فبرز إليه علي عليه السلام وهو يقول:

«إنّ على كلّ رئيس حقّا * أن يروي الصعدة(1)أو تدقّا»

ثمّ ضربه فقتله، ومضى حتّى كسر الأصنام، وانصرف إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو بعد محاصر لاَهل الطائف ينتظره، فلمّا رآه كبّر وأخذ بيده وخلا به(2).
فروى جابر بن عبدالله قال: لمّا خلا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعليّ بن أبي طالب عليه السلام يوم الطائف أتاه عمر بن الخطّاب فقال: أتناجيه دوننا وتخلو به دوننا؟ فقال: «يا عمر، ما أنا انتجيته بل الله انتجاه» قال: فأعرض وهو يقول: هذا كما قلت لنا يوم الحديبية لتدخلّن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلّقين، فلم ندخله وصددنا عنه. فناداه صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لم أقل لكم إنّكم تدخلونه ذلك العام»(3)
قال: فلمّا قدم عليّ عليه السلام فكأنّما كان رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم على وجل فارتحل فنادى سعيد بن عبيدة: ألا ان الحيّ مقيم، فقال عليه السلام: «لا أقمت ولا ظعنت» فسقط فانكسر فخذه(4).
وعن محمّد بن إسحاق قال: حاصر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أهل الطائف ثلاثين ليلة أو قريباً من ذلك، ثمّ انصرف عنهم ولم يؤذن
____________
(1) الصعدة: القناة المستوية تنبت كذلك، ومن القصب أيضاً. «العين 1: 290».
(2) ارشاد المفيد 1: 152، والمناقب لابن شهر آشوب 1: 211، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21: 169.
(3) ارشاد المفيد 1: 153، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21: 169.
(4) نقله المجلسي في بحار الأنوار 21: 169.

( 236 )
فيهم ، فجاءه وفده في شهر رمضان فأسلموا(1).

فصل
ثمّ رجع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الجعرانة بمن معه من الناس، وقسّم بها ما أصاب من الغنائم يوم حنين في المؤلّفة قلوبهم من قريش ومن سائر العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء قليل ولا كثير(2).
قيل: إنّه جعل للأنصار شيئاً يسيراً، وأعطى الجمهور للمتألّفين(3).
قال محمّد بن إسحاق: فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة بعير، ومعاوية ابنه مائة بعير، وحكيم بن حزام من بني أسد بن عبد العزّى بن قصي مائة بعير، وأعطى النضير بن الحارث بن كلدة مائة بعير، وأعطى العلاء بن حارثة الثقفي حليف بني زهرة مائة بعير، وأعطى الحارث بن هشام من بني مخزوم مائة، وجبير بن مطعم من بني نوفل بن عبد مناف مائة، ومالك بن عوف النصري مائة، فهؤلاء أصحاب المائة.
وقيل: إنّه أعطى علقمة بن علاثة مائة، والأقرع بن حابس مائة، وعيينة بن حصن مائة، وأعطى العبّاس بن مرداس أربعأً فتسخطها وأنشأ يقول:

____________
(1) المناقب لابن شهر آشوب 1 : 212 ، ودلائل النبوة للبيهقي : 5 : 169 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 169 . .
(2) انظر :ارشاد المفيد 1 : 145 ،سيرة ابن هشام 4: 135، ودلائل النبوة للبيهقي 5 : 176 ، ونقله المجلسي في بحارالأنوار 21 : 169 .
(3) ارشاد المفيد 1 : 153 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 169 .

( 237 )

أتجعل نهبي ونهب العبيـ * ـد بين عيينة والأقرع
فما كان حصن ولا حابس * يفوقان مرداس في مجمع
وما كنت دون امرء منهما * ومن تضع اليوم لا يرفع
وقد كنتُ في الحرب ذا تدرأ * فلم أعط شيئاً ولم أمنع

فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أنت القائل:

أتجعل نهبي ونهب العبيـ * ـد بين الأقرع وعيينة»
فقال أبو بكر: بأبي أنت واُمّي لست بشاعر، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «كيف قال؟» فأنشده أبو بكر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «يا عليّ قم فاقطع لسانه».
قال عبّاس: فوالله لهذه الكلمة كانت أشدّ عليّ من يوم خثعم، فأخذ عليّ عليه السلام بيدي فانطلق بي فقلت: يا عليّ إنّك لقاطع لساني؟ قال: «إنّي ممض فيك ما اُمرت» حتّى أدخلني الحظائر فقال: «اعقل ما بين أربعة إلى مائة».
قال : قلت : بأبي أنتم واُمي ، ما أكرمكم وأحمكم وأجملكم وأعلمكم .
فقال لي: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلمّ أعطاك أربعاً وجعلك مع المهاجرين، فإن شئت فخذها، وإن شئت فخذ المائة وكن مع أهل المائة».
قال: فقلت لعلي عليه السلام: أشر أنت علي.
قال: «فإنّي آمرك أن تأخذ ما أعطاك وترضى» قال: فإنّي أفعل(1).

____________
(1) انظر : ارشاد المفيد 1 : 146 ـ 147 ، المغازي للواقدي 3 : 945 ـ 947 ، وسيرة ابن هشام 4 : 136 ـ 137 ، وتأريخ الطبري 3 : 90 ـ 91 ، ودلائل النبوة للبيهقي 5 : 178 ـ 183 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 170 .

( 238 )
قال: وغضب قوم من الأنصار لذلك وظهر منهم كلام قبيح حتّى قال قائلهم: لقي الرجل أهله وبني عمّه ونحن أصحاب كلّ كريهة، فلمّا رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما دخل على الأنصار من ذلك أمرهم أن يقعدوا ولا يقعد معهم غيرهم، ثمّ أتاهم شبه المغضب يتبعه علي عليه السلام، حتّى جلس وسطهم، فقال: «ألم آتكم وأنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم الله منها بي؟».
قالوا: بلى، ولله ولرسوله المنّ والطول والفضل علينا.
قال: «ألم آتكم وأنتم أعداء فألّف الله بين قلوبكم بي؟».
قالوا: أجل.
ثمّ قال: «ألم آتكم وأنتم قليل فكثّركم الله ربي» وقال ما شاء الله أن يقول ثمّ سكت، ثمّ قال: «ألا تجيبوني ؟».
قالوا: بم نجيبك يا رسول الله، فداك أبونا واُمّنا، لك المنّ والفضل والطول.
قال: «بل لو شئتم قلتم: جئتنا طريداً مكذَّبا فآويناك وصدّقناك، وجئتنا خائفاً فآمنّاك».
فارتفعت أصواتهم، وقام إليه شيوخهم فقبّلوا يديه ورجليه وركبتيه، ثم قالوا: رضينا عن الله وعن رسوله، وهذه أموالنا أيضاً بين يديك فأقسمها بين قومك إن شئت.
فقال: «يا معشر الأنصار، أوجدتم في أنفسكم إذ قسّمت مالاً أتالّف به قوماً ووكلتكم إلى إيمانكم، أما ترضون أن يرجع غيركم بالشاء والنعم ورجعتم أنتم ورسول الله في سهمكم؟».

( 239 )
ثمّ قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «الأنصار كرشي وعيبتي(1)لو سلك الناس وادياً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهمّ اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار»(2).

فصل:
قال: وقد كان فيما سبي اُخته بنت حليمة، فلمّا قامت على رأسه قالت: يا محمّد اُختك شيماء بنت حليمة، قال: فنزع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم برده فبسطه لها فأجلسها عليه، ثمّ أكبّ عليها يسائلها، وهي التي كانت تحضنه إذ كانت اُمّها ترضعه(3).
وأدرك وفد هوازن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالجعرانة وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله لنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا منَّ الله عليك.
وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال: يا رسول الله، إنّا لو ملحنا الحارث بن أبي شمر أو النعمان بن المنذر، ثمّ ولي منّا مثل الذي وليت لعاد علينا بفضله وعطفه وأنت خير المكفولين، وإنّما في الحظائر خالاتك وبنات
____________
(1) قال ابن الاثير في شرح هذا القول : أراد أنهم بطانته وموضع سره وأمانته ، والذين يعتمد عليهم في اُموره ، واستعار الكرش والعيبة لذلك ، لأنّ المجتر يجمع علفه في كرشه ، والرجل يضع ثيابة في عيبته .
وقيل : أراد بالكرش الجماعة ، أي جماعتي وصحابتي ، ويقال : عليه كرش من الناس : أي جماعة . «النهاية 4 : 163» .
(2) ارشاد المفيد 1 : 145 ، وباختلاف يسير في المغازي للواقدي 3 : 956 ـ 958 ، وسيرة ابن هشام 4 : 141 ـ 143 ، ودلائل النبوة 5 : 176 ـ 178 ، والكامل في التأريخ 2 : 271 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 171 .
(3) المغازي للواقدي 3 : 913 ، سيرة ابن هشام 4 : 101 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 : 199 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 172 .

( 240 )
خالاتك وحواضنك وبنات حواضنك اللاتي أرضعنك، ولسنا نسألك مالاً، إنّما نسألكهنّ.
وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قسّم منهنّ ما شاء الله فلمّا كلّمته أخته قال: «أمّا نصيبي ونصيب بني عبد المطّلب فهو لك، وأمّا ما كان للمسلمين فاستشفعي بي عليهم».
فلمّا صلّوا الظهر، قامت فتكلّمت وتكلّموا فوهب لها الناس أجمعون إلاّ الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، فإنّهما أبيا أن يهبا وقالوا: يا رسول الله إنّ هؤلاء قوم قد أصابوا من نسائنا فنحن نصيب من نسائهم مثل ما أصابوا.
فأقرع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بينهم ثمّ قال: «اللهمّ توّه سهميهما» فأصاب أحدهما خادماً لبني عقيل، وأصاب الآخر خادماً لبني نمير، فلمّا رأيا ذلك وهبا ما منعا.
قال: ولولا أنّ نساء وقعن في القسمة لوهبهنّ لها كما وهب ما لم يقع في القسمة ولكنهنّ وقعن في انصباء الناس فلم يأخذ منهم إلاّ بطيبة النفس(1).
وروي: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال : «من أمسك منكم بحقّه فله بكل إنسان ستّ فرائض من أوّل فيء نصيبه، فردّوا إلى الناس نساءهم وأبناهم»(2).
قال: وكلّمته اُخته في مالك بن عوف فقال: «إن جاءني فهو آمن» فأتاه

____________
(1) انظر : المغازي للواقدي 2 : 949 وسيرة ابن هشام 4 | 131 ، ودلائل النبوة للبيهقي 5 : 195 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 172 .
(2) سيرة ابن هشام 4 : 132 ، وتأريخ الطبري 3 : 87 ، والكامل في التأريخ 2 : 269 ، دلائل النبوة للبيهقي 195 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 173 .

( 241 )
فردّ عليه ماله وأعطاه مائة من الإبل(1)

فصل
روى الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدريّ قال: بينا نحن عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يقسّم إذ أتاه ذو الخويصرة ـ رجلٌ من بني تميم ـ فقال: يا رسول الله أعدل.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ويلك من يعدل إن أنا لم أعدل، وقد خبت وخسرت إن أنا لم أعدل».
فقال عمر بن الخطّاب: يا رسول الله ائذن لي فيه اضرب عنقه.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «دعه فإنّ له أصحاباً يحقّر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الاِسلام كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثمّ ينظر إلى رصافه(2)فلا يوجد فيه شيء، ثمّ ينظر إلى نصله نضيّه ـ وهو قدحه ـ فلا يوجد فيه شيء، ثمّ ينظر في قُذَذه(3)فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آتيهم رجلٌ أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تَدَردر(4)، يخرجون على خير فرقة من الناس».
قال أبو سعيد: فأشهد أنّي سمعت هذا من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأشهد أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام قاتلهم وأنا معه، وأمر
____________
(1) المغازي للواقدي 3 : 954 ، سيرة ابن هشام 4 : 133 ، تأريخ الطبري 3 : 88 ، الكامل في التأريخ 2 : 269 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 : 198 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 173 .
(2) الرصاف : عقب يُلوى على مدخل الفصل فيه «النهاية 2 : 227» .
(3) القذذ : ريش السهم ، واحدتها قُذّة . «النهاية 2 : 227» .
(4) تدردر : أي ترجرج تجيء وتذهب . «النهاية ـ دردر ـ 2 : 112» .

( 242 )
بذلك الرجل فالتمس فوجد فاُتي به حتّى نظرت إليه على نعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي نعت.
رواه البخاريّ في الصحيح(1)

فصل:
قالوا: ثمّ ركب رسول الله وأتبعه الناس يقولون: يا رسول الله أقسم علينا فيئنا، حتّى ألجؤوه إلى شجرة فانتزع عنه رداءه فقال: «أيّها الناس ردّوا عليّ ردائي، فوالذي نفسي بيده لو كان عندي عدد شجرتها نعماً لقسمته عليكم، ثمّ ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً».
ثمّ قام إلى جنب بعير وأخذ من سنامه وبرة فجعلها بين إصبعيه فقال: «يا أيّها الناس والله مالي من فيئكم هذه الوبرة إلاّ الخُمس والخُمس مردود عليكم، فأدّوا الخياط والمخيط، فإنّ الغلول عارٌ ونارٌ وشنارٌ على أهله يوم القيامة».
فجاءه رجلٌ من الأنصار بكبّة من خيوط شعر، فقال: يا رسول الله أخذت هذه لأخيط بها برذعة بعير لي.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أمّا حقّي منها فلك».
فقال الرجل: أمّا إذا بلغ الأمر هذا فلا حاجة لي بها، ورمى بها من يده(2).
ثمّ خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من الجعرانة في ذي القعدة إلى مكّة فقضى بها عمرته، ثمّ صدر إلى المدينة وخليفته على أهل مكّة معاذ بن جبل(3).

____________
(1) صحيح البخاري 4 : 243 ، وكذا في : صحيح مسلم 2 : 744 | 148 ، مسند أحمد 3 : 56 و 65 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 : 187 .
(2) سيرة ابن هشام 4 : 134 ، تأريخ الطبري 3 : 89 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 : 195 و 196 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 174 .
(3) دلائل النبوة للبيهقي 5 : 203 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 174 .

( 243 )
وقال محمّد بن إسحاق: استخلف عتّاب بن اُسيد وخلّف معه معاذاً يفقه الناس في الدين ويعلّمهم القرآن، وحجّ بالناس في تلك السنة وهي سنة ثمان عتّاب بن اُسيد، وأقام صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمدينة ما بين ذي الحجة إلى رجب(1).
ثمّ كانت غزوة تبوك: تهيّأ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في رجب لغزو الرُوم، وكتب إلى قبائل العرب ممّن قد دخل في الاِسلام وبعث إليهم الرسل يرغّبهم في الجهاد والغزو، وكتب إلى تميم وغطفان وطيّ، وبعث إلى عتّاب بن اُسيد عامله على مكّة يستنفرهم لغزو الروم.
فلمّا تهيّأ للخروج قام خطبياً فحمد الله وأثنى عليه ورغّب في المواساة وتقوية الضعيف والإنفاق، فكان أوّل من أنفق فيها عثمان بن عفّان جاء بأواني من فضّة فصبّها في حجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فجهّز ناساً من أهل الضعف، وهو الذي يقال إنّه جهّز جيش العسرة.
وقدم العبّاس على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأنفق نفقة حسنة وجهّز، وسارع فيها الأنصار، وأنفق عبد الرحمن والزبير وطلحة، وأنفق ناس من المنافقين رياءً وسمعة، فنزل القرآن بذلك.
وضرب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عسكره فوق ثنيّة الوداع بمن تبعه من المهاجرين وقبائل العرب وبني كنانة وأهل تهامة ومزينة وجهينة وطيّ وتميم، واستعمل على المدينة عليّاً عليه السلام وقال له: «إنّه لابدّ للمدينة منّي أو منك».
واستعمل الزبير على راية المهاجرين، وطلحة بن عبيدالله على

____________
(1) المغازي للواقدي 3 : 959 ، سيرة ابن هشام 4 : 143 ، تأريخ الطبري 3 : 94 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 : 203 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 174 .

( 244 )
الميمنة، وعبد الرحمن بن عوف على الميسرة.
وسار رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتّى نزل الجرف، فرجع عبدالله بن اُبيّ بغير إذن فقال عليه السلام: «حسبي الله هو الذي أيدني بنصره وبالمؤمنين وألّف بين قلوبهم» فلمّا انتهى إلى الجرف لحقه عليّ عليه السلام وأخذ بغرز(1) رجله وقال: «يا رسول الله زعمت قريش أنّك انما خلّفتني استثقالاً لي».
فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «طالما آذت الاُمم أنبياءها، أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؟».
فقال: «قد رضيت قد رضيت». ثمّ رجع إلى المدينة.
وقدم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تبوك في شعبان يوم الثلاثاء فأقام بقيّة شعبان وأيّاماً من شهر رمضان، وأتاه وهو بتبوك يحنّة بن رؤبة صاحب إيلة(2) فأعطاه الجزية وكتب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم له كتاباً، والكتاب عندهم، وكتب أيضاً لاَهل جرباء وأذُرح(3)كتاباً.
وبعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو بتبوك بأبي عبيدة بن الجرّاح إلى جمع من بني جذام مع زنباع بن روح الجذامي فأصاب منهم طرفاً وأصاب منهم سبايا، وبعث سعد بن عبادة إلى ناس من بني سليم وجموع من بليّ، فلمّا قارب القوم هربوا.
وبعث خالداً إلى الاُكيدر صاحب دومة الجندل وقال له: «لعل الله يكفيكه بصيد البقر فتأخذه».

____________
(1) الغرز : ركاب الرحل . «لسان العرب 5 : 386».
(2) ايلة : مدينة بين الفسطاط ومكة على شاطئ بحر القلزم ، تعد من بلاد الشام . «معجم البلدان 1 : 292».
(3) جرباء وأذرح : قريتان بالشام بينهما ثلاث ليال . «النهاية 1 : 254».

( 245 )
فبينا فخالد وأصحابه في ليلة إضحيان إذ أقبلت البقرة تنتطح فجعلت تنطح باب حصن اُكيدر وهو مع امرأتين له يشرب الخمر، فقام فركب هو وحسّان أخوه وناس من أهله فطلبوها وقد كمن له خالد وأصحابه فتلقّاه اُكيدر وهو يتصيّد البقر فأخذوه وقتلوا أخاه حسّاناً وعليه قباء مخوّص بالذهب، وأفلت أصحابه فدخلوا الحصن وأغلقوا الباب دونهم، فأقبل خالد باُكيدر وسار معه أصحابه فسألهم أن يفتحوا له فأبوا فقال: أرسلني فإنّي أفتح الباب، فأخذ عليه موثقاً وأرسله فدخل وفتح الباب حتّى دخل خالد وأصحابه، وأعطاه ثمانمائة رأس وألفي بعير وأربعمائة درع وأربعمائة رمح وخمسمائة سيف، فقبل ذلك منه وأقبل به إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فحقن دمه وصالحه على الجزية(1).
وفي كتاب دلائل النبوّة للشيخ أبي أحمد البيهقي: أخبرنا أبو عبدالله الحافظ ـ وذكر الاِسناد مرفوعاً إلى أبي الأسود ـ عن عروة قال: لمّا رجع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قافلاً من تبوك إلى المدينة حتّى إذا كان ببعض الطريق مكر به ناس من أصحابه فتآمروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق أرادوا أن يسلكوها معه، فاُخبر رسول ألله خبرهم، فقال: «من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنّه أوسع لكم».
فأخذ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم العقبة وأخذ الناس بطن الوادي إلاّ النفر الذين أرادا المكر به استعدّوا وتلثّموا، وأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حذيفة بن اليمان وعمّار بن ياسر فمشيا معه مشياً، وأمر عمّاراً أن
____________
(1)انظر : ارشاد المفيد 1 : 154 ، المغازي للواقدي 3 : 1025 ، سيرة ابن هشام 4 : 169 ، الطبقات الكبرى 2 : 165 ، تأريخ اليعقوبي 2 : 68 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 : 252 ، الكامل في التأريخ 2 : 278 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 244 | 25 .

( 246 )
يأخذ بزمام الناقة، وأمر حذيفة بسوقها، فبينا هم يسيرون إذ سمعوا ركزة(1) القوم من ورائهم قد غشوه، فغضب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمر حذيفة أن يردّهم فرجع ومعه محجن، فاسقبل وجوه رواحلهم وضربها ضرباً بالمحجن، وأبصر القوم وهم متلثّمون، فرعّبهم الله حين أبصروا حذيفة وظنّوا أنّ مكرهم قد ظهر عليه، فأسرعوا حتّى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتّى أدرك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فلمّا أدركه قال: «اضرب الراحلة يا حذيفة، وامش أنت يا عمّار».
فأسرعوا وخرجوا من العقبة ينتظرون الناس، فقال النبيّ: «يا حذيفة هل عرفت من هؤلاء الرهط ـ أو الركب ـ أحداً؟».
فقال حذيفة: عرفت راحلة فلان وفلان وكانت ظلمة الليل غشيتهم وهم متلثّمون.
فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «هل علمتم ما شأن الركب وما أرادو ؟».
قالا: لا يارسول الله.
قال: «فإنّهم مكروا ليسيروا معي حتّى إذا أظلمت في العقبة طرحوني منها».
قالا: أفلا تأمر بهم يا رسول الله إذا جاءك الناس فتضرب أعناقهم؟».
قال: «أكره أن يتحدّث الناس ويقولون: إنّ محمّداً قد وضع يده في أصحابه» فسمّاهم لهما وقال: «اُكتماهم»(2).
وفي كتاب أبان بن عثمان: قال الأعمش: وكانوا اثني عشر، سبعة من
____________
(1)الركز : الصوت الخفي ، وقيل : هو الصوت ليس بالشديد . «لسان العرب 5 : 355».
(2) دلائل النبوة للبيهقي 5 : 256 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 247 | 25 .

( 247 )
قريش(1).
قال: وقدم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المدينة وكان إذا قدم من سفر استقبل بالحسن والحسين عليهما السلام فاخذهما إليه وحفّ المسلمون به حتّى يدخل على فاطمة عليها السلام ويقعدون بالباب، وإذا خرج مشوا معه، وإذا دخل منزله تفرّقوا عنه(2).
وعن أبي حميد الساعدي قال : أقبلنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من غزوة تبوك حتّى إذا أشرفنا على المدينة قال: «هذه طابة، وهذا اُحد جبل يحبّنا ونحبّه»(3).
وعن أنس بن مالك: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا دنا من المدينة قال: «إنّ بالمدينة لاَقواماً ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلاّ كانوا معكم فيه».
قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟
قال: «نعم، وهم بالمدينة، حبسهم العذر»(4).
وكانت تبوك آخر غزوات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ومات عبدالله بن اُبيّ بعد رجوع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من غزوة تبوك(5).

____________
(1) انظر : دلائل النبوة للبيهقي 5 : 259 و 260 ، البداية والنهاية 5 : 20 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 248 | 25 .
(2) نقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 248 | 25 .
(3) صحيح البخاري 6 : 9 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 : 266 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 248 ؟ 25 .
(4) صحيح البخاري 6 : 10 ، سنن ابن ماجة 2 : 923 ؟ 2764 ، مسند أحمد 3 : 103 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 : 267 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 248 | 25 .
(5) دلائل النبوة للبيهقي 5 : 285 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 248 | 25 .

( 248 )

فصل
ونزلت سورة (بَراءة من الله وَرَسُولهِ )(1)في سنة تسع، فدفها إلى أبي بكر فسار بها، فنزل جبرئيل عليه السلام فقال: «إنّه لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو عليّ».
فبعث عليّاً عليه السلام على ناقته العضباء فلحقه فأخذ منه الكتاب، فقال له أبو بكر: أنزل فيَّ شيِ؟
قال: «لا ولكن لا يؤدي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلاّ هو أو أنا».
فسار بها عليّ عليه السلام حتّى أذّن بمكّة يوم النحر وأيّام التشريق، وكان في عهده: أن ينبذ إلى المشركين عهدهم، وأن لا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل المسجد مشرك، ومن كان له عهد فإلى مدّته، ومن لم يكن له عهد فله أربعة أشهر فإن أخذناه بعد أربعة أشهر قتلناه، وذلك قوله تعالى: (فَاذَا انسلَخَ الأشهُرُ الحُرُمُ ـ إلى قوله:ـ كُلَّ مَرصَدٍ)(2).
قال: ولما دخل مكّة اخترط سيفه وقال: «والله لا يطوف بالبيت عريان إلاّ ضربته بالسيف» حتّى ألبسهم الثياب، فطافوا وعليهم الثياب .
(3)
____________
(1) التوبة 9 : 1 .
(2) التوبة 9 : 5 .
(3) انظر : تفسير العياشي 2 : 73 | 4 ، ارشاد المفيد 1 : 65 ، سيرة ابن هشام 4 : 190 ـ 191 ، مسند أحمد 1 : 151 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 76 ، خصائص النسائي : 92 | 76 ، تاريخ الطبري 3 : 123 ، تفسير الطبري 10 : 46 ، مستدرك الحاكم 3 : 52 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 : 296 ـ 298 ، مناقب الخوارزمي : 100 و 101 ، كفاية الطالب : 254 ، الدر المنثور 4 : 122 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 274 | 9 .

( 249 )
فصل:
قام: ثمّ قدم على رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم عروة بن مسعود الثقفي مسلماً واستأذن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الرجوع إلى قومه فقال: «إنّي أخاف أن يقتلوك».
فقال: إن وجدوني نائماً ما أيقظوني. فأذن له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فرجع إلى الطائف ودعاهم إلى الاِسلام ونصح لهم فعصوه وأسمعوه الأذى، حتّى إذا طلع الفجر قام في غرفة من داره فأذّن وتشهّد، فرماه رجلٌ بسهم فقتله، وأقبل بعد قتله من وفد ثقيف بضعة عشر رجلاً هم أشراف ثقيف فأسلموا فأكرمهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وحيّاهم وأمّر عليهم عثمان بن أبي العاص بن بشر، وقد كان تعلّم سوراً من القرآن(1).
وقد ورد في الخبر عنه أنّه قال: قلت: يا رسول الله إنّ الشيطان قد حال بين صلاتي وقراءتي.
قال: «ذاك شيطان يقال له: خنزب، فإذا خشيت فتعوّذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثاً».
قال: ففعلت فأذهب الله عنّي.
رواه مسلم في الصحيح(2).

____________
(1) انظر : سيرة ابن هشام 4 : 182 ، الطبقات الكبرى 1 : 312 ،تاريخ الطبري 3 : 96 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 : 299 ، الكامل في التأريخ 2 : 283 ، عيون الأثر 2 | 228 ، تأريخ الاسلام للذهبي (المغازلي) : 668 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 364 | 1 .
(2) صحيح مسلم 4 : 1728 | 2203 ، وكذا في : دلائل النبوة للبيهقي 5 : 307 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 364 | 1 .

( 250 )
فصل:
فلمّا أسلمت ثقيف ضربت إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وفود العرب فدخلوا في دين الله أفواجاً كما قال الله سبحانه، فقدم عليه صلى الله وآله وسلّم عطارد بن حاجب بن زرارة في أشراف من بني تميم منهم: الأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، وعيينة بن حصن الفزاريّ، وعمرو بن الأهتم، وكان الأقرع وعيينة شهدا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فتح مكّة وحنيناً والطائف، فلمّا قدم وفد تميم دخلا معهم فأجارهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأحسن جوارهم(1).
وممّن قدم عليه صلّى وآله وسلّم وقد بني عامر فيهم: عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس أخو لبيد بن ربيعة لامّه، وكان عامر قد قال لأربد: إنّي شاغلٌ عنك وجهه فإذا فعلته فأعله بالسيف.
فلمّا قدموا عليه، قال عامر: يا محمد خالني، فقال: «لا، حتّى تؤمن بالله وحده»ـ قالها مرّتين ـ فلمّا أبى عليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: والله لأملاَنّها عليك خيلاً حمراً ورجالاً، فلمّا ولّى قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «اللهمّ اكفني عامر بن الطفيل».
فلمّا خرجوا قال عامر لأربد: أين ما كنت أمرتك به؟ قال: والله ما هممت بالذي أمرتني به إلاّ دخلت بيني وبين الرجل، أفأضربك بالسيف؟
وبعث الله على عامر بن الطفيل في طريقه ذلك الطاعون في عنقه فقتله في
____________
(1) سيرة ابن هشام 4 : 206 ـ 207 ، تاريخ الطبري 3 : 115 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 : 313 ، الكامل في التأريخ 2 : 287 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 364 | ذيل ح 1 .

( 251 )
بيت امرأة من سلول، وخرج أصحابه حين واروه إلى بلادهم، وأرسل الله تعالى على أربد وعلى جملة صاعقة فأحرقتهما(1).
وفي كتاب أبان عن عثمان: أنّهما قدما على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد غزوة بني النضير قال: وجعل يقول عامر عند موته: أغدّة كغدّة(2) البكر وموت في بيت سلوليّة؟
قال: وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال في عامر وأربد: «اللّهم أبدلني بهما فارسي العرب» فقدم عليه زين بن مهلهل الطائي ـ وهو زيد الخيل ـ وعمرو بن معدي كرب(3).

فصل:
وممّن قدم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وفد طيّ فيهم: زيدالخيل، وعديّ بن حاتم، فعرض عليهم الاِسلام فأسلموا وحسن إسلامهم، وسمّاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم زيد الخير، وقطع له فيداً وأرضين معه وكتب له كتاباً، فلمّا خرج زيد من عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم راجعاً إلى قومه قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إن ينج زيد من حمّى المدينة أو من اُمّ ملدم» (4).

____________
(1) سيرة ابن هشام 4 : 213، والطبقات الكبرى 1 : 310 ، تاريخ الطبري 3 : 144 ، ودلائل النبوة للبيهقي 5 : 318 ، والبداية والنهاية 5 : 56 ، تاريخ الاسلام للذهبي (المغازي) : 679 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 365 | ذيل ح 1 .
(2) الغدة : طاعون الابل وقلّما تسلم منه ، والبكر : الفتى من الابل . «لسان العرب 3 : 323 و 4 : 79» .
(3) نقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 365 .
(4) ام ملدم : كنية الحمى ، والعرب تقول : قالت الحمى : أنا اُم آكل اللحم وامص الدم .
«لسان العرب 12 : 539» .

( 252 )
فلمّا انتهى من بلد نجد إلى ماء يقال له فردة أصابته الحمّى فمات بها، وعمدت امرأته إلى ما كان معه من الكتب فأحرقتها(1).
وذكر محمّد بن إسحاق: أنّ عديّ بن حاتم فرّ، وأنّ خيل رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم قد أخذوا اُخته فقدموا بها على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنّه منّ عليها وكساها وأعطاها نفقة، فخرجت مع ركب حتّى قدمت الشام وأشارت على أخيها بالقدوم فقدم وأسلم وأكرمه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأجلسه على وسادة رمى بها إليه بيده(2).

فصل:
وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عمرو بن معدي كرب وأسلم، ثمّ نظر إلى اُبي بن عثعث الخثعمي فأخذ برقبته وأدناه إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: أعدني على هذا الفاجر الذي قتل والدي.
فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أهدر الاِسلام ما كان في الجاهليّة».
فانصرف عمرو مرتدّاً وأغار على قوم من بني الحارث بن كعب، فأنفذ رسول الله عليّاً عليه السلام إلى بني زبيد وأمّره على المهاجرين، وأرسل خالد بن الوليد في طائفة من الأعراب وأمره أن يقصد الجعفي فإذا التقيا فأمير الناس عليّ بن أبي طالب.
فسار عليّ عليه السلام، واستعمل على مقدّمته خالد بن سعيد بن
____________
(1) سيرة ابن هشام 4 : 224، والطبقات الكبرى 1 : 321 ، تاريخ الطبري 2 : 145 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 : 337 ، الكامل في التأريخ 2 : 299 ، عيون الأثر 2 : 236 ، البداية والنهاية 5 : 63 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 365 .
(2) سيرة ابن هشام 4 : 225 ، الطبقات الكبرى 1 : 322 ، دلائل النبوة للبيهقي 5 : 338 ، عيون الأثر 2 : 237 ، البداية والنهاية 5 : 63 ـ 68، الكامل في التأريخ 2 : 285 ،ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 366 | 1 .

( 253 )
العاص، فلمّا رأوه بنو زبيد قالوا لعمرو: كيف أنت يا أبا ثور إذا لقيك هذا الغلام القرشيّ فأخذ منك الأتارة(1) ؟ فقال: سيعلم إن لقيني.
وخرج عمرو وخرج أمير المؤمنين علي عليه السلام فصاح به صيحة فانهزم، وقتل أخوه وابن أخيه، واُخذت امرأته ركانة، وسبي منهم نسوان، وخلّف على بني زبيد خالد بن سعيد ليقبض زكواتهم ويؤمن من عاد إليه من هرابهم مسلماً.
فرجع عمرو واستأذن على خالد بن سعيد فأذن له فعاد إلى الاِسلام، وكلّمه في امرأته وولده فوهبهم له، وكان أمير المؤمنين علي عليه السلام قد اصطفى من السبي جارية، فبعث خالد بريدة الأسلمي إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال له: تقدّم الجيش إليه فأعلمه ما فعل عليّ من اصطفائه الجارية من الخمس لنفسه، وقع فيه.
فسار بريدة حتّى دخل على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ومعه كتاب خالد فجعل يقرأه على رسول الله ووجهه يتغيّر فقال بريدة: إن رخّصت يا رسول الله للناس في مثل هذا ذهب فيؤهم.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ويحك يا بريدة أحدثت نفاقاً، إنّ عليّ بن أبي طالب يحلّ له من الفيء ما يحلّ لي، إنّ عليّ بن أبي طالب خير الناس لك ولقومك، وخير من اُخلّف بعدي لكافّة اُمّتي، يا بريدة أحذر أن تبغض عليّاً فيبغضك الله».
قال بريدة: فتمنّيت أنّ الأرض انشقّت لي فسخت فيها وقلت: أعوذ بالله من سخط الله وسخط رسول الله، يا رسول الله استغفر لي فلن أبغض عليّاً أبداً ولا أقول فيه إلاّ خيراً. فاستغفر له النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.

____________
(1) الاتارة : الخراج . «العين 8 : 147» .

( 254 )
قال بريدة : فصار عليّ أحبّ خلق الله بعد رسوله إليّ(1).

فصل:
وقدم على رسول الله صلّى الله وآله وسلّم وفد نجران فيهم بضعة عشر رجلاً من أشرافهم، وثلاثة نفر يتولّون اُمورهم: العاقب وهو أميرهم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلاّ عن رأيه وأمره واسمه عبد المسيح، والسيّد وهو ثمالهم وصاحب رحلهم واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة الاُسقف وهو حبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم له فيهم شرف ومنزلة، وكانت ملوك الروم قد بنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات لما يبلغهم من علمه واجتهاده في دينهم.
فلمّا وجّهوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جلس أبو حارثة على بغلة وإلى جنبه أخ له يقال له: كرز ـ أو بشرـ بن علقمة يسايره إذ عثرت بغلة أبي حارثة، فقال كرز: تعس الأبعد ـ يعني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ.
فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست.
قال له ولم يا أخ؟
فقال: والله إنّه للنبيّ الذي كنّا نتظر.
فقال كرز: فما يمنعك أن تتّبعه؟
فقال: ما صنع بنا هؤلاء القوم، شرّفونا وموّلونا وأكرمونا، وقد أبوا إلاّ خلافه، ولو فعلت نزعوا منّا كلّ ما ترى. فأضمر عليها منه أخوه كرز حتّى أسلم ثمّ مرّ يضرب راحلته ويقول:
____________
(1) انظر : ارشاد المفيد 1 : 158 ، كشف الغمة 1 : 228 ، عيون الأثر 2 : 240 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 358 | ذيل ح 1 .

( 255 )

إليك تعدو قلقاً وضينها(1) * معترضاً في بطنها جنينها
مخالفاً دين النصارى دينها
فلمّا قدم على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
قال: فقدموا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقت العصر وفي لباسهم الديباج وثياب الحبرة على هيئة لم يقدم بها أحد من العرب، فقال أبو بكر: بأبي أنت واُمّي يا رسول الله لو لبست حلّتك التي أهداها لك قيصر فرأوك فيها.
قال: ثمّ أتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فسلّموا عليه فلم يردّ عليهم السلام ولم يكلّمهم، فانطلقوا يتتبّعون عثمان بن عفّان وعبد الرحمن بن عوف ـ وكانا معرفة لهم ـ فوجدوهما في مجلس من المهاجرين، فقالوا: إنّ نبيّكم كتب إلينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له، فأتيناه فسلّمنا عليه فلم يردّ سلامنا ولم يكلّمنا، فما الرأي؟
فقالا لعليّ بن أبي طالب: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟
قال: «أرى أن يضعواحللهم هذه وخواتيمهم ثمّ يعودون إليه».
ففعلوا ذلك فسلّموا فردّ عليهم سلامهم، ثمّ قال: «والذي بعثني بالحقّ، لقد أتوني المرّة الاُولى وأنّ إبليس لمعهم». ثمّ سائلوه ودارسوه يومهم، وقال الاُسقف: ما تقول في السيّد المسيح يا محمّد؟
قال: «هو عبدالله ورسوله».
قال: بل كذا وكذا، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: بل هو كذا وكذا، فترادّا، فنزل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من صدر سورة آل
____________
(1) الوظين : بطان منسوج بعضه على بعض ، يشد به الرجل على البعير ، كالحزام للسرج . أراد أنه سريع الحركة ، يصفه بالخفة وقلة الثبات كالحزام إذا كان رخواً ، أو أراد أنها هزلت ودقت للسير عليها . «انظر : النهاية 5 : 199» .

( 256 )
عمران نحو من سبعين آية تتبع بعضها بعضاً، وفيما أنزل الله (إنّ مَثَلَ عيسى عندَ اللهِ كَمَثَلِ آدمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ـ إلى قوله: ـ على الكاذِبينَ)(1).
فقالوا للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: نباهلك غداً، وقال أبو حارثة لأصحابه: انظروا فإن كان محمّد غدا بولده وأهل بيته فاخذروا مباهلته، وإن غدا بأصحابه وأتباعه فباهلوه(2).
قال أبان: حدثني الحسن بن دينار، عن الحسن البصري قال: غدا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم آخذاً بيد الحسن والحسين، تتبعه فاطمة عليهم السلام، وبين يديه عليّ عليه السلام، وغدا العاقب والسيّد بابنين على أحدهما درّتان كأنّهما بيضتا حمام، فحفّوا بأبي حارثة، فقال أبو حارثة: من هؤلاء معه؟
قالوا: هذا ابن عمّه زوج ابنته، وهذان ابنا ابنته، وهذه بنته أعزّ الناس عليه وأقربهم إلى قلبه.
وتقدّم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فجثا على ركبتيه، فقال أبو حارثة: جثا والله كما جثا الأنبياء للمباهلة. فكع ولم يقدم على المباهلة، فقال له السيّد: ادن يا أبا حارثة للمباهلة، فقال: لا، إنّي لاَرى رجلاً جريئاً على المباهلة، وأنا أخاف أن يكون صادقاً فلا يحول والله علينا الحول وفي الدينا نصرانيّ يطعم الماء.
قال: وكان نزل العذاب من السماء لو باهلوه.
فقالوا: يا أبا القاسم، إنّا لا نباهلك، ولكن نصالحك. فصالحهم
____________
(1) آل عمران 3: 59 ـ 61.
(2) انظر: ارشاد المفيد 1: 166، تاريخ اليعقوبي 2: 82، مجمع البيان 1: 451، سيرة ابن هشام 2: 222، الطبقات الكبرى 1: 357، دلائل النبوة للبيهقي 5: 382، الكامل في التاريخ 2: 93، البداية والنهايه 5: 54، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21: 336 | 2.

( 257 )
النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على ألفي حلّة من حلل الأواقي قيمة كلّ حلّة أربعون درهماً جياداً، وكتب لهم بذلك كتاباً. وقال لاَبي حارثة الاُسقف: «لكأنّني بك قد ذهبت إلى ذهبت إلى رحلك وأنت وسنان فجعلت مقدّمه مؤخّره» فلمّا رجع قام يرحل راحلته فجعل رحله مقلوباً فقال: أشهد أن محمّداً رسول الله(1).

فصل:
ثمّ بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عليّاً إلى اليمن ليدعوهم إلى الاِسلام ـ وقيل: ليخمّس ركازهم(2)ويعلّمهم الأحكام، ويبيّن لهم الحلال والحرام ـ وإلى أهل نجران ليجمع صدقاتهم، ويقدم عليه بجزيتهم(3)
وروى الحاكم أبو عبدالله الحافظ بإسناده رفعه إلى عمرو بن شاس الأسلمي قال: كنت مع عليّ بن أبي طالب في خليه، فجفاني عليّ بعض الجفاء، فوجدت عليه وفي نفسي، فلمّا قدم المدينة اشتكيته عند من لقيته، فأقبلت يوماً ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جالس في المسجد، فنظر إليّ حتّى جلست إليه فقال: «يا عمرو بن شاس لقد آذيتني».
فقلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، أعوذ بالله والاِسلام أن اُوذي رسول الله.
____________
(1) مجمع البيان 1: 451، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21: 338.
(2) الركاز: دفين أهل الجاهلية، كأنه رُكِزَ في الأرض ركزاً. «الصحاح 3: 880».
(3) انظر: ارشاد المفيد 1: 170، كشف الغمة 1: 235، تاريخ الطبري 3: 131، دلائل النبوة البيهقي 5: 394، الكامل في التاريخ 2: 300، عيون الأثر 2: 271، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21: 360 | 1.

( 258 )
فقال: «من آذى عليّاً فقد آذاني».
وقد كان بعث قبله رسول الله عليه الصلاة والسلام خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الاِسلام فلم يجيبوه.
قال البراء: فكنت مع عليّ عليه السلام، فلمّا دنونا من القوم خرجوا إلينا، فصلى بنا عليّ ثمّ صففنا صفّاً واحداً ثمّ تقدّم بين أيدينا فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأسلمت همدان كلّها، فكتب عليّ عليه السلام إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلمّا قرأ الكتاب خرّ ساجداً ثمّ رفع رأسه فقال: «السلام على همدان»(1).
أخرجه البخاري في الصحيح(2).
وروى الأعمش عن عمرو بن مرّة، عن أبي البختري، عن عليّ عليه السلام قال: «بعثني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى اليمن، قلت: يا رسول الله، تبعثني وأنا شابٌ اقضي بينهم ولا أدري ما القضاء؟!
قال: فضرب بيده في صدري وقال: اللّهم اهد قلبه، وثبّت لسانه، فو الذي نفسي بيده ما شككت في قضاء بين اثنين»(3).

____________
(1) مستدرك الحاكم 3: 122، وانظر كذلك: مسند أحمد 3: 483، تاريخ الطبري 3: 132، دلائل النبوة للبيهقي 5: 394، تذكرة الخواص: 48، اُسد الغابة 4: 114، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21: 360 | 1.
(2) صحيح البخاري 5: 206 مختصراً من وجه آخر عن إبراهيم بن يوسف، وكذا ذكر البيهقي عند نقله للرواية أعلاه، فراجع الهامش السابق.
(3) ارشاد المفيد 1: 194، كشف الغمة 1: 114، الطبقات الكبرى 2: 337، سنن ابن ماجه 2: 774|2310، الأنساب للبلاذري 2: 101 | 33، خصائص النسائي 56 | 32 ـ 36 ، مستدرك الحاكم 3 | 135 ، سنن البيهقي 10 : 86 ، دلائل النبوة للبيهقي 5: 397، الاستيعاب 3: 36، تاريخ بغداد 12: 444، مناقب ابن المغازلي: 249 | 298، مناقب الخوازمي: 41، كفاية الطالب: 106، فرائد السمطين 1: 167،

=