
صبرتْ واحتسبتْ مانالـهـــا * في سبيل الله تلقــاه نـــوالا
حسبُها مـــن أهل بيتٍ شمسُهُمْ * في مَدى التاريخ لم تغـربْ زوالا
كتب لله لـهــم أجــرَهُـــمُ * ان يكونوا للكرامــاتِ مثــالا
ويشيدوا بالتقى دولــتــهــمْ * آخرَ الدهر انتصافاً وسجـــالا
وإمامُ الحق في أشيــاعـــهِ * يطلبُ الثاراثِ زحفاً واقتتـــالا

فرات الاسدي
6 / شعبان / 1416 هـ




( 315 )

الليلة الآخرة

على الرغم من حرصه أن تكون قصيدته منبرية التوجه لكنها أفلتت من القالب والنمط المنبري في مواضع عدة ، ولو تسنى لخطباء المنبر الحسيني أن يضخّوا دماً جديداً في شرايين إختياراتهم الشعرية لما عَدَوا هذه القصيدة أو ما نُسج على منوالها من قصائد الولاء للشعراء المعاصرين.
فالخطاب المنبري الموجّه الى الأجيال الشابة المتطلعة الى المستقبل يجب أن يفحص أدواته ويوظّف الوسائل الفاعلة في الأوساط التي يخاطبها وعلى سبيل المثال ليته يُعيد إختياراته لقصائد العزاء والمصيبة منحازاً الى المنبريات الجديدة من القصائد والأشعار التي تمثّل هذه القصيدة مثالاً لها.


( 316 )

(3)
موت النهار

(1)


ليركضَ كالبحر مرّ المساء
ومرّتْ وراء خطاه النجوم التي أزهر الضوء في نسغها ،
والسماوات مبتلّةٌ بالبريقْ
لينهضَ كالبحر مدّ المساء مداه الغريقْ
والغى حرائقه السودَ في الطرقات
وفاجأ غلغلة الومض بالأسئلهْ
ومرَّ الى الدهشة المقبلهْ !

(2)


ليوغلَ كالليل دار الغبارْ !
وطوّق نبضَ التراب بأقدامه المثقَلهْ
وأقصى الغيومَ عن النوءِ والنهرَ عن مائهِ المستعارْ !
ودارَ الغبارْ.


( 317 )

(3)


ـ وكانت هوادجهمْ تذرعُ الريحَ ، كان الحداءُ
يُخامرُ عشبَ الكلامِ النديّ ويشعل فيه الحنينْ
وكانوا يلمّون أرواحهم حفنةً حفنةً في ضياع السنينْ
يموتونَ.. يحيونَ.. ينطفئونَ
وها هو طقس الحكايا
يُخامرهم بالفرات وبالأخضر القادم ـ الآن ـ من دمهِ ،
الذاهب ـ الآن ـ من دمه والظمأْ
الى كوكبٍ آخرٍ ما انطفأْ
وما حرثَتْهُ مرايا الصدأْ ! ـ.

(4)


ليركضَ كالبحر مرّ بسحنته العاريهْ
مساءً من اللهفة المشتهاة الى وهجٍ مترَفٍ ،
أو ينابيعَ مغسولةٍ برماد الفجيعهْ
ـ رمادِ المياه المضاجعِ جمرتَها الذاويهْ !

(5)


ليوغلَ كالليلِ دار على الأرضِ
واشتبكتْ بالنخيل ملامحُه وتوارى


( 318 )

بقايا من الحزنِ
سرباً من الأغنيات الحيارى
ومرَّ الى النهر في خلسةٍ واستدارْ
.. إستدارا
ليشهدَ موتَ النهارْ !!.
فرات الاسدي
3 / 11 / 1417 هـ



موت النهار

أشعر أن فرات الأسدي قد وجد تعبيريته المناسبة في هذه القصيدة الرؤيوية المركّبة بإدهاش متقن فهو في معظم شعره لايقترب من البساطة المجردة ولا يتعامل معها أبداً ، فالأشياء في شعره أشياء ضمن علاقات بل هو يقارب بين الأشياء التي لا علاقة بينها في تراكيب لفظية لينشيء حداثته بتأمل شعري متفلسف ، فقصيدته لها منطق خاص بها ولو تجرأنا فاستخدمنا شيئاً من المنطق العام أو بعض معطياته لتوصّلنا الى كشف منطق قصيدته أو شيء مشابه لذلك ، فموت النهار قائم على تقابل الموت مع الحياة التي جاء النهار هنا معادلاً لها لكن وفقاً للمشيئة التركيبية التي يعمل بهار الشاعر.
سيكون الصراع بين الموت والحياة ظاهراً بعلاقاته التي لها أطرافها


( 319 )

المتشابكة ، فالنهار سيقابل المساء وهو غير المقابل المنطقي للنهار أي الليل ومن هنا تبدو خصوصية منطق القصيدة الذي يجعل هذا المساء يركض كالبحر وفق العلاقة التي ذكرناها ( العلاقة بين الأشياء التي لا علاقة بينها ) لتتولد معان جديدة ويحتدم الجدل المتفلسف فيعرو التأمل الفلسفي شيء من منطق الشعر بأسئلة لها ملامح الطفولة التي تُرجع الفلفسة الى بداياتها ، فتبدأ جدلية العناصر الأربعة ( الماء ، التراب ، النار ، الهواء ) فعندما يمرّ المساء تمرّ خلف خطاه النجوم التي يشكّلها الشاعر كشجرة لها نسغ يُزهر فيه الضوء فتبتلّ السماوات بالبريق في علاقة بين الماء و النار عبر البلل وهو من خصائص فعل الماء ، وبين البريق وهو من خصائص فعل النار ، وبعد ذلك أراد المساء أن ينهض لكن كالبحر أيضا فمدّ مداه الغريق ، والمدى من خصائص الأرض فعندما إبتلّت السماوات بالبريق كان نصيب الأرض الغرق في شكل مدى المساء ، هذا على مستوى المعاني ، أما المباني فسيكون هناك تقابل بين ( ليركض كالبحر مرّ المساء ) مع ( لينهض كالبحر مدّ المساء ) هناك نظام تقفية داخلي مغاير لنظام التقفية التقليدي مع النظر الى العلاقة في الجناس الناقص بين الفعلين ( مرّ ) و ( مدّ ) بنفس الفاعل ( المساء ) مع إستخدام نظام تقفية خارجي في ( البريق ـ الغريق ) في شكل من الزوميات التي لو تواصلت لأورد الشاعر مثلاً لفظتي ( الحريق ـ الطريق ) اللتين جاء بهما الشاعر في صيغة الجمع ليكسر نظام التقفية لكنهما عَلقا في أللاشعور فتداعتا تداعاً حرّاً في المقطع اللاحق ( وألغى حرائقه السود فى الطرقات ) طرائق جهنمية سوداء تجعل المساء يتساءل أسئلة مصيرية مندهشة اثر الإلغاء وما تبعه من غلغلة الومض ومفاجأته... وينتهي المقطع.
المقطع الثاني حركة دورانية للغبار وهو من جهة معادل للمساء ومن جهة


( 320 )

اخرى جدل عنصرين من العناصر الأربعة ( الهواء ـ التراب ) وهنا جرى تشبيهه بالليل في إيغاله ( ليوغل كالليل دار الغبار ) يطوّق نبض التراب ويقصي الغيوم من جهة والنهر عن مائه من جهة اخرى ، وهذه الحركة أو الدوران الغباري تمنع التراب من اللقاء بالماء لكيلا تنتهي العلاقة بولادة الطين الذي هو أصل الإنسان ، وتقصي النهر عن الماء حتى وأن كان ماءً مستعاراً لتمنع حركة الحياة ويتم للغبار ذلك.
في المقطع الثالث كانت الهوادج تقابل الريح والهوادج عادة تحمل النساء وهنّ حاضنات الإمتداد الإنساني بنوعه في ولادتهنّ ، ليعلن الشاعر جدلية الإنتصار ويكون الحداء مفعماً ونابضاً بالحياة فهو ينطق بكلام له نداوة العشب المشتعل بالحنين للنمو والولادة في تقابل آخر مع الريح ، وتكتمل صورة القافلة التي تواجه الريح في تشكّل الموقف أمام ضياع السنين في لملمة شتات الأرواح لمواجهة الأسئلة المصيرية ( يموتون يحيون ) والسؤال الأخير ( ينطفئون ) والإنطفاء يعني موت النور أو موت النهار أمام الريح في جدل آخر بين ( النار والهواء ) لكن الحكايا تؤكد طقوسها وإنكشاف وعودها بالنَمَاء المتشكّل من الفرات والإخضرار الحسيني المتحرك حركتين : حركة قدوم الى الحياة المنطلقة الى الشهادة ، وحركة ذهاب بالدم والظمأ الى الخلود الأبدي التي لا تستطيع المرايا الصدئة أن تعكسه ، وهي لو عكسته ـ جدلا ـ فذلك مساء لفعل الحرث السلبي المشوه لا الايجابي المساوق لفكرة النماء ، كل ذلك في تعبيريه حديثة مكثفة مثل ( حرثته مرايا الصدا ) ! .
في المقطع الرابع ستكون هناك حركة مرورية للمساء الذي يتلهف الى مصرع الوهج والينابيع أي مصرع النور والماة فيرى الماء وهو أصل الخلق ( وجعلنا من


( 321 )

الماء كل شي حي ) يراه مغسولاً برماد الفجيعة ونلاحظ هنا تركيب ( رماد المياه ) حيث العلاقة بين عناصر ثلاث من العناصر الأربعة فالرماد هو جدل ( النار ـ التراب ) وهو هنا خاص بالمياه فتتواشج العناصر الثلاثة ( النار ـ التراب ـ الماء ) في علاقة غائبة مع العنصر الرابع ( الهواء ) الذي عادلته الريح أو الغبار الراجع في المقطع الخامس ليوغل كالليل ويدور على الأرض فتشتبك ملامحه مع النخيل الذي هو الرمز الواقعي للعطاء في الارض التي قُتل فيها النهار لبمر على النهر وهو رمز آخر عن واقع الأرض يحدد جغرافيتها ويستدير ليشهد موت النهار....
الإيحاء والإيماء والرمز كطرق للتعبير تواصلت في تصوير ليلة عاشوراء باسلوب فني فذّ لا يمتّ للتسجيل الواقعي والتوثيق التأريخي بأدنى صلة ، فالنهار كان رمزاً للإمام الحسين عليه السلام به تنفتح بوابات النص أمام المتلقي الذي يواجه أحد أفضل النصوص التي تناغمت مع ليلة عاشوراء.


( 322 )

23 ـ الشيخ قاسم آل قاسم (1)
بكائية كربلاء

يومُ الحسين تناهى ذكــره ألمــا * لو أنصف الدمعُ فيه لاستحال دمـا
بكت على رزئه الدنيا وما فتِئــتْ * حتى اليراعُ إذا خطّ ( الحسين ) هما
يظل يمتد في عُمق الزمـان لظـىً * يُثير بركانُها في قلبـه الحمـمــا
يُذكّي لهيبَ رزايا الطفّ ذاكرُهــا * كأن قلب الهوى يسلو إذا اضطرمـا
تغيّرت صور الأشياء يومَ قضــى * كأنّها قتلتهُ فانطــوت نـدمـــا
تبثّ آهاتِها خلفَ التــرابِ وقــد * غالته غائلةٌ واستهدفتـه دُمـــى
وطالما بثّها أحزانَــه سحـــراً * في الطفّ يُبدي لها من دهره سأمـا
أنا الحسينُ الذي أوصى النبيُّ بــه * فأين ضاعت وصاياه وما رَسمـا ؟
أنا الحسينُ واُمّي فاطـمٌ وأبـــي * كان الإمامَ الوصيَّ المُفردَ العلمــا
أنا الحسينُ ، فقالت زينبٌ وكفــى * بذكركَ الخير يا أعلى الورى قِدمـا
فقال يا أخت ماذا جدّ مـن حـدثٍ * حتى أموت غريب الدار مهتضما ؟
ماذا جنيتُ ؟ فقالت يا أخي وبكـت * لأنك ابن عليٍّ والمصـابُ نمــا
فقلّبَ السيفَ في كفّيهِ وارتعــدتْ * يدُ السماءِ وناداها : وهل أثِمــا ؟

____________
(1) هو : الشاعر الفاضل الشيخ قاسم بن عبدالشهيد بن علي آل قاسم ، ولد في القديح ـ القطيف سنة 1382 هـ ، حاز على الشهادة الثانوية العامة ( القسم العلمي ) وإبتدأ دراسته الحوزوية في القطيف عام 1407 هـ ثم غادرها إلى قم المقدسة عام 1412 هـ حيث يحضر الآن مرحلة البحث الخارج ، ومن نتاجه الأدبي : 1 ـ ديوان شعر ( مخطوط ) ، ومن نتاجه العلمي : 2 ـ بحث في نشأة اللغة وحقيقة الوضع ، وله مشاركة في النوادي الثقافية والدينية.

( 323 )

كأنهمْ نكروا منــه مواقفَـــهُ * في حربِ آبائهم قِدماً وما رحمـا
لم يُثنه عزمُه عن قَطعِ دابـرهِم * ولم يكن يرعَ في أعدائه ذِمَمــا
حتى تواصوا على إفناء عترتـه * قتلاً وهتكاً وجاؤوا يركبون عمى
وما دروا أنّنا أسيافُ حيــدرةٍ * أصداؤنا أورثتهم في الوغى صَمَما
وكيف نرضى بما تأباهُ عزّتُنــا * لعصبةٍ لم نكن نرضى بهم خدمـا
فأسبلت عبراتٍ ملـؤها الـــمٌ * كأنّما قلبها في دمعهـا انسجمــا
وفي غدٍ يتفانى جمعُكُم وأنـــا * أراكُم جُثثاً فوق الثـرى رممــا
يا ليتما طال ليلي والحسينُ معي * وذاكَ شبلُ عليٍّ يَحرسُ الخيمــا
لكنّها أشرقت شمسُ الصباحِ بهـا * وظلَّ يقتاتُهم صرفُ الردى نَهِمـا
حتى تقضّت مناياهُمْ وأفردَهــا * جورُ الزمان ، وساقوهُنّ سَوقَ إما
يومٌ تَكَشّفَ عن دُنيّـاً مزيّفــةٍ * داست بأقدامها الإسـلام والقيمـا
عجبتُ كيف يواريه ثرى جـدثٍ * وكيف تحويه أرضٌ والحسينُ سَما
أليس ذا وأخوه طالمـا ارتقيــا * كتفَ النبيِّ « ونعم الراكبانِ هُما »
وكيف خَلّف أُختاً لا حياةَ لهــا * إلاّ على قلبــه لكنــه انثلمــا
وكيف مرّت على أشلائه ورنت * بنظرةٍ تتحرّى الكـفَّ والقَدَمــا
كانت به تُبصر الأشياءَ فانكسفت * أنوارُه فاستوت في عينها عدمــا
كانت له ساعداً في يوم محنتــه * وشاطرتُه الرزايا غُربةً وظمــا
لكنّها امرأةٌ مثكولــةٌ ورثــت * على مصائبها الأيتامَ والحُرمــا

قاسم آل قاسم
الخميس 1 / 11 / 1416 هـ




( 324 )

الشيخ قاسم آل قاسم
قصيدة آل قاسم باحثة عن الجدوى مما حدث ومبينة للأسباب التي أوصلت النتائج فهي برهانية السجيّة ، منطقية الترتيب لبست هنا حلّة الشعر كأداة إيصال لبحثها وإستنتاجاتها فهي راقبت ماوراء الظواهر لكن لتصل الى الفحوى والعبرة واقتفاء الأثر ، فهي مهتمّة بما ينير الدرب للسالك الباحث عن الجدوى ، وهي زاهدة بالجمال العارض وإن كانت تجاوره وتحاوره وتساقيه بأكؤوسها العرفانية غير المليئة تماماً ، فهي تتعهد الجمال كحالة خيّرة ولا تُصاحبه إلا لأنّه وعاء لما هو حق صُراح ، لكن مجاهدته للحيلولة دون أن يفلت الجميل المحسوس من لسانه تبقى مجاهدة ناقصة فنلاحظ أنّ الجمالية تطغى على براهينه وسلوكه وزهده ومجاهدته لتقول له : ( إنني شعر تقوله شفتاك بعد أن إحتدم في داخلك وإنكشف أمام المتلقين مظهراً إزدواجية الجدوى وإنشطار السلوك وتشظّي المجاهدة لأن لي وجوداً أصيلاً فيك بلا تواضع ، وأسّاً غائراً في روحيتك بلا زهد ) ، وأنا كمتتبع لنتاج آل قاسم أراه قد كتب هذه القصيدة بأصابعه التي حملت قلمه ، سوى بعض الأبيات التي فرّت من أسار التعجل المقصود مثل :

عجبت كيف يواريه ثرى جدث * وكيف تحويه أرض والحسين سما ؟

أو مثل هذين البيتين :

وكيف مرت على أشلائه ورنت * بنظرة تتحرّى الكفّ والقدمــا
كانت به تُبصر الأشياء فانكسفت * أنواره فاستوت في عينها عدما

لكننا رأينا في تجاربه الأخيرة منحى جديداً يعيده ـ إن لم يقدمه ـ الى مكانه في الصف الشعري المتقدم.


( 325 )

24 ـ للشيخ لطف الله الحكيم (1)

الشهب الزاهية

أبكي الحسينَ وآلَهُ في كربــلا * قُتلوا على ظمأٍ دَوينَ المنـهــلِ
مَاتوا وَما بلّوا حرارات الحشـا * إلا بطعنةِ ذابـلٍ أو منـصــلِ
يا كربلا مَا أنـتِ إلا كربــةٌ * ذِكرَاك أحزنني وَساقَ الكربَ لي
مُذ أقبلَ الجيشُ اللَهـام كأنَــهُ * قِطَعُ الغَمامِ وجُنحُ ليـلٍ أليّــل
بأبي وَبي أنصارَهُ مِنْ حَولــهِ * كَالشُهبِ تزهوِ في ظَلامِ القسطلِ
أفديه وهو مُخاطبٌ أنصــارَهُ * يَدعوهُمُ بلطيـفِ ذَاكَ المِقــولِ
يا قومُ مَنْ يَردِ السلامةَ فليجـدَّ * السيرَ قَبلَ الصُبـحِ وليترَحــلِ
فالكُلُ قالَ لَهُ على الدُنيا العفـا * والعيشُ بَعدكَ يا ربيعَ المُمحَـلِ
أنفرُّ عنكَ مخافةَ الموتِ الـذي * لا بُدَ منهُ لمُسـرعٍ أو مُمهِــلِ
واللهِ طعمُ الموتِ دونَكَ عِندنـا * حُلوٌ كطعمِ السلسبيـلِ السلسَـلِ
فجزاهُمُ خيراً وقال ألإ انهضوا * هَيـا سُراعـاً للرحيــل الأوّلِ
فتوطأوا الجُردَ العُتاقَ وَجردُوا * البيضَ الرقاقِ بسُمرِ خطٍ ذُبَّـلِ

____________
(1) هو : المرحوم الشيخ لطف الله بن يحيى بن عبد الله بن راشد بن علي بن عبد علي بن محمد الحكيم الخُطي ، كان فاضلاً تقياً ورعاً ، له أياد بيضاء أوجبت محبتَهُ في القلوب ، له مَراثٍ كثيرة في أهل البيت عليهم السلام. أدب الطف للسيد جواد شبر : ج7 ، ص279.

( 326 )

مِنْ فَوِقِ كُلِ آمونٍ عثـراتِ الخِطـى * صافي الطلاءِ مُطهّــمٍ وَمحَجّـــلِ
ما زالَ صَدرُ الدستِ صدرَ الرتبةِ الـ * عُلياء صدرَ الجيشِ صـدرَ المحفــلِ
يَتطاولـون كــأنَهُم اســـدٌ على * حُمرٍ فتنفِــرُ كالنعَـــامِ الجُفَــلِ
وَمضوا على اسمِ الله بيـنَ مُكبــرٍ * ومُسبــحٍ ومُقـــدسٍ ومُهلـــلِ
يَتسِابقونَ إلى المنــونِ تَسابقُ الهـ * يمِ العِطـاش إلــى وَرِود المَنهَــلِ
حتى قَضوا فرضَ الجهادِ وصُرِعُـواِ * فَوقَ الوِهَاد كُشهـب أُفــقٍ أفـــل
صَلى الالَهُ عَليهِـــمُ وَسلامُـــهُ * وَسقى ثَراهُمْ صَوبَ كُلِ مُجلجـلِ (1)

____________
(1) أدب الطف للسيد جواد شبر : ج7 ، ص279 ـ 280.