فصل:
وخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من المدينة متوّجّهاً إلى الحجّ في السنة العاشرة لخمس بقين من ذي القعدة، وأذّن في الناس بالحجّ، فتجهّز الناس للخروج معه، وحضرالمدينة من ضواحيها ومن جوانبها خلق كثير، فلمّا انتهى إلى ذي الحليفة ولدت هناك أسماء بنت عميس محمّد بن أبي بكر، فأقام تلك الليلة من أجلها، وأحرم من ذي الحليفة، وأحرم الناس معه، وكان قارناً للحجّ بسياق الهدي ساق معه ستّاً وستّين بدنة.
وحجّ علي عليه السلام من اليمن وساق معه أربعاً وثلاثين بدنة، وخرج بمن معه من العسكر الذي صحبه إلى اليمن ومعه الحلل التي أخذها من أهل نجران، فلمّا قارب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مكّة من طريق المدينة قاربها أمير المؤمنين عليه السلام من طريق اليمن فتقدّم الجيش إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فسرّ رسول الله بذلك وقال له: «بم أهللت يا عليّ؟».
فقال: «يا رسول الله إنّك لم تكتب إليّ بإهلالك، فعقدت نيّتي بنيّتك وقلت: اللهمّ إهلالاً كإهلال نبيّك».
فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «فأنت شريكي في حجّي ومناسكي وهديي، فأقم على إحرامك وعد على جيشك وعجّل بهم إليّ حتّى نجتمع
____________

=

وباختلاف يسير في مسند الطيالسي : 16 ، سنن أبي داود 3 : 301 | 3582 ، أخبار القضاة 1 : 84 ، مسند أبي يعلى 1 : 252 | 293 و 268 | 316 و 323 | 401 ، حلية الأولياء 4 : 381 ، ذخائر العقبى : 83 . ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21 : 360 | 1 .

( 260 )
بمكّة»(1).
وقد روي أيضاً عن الصادق عليه السلام: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ساق في حجّته مائة بدنة، فنحر نيّفاً وستّين، ثمّ أعطى عليّاً فنحر نيّفاً وثلاثين، فلمّا رجع علي عليه السلام إلى جيشه وجد الناس قد لبسوا تلك الحلل، فقال للذي استخلفه عليهم: «ويحك ما دعاك إلى ما فعلت من غير إذن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟» قال: إنّهم سألوني أن أدفعها إليهم فيتجملوا بها ويحرموا فيها.
فقال: «بئس ما فعلوا وبئس ما فعلت».
فانتزعها عليه السلام من القوم وشدّها في الأعدال، فكثرت شكاية القوم عليّاً، فنادى منادي رسول الله صلّى الله عليه وآاله وسلّم: ارفعوا ألسنتكم عن شكاية عليّ فإنّه أخشن في ذات الله.
ولمّا قدم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ومكّة وطاف وسعى نزل عليه جبرئيل عليه السلام ـ وهو على المروة ـ بهذه الآية(وَاتِمّوا الحَجَّ والعُمرَةَ للهِ)(2) فخطب الناس وحمد الله وأثنى عليه، وقال: «دخلت العمرة في الحجّ هكذا إلى يوم القيامة ـ وشبّك بين أصابعه ـ ثمّ قال عليه السلام: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي».
ثمّ أمر مناديه فنادى: من لم يسق منكم هدياً فليحلّ وليجعلها عمرة، ومن ساق منكم هدياً فليقم على إحرامه.
____________
(1) انظر: ارشاد المفيد 1: 171، قصص الأنبياء للراوندي: 355 | 431، صحيح مسلم 2: 888، سيرة ابن هشام 4: 249، دلائل النبوة للبيهقي 5: 399، أحكام القرآن للقرطبي 2: 370 ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21: 383 | 10.
(2) البقرة 2: 196.

( 261 )
وقام إليه رجلٌ من بني عديّ وقال: يا رسول الله أتخرجنّ إلى منى ورؤسنا تقطر من الماء(1) فقال عليه السلام: «إنّك لن تؤمن بها حتّى تموت».
فقام إليه سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد؟
قال: «لا، بل لأبد الأبد».
فأحلّ الناس أجمعون، إلاّ من كان معه هدي.
وخطب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الناس يوم النفرمن منى فودّعهم، ولمّا قضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نسكه وقفل إلى المدينة، وانتهى إلى الموضع المعروف بغدير خمّ، وليس بموضع يصلح للنزول لعدم الماء فيه والمرعى، نزل عليه جبرئيل عليه السلام، وأمره أن يقيم عليّاً وينصبه إماماً للناس، فقال: «ربّ إنّ اُمّتي حديثو عهد بالجاهليّة» فنزل عليه: أنّها عزيمة لا رخصة فيها، فنزلت الآية: (يا اَيُّها الرَّسُولُ بَلَّغ ما اُنزِلَ اِليك مِن رَبَّك وَاِن لَم تَفعل فَما بَلَّغتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعصمُك مِنَ النَّاسِ)(2).
فنزل رسول الله بالمكان الذي ذكرناه، ونزل المسلمون حوله، وكان يوماً شديد الحر، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بدوحات هناك فقمّ ما تحتها، وأمر بجمع الرحال في ذلك المكان ووضع بعضها على بعض، ثمّ أمر مناديه فنادى بالناس الصلاة جامعة، فاجتمعوا إليه، وإنّ أكثرهم ليلفٌ رداءه على قدميه من شدّة الرّمضاء، فصعد صلّى الله عليه وآله وسلّم على تلك الرحال حتّى صار في ذروتها، ودعا عليّاً عليه السلام فرقى معه حتّى قام عن
____________
(1) في نسخة «م»: النساء.
(2) المائدة 5: 67.

( 262 )
يمينه، ثمّ خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ ونعى إلى الاُمّة نفسه فقال: «إنّي دعيت ويوشك أن اُجيب، وقد حان منّي خفوقٌ من بين أظهركم،وإنّي مخلّف فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليه الحوض».
ثمّ نادى بأعلى صوته: «ألست أولى منكم بأنفسكم؟».
فقالوا: اللهمّ بلى.
فقال لهم على النسق وقد أخذ بضبعي(1)عليّ فرفعهما حتى رُئي بياض إبطيهما وقال: «فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله».
ثمّ نزل عليه السلام وكان وقت الظهيرة، فصلى ركعتين، ثمّ زالت الشمس فأذّ ن مؤذّنه لصلاة الظهر فصلّى بالناس وجلس في خيمته، وأمر عليّاً عليه السلام أن يجلس في خيمة له بإزائه، ثمّ أمر المسلمين أن يدخلوا عليه فواجاً فوجاً فيهنّوه بالاِمامة، ويسلّموا عليه بإمرة المؤمنين ، ففعل الناس ذلك اليوم كلّهم ، ثمّ أمر أزواجه وجميع نساء المؤمنين معه أن يدخلن معه ويسلّمن عليه بإمرة المؤمنين ففعلن ذلك، وكان ممّن أطنب في تهنئته بذلك المقام عمر بن الخطّاب وقال فيما قال: بخّ بخّ لك يا عليّ، أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.
وأنشأ حسّان يقول:

يناديهم يوم الغدير نبيّهم * بخمّ وأسمع بالرسول مناديا
وقال فمن مولاكم ووليّكم * فقالوا ولم يبدوا هناك التعاديا
إلهك مولانا وأنت وليّنا * ولن تجدن منّا لك اليوم عاصيا

____________
(1) الضبع: العضد. «الصحاح ـ ضبع ـ 3: 1247».

( 263 )

فقال له قم يا علي فإنّني * رضيتك من بعدي إماماً وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليّه * فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا اللهمّ وال وليّه * وكن للّذي عادا عليّاً معاديا

فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : «لا تزال يا حسان مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك » .
ولم يبرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم من ذلك المكان حتّى نزل(اَليَوم اَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَاَتَممتُ عَلَيكُم نِعمَتي وَرَضِتُ لَكُمُ الاِسلامَ دِيناً)(1) فقال: «الحمد لله على كمال الدين، وتمام النعمة، ورضا الربّ برسالتي والولاية لعليّ من بعدي»(2).
ولمّا قدم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المدينة من حجّ الوداع بعث بعده اُسامة بن زيد وأمره أن يقصد حيث قتل أبوه، وقال له: «أوطىء الخيل أواخر الشام من أوائل الرّوم». وجعل في جيشه وتحت رايته أعيان المهاجرين ووجوه الأنصار، وفيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة.
وعسكر اُسامة بالجرف، فاشتكى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم شكواه التي توفّي فيها، وكان عليه السلام يقول في مرضه: «نفّذوا جيش اُسامة» ويكرّر ذلك، وإنّما فعل عليه السلام ذلك لئلاّ يبقى في المدينة عند وفاته من يختلف في الاِمامة، ويطمع في الامارة، ويستوسق الأمر لأهله(3).
قال: ولمّا أحسّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمرض الذي

____________
(1) المائدة 5: 3.
(2) ارشاد المفيد 1: 173، وباختلاف يسير في تاريخ اليعقوبي 2: 109، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 21: 389 | 12.
(3) انظر: ارشاد المفيد 1: 180، قصص الأنبياء للراوندي: 357 | 432، سيرة ابن هشام 4: 300، تاريخ اليعقوبي 2: 113.

( 264 )
اعتراه ـ وذلك يوم السبت أو يوم الأحد ليال بقين من صفر ـ أخذ بيد عليّ عليه السلام، وتبعه جماعة من أصحابه، وتوجّه إلى البقيع ثمّ قال: «السلام عليكم أهل القبور، ليهنئكم ما أصبحتم فيه ممّا فيه الناس، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أوّلها. ثمّ قال: إنّ جبرئيل عليه السلام كان يعرض عليّ القرآن كلّ سنة مرّة، وقد عرضه علي العام مرّتين، ولا أراه إلاّ لحضور أجلي».
ثمّ قال: «يا علي، إنّي خُيِّرت بين خزائن الدينا والخلود فيها أو الجنّة، فاخترت لقاء ربّي والجنّة، فإذا أنا مت فغسّلني واستر عورتي، فإنّه لا يراها أحد إلاّ اُكمه».
ثمّ عاد إلى منزله، فمكث ثلاثة أيّا موعوكاً، ثمّ خرج إلى المسجد يوم الأربعاء معصوب الرأس متّكئاً على علي بيمنى يديه وعلى الفضل بن عبّاس باليد الاُخرى، فجلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: «أمّا بعد: أيّها الناس، إنّه قد حان منّي خفوق من بين أظهركم، فمن كانت له عندي عدة فليأتني اُعطه ايّاها، ومن كان له عليّ دين فليخبرني به».
فقام رجلٌ فقال: يا رسول الله لي عندك عدة، إنّي تزوّجت فوعدتني ثلاثة أواق، فقال عليه السلام: «أنحلها ايّاه يا فضل».
ثمّ نزل فلبث الأربعاء والخميس، ولمّا كان يوم الجمعة جلس على المنبر فخطب ثمّ قال: «أيّها الناس إنّه ليس بين الله وبين أحد شيء يعطيه به خيراً أو يصرف به عنه شرّاً إلاّ العمل الصالح، أيّها الناس لا يدّع مدّع، ولا يتمنّ متمنّ، والذي بعثني بالحقّ لا ينجي إلاّ عمل مع رحمة الله، ولو عصيت لهويت، اللهمّ هل بلّغت؟ ـ ثلاثاً ـ».
ثمّ نزل فصلّى بالناس، ثمّ دخل بيته، وكان إذ ذاك في بيت اُمّ سلمة، فأقام به يوماً أو يومين، فجاءت عائشة فسألته أن ينقل إلى بيتها لتتولّى تعليله
( 265 )
فأذن لها، فانتقل إلى البيت الذي أسكنته عائشة فاستمر المرض به فيه أيّاماً وثقل عليه السلام، فجاء بلال عند صلاة الصبح ورسول الله مغمور بالمرض فنادى الصلاة رحمكم الله، فقال عليه السلام: «يصلّي بالناس بعضهم»، فقالت عائشة: مروا أبا بكر فليصل بالناس، وقالت حفصة: مروا عمر.
فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: « اُكففن، فإنّكن صويحبات يوسف ».
ثمّ قال وهو لا يستقلّ على الأرض من الضعف، وقد كان عنده أنّهما خرجا إلى اُسامة، فأخذ بيد عليّ بن أبي طالب والفضل بن عبّاس فاعتمدهما ورجلاه تخطان الأرض من الضعف، فلمّا خرج إلى المسجد وجد أبا بكر قد سبق إلى المحراب، فأومأ إليه بيده، فتأخّر أبو بكر، وقام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وكبّر وابتدأ بالصلاة، فلمّا سلّم وانصرف إلى منزله استدعى أبا بكر وعمر وجماعة من حضر المسجد ثمّ قال: «ألم آمركم أن تنفذوا جيش اُسامة؟» فقال أبو بكر: إنّي كنت خرجت ثمّ عدت لاُحدث بك عهداً، وقال عمر: إنّي لم أخرج لاَني لم اُحب أن أسال عنك الركب.

فقال عليه السلام: (نفذوا جيش اُسامة) ـ يكررها ثلاث مرات ـ ثمّ اُغمي عليه صلوات الله عليه وآله من التعب الذي لحقه، فمكث هنيئة وبكى المسلمون وارتفع النحيب من أزواجه وولده ومن حضر، فافاق عليه السلام وقال : «ائتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً» ثمّ اُغمي عليه.
فقام بعض من حضر من أصحابه يلتمس دواة وكتفاً، فقال له عمر: ارجع فإنّه يهجر! ! فرجع .
فلمّا أفاق [صلّى اللهّ عليه وآله وسلّم ] قال بعضهم : ألاّ نأتيك يا رسول الله بكتف ؟دواة؟ فقال : «أبعد الذي قلتم ! ! لا، ولكن احفظوني في أهل
(266)
بيتي ، واستوصوا بأهل الذمة خيراً ، وأطعموا المساكين (الصلاة)(1) وما ملكت أيما نكم » .
فلم يزل يردّد ذلك حتّى أعرض بوجهه عن القوم ، فنهضوا ، وبقي عنده العبّاس والفضل وعليّ عليه السلام وأهل بيته خاصّة، فقال له العبّاس : يا رسول اللهّ إن يكن هذا الأمر فينا مستقرّاً من بعدك فبشّرنا ، وإن كنت تعلم أنّا نغلب عليه فأوص بنا، فقال : «أنتم المستضعفون من بعدي » واصمت ، ونهض القوم وهم يبكون . فلمّا خرجوا من عنده قال : «ردّوا عليّ أخي عليّ بن أبي طالب وعمّي » فحضرا، فلمّا استقر بهما المجلس قال رسول اللهّ صلّى الله عليه وآله وسلّم : «يا عبّاس يا عمّ رسول الله ، تقبل وصيّتي وتنجزعدتي وتقضي ديني ؟». فقال له العبّاس : يا رسول الله ، عمّك شيخ كبير ذوعيال كثير، وأنت تباري الريح سخاء وكرماً، وعليك وعدٌ لا ينهض به عمّك . فأقبل على عليّ عليه السلام فقال : «يا أخي تقبل وصيّتي وتنجز عدتي وتقضي ديني ؟» .
فقال : «نعم يا رسول الله » .
فقال : «اُدن منّي » فدنا منه فضمّه إليه ونزع خاتمه من يده فقال له : «خذ هذا فضعه في يدك » ودعا بسيفه ودرعه وجميع لامته فدفع ذلك إليه ، والتمس عصابة كان يشدها على بطنه إذا لبس درعه ـ ويروى :أنّ جبرئيل نزل بها من السماء ـ فجيء بها إليه ، فدفعها إلى اميرالمؤمنين عليه السلام وقال له : «اقبض هذا في حياتي ». ودفع إليه بغلته وسرجها وقال : «امض على اسم الله إلى منزلك » .
____________
(1) كذا .

(267)

فلمّا كان من الغد حجب الناس عنه ، وثقل في مرضه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وكان عليّ لا يفارقه إلاّ لضرورة، فقام في بعض شؤونه فأفاق إفاقة فافتقد عليّاً فقال : «ادعوا لي أخي وصاحبي » وعاوده الضعف فاصمت ، فقالت عائشة : اُدعوا أبا بكر، فدعي فدخل ، فلمّا نظر إليه أعرض عنه بوجهه ، فقام أبو بكر.
فقال : «اُدعوا لي أخي وصاحبي » فقالت حفصة : اُدعوا له عمر، فدعي ، فلمّا حضر رآه النبيّ عليه السلام فأعرض عنه بوجهه فانصرف .
ثمّ قال : «اُدعوا لي أخي وصاحبي » فقالت اُمّ سلمة : ادعوا له عليّاً فإنّه لا يريد غيره ، فدعي أميرالمؤمين عليه السلام ، فلمّا دنا منه أومأ إليه فأكبّ علجه ، فناجاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم طويلاً، ثمّ قام فجلس ناحية حتّى أغفى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فلمّا أغفى خرج فقال له الناس : يا أبا الحسن ما الذي أوعز إليك ؟ فقال : «علّمني رسول الله ألف باب من العلم فتح لي كلّ باب ألف باب ، ووصاني بما أنا قائمٌ به إن شاء اللهّ».
ثمّ ثقل رسول الله صلّى إللهّ عليه وآله وسلّم وحضره الموت ، فلمّا قرب خروج نفسه قال له : «ضع رأسي يا عليّ في حجرك فقد جاء أمرالله عزّ وجل ، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك ، ثمّ وجّهني إلى القبلة، وتولّ أمري ، وصلّ عليّ أوّل الناس ، ولا تفارقني حتّى تواريني في رمسي ، واستعن بالله عزّوجل » .
وأخذ عليّ رأسه فوضعه في حجره فاُغمي عليه ، وأكبّت فاطمة عليها السلام تنظرفي وجهه وتندبه وتبكي وتقول :
«وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل »

ففتح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عينيه وقال بصوت ضئيل :
(268)
«يا بنيّة هذا قول عمّك أبي طالب لا تقوليه ، ولكن قولي : (وَما مُحَمّدٌ الاّ رَسُولٌ قَد خَلَت مِن قَبلِهِ الرُّسُلُ اَفَاِن ماتَ اَو قُتِلَ أنقَلَبتُب عَلى أعقابكُم )(1) »فبكت طويلاً، فاومأ إليها بالدنوّ منه ، فدنت إليه ، فأسرإليها شيئَا هلل له وجهها.
ثمّ قضى [صلّى الله عليه وآله وسلّم] ويد أميرالمؤمنين اليمنى تحت حنكه ، ففاضت نفسه عليه السلام فيها، فرفعها إلى وجهه فمسحه بها، ثمّ وجّهه وغمّضه ومدّ عليه إزاره واشتغل بالنظر في أمره .
فسئلت فاطمة عليها السلام : ما الذي أسر إليك رسول اللهّ صلّى اللهّ عليه وآله وسلّم فسرى عنك ؟ قالت : «أخبرني أنّي أوّل أهل بيته لحوقاً به ، وأنّه لن تطول المدّة بي بعده حتّى أدركه ، فسرى ذلك عنّي »(2).
وروي عن اُمّ سلمة قالت : وضعت يدي على صدر رسول اللهّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم مات ، فمرّ بي جُمع آكل وأتوضّأ ما يذهب ريح المسك عن يدي (3).
وروى ثابت ، عن أنس قال : قالت فاطمة عليها السلام - لمّا ثقل النبي صلّى اللهّ عليه وآله وسلّم وجعل يتغشّاه الكرب -: «يا أبتاه إلى جبرئيل ننعاه ، يا أبتاه مِن ربه ما أدناه ، يا أبتاه جنان الفردوس مأواه ، يا أبتاه أجاب رباً دعاه » (4) .
____________
(1) آل عمران 3 : 144 .
(2) ارشاد المفيد ا : 181 ، ونقله المجلسي في بحارالأنوار 2: 465 | 19 .
(3) دلائل النبوة للبيهقي 7 : 219 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 2 2 : 528 | 35 .
(4) المناقب لابن شهرآشوب 1 : 237 ، الطبقات الكبرى 2 : 311، دلائل النبوة للبيهقي 7 : 212 ، الأنوار في شمائل النبي المختار 2 : 1253 | 752 ، الوفا باحوال المصطفى 2 : 802 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 22 : 528 | 35.

(269)

قال الباقر عليه السلام : «لمّا حضر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلَم الوفاة نزل جبرئيل عليه السلام فقال : يا رسول الله أتريد الرجوع إلى الدنيا وقد بلغت ؟ قال : لا، ثم قال له : يا رسول الله تريد الرجوع إلى الدنيا؟ قال : لا ، الرفيق الأعلى»(1) .
وقال الصادق عليه السلام : «قال جبرئيل عليه السلام : يا محمد هذا آخرنزولي إلى الدنيا، إنّما كنت أنت حاجتي منها . قال : وصاحت فاطمة عليها السلام وصاح المسلمون و(صاروا)(2) يضعون التراب على رؤوسهم » (3) .
ومات صلوات الله عليه واله لليلتين بقيتا من صفر سنة عشرمن هجرته (4).
وروي أيضاً لاثنتي عشرة ليلة من شهر ربيع الأول يوم الاثنين (5) .
ولمّا أراد عليّ عليه السلام غسله استدعى الفضل بن عبّاس ، فأمره أن يناوله الماء، بعد أن عصب عينيه ،فشقّ قميصه من قبل جيبه حتّى بلغ به إلى سرّته ، وتولّى غسله وتحنيطه وتكفينه والفضل يناوله الماء، فلمّا فرغ من غسله وتجهيزه تقدّم فصلّى عليه (6).
____________
(1) المناقب لابن شهرآشوب 1 : 237 ، ونقله المجلسي في بحارالأنوار 528 | 35 .
(2) لم ترد في نسختي «ق » و«ط » واثبتناها من نسخة «م ».
(3) نقله المجلسي في بحارالأنوار 22 : 529 | 35 .
(4) المقنعة : 456 ، مسار الشيعة (ضمن مجموعة نفيسة): 63، التهذيب 6 : 2 ، مصباح المتهجد : 732، قصص الأنبياء للراوندي : 359، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 2 2 : 529 | 35 .
(5) الكافي 1 :365 ، الكامل في التاريخ 2 : 323، دلائل النبوة للبيهقي 7 :235 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 2 2 : 529 | 35 .
(6) ارشاد المفيد 1 : 187 ، ونقله المجلسي في بحارالأنوار 22 : 529 | 35 .

(270)

قال أبان : وحدّثني أبو مريم ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : «قال الناس : كيف الصلاة عليه ؟ فقال عليّ صلوات الله وسلامه عليه : إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إمامنا حيّاً وميّتاً، فدخل عليه عشرة عشرة فصلّوا عليه يوم الاثنين وليلة الثلاثاء، حتّى الصباح ويوم الثلاثاء، حتّى صلّى عليه صغيرهم وكبيرهم ، وذكرهم وانثاهم ، وضواحي المدينة ، بغير إمام .
وخاض المسلمون في موضع دفنه ، فقال عليّ عليه السلام : «إنّ الله سبحانه لم يقبض نبيّاً في مكان إلاّ وارتضاه لرمسه فيه ، وإنّي دافنه في حجرته التي قبض فيها» فرضي المسلمون بذلك .
فلمّا صلّى المسلمون عليه أنفذ العبّاس رجلاً إلى أبي عبيدة بن الجرّاح ،وكان يحفر لأهل مكّة ويصرح ، وأنفذ إلى زيد بن سهل أبي طلحة، وكان يحفر لأهل المدينة ويلحد ، فاستدعاهما وقال : اللهم خر لنبيّك ، فوجد أبوطلحة فقيل له : اُحفرلرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فحفرله لحداً .
ودخل أميرالمؤمنين علي صلوات الله وسلامه عليه والعباس والفضل واُسامة بن زيد ليتولّوا دفن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فنادت الأنصارمن وراء البيت :يا عليّ إنّا نذكرك الله وحقّنا اليوم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أن يذهب ، أدخِل منّا رجلاً يكون لنا به حظّ من مواراة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فقال : «ليدخل أوس بن خولي » رجل من بني عوف بن الخزرج وكان بدريّاً، فدخل البيت وقال له عليّ صلوات الله وسلامه عليه : «انزل القبر» فنزل ، ووضع عليّ عليه السلام رسول الله على يديه ثمّ دلاه في حفرته ثمّ قال له : « اخرج » فخرج ونزل عليّ عليه السلام فكشف عن وجهه ووضع خدَّه على الأرض موجّهاً إلى القبلة على يمينه ، ثمّ
(371)
وضع عليه اللبن وهال عليه التراب (1).
وانتهزت الجماعة الفرصة لاشتغال بني هاشم برسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم وجلوس عليّ صلوات الله وسلامه عليه للمصيبة فسارعوا إلى تقرير ولاية الأمر، وتِّفق لأبي بكر ما اتّفق لاختلاف الأنصار فيما بينهم ، وكراهة القوم تأخير الأمر إلى أن يفرغ بنوهاشم من مصاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيستقرّ الأمر مقرّه ،فبايعوا أبا بكر لحضوره . وليس هذا الكتاب بموضع لشرح ذلك ، وتجده في مواضعه إن شئت .
وروي : أنّ أبا سفيان جاء إلى باب رسول الله فقال :
بني هاشم لايطمع الناس فيكم * ولا سيّما تيم بن مرّة أو عديّ
فما الأمرإلاّ فيكم وإليكم * وليس لها إلاّ أبوحسن عليّ
أبا حسن فاشدد بها كفّ حازم * فإنّك بالأمر الذي يرتجى ملي

ثمّ نادى بأعلى صوته : يا بني هاشم ، يا بني عبد مناف ، أرضيتم أن يلي عليكم أبوفصيل الرذل بن الرذل ؟أما والله لئن شئتم لأملأنّها عليهم خيلاً ورجلاًَ، فناداه أميرالمؤمنين عليه السلام : «ارجع يا أبا سفيان ، فوالله ما تريد الله بما تقول ، وما زلت تكيد الإسلام وأهله ، ونحن مشاغيل برسول اللهّ صلّى الله عليه وآله وسلِّم ، وعلى كلّ امرئ ما اكتسب وهووليّ ما احتقب »(2).
قال : وبعثوا إلى عكرمة بن أبي جهل وعمومته الحارث بن هشام وغيرهم فأحضروهم ، وعقدوا لهم الرايات على نواحي اليمن والشام ، ووجّهوهم من ليلهم ، وبعثوا إلى أبي سفيان فارضوه بتولية يزيد بن أبي سفيان .
____________
(1) ارشاد المفيد 1 : 188 ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 22 : 529 | 35 .
(2) ارشاد المفيد 1 : 189 .

(372)

قال : ولمّا بايع الناس أبا بكر قيل له : لوحبست جيش اُسامة واستعنت بهم على من يأتيك من العرب ؟ وكان في الجيش عامّة المهاجرين ، فقال اُسامة لأبي بكر: ما تقول في نفسك أنت ؟ قال : قد ترى ما صنع الناس ، فأنا اُحبّ أن تأذن لي ولعمر، قال : فقَد أذنت لكما .
قال : وخرج اُسامة بذلك الجيش ، حتى إذا انتهى إلى الشام عزله واستعمل مكانه يزيد بن أبي سفيان ، فما كان بين خروج أسامة ورجوعه إلى المدينة إلاّ نحو من أربعين يوماً، فلمّا قدم المدينة قام على باب المسجد ثمّ صاح : يا معشر المسلمين ، عجباً لرجل استعملني عليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فتأمّرعليّ وعزلني !