بنور فاطمة (ع) اهتديت ::: 11 ـ 20
(11)
كتبت عليها أدعية وآيات قرآنية للعلاج تسمى (محاية) لشرب مائها أو التبخر بها فصرت أفعل مثله وأمسك الورقة والقلم وأكتب عليها أحرفا غير مفهومة وأعطيها لإخواني إذا اشتكى أحدهم مرضا.
     دخلت المدرسة وكان ترتيبي الأول دوما وطيلة بقائي في هذه القرية وكانت تكتمل فرحتي عندما أرى أثر السعادة في وجه والدي فأسرع إليهما كل مرة بالبشرى. وأبي يشجعني للمحافظة على هذا المستوى دون الوصول إلى الغرور مع تحذيره الدائم من حسد الآخرين والإصابة بالعين.
     كنت قد بلغت التاسعة من عمري حين مرض والدي مرضا شديدا نقل على أثره إلى مدينة بورتسودان للعلاج هناك تصحبه أمي.
     حينها شعرت بفراغ كبير .. لقد فقدت شيئا عظيما داخل قلبي. كما افتقده بيتنا ، فوهج نوره ووجوده كان يملأ البيت كأي رب أسرة يفيض بعاطفته على أهله وأولاده فيكسوهم بحنانه ... بات إخوتي وأهل القرية جميعا ، يترقبون العودة .. يعدون الليالي والأيام.
     وبعد فترة ترقب وانتظار ... جاءنا الخبر يحمله عمي شقيق أبي .. لقد انطفأ ذلك السراج المضئ وانقلب بيتنا إلى بيت حزن يضج بالبكاء والنحيب وتوافدت جموع المعزين من أهل القرية بسرعة غريبة وتجمهروا أمام البيت. كنت مذهولا وكلما اقترب منا شخص يزداد نحيبا ويضمني وأخي الصغير إليه ..
     لم نبق كثيرا في مسمار بعد وفاة الوالد وانتقلنا إلى منطقتنا الأصلية « الكربة » وهنا أتممت دراستي الابتدائية ، ثم انتقلنا إلى مدينة بورتسودان لظروف الدراسة والمعيشة فإخوتي بعضهم يعمل وبعضهم يدرس في المدارس فكان لا بد من الانتقال إلى مدينة تتوافر فيها مقومات هذه الأمور.
     بدأت في بورتسودان مرحلة جديدة من حياتي بين صخب المدينة وأجوائها التي


(12)
تختلف تماما عن القرية. درست المتوسطة والثانوية ولم يكن لي هم في هذه الفترة سوى إنهاء الدراسة الجامعية والتخرج والانطلاق في الحياة حتى أستطيع مساعدة إخوتي في إعالة الأسرة.
     مضت السنوات سراعا وأصبحت على أعتاب التخرج من الثانوية. امتحنت للشهادة فأحرزت نتيجة تؤهلني لدخول جامعة القاهرة بالخرطوم التي أصبحت فيما بعد جامعة النيلين. واخترت كلية الحقوق. كان اهتمامي الاجتماعي يفوق اهتمامي الأكاديمي ووجدت نفسي في هذا الجانب حيث تعرفت على الكثيرين واستفدت من التجارب.
     بعد ذلك أصبحت رئيسا للاتحاد العام للطلاب السودانيين بالولاية الشمالية وكنت سعيدا بذلك لعلي أخدم الطلاب وأقدم شيئا يكون ذخرا لي في آخرتي خصوصا وأن أغلب الناس باتوا يعيشون في غفلة والساعة تقترب ولا ندري متى يدركنا الموت حينها لن تنفعنا تقوى آبائنا إلا بمقدار ما استفدنا مما قدموه لنا من نصح وإرشاد وتربية قويمة.
     استقر بي المقام في العاصمة « الخرطوم » لأبدأ الدراسة الجامعية ... وفي أحد أحيائها حيث اخترت أن أسكن مع أقربائي كان يسكن أحد أبناء عمومتي وحيدا يكافح في الحياة بين الدراسة والعمل .. كان متدينا يعيش حياة سعيدة رغم أنه لا يملك شيئا من الوسائل المادية للسعادة وربما يختصر طعامه في اليوم بوجبة واحدة.
     كنا نزوره باستمرار ـ لإعجابنا الكثير به وبخلقه وزهده ـ ونجلس معه ونحاوره كثير من قضايا الدين والموت والآخرة ، كان ينبوعا من العلم ، وحديثه معنا كان يخلق فينا روحا إيمانية ودفعة معنوية مضاعفة وذلك لمواجهة الحياة والزهد في الدنيا ...
     كنا نعجب من تدينه الذي ينبع من إخلاص قلما تجده عند أحد خصوصا في هذا الزمن الذي غلبت عليه المادية وأصبح الدين لعقا على ألسنة الناس يحوطونه ما درت


(13)
معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون .. إحساسنا ونحن نتحدث إليه أننا نقف مع أحد أولئك الذين جاهدوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بدر وأحد وحنين ... تخرج الكلمة من قلبه فنشعر بها في أعماق وجداننا ، كان كثير الصوم .. دائم العبادة لله تعالى .. أحيانا نبيت معه ليالي كاملة فنراه بالليل قائما قانتا يدعو الله ويتلو كتابه وفي الصباح يدعو الله بكلمات لم نسمع بها من قبل ، كلمات يناجي بها ربنا عز وجل هي بلا شك ليست لبشر عادي ، لأبدأنها من قول الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن عجبا لم نسمع بها من قبل ، ولم نقرأها ضمن مناهجنا الدراسية ولا في كتبنا الإسلامية ... فنضطر إلى سؤاله ما هذا الذي تقرؤه ؟! فيجيبنا بأنه دعاء الصباح لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) فنوجم مبهوتين.
     كثيرا ما كان يثير الحديث عن أهمية التدين والدين والبحث عن سبل النجاة قبل أن يأتي الأجل المحتوم وهذا الحديث كان يثير فينا إحساسا بالمسؤولية يؤرقنا فكنا نتحاشى فتح الحوار معه من الأساس. إلى أن جاء يوم ابتدأنا معه حوارا صريحا ـ بعد أن لاحت لنا في الأفق أشياء استغربناها ـ حول هذا الدين الذي يتعبد به إلى الله تعالى ، وأول معلومة ثبتت لدينا أنه جعفري إمامي اثنا عشري « شيعي » ! وانطلقنا معه في حوارات قوية باعتبارنا متمسكين بمذهب أهل السنة والجماعة أولا أقل (ذلك ما عليه آباؤنا ونحن على آثارهم سائرون) وكان النقاش يمتد لساعات طويلة وكانت حجته قوية بينة مدعمة بالأدلة والبراهين العقلية والنقلية ، ولم يعتمد في طول حواره معنا على كتاب أو مصدر شيعي مما يعملون به بل كان يرشدنا إلى مصادر أهل السنة والجماعة لنجد صدق ادعائه ، ورغم أن حديثه وأدلته وبعض الكتب التي قرأناها كانت تحدث فينا هزة داخلية إلا أننا كنا نكابر ولا نظهر له من ذلك شيئا ... وعندما نجتمع بعيدا عنه كنا نأسف لحاله ونصفه بأنه مسكين ـ رغم تدينه المخلص ـ بدأ


(14)
أول خطواته نحو هاوية الجنون لكونه شيعي ... إلى أنه أثبت لنا بعد حوار دام سنتين تقريبا بأننا كنا من المجانين الغافلين وأقام علينا الدليل والحجة بصحة ما هو عليه ، فما كان منا في النهاية إلا التسليم بعد البحث والتنقيب وانكشاف الحقائق.
     ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) (سورة النساء : آية / 65).


(15)
الفصل الأول
    لماذا هذا الكتاب


(16)

(17)
ذهبت في يوم من الأيام إلى أحد أصدقائي لزيارته فأخذنا الحديث إلى حيث الشيعة والتشيع ، فتجاذبنا أطراف الحديث حول هذا الموضوع ...
     وفي أثناء تداولنا للموضوع دخل علينا شاب في مقتبل العمر ... ألقى علينا تحية الإسلام ثم جلس وبدأ يستمع ونحن نواصل الحوار ، انتبهت إليه وقد بدت عليه علامات الحيرة ، ثم تدخل في النقاش بقوله : ـ يبدو أن بعض الفرق الضالة أثرت عليك يا أخي ! وأخذ يتفنن في المهنة التي يجيدها وأمثاله من توزيع أصناف الكفر والضلال والزندقة على كل الطوائف الإسلامية عدا الوهابية ، كنت منذ دخوله قد علمت أنه وهابي وذلك من ثوبه الذي كاد أن يصل إلى ركبتيه من القصر ... قبل أن يتم كلامه ارتفع أذان المغرب توقفنا عن النقاش حتى نصلي ثم نعود بعد الصلاة.
     بعد الصلاة بادرني قائلا : ـ من أي الفرق أنت ؟! يبدو أنك من جماعة الشيعة !.
     قلت : تهمة لا أنكرها وشرف لا أدعيه.
     فما كان منه إلا أن أرعد وأزبد وثارت ثائرته.
     قلت له ـ وقد تجمع بعض أقارب صديقي حولنا ـ إذا كان لديك إشكال تفضل بطرحه بأدب ولنجعله مناظرة مصغرة أو حوارا ـ وهو سلاحهم الذي يهددون به الآخرين اغترارا منهم بقوة مقدرتهم على الاحتجاج ـ.
     وافق المغرور ، فقلت له : ـ من أين نبدأ ؟ ما رأيك أن نبدأ بالتوحيد الذي تتمشدقون به وبسبب فهمكم الخاطئ له تضعون كل الناس في جبهة المشركين ؟
     فوافق أيضا وبدأ الحوار والجميع يستمع.
     قلت : ـ ما تقولون في الله خالق الكون وصفاته.
     قال : ـ نحن نقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولا تجوز عبادة غيره.
     قلت : ـ وهل يختلف اثنان من المسلمين في ذلك ؟.
     قال : ـ الجميع يقول بذلك ولكن تطبيقهم خلاف قولهم إذ أنهم في الواقع


(18)
مشركون لأنهم يتوسلون بالأموات ويخضعون لغير الله ويشركون به في طلب الحاجات ، والخضوع لغير الله وغيرها من الأشياء التي ذكرتها تعني عبادة غيره تعالى.
     قلت : حسنا طالما الجميع يقول بأن الله واحد أحد فرد صمد ولا يجوز عبادة غيره بأي حال من الأحوال فهذا جيد ويخرج الجميع من دائرة الشرك ، إلا إذا ثبت لدينا بالدليل القاطع أنهم يعبدون غير الله أو يشركون بعبادته أحدا حينها يكونون مشركين.
     أما ما يفعلونه من أفعال مثل التوسل وتعظيم الأولياء واحترامهم فهذا ليس من الشرك فيشيء ، لأن العبادة تعني الخضوع والتذلل لمن نعتقد أنه إله مستقل في فعله لا يحتاج إلى غيره ، أما مجرد الخضوع والتذلل والاحترام فلا يعتبر عبادة وقد أمرنا به القرآن كالتذلل للوالدين والمؤمنين ، بل إن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم ، بناء على ذلك لا يكون احترام الأولياء وزيارة قبورهم والتوسل بهم وتعظيمهم شركا بالله لأنهم لا يرون أن هؤلاء آلهة مستقلون عن الله ، بل هم عباد أكرمهم الله بفضله ، فعطاؤهم من الله وليس لهم قدرة ذاتية مستقلة.
     قال : ـ ولماذا يسألون الله مباشرة ؟ هل هناك مانع وهو القائل ( أدعوني أستجب لكم ) ؟ (سورة غافر آية / 60).
     قلت : ـ أيضا قال تعالى ( وابتغوا إليه الوسيلة ) (1) ثم إنك عندما تمرض لماذا تذهب إلى الدكتور ؟ ألم يقل الله تعالى في كتابه ( وإذا مرضت فهو يشفين ) (2) أليس من أسمائه الشافي ؟.
     قال : ـ هذه ضرورة في الحياة.
     قلت : ـ أيضا تلك سنة وسبب به تبتغي الحاجات ... . والتفت إلى الحاضرين وقلت : ـ هل تجدون في كلامي هذا خطأ ، فأقروا بما قلت وزاد أحدهم وكان
     (1) سورة المائدة آية / 35.
     (2) سورة الشعراء : آية / 80.

(19)
صوفيا : ـ هذه الأشياء موجودة من زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وسار عليها الصحابة والتابعون وكل المسلمين إلى أن جاء ابن تيمية وتلميذه محمد بن عبد الوهاب ببدعهم الجديدة هذه.
     قال الوهابي : ـ إنكم تتحدثون بلا علم ، والوقت ضيق الآن فلنأخذ من الموضوع شيئا نتناقش حوله وفي وقت آخر أكون مستعدا لنتحاور أكثر من ذلك.
     قلت : ـ عندي سؤال أخير حول التوحيد ماذا تقولون في صفات الله ؟
     قال : ـ نحن لا نقول إنما نصفه بما وصف به نفسه في القرآن.
     قلت : ـ وبماذا وصف نفسه ؟ هل قال بأنه جسم يتحرك أو أن له يدا وساقا وعينان ؟.
     قال : ـ نحن نقول بما جاء في القرآن لقد قال تعالى : ( يد الله فوق أيديهم ) وكثير من الآيات الأخرى التي تصف الله لنا فنقول إن لله يدا بلا كيف.
     قلت : ـ إن قولك هذا يستلزم التجسيم والله ليس بجسم وهو ليس كمخلوقاته ، ثم ما هو الفرق بينكم وبين مشركي مكة أولئك نحتوا أصنامهم بأيديهم وعبدوها وأنتم نحتم أصناما بعقولكم وظلت في أذهانكم تعبدونا لقد جعلتم لله يدا وساقا وعينين ومساحة يتحرك فيها ( ما لكم لا ترجون لله وقارا ) (1) وبكلمة إن الآيات التي ذكرتها مجازية وترمز لمعان أخرى.
     قال : ـ نحن لا نؤمن بالمجازات والتأويلات في القرآن.
     قلت : ـ ما رأيك في من يكون في الدنيا أعمى هل يبعث كذلك أعمى ؟
     قال : ـ لا !.
     قلت : ـ كيف وقد قال تعالى ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة
     (1) سورة نوح : آية / 13.
(20)
أعمى ) (1) وأنتم تقولون لا مجاز في القرآن. ثم إنه بناء على كلامك إن يد الله ستهلك وساقه وكلشيء مما زعمتموه ـ والعياذ بالله ـ عدا وجهه ألم يقل البارئ جل وعلا ( كلشيء هالك إلا وجهه ) (2) و ( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) (3).
     قال : ـ هذه الأشياء لا ربط بينها وبين ما نقوله.
     قلت : ـ كلام الله وحدة واحدة لا تتجزأ ، وإذا استدللتم به على صحة قولكم ، يحق لي أن أنطلق منه لتفنيد هذا القول ، وأنتم تستدلون على مجئ الله مع الملائكة صفا يوم القيامة كما فهمتم من القرآن.
     قال : ـ ذلك ما قاله الله تعالى في القرآن.
     قلت : ـ المشكلة تكمن في فهمك للقرآن ، إن في القرآن آيات محكمات وأخر متشابهات فلا تتبع المتشابهات فتزيغ ، وإلا أين كان الله حتى يأتي ؟
     قال : ـ هذه أمور لا يجب أن تسأل عنها.
     قلت : ـ دعك من هذا ألا تقولون أن الله ينزل في الثلث الأخير من الليل ليستجيب الدعاء.
     قال : ـ نعم ذلك ما جاءنا عبر الصحابة والتابعين من أحاديث.
     قلت : ـ إذا أين هو الله الآن ؟ !!
     قال : فوق السماوات.
     قلت : وكيف يعلم بنا ونحن في الأرض.
     قال : بعلمه.
     (1) سورة الإسراء : آية / 72.
     (2) سورة القصص : آية / 88.
     (3) سورة الرحمن : آية / 26.
بنور فاطمة (ع) اهتديت ::: فهرس