دروس في الأخلاق ::: 221 ـ 230
(221)
الدرس الأربعون
في حب الرئاسة
     الرئاسة من مصاديق الدنيا ، وحبها من حب الدنيا ، وقد عرفت تفصيل الأمرين ، إلا أن لها أهمية وخطراً وشأناً ومحلاً يقتضي تخصيصها بالذكر كتاباً ، وبتوجيه النفس إلى حالاتها وآثارها باطناً ، وبالمراقبة عن موجباتها احتياطاً.
     وليعلم أن الرئاسة والجاه منها ممدوحة ومنها مذمومة ، والأولى هي التي جعلها الله وأنشأها لبعض عباده : كأنبيائه وأوصيائه ومن يتولى الأمور والرئاسة من قبلهم على اختلاف شؤونهم ودرجاتهم ، وهذا القسم الذي في مقدمه منصب الأمامة مقام محمود ، وجاه ممدوح ، خص الله به أولياءه وحفظهم بنحو العصمة التكوينية والتوفيقات الغيبية الالهية والأوامر والفرامين التشريعية عن خطراته وزلاته.
     والمعصومون يجب عليهم قبولها من ناحية الله تعالى ، وعليهم حفظها


(222)
والدفاع عنها والقتال مع من يزاحمهم فيها أو يريد غصبها ، إذ هي كما أنها حق للمعصوم المتصدي لها والمتلبس بها فهي حق الله تعالى عهده إليهم ، وأمانته التي أودعها عندهم ، وحق للناس فإنها مجعولة لأجلهم ولهدايتهم وإصلاح حالهم وفوزهم ، ونجاتهم في دنياهم وسعادتهم ونجاحهم في أخراهم ، فالمتصدي الغاصب لها قد ظلم ربه وإمامه وعباد الله تعالى. وقال النبي يوسف عليه السلام : ( اجعلني على خزائن الأرض ) (1) وكان المقام الذي سأل فرعاً من فروع حقه وشعبة من أصوله تمكن من أخذه فطلبه.
     ويجب على غير المعصوم أيضاً فيما ولاه من المناصب الشرعية وترتيب آثارها والعمل بوظائفها ما دامت باقية مع رعاية عدم الوقوع في العصيان لأجلها ، وقد بين حدودها في الفقه ، وذلك كمنصب الإفتاء والولاية ، والحكومة على الناس ، والحكم والقضاء بينهم والمناصب الجندية والإدارية ، وغيرها مما كانت مجعولة من ناحية الإمام الوالي على الناس ، أو من نصبه الإمام والياً لإدارة أمور المجتمع ، فمن قصد بقبولها طاعة الإمام والشفقة على عباد الله وإحقاق حقوقهم وحفظ أموالهم وأعراضهم ودمائهم ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وحفظ الحدود ومرابطة الثغور ، فهو من أفضل المجاهدات والعبادات.
     ومن غصبها من أهلها وتقمص بها ، أو لم يكن غرضه من قبولها من أهلها والتصدي بها إلا الجاه بنفسه والتلذذ بعنوانه ، ولم يرتب عليها ما هي مطلوبة لأجله فهو من الأخسرين أعمالاً الذين ضل ... الخ. والذم والوعيد بالهلاك ونحو ذلك واردة في هذا القسم.
     والحاصل : أن الجاه كالمال فقد يرى الإنسان له أصالة ، توله حرص في جمعه
1 ـ يوسف : 55.

(223)
والإستلذاذ بتكثيره وتكنيزه ، وقد لا يكون الغرض إلا إمرار معاشه ، وإدارة أمور مجتمعه ، وعمارة البلاد ، وإصلاح العباد. وورد من النصوص في هذا المقام ( ما فيه مزدجر حكمة بالغة وما تغني النذر ). (1)
     ثم إنه يظهر لك من ذلك أن جميع الرئاسات والولايات والسلطات الموجودة في هذه الأعصار ، بل من بدء وقوع الانحراف في المناصب الالهية وخروجها عن أيدي أهلها ومن أهّله الله لتصدّيها في الاجتماعات البشرية ، باطلة غير ممضاة من الشرع. وأن جل المفاسد الواقعة بين الناس ـ لولا كلها ـ من الكفر والشرك والفحشاء والمنكر وضياع الحقوق وهتك الأعراض وتلف الأموال والنفوس مستندة إلى ذاك الانحراف وتلك الولايات الخارجة عن سلطة صاحبها. وأن الرؤساء والمتصدين للولايات والحكومات في المجتمعات البشرية اليوم ، موقوفون غداً عند ربهم ، مسؤولون بأسوء الحساب ومعاقبون بأعظم العقاب. كيف وقد قال تعالى : ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ) ! (2) هؤلاء الأنبياء فكيف بغيرهم ؟ ونعوذ بالله تعالى من شر النفس ، ونقول : ( رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون ) (3).
     ولو أدعي أن بعض تلك المناصب مجعول من ناحية الناس أنفسهم فلهم أن يختاروا في أمور دنياهم ولياً ورئيساً وسائساً ومدبراً ، له تسلط محدود ، فلا يكون باطلاً ولا مشمولاً للذموم المستفادة من الأدلة ، فهي على فرض قبول كبراها مخدوشة في صغراها ، فراجع أحوال الممالك والأمم ، وليس استقصاء ذلك مما يقتضيه أبحاث الكتاب. قال الله تعالى : ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون
1 ـ القمر : 4 ـ 5.
2 ـ الأعراف : 6.
3 ـ المؤمنون : 97 ـ 98.


(224)
علوا في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين ). (1)
     وورد في النصوص : أنه ما ذئبان ضاريان في غنم قد تفرق رعاؤها بأضر في دين المسلم من طلب الرئاسة (2) ( ضرى الحيوان بالصيد : اعتاد أكله ، والرعاء : جمع الراعي ، والرئاسة : العلو والسلطة والتفوق ).
     وأنه من طلب الرئاسة هلك (3).
     وأنه : إياكم وهؤلاء الرؤساء الذين يترأسون ، فوالله ما خفقت النعال خلف رجل إلا هلك وأهلك (4).
     وأنه : إياك والرئاسة ، إياك أن تطأ أعقاب الرجال أي : تنصب رجلاً دون الحجة فتصدقه في كل ما قال (5).
     وأنه : ملعون من ترأس ، ملعون من هم بها ، ملعون كل من حدث بها نفسه (6).
     وأنه لا تطلبن الرئاسة ، ولا تكن ذنباً. ولا تأكل بنا الناس فيفقرك الله (7).
     وأن الصادق عليه السلام قال : أتراني لا أعرف خياركم من شراركم ؟ بلى والله ، وإن شراركم من أحب أن يوطأ عقبه ، إنه لابد من كذاب أو عاجز الرأي (8).
     وأن : من أول ما عصي الله به حب الرئاسة (9).
1 ـ القصص : 83.
2 ـ وسائل الشيعة : ج11 ، ص279 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص145.
3 ـ الكافي : ج2 ، ص297 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص150.
4 ـ الكافي : ج2 ، ص297 ـ وسائل الشيعة : ج11 ، ص279 وج18 ، ص90 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص150.
5 ـ الكافي : ج2 ، ص298 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص152 ـ الوافي : ج1 ، ص262.
6 ـ الكافي : ج2 ، ص298 ـ وسائل الشيعة : ج11 ، ص280 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص151.
7 ـ الكافي : ج2 ، ص298 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص151.
8 ـ الكافي : ج2 ، ص299 ـ وسائل الشيعة : ج11 ، ص280 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص152.
9 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص153.


(225)
الدرس الحادي والأربعون
في الغفلة واللهو
     الغفلةعن الشيء معروف ، والمراد هنا : غفلة القلب عن الله تعالى وعن أحكامه وأوامره ونواهيه ، وبعبارة أخرى : عما ينبغي أن يكون متوجهاً إليه ويكون حاضراً عنده.
     ولها مراتب مختلفة : يلازم بعضها الكفر والطغيان ، وبعضها الفسق والعصيان ، وبعضها النقص والحرمان ، فالغفلة عن أصول الإيمان بمعنى عدم التوجه إلى لزومها وإلى قبولها ، كفر ، سواء كان الغافل قاصراً أو مقصراً وإن لم يعاقب على الأول ، والغفلة عن أداء الواجب وترك الحرام مع التقصير ، فسق ، والغفلة عن الإقبال والتوجه إلى آيات الله تعالى الآفاقية والأنفسية ، وعن الاهتداء بذلك إلى وجوده تعالى وصفات جلاله وجماله وعن التقرب بذلك لحظة بعد لحظة ، وآناً بعد آن إلى قربه ورحمته ، وعن كونه حاضراً عنده بجميع شؤون وجوده وخواطر قلبه ، ولحظات عينه ، ولفظات لسانه ، وحركات أركانه ، نقص وبعد وحرمان عن مقام


(226)
السعداء والأولياء.
     وهل ترى أهل الدنيا اليوم إلا غافلين عن الحق ، لاهين عن التوحيد والإذعان بالرسل والملائكة والكتاب والنبيين واليوم الآخر مع اختلافهم في مراتب الغفلة والبعد ، كما كانوا كذلك في الأمس وما قبل الأمس ، ويلازم هذا العنوان الإتراف بالنعم والفرح والمرح بها واللعب واللهو ونحوها.
     وقد قال تعالى في كتابه : ( إقترب للناس حسابهم فهم في غفلة معرضون إلى قوله : لاهية قلوبهم ) (1) وقال خطاباً لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم : ( فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ) (2) وقال تعالى : ( والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار ) (3) وقال : ( ولا تكن من الغافلين ) (4) وقال : ( واتبع الذين ظلموا ما اترفوا فيه وكانوا مجرمين ) (5).
     وورد في النصوص : أنه : إن كان الشيطان عدوا فالغفلة لماذا ؟ (6)
     وأن كلما ألهى عن ذكر الله فهو ميسر (7) ( أي : مثل المقامرة في انقطاع النفس عن الله والتوجه إلى غيره ).
     وأن بينكم وبين الموعظة حجاباً من الغرة (8).
1 ـ الأنبياء : 1 ـ 3.
2 ـ الزخرف : 83.
3 ـ يونس : 7 ـ 8.
4 ـ الأعراف : 205.
5 ـ هود : 116.
6 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص157.
7 ـ الأمالي : ج1 ، ص345 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص157 وج79 ، ص230.
8 ـ نهج البلاغة : الحكمة 282 ـ غرر الحكم درر الكلم : ج3 ، ص268 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص157.


(227)
الدرس الثاني والأربعون
في الحرص وطول الأمل
     الحرص : الشره وفرط الميل إلى الشيء ، والمراد به هنا : الحرص على الدنيا وجمعها وتكثيرها وادخارها والاشتغال بالاستلذاذ بها ، ويلازمه طول الأمل ، وهو : رجاء النيل إلى الملاذ ، وتمني الوصول إلى المشتهيات وإن كانت بعيدة المنال من حيث الكم والكيف والمكان والزمان ، وهو من أمراض القلب وذمائم صفات النفس ورذائل ملكاتها ، وهذه الصفة في الغالب من الغرائز المطبوعة والسجايا المودعة في النفس ، تزيد وتتكامل باتباع مقتضاها ، وإعطاء النفس في دعوتها مناها ، وتنقص أو تزول بالتأمل والتدبر في حال الدنيا وخستها وزوالها وما جاء من الله تعالى بألسنة رسله وأوصيائه في ذمها والاحتراز عن اتباعها.
     وقد مر فيما مضى أن ميل النفس إلى تحصيل القوت لمعاشه ومعاش عياله ولو كان شديداً ، وكذا الميل إلى تحصيل ما زاد عن ذلك فيما إذا كان مقدمة لغرض


(228)
مندوب مرغوب فيه للدنيا والآخرة ليس من مصاديق الحرص ؛ لأن ذلك ليس حرصاً على الدنيا حينئذ.
     فقد قال تعالى : ( إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً ) (1) وقال تعالى : ( بل يريد الإنسان ليفجر أمامه ). (2) وقال : ( لتجدنهم أحرص الناس على حياة ). (3)
     وقد ورد في النصوص : أن حقيقة الحرص طلب القليل بإضاعة الكثير (4).
     وأن أغنى الناس من لم يكن للحرص أسيراً (5).
     وأنه : إن كان الرزق مقسوماً فالحرص لماذا ؟ (6)
     وأنه : سئل علي عليه السلام : أي ذل أذل ؟ قال : الحرص على الدنيا (7).
     وأنه قال الصادق عليه السلام : منهومان لا يشبعان : منهوم علم ومنهوم مال (8). ( والمنهوم بالشيء : المولع به لا يشبع منه ).
     وأن الحريص حرم خصلتين ، ولزمته خصلتان : حرم القناعة فافتقد الراحة ، وحرم الرضا فافتقد اليقين (9).
     وأنه يهرم ابن آدم ويشب منه اثنان : الحرص على المال والحرص على العمر (10).
1 ـ المعارج : 19 ـ 21.
2 ـ القيامة : 5.
3 ـ البقرة : 96.
4 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص167.
5 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص160.
6 ـ نفس المصدر السابق.
7 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص161 ـ دستور معالم الحكم : ص84.
8 ـ الخصال : ص53 ـ بحار الأنوار : ج1 ، ص168 وج73 ص161 ـ نور الثقلين : ج3 ، ص398.
9 ـ الخصال : ص69 ـ وسائل الشيعة : ج11 ، ص318 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص161.
10 ـ الخصال : ص73 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص161.


(229)
     وأن المؤمن لا يكون حريصاً (1).
     وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الحرص (2).
     وأن من علامات الشقاء شدة الحرص في طلب الرزق (3).
     وأنه يورث الفقر (4).
     وأنه هو الفقر نفسه (5).
     وأنه من سوء الظن بالله تعالى (6).
     وأن من آثار الحرص وثمراته أمل لا يدرك (7).
     وأنه : ما أطال عبد أمله إلا أساء عمله (8).
     وأن طول الأمل من أخوف ما يخاف على الأمة (9).
     وأنه ينسي الآخرة (10).
     وأن هلاك آخر هذه الأمة بطول الأمل (11).
     وأنه من الشقاء (12).
1 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص162.
2 ـ نفس المصدر السابق.
3 ـ الكافي : ج2 ، ص290 ـ الخصال : ص243 ـ وسائل الشيعة : ج11 ، ص268 ـ بحار الأنوار : ج70 ، ص52 وج77 ، ص151 وج93 ، ص330.
4 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص162.
5 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص163.
6 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص162.
7 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص163.
8 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص166.
9 ـ وسائل الشيعة : ج2 ، ص652.
10 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص167.
11 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص164.
12 ـ نفس المصدر السابق.


(230)
     وأن من جرى في عنان أمله عثر بأجله (1).
     وأن أشرف الغنى ترك المنى (2).
     وأن علياً عليه السلام قال : من أيقن أنه يفارق الأحباب ويسكن التراب ويواجه الحساب ويستغني عما خلّف ويفتقر إلى ما قدم ، كان حرياً بقصر الأمل وطول العمل (3).


1 ـ نهج البلاغة : الحكمة 19 ـ وسائل الشيعة : ج2 ، ص652 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص166.
2 ـ نهج البلاغة : الحكمة 34 و 211 ـ غرر الحكم ودرر الكلم : ج2 ، ص390.
3 ـ كنز الفوائد : ج1 ، ص351 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص167.
دروس في الاخلاق ::: فهرس