بسم الله الرحمن الرحيم
( ونريد أن نمنّ على الّذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين )

القصص : 5


( 50 )


( 51 )

( مقدّمة المؤلف )


( 52 )


( 53 )

ليس المهدي تجسيدأ لعقيدة إسلامية ذات طابع ديني فحسب ، بل هو عنوان لطموح ائحهت إليه البشرية بمختلف أديانهها ومذاهبها ، وصياغة لإلهام فطري (1) ، أدرك الناس من خلاله ـ على الرغم من تنوع عقائدهم ووسائلهم إلى الغيب ـ أن للإنسانية يومأ موعودأ على الأرض ، تحقّق فيه رسالات السماء بمغزاها الكبير ، وهدفها النهائي ، وتجد فيه المسيرة المكدودة للإنسان على مز التاريخ استقرارها وطمأنينتها ، بعد عنا طويل. بل لم يقتصر الشعور بهذا اليوم الغيي والمستقبل المنتظر على المؤمنين دينيأ بالغيب ، بل امتذ إلى غيرهم أيضأ وانعكس حتى على أشذ الإيديولوجيات والاتجاهات العقائدية رفضأ للغيب والغيبيات ، كالمادية الجدلية التي فشرت التاريخ على أساس التناقضات ، وآمنت بيوم موعود (2) ، تصفّى
____________
(1) إشارة إلى أن هذا ارتكاز في ضمير الإنسانية ، واعتقاد سائد عند أغلب شعوب الأرض ، إذ هناك شعور قويّ يخالجُ وجدان الإنسان بظهور المنقذ عندما تتعقد الأمور ، وتتعاظم المحنة ، وتدلهم الخطوب ، ويطبق الظلم ، وهو ما تبثئر به الأديان ، ومجكيه تاريخ الحضارات الإنسانية. راجع : سيرة الأئمة الاثني عثر | هاشم معروف الحسني 2 : 516 فما نقله عن الكتب والمصادر ، ومنها : نظرية الإمامة عند الشيعة | الدكتور أحمد محمود صبحي.
(2) إشارة إلى معتقد الماركسيين وأمانيهم باليوم الموعود حيث ستسود الشيوعية ـ كما يعتقدون ـ آخر الأمر ويتوقف الصراع المرير استنادأ إلى نظريتهم الشهيرة في المادية التاريخية. راجع : فلسفتنا | الشهيد الصدرح! : ص 26 في عرض النظرية ومناقن!تها.

( 54 )

فيه كل تلك التناقضات ويسود فيه الوئام والسلام . وهكذا نجد أن التجربة النفسية لهذا الشعور التي مارستها الإنسانيه على مر الزمن ، من أوسع التجارب النفسية وأكثرها عمومأ بين أفراد الإنسان.
وحينما يدعم الدين هذا الشعور النفسي العام ، ويؤكد أن الأرض في نهاية المطاف ستمتلى قسطأ وعدلأ بعد أن ئيئت ظلما وجوراً (1) ، يعطي لذلك الشعور قيمته الموضوعية ويحوله إلى إيمان حاسم بمستقبل المسيرة الإنسانية ، وهذا الإيمان ليس مجرد مصدر للسلوة والعزاء فحسب ، بل مصدر عطاء وقوة. فهو مصدر عطاء ؟ لأن الإيمان بالمهدي إيمان برفض الظلم والجور حتى وهو يسود الدنيا كلها ، وهو مصدر قوة ودفع لا تنضب (2) ؛ لأنه بصيص نور يقاوم اليأس في نفس الإنسان ، ويحافظ على الأمل إلمشتعل في صدره مهما ادالفت الخطوب وتعملق الظلم ؟ لأن اليوم الموعود يثبت أن بإمكان العدل أن يواجه عالمأ مليئأ بالظلم والجور فيزعزع ما فيه من أركان الظلم ، ويقيم بناءه من جديد (3) ، وأن الظلم مهما نجبز وامتذ في أرجاء العالم وسيطر على مقذراته ، فهو حالة غير طبيعية ، ولا بذ أن يخهزم (4) . وتلك ا الزيمة الكبرى المحتومة للظلم وهو في قة مجده ، تضع الأمل كبيرأ
____________
(1) إشارة إلى الحديث الثريف المتواتر : «لو لم يبق من الدهر إلا يومٌ لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً» . راجع : صحيح سنن المصطنى لأب داود 2 : 207 ، وراجع : التاج الجامع للأصول للشيخ منصور علي ناصف 5 : 343.
(2) هذا ردٌّ على من يزعم بأن العقيدة ني الإمام المهدي تورث الخمول والسلبية ، وهو أبلغ رد مستفاد من الحديث الشريف نفسه.
(3) إشارة إلى دولة الإمام عليه السلام التي أشار إليها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ، راجع : التاج الجامع للأصول 5 : 343.
(4) إشارة إلى الوعد الإلهي في قوله تعالى : (ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين) القصص : 5 وأيضاً إشارة إلى قوله تعالى : (ليظهره على

( 55 )

أمام كل فرد مظلوم ، وكل أفة مظلومة ، في القدرة على تغيير الميزان وإعادة البناء.
وإذا كانت فكرة المهدي أقدم من الإسلام وأوسع منه ، فإن معالمها التفصيلية التي حددها الإسلام جاءت أكز إشباعأ لكل الطموحات التي انشذت إلى هذه الفكرة منذ فجر التاريخ الديني ، وأغنى عطاث وأقوى إثارة لأحاسيس المظلومين والمعذبين على مز التاريخ. وذلك لأن الإسلام حؤل الفكرة من غيب إلى واقع ، ومن مستقبل إلى حاضر ، ومن التطفع إلى منقذ تخمخض عنه الدنيا في المستقبل البعيد المجهول إلى الإيمان بوجود المنقذ فعلاً ، وتطفعه مع المتطفعين إلى اليوم الموعود ، واكمال كل الظروف التي تسمح له بممارسة دوره العظجم. فلم يعد المهدي فكرة ننتظر ولادتهها ، ونبوءة نتطفع إلى مصداقها ، بل واقعأ قائمأ ننتظر فاعليته ، وإنسانأ معئنأ يعيش بيننا بلحمه ودمه ، نراه ويرانا ، ويعيش مع آمالنا وآلامنا ، ويشاركنا أحزاننا وأفراحنا ، ويثمهد كل ما تزخر به الساحة على وجه الأرض من عذاب المعذبين وبؤس البائسين وظلم الظالمين ، ويكتوي بكل ذلك من قريب أو بعيد ، وينتظر بلهفة اللحظة التي يتاح له فيها أن يمذ يده إلى كل مظلوم ، وكل محروم (1) ، وكل بائس ، ويقطع دابر الظالمين.
وقد فذر الذا القائد المنتظر أن لا يعلن عن نفسه ، ولا يكشف للآخرين
____________
الدّين كلّه ولو كره المشركون) التوبة : 33. راجع في تفسير الآيتين الإشارة إلى المهدي عليه السلام ينابيع المودة | القندوزي الحنفي : ص 450.
(1) إشارة إلى بشارة الرسول الأعظم نبينا محمد صلى الله عليه وآله في الحديث الشريف : لا إن في أفتي المهدي ، يخرج يعيش خمساً أو سبعأ أو تسعأ (الشك من الراوي) قال : قلنا : وما ذاك ؟ قال : سنين ، قال : فيجيء إليه الرجل فيقول يا مهدي أعطني أعطني قال : فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمله ، رواه الترمذي. راجع : التاج الجامع للأصول | الشيخ منصور علي ناصف 5 : 343 وفيه أكز من إشارة إلى كون الإمام المهدي موجود حي يعيش في وسط الأفة ، وأن خروجه وعيشه ، سبع سنين يعني ظهوره وقيام دولته المباركة التي فيها الخلاص والعدل.

( 56 )

حياته على الرغم من أنه يعيش معهم انتظارأ لفحظة الموعودة.
ومن الواضح أن الفكرة جمهذه المعالم الإسلامية ، تقرّب الهوّة الغيبية بين المظلومين كل المظلومين والمنقذ المنتظر ، وتجعل الجسر بينهم وبينه في شعورهم النفسي قصيرأ مهما طال الانتظار.
ونحن حيما يراد منا أن نؤمن بفكرة المهدي ، بوصفها تعبيرأ عن إنسان حيّ محدد يعيش فعلاً كما نعيش ، ويترقب كما نترقب ، يراد الإمجاء إلينا بأن فكرة الرفض المطلق لكل ظلم وجور التي يمثلها المهدي ، تجشدت فعلاً في القائد الرافض المنتظر ، الذي سيظهر وليس في عنقه بيعة لظالم كما في الحديث (1) ، وأن الإيمان به إيمان جمهذا الرفض الحي القائم فعلاً ومواكبة له.
وقد ورد في الأحاديث الحث المتواعل على انتظار الفرج ، ومطالبة المؤمنين بالمهدي أن يكونوا بانتظاره. وفي ذلك تحقيق لتلك الرابطة الروحية ، والصلة الوجدانية بينهم وبين القائد الرافض ، وكل ما يرمز إليه من قيم ، وهي رابطة وصلة ليس بالإمكان إمجادها ما لم يكن المهدي قد تجشد فعلاً في إنسان حيّ معاصر (2) .
وهكذا نلاحظ أن هذا التجسيد أعطى الفكرة زخهاً جديداً ، وجعل منها
____________
(1) ورد عنه عليه السلام أنه سيظهر وليس في عنقه بيعة لظالم ، راجع : الاحتجاج | الطبرسي 2 : 545 .
(2) إشارة إلى أن (المهدي) ليس مجرد خفم أو فكرة ئداعب أفكار المظلومين وتناغي ضعورهم ، بل هو حقيقة حيّة مجشدة متشخصة في ذات إنسان بعينه ، ومن هنا تكون الفكرة مُلامسة لوجدانهم ، يعيشون بها ، ويعيشون لها ، ويسهمون في التحضير والتهيئة للالتحام في المعركة الفاصلة التي سيقودها القائد المنتظر ، ولو كانت مجرد خلم أو فكرة ، فليس من المتوقع أن تكون مثل تلك الصلة الوجدانية والنعورية. ومن هنا تتأتى أهمّية الانتظار ، وتبين فلسفته وغاياته ، وهو في جملته يتّسق مع حالة الترقب والإرهاص التي تسبق ظهور المنقذين من الأنبياء والمصلحين.

( 57 )

مصدر عطاء وقوة بدرجة أكبر ، إضافة إلى ما يجده أي إنسان رافض من سلوة وعزاء وتخفيف لما يقاسيه من آلام الظلم والحرمان ، حين يحسّ أن إمامه وقائده يشاركه هذه الآلام ويتحسّس بها فعلاً بحكم كونه إنسانأ معاصرأ ، يعيش معه وليس مجرد فكرة مستقبلية.
ولكن التجسيد المذكور أدى في نفس الوقت إلى مواقف سلبية تجاه فكرة المهدي نفسها (1) لدى عدد من الناس ، الذين صعب عليهم أن يتصوروا ذلك ويفتر ضوه.
فهم يتساءلون !
إذا كان المهدي يعبّر عن إنسان حيّ ، عاصركل هذه الأجيال المتعاقبة منذ أكثر من عشرة قرون ، وسيظل يعاصر امتداداتها إلى أن يظهر على الساحة ، فكيف تأتى لهذا الانسان ان أن يعيش هذا العمر الطويل ، وينجو من قوانين الطبيعة التي تفرض على كل إنسان أن يمز بمرحلة الشيخوخة والهرم ، في وقت سابق على ذلك جدأ ، وتؤدي به تلك المرحلة طبيعيأ إلى الموت ؟ أو ليس ذلك مستحيلاً من الناحية الواقعية ؟ (2)
____________
(1) اختلفت الآراء وتباينت المواقف من مسألة المهدي المنتظر ، تبعاً لاختلاف المواقف من مسألة الغيب الديني والنصوص الدينية المشهورة والمتواترة ، على أن هناك إطباقأ بين علماء المسلمين والمحققين من أهل الحديث من السنة والشيعة على صحة العقيدة بالمهدي ، وعدم جواز التشكيك بها حتى جاء في المأثور : «مَنْ أنْكَرَ المَهْدي فَقد كَفَر...» وقد استوفى هذه المسألة بحثاً الشيخ عبدالمحسن عباد في محاضرته التي نثرتهأ مجلة الجامعة الإسلامية | العدد الثالث | 1969 م. وراجع : غاية المأمول شرح التاج الجامع للأصول للشيخ منصور علي ناصف 5 : 343.
(2) هذا تساؤل فريق من الناس ، والواقع أنه يمكن تسجيل الملاحظة السريعة الآتية ، وإن كان سيأتي جوابه تفصيلأ :

( 58 )

ويتساءلون أيضاً !
لماذا كل هذا الحرص من الله ـ سبحانه وتعالى ـ على هذا الإنسان بالذات ؟ فتعطّل من أجله القوانين الطبيعية (1) ، وئفعل المستحيل لإطالة عمره والاحتفاظ به لليوم الموعود ، فهل عقمت البشرية عن إنتاج القادة الأكفاء ؟ ولماذا لا يترك اليوم الموعود لقائد يولد (2) مع فجر ذلك اليوم ، وينمو كما ينمو الناس ، ويمارس دوره بالتدريج حتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلما وجوراً ؟
ويتساءلون أيضاً !
إذا كان المهدي اسما لشخص محدّد هو ابن الإمام الحادي عشر (3) من أئمة
____________
أ ـ إنه ليس مستحيلأبالمعنى المنطتي ، بل هوفي دائرة الإمكان.
ب ـ إنه ليس مستحيلاً عادة ؟ لوقوع نظاثر ذلك فعلاًً كما نصّ القرآن الكريم في مسألة نوح عليه السلام في قوله تعالى : (ِفَلَبثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً) العنكبوت : 14.
(1) إن تعطيل القوانين الطبيعية قد حدث مرارأ بالنسبة إلى معاجز الأنبياء عليهم السلام ، وهذا أمز ضروري من الدين لا مجال لنكرانه فإذا أخبر بذلك من وجبت تصديقه جاز بلا خلاف.
(2) هذا إشارة إلى عقيدة طوائف من إخواننا أهل السنّة. راجع : التاج الجامع للأصول 5 : 360 ا الامثى.
(3) هذا التساؤل أثير من قبل ويثار اليوم ، بأساليب مختلفة ، وكلها تستند إلى موهومات وافتراضات لا تقوم على أساسٍ من العلم ، بل هي مجرد تشكيكات ، ومحاولات بائسة للفرار من أصل القضية ولوازمها الضرورية ، فهي لا تعدو أن تكون أشبه بتشكيكات الماديين عندما جوبهوا بأدلة العقل والمنطق والعلم فما يتعلق بالله تعالى ، فلجأوا إلى تساؤلات ساذجة تحكي عدم إيمانهم بما قامت عليه الأدلة الوفيرة ، نظير قولهم : لو كان موجوداً فلماذا لا نراه ؟ ولماذا لايفعل كذا وكيت ؟
وهكذا شأن هؤلاء ، فعندما جوبهوا بالأدلة المنطقية والروايات المتواترة في مسألة المهدي المنتظر مما أطبق عليه الخاص والعام وبما لايسع المرء إنكاره ، لجأوا إلى التشكيك في أنه لم يعرف

( 59 )

أهل البيت عليهم السلام الذي ولد سنة (256 هـ) (1) وتوفي أبوه سنة (260 هـ) ، فهذا يعني أنه كان طفلاً صغيراً عند موت أبيه ، لا يتجاوز خمس سنوات وهي سن لا تكفي للمرور بمرحلة إعداد فكري وديني كامل على يد أبيه ، فكيف وبأي طريقة يكتمل إعداد هذا الشخص(2) لممارسة دوره الكبير ، دينياً وفكرياً وعلمياً ؟
ويتساءلون أيضاً!
إذا كان القائد جاهزاً ، فلماذا كلّ هذا الانتظار الطويل مئات السنين ؟
أوَليس في ما شهده العالم من المحن والكوارث الاجتماعية ما يبرّر
____________
(1) لقد أثبت الشيخ المفيد في الإرشاد : ص 346 ، والشيخ السعران في اليواقيت والجواهر ج 2 | المبحث 65 ، ولادة محمد بن الحسن العسكري في عام 255 هـ ، وهما من أجلة المحققين لدى الفريقين ، وهذا ما يدحض التشكيكات التي يثيرها بعض أدعياء العلم ، فضلأ على ما يقتضيه الحديث المتواتر : لأ الأئمة اثنا دثر كلهم من قريش ؟ ، فهو لايستقيم إلأ بما تقرر لدى الإمامية ، وبما التزموا به من إمامة اثني عشر إمامأ كلهم من العترة الطاهرة ، أوالم الإمام علي ابن أب طالب عليه السلام ، وآخرهم المهدي . وهؤلاء هم المنصوص عليهم ، ويدعم ذلك ويشهد له حديث الثقلين المتواتر ، وحديث من مات لايعرف إمام زمانه ، فهما لايستقيمان إلا على عقيدة الإمامية الاثني عشرية . راجع مناقشة وافية في : الأصول العامة للفقه المقارن | العلامة محمد تقي الحكيم | بحث حجية السنّة : ص 145 وما بعدها.
(2) إن الذي تعهّد وتكفل بإعداد النبي عيسى عليه السلام ، ووهب النبي يحبى الحكم والحكة وهو صبيّ ، كما صرّح القرآن ، يمكن أن يتعهّد ويتكفل بمن أعدّه لتطهير الأرض من الظلم والجور في آخر الزمان ، كما هو نمق الخبر المتواتر في المهدي الزي هو من عترة فاطمة وذرية الحسين عليه السلام . راجع : التاج الجامع للأصول 5 : 341 ـ 343.

( 60 )

بروزه (1) على الساحة وإقامة العدل على الأرض ؟
ويتساءلون أيضأ!
كيف نستطيع أن نؤمن بوجود المهدي ، حتى لو افترضنا أن هذا ممكن ؟ وهل يسوغ لإنسان أن يعتقد بصحة فرضية من هذا القبيل دون أن يقوم عليها دليل علمي أوشرعي قاطع ؟ (2) وهل تكفي بضع روايات تنقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا نعلم مدى صحتها (3) للتسليم بالفرضية المذكورة ؟
ويتساءلون أيضأ بالنسبة إلى ما أعدّ له هذا الفرد من دور في اليوم الموعود!
كيف يمكن أن يكون للفرد هذا الدور العظيم الحاسمم في حياة العالم ؟! مع أن الفرد مهما كان عظيما لا يمكنه أن يصنع بنفسه التاريخ ، ويدخل به مرحلة جديدة ، وإنما تختمر بذور الحركة التاريخية وجذوتها في الظروف الموضوعية وتناقضاتها ، وعظمة الفرد (4) هي التي ترشحه لكي يشكل الواجهة لتلك الظروف الموضوعية ، والتعبير العملي عما تتطلبه من حلول ؟
____________
(1) إن هذه المسألة مرهونة باشتراطاتها الخاصة ، وكما تأخر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى زمن ظهوره المبارك لحكم وامور اقتضتها حكمة المرسل (الله) تعالى على رغم الاحتياج إليه ، فكذا الأمر هنا.
(2) سيناقش الشهيد الصدر هذه المسألة تفصيلأ.
(3) الواقع ـ وكا سيأتي ـ أنّ علماء الأمة الإسلامية أجمعوا على صحة أحاديث المهدي عليه السلام ، ولم يشذ إلا من هو ليس من أهل المعرفة بالحديث. راجع : التاج الجامع للأصول 5 : 361.
(4) لقد رأينا كيف صنع (الأبطال) تاريخ أممهم ، على أن الشهيد الصدر قدس سره هنا يقدّم فهما أصيلأ ومهما جدأ لحركة التاريخ ودور الفرد البطل ، وأمية الظروف الموضوعية في التأثير. وقد أشار توماس كارليل في كتابه (الأبطال) إلى دور البطل. راجع كتابه المذكور ، ترجمة الدكتور السباعي ـ مصر ـ سلسلة الألف كتاب.

( 61 )

ويتساءلون أيضأ!
ما هي الطريقة التي يمكن أن نتصور من خلالها ما سيتمُّ على يد ذلك الفرد من تحوّل هائل وانتصار حاسم للعدل ورسالة العدل على كل كيانات الظلم والجور والطغيان ، على الرغم مما تملك من سلطان ونفوذ ، وما يتواجد لديها من وسائل الدمار والتدمير ، وما وصلت إليه من المستوى الهائل في الإمكانات العلمية والقدرة السياسية والاجتماعية والعسكرية ؟ (1)
هذه أسئلة قد تتردد في هذا المجال وتقال بشكل وآخر ، وليست البواعث الحقيقية لهذه الأسئلة فكرية فحسب ، بل هناك مصدر نفسي لها أيضأ ، وهو الشعور بهيبة الواقع المسيطر عالمياً ، وضآلة أي فرصة لتغييره من الجذور ، وبقدر ما يبعثه الواقع الذي يسود العالم على مز الزمن من هذا الشعور ، تتعمق الشكوك وتترادف التساؤلات. وهكذا تؤدي الهزيمة والضآلة والشعور بالضعف لدى الإنسان إلى أن يحسّ نفسياً بإرهاق شديد ، لمجرد تصور عملية التغيير الكبرى للعالم التي تفرغه من كل تناقضاته ومظالمه التاريخية ، وتعطيه محتوىً جديداً قائماً على أساس الحق والعدل ، وهذا الإرهاق يدعوه إلى التشكك في هذه الصورة ومحاولة رفضها لسبب وآخر.
ونحن الآن نأخذ التساؤلات السابقة تباعأ ؟ لنقف عند كل واحد منها وقفة قصيرة بالقدر الذي تتسع له هذه الوريقات.
____________
(1) في هذا إشارة إلى أسلحة الدمار (الشامل) فضلأ عن التطور التكنولوجي الذي شمل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة وتأثيراتها الهانلة. إلأ أننا شهدنا كيف توجد بالمقابل الأسلحة المضادة التي كثيراً ما تعطّل تلك التأثيرات ، وكذلك رأينا تأثير المعنويات في إبطال مفعول أسلحة الخصم المختلفة أو التقليل من آثارها إلى حدّ كبير جداً ، كما حدث في الثورات والانتفاضات الشعبية.
( 62 )


( 63 )

(المبحث الأوّل)

كيف تأتّى للمهدي
هذا العمر الطويل ؟




( 64 )


( 65 )

هل بالإمكان أن يعيش الإنسان قروناً كثيرة كما هو المفترض في هذا القائد المنتظر لتغيير العالم ، الذي يبلغ عمره الشريف فعلاًً أكثر من ألف ومائة وأربعين سنة ، أي حوالي (14) مرة بقدر عمر الإنسان الاعتيادي الذي يمرّ بكل المراحل الاعتيادية من الطفولة إلى الشيخوخة ؟
كلمة الإمكان هنا تعني أحد ثلاثة معاني : الإمكان العملي ، والإمكان العلمي ، والإمكان المنطقي أو الفلسفي .
وأقصد بالإمكان العملي : أن يكون الشيء ممكناً على نحو يتاح لي أو لك ، أو لإنسان آخر فعلاًً أن يحققه ، فالسفر عبر المحيط ، والوصول إلى قاع البحر ، والصعود إلى القمر ، أشياء أصبح الا إمكان عملي فعلاًً . فهناك من يمارس هذه الأشياء فعلاًً بشكل وآخر (1) .
وأقصد بالإمكان العلمي : أن هناك أشياء قد لا يكون بالإمكان عمليأ لي أو لك ، أن تُمارسها فعلاًً بوسائل المدنية المعاصرة ، ولكن لا يوجد لدى العلم ولا
____________
(1) ولم تكن مثل هذه الأمور بمتصورة سابقاً قبل وقوعها ، ولو حَدّثَ بها أحد من الناس قبل تحققها فعلاًً لعدّ الحديث مجرد تخيلات وأوهام.
( 66 )

تشير اتجاهاته المتحركة إلى ما يبرر رفض إمكان هذه الأشياء ووقوعها وفقاً لظروف ووسائل خاصة ، فصعود الإنسان إلى كوكب الزهرة لا يوجد في العلم ما يرفض وقوعه ، بل إن اتجاهاته القائمة فعلاً تشير إلى إمكان ذلك ، وإن لم يكن الصعود فعلاً ميسورأ لي أو لك ؟ لأن الفارق بين الصعود إلى الزهرة والصعود إلى القمر ليس إلأ فارق درجة ، ولا يمثل الصعود إلى الزهرة إلأ مرحلة تذليل الصعاب الإضافية التي تنشأ من كون المسافة أبعد ، فالصعود إلى الزهرة ممكن علمياً وإن لم يكن ممكنأ عمليأ فعلاً (1) . وعلى العكس من ذلك الصعود إلى قرص الشمس في كبد السماء فإثه غير ممكن علمياً ، بمعنى أن العلم لا أمل له في وقوع ذلك ، إذ لا يتصور علمياً ، وتجريبيأ إمكانية صنع ذلك الدرع الواقي من الاحتراق بحرارة الشمس ، التي تمثل أئونأ هائلأ مستعرأ بأعلى درجة تخطر على بال إنسان.
وأقصد بالإمكان المنطقي أو الفلسفي : أن لا يوجد لدى العقل وفق ما يدركه من قوانين قَبْلية ـ أي سابقة على التجربة ـ ما يبرر رفض الشيء والحكم باستحالته .
فوجود ثلاث برتقالات تنقسم بالتساوي وبدون كسر إلى نصفين ليس له إمكان منطتي ؟ لأن العقل يدرك ـ قبل أن يمارس أي تجربةـ أن الثلاثة عدد فردي وليس زوجاً ، فلا يمكن أن تنقسم بالتساوي ؟ لأن انقسامها بالتساوي يعني كونها زوجاً ، فتكون فردأ وزوجاً في وقت واحد ، وهذا تناقض ، والتناقض مستحيل منطقيأ. ولكن دخول الإنسان في النار دون أن يحترق ، وصعوده للشمس دون أن تحرقه الشمس بحرارتها ليس مستحيلاً من الناحية المنطقية ، إذ لا تناقض في
____________
(1) الكلام في وقته دقيق علمياًً ، فهو يقول : إنه ممكن علمياً ، ولكنه لم يكن قد تحقق فعلاً ، والواقع أن كثيراً من الإنجازات في عالم الفضاء ، وتسيير المركبات الفضائية إلى كواكب وتوابع الأرض وغيرها قد أصبح حقائق في أواخر القرن العشرين.
( 67 )

افتراض أن الهرارة لا تتسرب من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة ، وإئما هو مخالف للتجربة التي أثبتت تسرب الحرارة من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة إلى أن يتساوى الجسمان في الحرارة.
وهكذا نعرف أن الإمكان المنطقي أوسع دائرة من الإمكان العلمي ، وهذا أوسع دائرة من الإمكان العملي.
ولا شذ في أن امتداد عمر الإنسان آلاف السنين ممكن منطقيأ ؟ لأن ذلك ليس مستحيلاً من وجهة نظر عقلية تجريدية ، ولا يوجد في افتراض من هذا القبيل أي تناقض ؟ لأن الحياة كمفهوم لا تستبطن الموت السريع ، ولا نقاش في ذلك.
كما لا شكّ أيضأ ولا نقاش في أن هذا العمر الطويل ليس ممكنأ إمكانأ عمليأ ، على نحو الإمكانات العملية للنزول إلى قاع البحر أو الصعود إلى القمر ، ذلك لأن العلم بوسائله وأدواته الحاضرة فعلاً ، والمتاحة من خلال التجربة البشرية المعاصرة ، لا تستطيع أن تمدد عمر الإنسان مئات السنين ، ولهذا نجد أن أكثر الناس حرصأ على الحياة وقدرة على تسخير إمكانات العلم ، لا يحتاح لهم من العمر إلاّ بقدر ما هو مألوف.
وأما الإمكان العلمي فلا يوجد عملياً اليوم ما يبرر رفض ذلك من الناحية النظرية (1). وهذا بحث يتصل في الحقيقة بنوعية التفسير الفسلجي لظاهرة الشيخوخة والهرم لدى الإنسان ، فهل تعبز هذه الظاهرة عن قانون طبيعي يفرض على أنسجة جسم الإنسان وخلاياه ـ بعد أن تبلغ قمة نموها ـ أن تتصلب بالتدريج
____________
(1) نعم ، لا يوجد مبرر علمي واحد يرفض هذه النظرية ، بل إن علماء الطبّ منشغلون فعلاً بمحاولات حثيثة لإطالة عمر الإنسان ، وإن هناك عشرات التجارب التي تتممّ في هذا المجال ، وذلك وحده ينهض دليلاً قوياً على الإمكان النظري أو العلمي.
( 68 )

وتصبح أقل كفاءة للاستمرار في العمل ، إلى أن تتعطل في لحظة معينة ، حتى لو عزلناها عن تأثير أي عامل خارجي ؟ أو أن هذا التصلب وهذا التناقص في كفاءة الأنسجة والخلايا الجسمية للقيام بأدوارها الفسيولوجية ، نتيجة صراع مع عوامل خابىجية كالميكروبات أو التسمم الذي يتسرب إلى الجسم من خلال ما يتناوله من غذاء مكثف ؟ أو ما يقوم به من عمل مكثف أو أي عامل آخر ؟
وهذا سؤال يطرحه العلم اليوم على نفسه ، وهو جاد في الإجابة عنه ، ولا يزال للسؤال أكثر من جواب على الصعيد العلمي.
فإذا أخذنا بوجهة النظر العلمية التي تتجه إلى تفسير الشيخوخة والضعف الهرمي ، بوصفه نتيجة صراع واحتكاك مع مؤثرات خارجية معينة ، فهذا يعني أن بالإمكان نظرياً ، إذا عُزلت الأنسجة التي يتكون منها جسم الإنسان عن تلك المؤثرات المعيّنة ، أن تمتد بها الحياة وتتجاوز ظاهرة الشيخوخة وتتغلب عليها نهائياً.
وإذا أخذنا بوجهة النظر الأخرى ، التي تميل إلى افتراض الشيخوخة قانوناً طبيعياً للخلايا والأنسجة الحيّة نفسها ، بمعنى أنها تحمل في أحشائها بذرة فنائها المحتوم ، مروراً بمرحلة الهرم والشيخوخة وانتهاءً بالموت.
أقول :
إذا أخذنا بوجهة النظر هذه ، فليس معنى هذا عدم افتراض أي مرونة في هذا القانون الطبيعي ، بل هو ـ على افتراض وجوده ـ قانون مرن ؛ لأننا نجد في حياتنا الاعتيادية ؟ ولأن العلماء يشاهدون في مختبراتهم العلمية ، أن الشيخوخة كظاهرة فسيولوجية لا زمنية ، قد تأتي مبكرة ، وقد تتأخر ولا تظهر إلأ في فترة متأخرة ، حتى إن الرجل قد يكون طاعنأ في السن ولكنه يملك أعضاء لينة ، ولا


( 69 )

تبدو عليه أعراض الشيخوخة كما نصّ على ذلك الأطباء (1) . بل إن العلماء استطاعوا عمليأ أن يستفيدوا من مرونة ذلك القانون الطبيعي المفترض ، فأطالوا عمر بعض الحيوانات مئات المرات بالنسبة إلى أعمارها الطبيعية ؟ وذلك بخلق ظروف وعوامل تؤجل فاعلية قانون الشيخوخة .
وبهذا يثبت عملياً أن تأجيل هذا القانون بخلق ظروف وعوامل معيّنة أمر ممكن عملياً ، ولئن لم يتح للعلم أن يمارس فعلاً هذا التأجيل بالنسبة إلى كائنٍ معقد معين كالإنسان ، فليس ذلك إلاّ لفارق درجة بين صعوبة هذه الممارسة بالنسبة إلى الإنسان وصعوبتها بالنسبة إلى أحياء أخرى . وهذا يعني أن العلم من الناحية النظرية وبقدر ما تشير إليه انجاهاته المتحركة لا يوجد فيه أبداً ما يرفض إمكانية إطالة عمر الإنسان ، سواء فشرنا الشيخوخة بوصفها نتاج صراع واحتكاك مع مؤثرات خارجية أو نتاج قانون طبيعي للخليّة الحيّة نفسها يسير بها نحو الفناء.
ويتلخص من ذلك : أن طول عمر الإنسان وبقاءه قروناً متعددة أمر ممكن منطقياً وممكن عملياً ، ولكنه لا يزال غير ممكن عملياً ، إلاّ أن اتجاه العلم سائر في طريق تحقيق هذا الإمكان عبر طريق طويل.
وعلى هذا الضوء نتناول عمر المهدي عليه الصلاة والسلام وما أحيط به من استفهام أو استغراب ، ونلاحظ :
إنه بعد أن ثبت إمكان هذا العمر الطويل منطقياً وعلمياً ، وثبت أن العلم
____________
(1) يؤكد الأطباء والدراسات الطبية على هذه الملاحظة ، وأن لديهم مشاهدات كثيرة في هذا المجال ، ولعل هذا هو الذي دفعهم إلى إجراء محاولات وتجارب لإطالة العمر الطبيعي للإنسان ، وكالمعتاد كان مسرح التجربة في البداية هي الحيوانات لميسورية ذلك ، وعدم وجود محاذير اخرى تمنع إجراء مثل تلك التجارب على الإنسان .
( 70 )

سائر في طريق تحويل الإمكان النظري إلى إمكان عملي تدريجأ ، لا يبقى للاستغراب محتوىً إلاّ استبعاد أن يسبق المهدي العلم نفسه ، فيتحول الإمكان النظري إلى إمكان عملي في شخصه قبل أن يصل العلم في تطوره إلى مستوى القدرة الفعلية على هذا التحويل ، فهو نظير من يسبق العلم في اكتشاف دواء ذات السحايا أو دواء السرطان.
وإذا كانت المسألة هي أنه كيف سبق الإسلام ـ الذي صمّم عمر هذا القائد المنتظر ـ حركة العلم في مجال هذا التحويل ؟
فالجواب : أنه ليس ذلك هو المجال الوحيد الذي سبق فيه الإسلام حركة العلم.
أوليست الشريعة الإسلامية ككل قد سبقت حركة العلم والتطور الطبيعي للفكر الإنساني قروناً عديدة ؟ (1)
أوَلم تناد بشعارات طرحت خططاً للتطبيق لم ينضج الإنسان للتوصل إليها في حركته المستقلة إلاّ بعد مئات السنين ؟
أوَلم تأت بتشريعات في غاية الحكة ، لم يستطع الإنسان أن يدرك أسرارها ووجه الحكة فيها إلأ قبل برهة وجيزة من الزمن ؟
أوَلم تكشف رسالة السماء أسراراً من الكون لم تكن تخطر على بال إنسان ، ثم
____________
(1) هذه التساؤلات التي يثيرها السيد الشهيد رضي الله عنه تهدف إلى ترسيخ حقيقة مهمة ، هي أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم عندما بشر (بالمهدي) ، وهو حالة غير اعتيادية في سياق البشرية ، تنبئ في جملتها عن تسجيل سبقٍ في الإمكانية العملية ، بحد تأكيد الإمكانية العلمية ، أى لبقاء الإنسان مدة أطول بكثير من المعتاد ، فإن مثل هذا السبق في التنبيه على حقائق ني هذا الوجود كان قد سجّله القرآن والحديث الشريف في موارد كثيرة جدأ في مسائل الطبيعة والكون والحيا ة. راجع : القرآن والعلم الحديث | الدكتور عبدالرزاق نوفل .
( 71 )

جاء العلم ليثبتها ويدعمها ؟
فإذا كنا نؤمن بهذا كله ، فلماذا نستكثر على مرسل هذه الرسالة ـ سبحانه وتعالى ـ أن يسبق العلم في تصميم عمر المهدي ؟ (1) وأنا هنا لم أتكلم إلأ عن مظاهر السبق التي نستطيع أن نحسّها نحن بصورة مباشرة ، ويمكن أن نضيف إلى ذلك مظاهر السبق التي تحذثنا بها رسالة السماء نفسها.
ومثال ذلك أنها تخبرنا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أسري به ليلأ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وهذا الإسراء (2) إذا أردنا أن نفهمه في إطار القوانين الطبيعية ، فهو يعبز عن الاستفادة من القوانين الطبيعية بشكل لم يتح للعلم أن يُحقّقه (3) إلأ بعد مئات السنين ، فنفس الخبرة الربانية التي أتاحت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم التحرك السريع قبل أن يتاح للعلم تحقيق ذلك ، أتاحت لآخر خلفائه المنصوصين العمر المديد ، قبل أن يتاح للعلم تحقيق ذلك.
نعم ، هذا العمر المديد الذي منحه الله تعالى للمنقذ المنتظر يبدو غريبأ في
____________
(1) إشارة إلى أن هذا من قبيل الإعجاز أيضاً ، وهو إفاضة ربانية خاصة ، وهذا أمر لا يسع المسلم إنكاره ، بعد أن أخبرت بأمثا له الكتب السماوية ، وبالأخص القرآن ، كالذي ورد في شأن عمر الني نوح عليه السلام ، وكذا ما أخبر به القرآن من المغيبات الأخرى ، على أن كثيراً من أهل السنّة ومن المتصوفة وأهل العرفان يؤمنون بوقوع الكرامات ومايشبه المعجزات للأولياء والصلحاء والمقزبين من حضرة المولى تعالى. راجع : التصوف والكرامات | الشيخ محمد جواد مغنية . وراجع : التاج الجامع للأصول 5 : 228 | كتاب الزهد والرقائق ـ الذين تكلموا في المهد.
(2) إشارة إلى الآية المباركة : (سُبْحَانَ الَّذي أَسْرَى بِعَبدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى ...) الإسراء : 1 .
(3) إشارة إلى تصميم المركبات الفضانية ، وركوب الفضاء والتوغل إلى مسافات بعيدة عن أرضنا ، وقطعها في ساعات أو أيام معدودة ، وقد أضحت هذه حقائق في حياتنا المعاصرة في أواخر القرن العشرين.

( 72 )

حدود المألوف حتى اليوم في حياة الناس ، وفي ما أنجز فعلاً من تجارب العلما ،.
ولكن!
أو ليس الدور التغييري الحاسم الذي أُعدّ له هذا المنقذ غريبأ في حدود المألوف في حياة الناس ، وما مزت جمعهم من تطورات التاريخ ؟
أو ليس قد أنيط به تغيير العالم ، وإعادة بنائه الحضاري من جديد على أساس الحق والعدل ؟
فلماذا نستغرب إذا اتّسم التحضير لهذا الدور الكبير ببعض الظواهر الغريبة والخارجة عن المألوف كطول عمر المنقذ المنتظر ؟ فإن غرابة هذه الظواهر وخروجها عن المألوف مهما كان شديداً ، لا يفوق بحال غرابة نفس الدور العظيم الذي يجب على اليوم الموعود إنجازه. فإذا كنا نستسيغ ذلك الدور الفريد (1) تاريخيأ على الرغم من أنه لا يوجد دور مناظر له في تاريخ الإنسان ، فلماذا لا نستسيغ ذلك العمر المديد الذي لا نجد عمرأ مناظرأ له في حياتنا المألوفة ؟
ولا أدري!
هل هي صدفة أن يقوم شخصان فقط بتفريغ الحضارة الإنسانية من محتواها الفاسد وبنائها من جديد ، فيكون لكل منهما عمر مديد يزيد على أعمارنا الاعتيادية أضعافاً مضاعفة ؟
أحدهما مارس دوره في ماضي البشرية وهو النبي نوح ، الذي نصّ القرآن
____________
(1) إشارة إلى ما أعذ للإمام المهدي المنتظر من دور ومهمة تغييرية على مستوى الوجود الإنساني برمته كما يشير الحديث الصحيح : «يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلما وجوراً» ، وهذا الدور وهذه المهمة عليها الإجماع بين علماء الإسلام ، والاختلاف حصل في أمور فرعية. ومن هنا كان التساؤل الذي أثاره السيد الشهيد رضي الله عنه له مبرر منطقي قوي.
( 73 )

الكريم (1) على أنه مكث في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ، وقدّر له من خلال الطوفان أن يبني العالم من جديد .
والآخر يمارس دوره في مستقبل البشرية وهو المهدي الذي مكث في قومه حتى الآن أكثر من ألف عام وسيقدّر له في اليوم الموعود أن يبني العالم من جديد .
فلماذا نقبل نوح الذي ناهز ألف عام على أقل تقدير ولا نقبل المهدي ؟ (2)
____________
(1) في الآية المباركة : (فَلَبثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً) العنكبوت : 14.
(2) السؤال موجّه إلى المسلمين المؤمنين بالقرآن الكريم وبالحديت النبوي الشريف ، وقد روى علماء السنّة لغير نوح ما هو أكثر من ذلك. راجع تهذيب الأسماء واللغات | النووي 1 : 176 ، ولايصخ أن يشكل أحد بأن ذاك أخبر به القرآن فالنمق قطعي الثبوت ، وهو يتعلق بالنبى المرسل نوح عليه السلام ، أما هنا فليس لدينا نصّ قطعي ، ولا الأمر متعلق بنبيّ .
والجواب : أن المهمة أولأ واحدة ، وهي تغيير الظلم والفساد ، وأن الوظيفة كما أوكلت إلى النبي ، فقد اوكلت هنا إلى من اختاره الله تعالى أيضأكما هو لسان الروايات الصحيحة. قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم : « لَوْ لَمْ يَبِقْ مِنَ الدنيا إلاّ يومٌ لطوّل اللهُ ذلك اليَوم حتّى يَبعثَ رَجُلاً مِنْ أهلِ بيتي يملأ الأرضَ قِسْطاً وَعدلاً ...» التاج الجامع للأصول 5 : 343 .
وأما من جهة قطعية النص ، فأحاديث المهدي بلغت حدّ التواتر ، وهو موجب للقطع والعلم ، فلا فرق في المقامين. راجع : التاج الجامع للأصول 5 : 341 و 360 فقد نقل التواتر عن الشوكاني ، وانتهى المحققون من علماء الفريقين إلى القول بأنّ من كفر بالمهدي فقد كفر بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليس ذلك إلاّ بلحاظ أنه ثبت بالتواتر ، وأنه من ضرورات الدين ، والمنكر لذلك كافر إجماعاً . وراجع : الإشاعة لأشراط الساعة | البرزنجي في بحثه حول المهدي . وقد نقلنا حكاية التواتر في المقدمة أيضأ.