(الباب الثاني)
في ذكر آياته الباهرات
ومعجزاته الخارقة للعادات
وهذه الآيات: قسمان أحدهما: ما ظهر قبل مبعثه. والآخر: ما ظهر بعد ذلك.
فأمّا ما ظهر قبل الدعوة والمبعث: فمن ذلك ما استفاض في الحديث: أنّ اُمّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما وضعته رأت نواراً أضاءت له قصور الشام.
وحدّثت هي: أنّها اُتيت حين حملت برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقيل لها : إنّك حملت بسيد هذه الاُمة فإذا وقع على الاَرض فقولي:

اُعيذه بالواحد * من شرّ كلّ حاسد

فإنّ آية ذلك أن يخرج معه نور يملأ قصور بُصرى من أرض الشام، فإذا وقع فسمّيه محمّداً، فإنّ اسمه في التوارة أحمد، يحمده أهل السماء والاَرض، واسمه في الاِنجيل أحمد، يحمده أهل السماء والاَرض، واسمه في الفرقان محمّد. قالت: فسمّيته بذلك(1).

____________
(1) انظر: كشف الغمة 1: 20، وسيرة ابن هشام 1: 166، وتاريخ الطبري 2: 156، ودلائل

=


( 56 )
وروى أبو اُمامة قال: قيل: يا رسول الله ما كان بدء أمرك؟ قال: «دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت اُمّي أنّه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام»(1).
ومن ذلك: ما رواه الاُستاذ أبو سعد الواعظ الزاهد الخركوشي(2)بإسناده عن مخزوم بن أبي المخزومي، عن أبيه وقد أتت عليه مائة وخمسون سنة قال: لمّا كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ارتجس(3) أيوان كسرى فسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نيران فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة ساوة، ورأى المؤبذان(4)أنّ إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة فانتشرت في بلادها.

____________
= النبوة للبيهقي 1: 82 و 83، والكامل في التاريخ 1: 458.
(1) مسند الطيالسي: 155|1140، الطبقات الكبرى 1: 102، مسند أحمد 5: 262، تاريخ الطبري 2: 165، دلائل النبوة للبيهقي 1: 84.
(2) الخركوشي: هو أبو سعد عبدالملك بن محمّد النيشابوري الحافظ الواعظ صاحب كتاب «شرف المصطفى». قال عنه السمعاني في الانساب: الخركوشي بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء وضم الكاف وفي آخرها الشين، هذه النسبة إلى خركوش وهي سكة بنيسابور كبيرة كان بها جماعة من المشاهير مثل أبي سعد عبد الملك بن أبي عثمان محمد بن إبراهيم الخركوشي، الزاهد الواعظ، أحد المشهورين بأعمال البر والخير، وكان عالماً زاهداً فاضلاً، رحل إلى العراق والحجاز وديار مصر، وأدرك العلماء والشيوخ، وصنّف التصانيف المفيدة ـ إلى أن قال ـ: وجاور حرم الله مكة، ثم عاد إلى وطنه نيشابور، ولزم منزله، وبذل النفس والمال للمستورين من الغرباء والفقراء المنقطعين منهم، وبنى داراً للمرضى بعد أن خربت الدور القديمة لهم، ووكَّل جماعة من أصحابه لتمريضهم وحمل مياههم، وكانت وفاته في سنة 406 هـ بنيشابور.
انظر: الكنى والاَلقاب 2: 183، الانساب 5: 93.
(3) ارتجس: اضطرب وتحرك حركة سُمع لها صوت «لسان العرب 6: 95».
(4) المؤبذان (بضم الميم وفتح الباء): فقيه الفرس وحاكم المجوس. «القاموس المحيط 1: 360».

( 57 )
فلمّا أصبح كسرى راعه ذلك وأفزعه وتصبّر عليه تشجّعاً، ثمّ رأى أن لا يدّخر ذلك عن وزرائه ومرازبته(1) ،فجمعهم وأخبرهم بما هاله، فبينا هم كذلك إذ أتاه كتاب بخمود نار فارس، فقال المؤبذان: وأنا رأيت رؤيا، وقصّ عليه رؤياه في الاِبل، فقال: أيّ شيء يكون هذا يا مؤبذان، قال: حدث يكون من ناحية العرب.
فكتب كسرى عند ذلك إلى ملك العرب النعمان بن المنذر:
أمّا بعد: فوجّه إليّ برجل عالم بما اُريد أن أسأله عنه.
فوجّه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن بقيلة الغسّاني، فلمّا قدم عليه أخبره بما رأى، فقال: علم ذلك عند خال يسكن مشارق الشام، يقال له: سطيح، قال: فاذهب إليه فسله وائتني بتأويل ما عنده.
فنهض عبد المسيح حتّى قدم على سطيح وقد أشفى على الموت، فسلّم فلم يحر جواباً، فأنشأ عبد المسيح أبياتاً فيها ما أراده منه، ففتح سطيح عينيه ثمّ قال: عبد المسيح على جمل مسيح إلى سطيح وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان: لارتجاس الاَيوان، وخمود النيران، ورؤيا المؤبذان، رأى إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها.
يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاماً، يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات، وكلّ ما هو آت آت، ثمّ قضى سطيح مكانه.

____________
(1) المرزبة: كمرحلة، رئاسة الفُرس، وهو مرزبانهم أي أميرهم ورئيسهم. «انظر: القاموس المحيط 1: 73».

( 58 )
فنهض عبد المسيح وقدم على كسرى وأخبره بما قال سطيح، فقال: إلى أن يملك منّا أربعة عشر ملكاً كانت اُمور، فملك منهم عشرة في أربع سنين والباقون إلى أمارة عثمان(1).
ومن ذلك: ما رواه عليّ بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن رجاله قال: كان بمكّة يهوديّ يقال له يوسف، فلمّا رأى النجوم تقذف وتتحرّك ليلة ولد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: هذا نبيّ قد ولد في هذه الليلة، لاَنّا نجد في كتبنا أنه إذا ولد آخر الاَنبياء رجمت الشاطين وحجبوا عن السماء.
فلمّا أصبح جاء إلى نادي قريش فقال: هل ولد فيكم الليلة مولود؟
قالوا: قد ولد لعبدالله بن عبد المطّلب ابنٌ في هذه الليلة.
قال: فاعرضوه عليّ.
فمشوا إلى باب آمنة، فقالوا لها: اخرجي ابنك، فأخرجته في قماطه، فنظر في عينه، وكشف عن كتفيه فرأى شامة سوداء وعليها شعيرات، فلمّا نظر إليه اليهوديّ وقع إلى الاَرض مغشيّاً عليه، فتعجّبت منه قريش وضحكوا منه، فقال: أتضحكون يا معشر قريش هذا نبيّ السيف ليبيرنّكم، وذهب النبوة عن بني إسرائيل إلى آخر الاَبد، وتفرّق الناس يتحدّثون بخبر اليهودي(2).
ومن ذلك: بشارة موسى بن عمران عليه السلام به في التوراة، فلقد حدّثني من أثق به قال: مكتوب في خروج النبي من ولد إسماعيل، وصفته
____________
(1) كمال الدين: 191|38، تاريخ اليعقوبي 2: 8،تاريخ الطبري 2: 166 ـ 168، دلائل النبوة للاصبهاني 1: 174 ـ 177، دلائل النبوة للبيهقي 1: 126 ـ 129، الوفا بأحوال المصطفى 1: 97 ـ 100، وفيها باختلاف يسير.
(2) تفسير القمي 1:373 و 374، كمال الدين: 97، وفيه باختلاف يسير.

( 59 )
هذه الاَلفاظ: لاشموعيل شمعشخوا هني بيراخت اُوثو هربيث، اُتو هربتي واُتو بمادماد شينم آسور نسيئم وأنا تيتو الكوى كادل.
وتفسيره: إسماعيل قبلت صلاته، وباركت فيه، وأنميته، وكثّرت عدده بولد له اسمه محمّد، يكون اثنين وتسعين في الحساب، ساُخرج اثنا عشر إماماً ملكاً من نسله، واُعطيه قوماً كثير العدد.
ومن ذلك: ما أخبر به الثقة أنه قرأ في الاِنجيل ـ ذكره الشيخ أبو جعفر ابن بابويه رحمه الله في كتاب كمال الدين وتمام النعمة ـ: «إنّي أنا الله الدائم الذي لا أزول، صدّقوا النبيّ الاُميّ صاحب الجمل والمدرعة والتاج ـ وهي العمامة ـ والنعلين والهراوة ـ وهي القضيب ـ الاَكحل العينين، الصلت(1)الجبين، الواضح الخدّين، الاَقنى(2)الاَنف، المفلّج(3)الثنايا، كأنّ عنقه إبريق فضّة، كأنّ الذهب يجري في تراقيه، له شعرات من صدره إلى سرّته، ليس على بطنه وصدره شعر، أسمر اللون، دقيق المسربة(4) ، شثن الكفّ والقدم، إذا التفت التفت جميعاً، وإذا مشى كأنّما ينقلع من صخر وينحدر من صبب، وإذا جاء مع القوم بذّهم، عرقه في وجهه كاللؤلؤ، وريح المسك تنفح منه ، لم ير قبله مثله ولا بعده ، طيّب الريح ، نكّاح للنساء ، ذو النسل القليل، إنّما نسله من مباركة لها بيت في الجنّة، لا صخب فيه ولا نصب، يكفّلها في آخر الزمان كما كفّل زكريّا اُمّك، له فرخان مستشهدان، كلامه القرآن، ودينه الاِسلام وأنا السلام، طوبى لمن أدرك زمانه، وشهد أيّامه
____________
(1) الصلت: الواضح. «لسان العرب 2 : 53».
(2) القنا: احديداب في الاَنف، يقال رجل أقنى الاَنف وامرأة قنواء. «الصحاح ـ قنا ـ 6: 2469».
(3) المفلّج: الفلج في الأسنان: تباعد ما بين الثنايا والرباعيات. «العين 6: 127».
(4) المسربة: شعرات تنبت في وسط الصدر إلى أصل السرة. «العين 7: 249».

( 60 )
وسمع كلامه».
فقال عيسى عليه السلام: «يا ربّ وما طوبى؟».
قال: «شجرة في الجنّة إنّما غرستها بيدي، تظّل الجنان، أصلها من رضوان، ماؤها من تسنيم، برده برد الكافور، وطعمه طعم الزّنجبيل، من يشرب من تلك العين شربة لم يظمأ بعدها أبداً».
فقال عيسى عليه السلام: «اللّهم اسقني منها».
قال: «حرام يا عيسى على النبيّين أن يشربوا منها حتّى يشرب ذلك النّبي، وحرامٌ على الاُمم أن يشربوا منها حتّى تشرب اُمّة ذلك النبيّ، أرفعك إليّ ثم اُهبطك في آخر الزمان لترى من اُمّة ذلك النبيّ العجائب، ولتعينهم على اللعين الدجّال، اُهبطك في وقت الصلاة لتصلّي معهم إنّهم اُمّة مرحومة»(1).
ومن ذلك: حديث سلمان الفارسي وأنّه لم يزل ينتقل من عالم إلى عالم ومن فقيه إلى فقيه، ويبحث عن الاَسرار، ويستدلّ بالاَخبار، وينتظر قيام سيّد الاَولين والآخرين محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم أربعمائة سنة حتّى بُشّر بولادته، فلمّا أيقن بالفرج خرج يريد تهامة فسبي. والخبر في ذلك طويل مذكور في كتاب كمال الدين(2).
ومن ذلك: حديث تّبع الملك وقوله: سيخرج من هذه ـ يعني مكة ـ نبي يكون مهاجره يثرب، وأخذ قوماً من اليمن فأنزلهم مع اليهود بيثرب لينصروه إذا خرج، فهم الاَوس والخزرج.
وفي ذلك يقول تبع:
____________
(1) كمال الدين: 159|18.
(2) كمال الدين: 161|21.

( 61 )

شـهـدت عــلــــى أحـمـد أنـه * رسول مـن الله بارىء الـنـسم
فــــلو مـدّ عـمـري إلــى عمره * لكنت وزيـراً له وابــن عــمّ
وكــنت عذابـــــاً على المشركين * وأسقيــهم كأس خوف وغـمّ(1)

ومن ذلك: ما رواه أيضاً بإسناده عن عكرمة، عن ابن عبّاس قال: كان يوضع لعبد المطّلب فراش في ظّل الكعبة لا يجلس عليه أحد إجلالاً له، وكان بنوه يجلسون حوله حتّى يخرج عبد المطلب، فكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يخرج وهو غلام فيمشي حتّى يجلس على الفراش، فيعظم ذلك على أعمامه ويأخذونه ليؤخّروه، فيقول لهم عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني فوالله إنّ له لشأناً عظيماً، إنّي أرى أنّه سيأتي عليكم يوم وهو سيّدكم، إنّي أرى غرّته غرّة تسود النّاس، ثمّ يحمله فيجلسه معه ويمسح ظهره ويقبّله، ويقول: ما رأيت قُبلة أطيب منه ولا أطهر قطّ، ثمّ يلتفت إلى أبي طالب ـ وذلك أنّ أبا طالب وعبدالله لاَُم ـ فيقول: يا أباطالب، إنّ لهذا الغلام لشأناً عظيماً فاحفظه واستمسك به فإنّه فردٌ وحيدٌ، وكن له كالاُم لا يوصل إليه بشيء يكرهه. ثمّ يحمله على عنقه فيطوف به اُسبوعاً، وكان عبد المطلب قد علم أنّه يكره اللات والعزّى فلا يدخله عليهما.
فلمّا تمّت له ستّ سنين ماتت اُمّه آمنة بالاَبواء بين مكّة والمدينة، وكانت قدمت به أخواله من بني عدي، فبقي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يتيماً لا أب له ولا اُمّ، فازداد عبد المطلب له رقّة وحفظاً.
وكانت هذه حاله حتّى أدرك عبد المطّلب الوفاة، فبعث إلى أبي طالب فجاءه ومحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم على صدره وهو في غمرات الموت فصار يبكي ويلتفت إلى أبي طالب ويقول: يا أبا طالب أنظر أن تكون حافظاً
____________
(1) كمال الدين: 170.

( 62 )
لذلك الوحيد الّذي لم يشمّ رائحة أبيه ولا ذاق شفقة اُمّه.
أنظر يا أبا طالب أن يكون من جسدك بمنزلة كبدك، فإنّي قد تركت بنيّ كلّهم ووصيتك به لاَنّك من اُمّ أبيه.
يا أبا طالب إن أدركت أيّامه فاعلم أنّي كنت من أبصر النّاس ومن أعلم الناس به، وإن استطعت أن تتبعه فافعل، وانصره بلسناك ويدك ومالك، فإنّه والله سيسود ويملك ما لم يملك أحدٌ من بني آبائي.
يا أبا طالب ما أعلم أحداً من آبائك مات عنه أبوه على حال أبيه ولا اُمّه على حال اُمّه، فاحفظه لوحدته، هل قبلت وصيّتي؟
قال: نعم قد قبلت والله على ذلك شاهد.
قال عبد المطّلب: فمدّ يدك إليّ.
فمدّ يده إليه فضرب يده على يده، ثمّ قال عبد المطلّب: الآن خفّف عليّ الموت، ثمّ ضمّه إلى صدره ولم يزل يقبّله ويقول: أشهد أنّي لم اُقبّل أحداً من ولدي أطيب ريحاً منك ولا أحسن وجهاً منك. ويتمنّى أن يكون قد بقي حتّى يدرك زمانه. فمات عبد المطلّب وهو ابن ثمان سنين، فضمّه أبو طالب إلى نفسه لا يفارقه ساعة من ليل ولا نهار، وكان ينام معه حتّى بلغ، لا يأتمن عليه أحداً(1).
ومن ذلك: حديث سيف بن ذي يزن، والرواية بذلك مشهورة، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس قال: لمّا ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة ـ وذلك بعد مولود النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بسنتين ـ وفد العرب وأشرافها إليه وفيهم: عبد المطلب بن هاشم واُميّة بن عبد شمس، وعبدالله بن جذعان، وأسد بن خويلد، ووهب بن عبد مناف، وغيرهم من وجوه قريش، فقدموا
____________
(1) كمال الدين: 171|28.
( 63 )
عليه صنعاء فاستأذنوا وهو في قصر، يُقال له غمدان، وهو الذي يقول فيه اُميّة بن أبي الصلت:

اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفعاً * في رأس غمدان دار منك محلالا

ثمّ ساق الحديث إلى أن قال: فأرسل إلى عبد المطّلب فادنى مجلسه ثمّ قال: يا عبد المطّلب إنّي مفض إليك من سرّ علمي أمراً لو كان غيرك لم أبح به إليه ولكنّي رأيتك معدنه فأطلعتك عليه، فليكن عندك مطويّاً حتّى يأذن الله فيه فإن الله بالغ أمره، إنّي أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون الذي اخترناه لاَنفسنا واُخبرناه دون غيرنا خبراً عظيماً وخطراً جسيماً، فيه شرف الحياة، وفضيلة الوفاة، للناس عامّة ولرهطك كافّة، ولك خاصّة.
فقال عبدالمطلب : مثلك أيّها الملك قد سرّ وبرّ فما هو ؟ فداك أهل الوبر زمراً بعد زمر .
فقال: إذ ولد بتهامة غلام بين كتفيه شامّة كانت له الاِمامة ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة.
فقال عبد المطّلب: أبيت اللعن، لقذ إبْتُ بخير ما آب بمثله وافد، ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته من أسراره ما أزداد به سروراً.
فقال ابن ذي يزن: هذا حينه الذي يولد فيه، أو قد ولد فيه، اسمه محمد، يموت أبوه واُمّه ويكفله جدّه وعمّه، وقد ولد سراراً، والله باعثه جهاراً، وجاعل له منّا أنصاراً، يعزّ بهم أولياءه ويذلّ بهم أعداءه، يضرب بهم الناس عن عرض، ويستبيح بهم كرائم الاَرض ، يكسّر الاَوثان، ويخمد النيران، ويعبد الرحمن، ويدحر الشيطان، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله.
فقال عبد المطّلب: أيّها الملك عزّ جدّك، وعلا كعبك، ودام ملكك، وطال عمرك، فهل الملك سارّي بإفصاح فقد أوضح لي بعض الاِيضاح؟
( 64 )
فقال ابن ذي يزن: والبيت ذي الحجب، والعلامات على النصب، إنّك يا عبد المطّلب لجدّه غير كذب.
قال: فخرّ عبد المطلب ساجداً، فقال له: إرفع رأسك ثلچ صدرك، وعلا أمرك، فهل أحسست شيئاً ممّا ذكرته؟
فقال: كان لي ابن وكنت به معجباً وعليه رفيقاً، فزوّجته كريمة من كرائم قومي آمنة بنت وهب، فجاءت بغلام فسمّيته محمّداً، مات أبوه وامّه وكفّلته عمّه.
قال ابن ذي يزن: إنّ الذي قلت لك كما قلت لك، فاحتفظ بابنك، واحذر عليه اليهود فإنّهم له أعداد ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً، واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرّهط الذي معك فإنّي لست آمن أن تدخلهم النّفاسة من أن تكون له الرّئاسة، فيطلون له الغوائل وينصبون له الحبائل، وإنهم فاعلون ذلك أو أبناؤهم غير شكّ، ولولا أنّي أعلم أنّ الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتّى أصير بيثرب دار ملكه، فإنّي أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أنّ يثرب دار ملكه، فيها استحكام أمره، وأهل نصرته، وموضع قبره، ولولا أنّي أخاف فيه الآفات، وأحذر عليه العاهات، لاَعلنت على حداثة سنّه أمره في هذا الوقت ، ولأوطأت أسنان العرب عقبه ، ولكنّي سأصرف ذلك إليك عن غير تقصير منّي بمن معك.
قال: ثمّ أمر لكلّ رجل من القوم بعشرة أعبد وعشر إماء وحلّتين من البرود ومائة من الاِبل وخمسة أرطال ذهب وعشرة أرطال فضّة وكرش مملوءة عنبراً.
قال: وأمر لعبد المطّلب بعشرة أضعاف ذلك، وقال: إذا حال الحول فائتني. فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول الحول.
قال: فكان عبد المطّلب كثيراً ما يقول: يا معشر قريش لا يغبطني رجل
( 65 )
منكم بجزيل عطاء الملك وإن كثر فإنّه إلى نفاد، ولكن يغبطني بما يبقى لي ولعقبي من بعدي ذكره وفخره وشرفه، فإذا قيل: وما هو؟ قال: ستعلمنّ نبأ ما أقول ولو بعد حين(1).
وقد روى هذا الحديث الشّيخ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي في كتاب دلائل النبوّة من طريقين(2).
ومن ذلك: حديث بحيراء الراهب، فقد أورد محمّد بن إسحاق بن يسار قال: إنّ أباطالب خرج في ركب إلى الشام تاجراً، فلمّا تهيّأ للرحيل وأجمع السير انتصب له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخذ بزمام ناقته وقال: «يا عمّ إلى من تكلني لا أب لي ولا اُمّ لي؟».
فرقّ له أبو طالب فقال: والله لاَخرجنّ به معي ولا يفارقني ولا اُفارقه أبداً. فخرج وهو معه.
فلمّا نزل الركب بصرى من أرض الشام وبها راهب يقال له بحيراء في صومعة له، وكان أعلم أهل النصرانية، وكان كثيراً ما يمرّون به قبل ذلك لا يكلّمهم ولا يعرض لهم، فلمّا نزلوا ذلك العام قريباً من صومعته صنع لهم طعاماً، وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو في صومعته في الركب حين أقبلوا وغمامة بيضاء تظلّه من بين القوم، ثمّ أقبلوا حتّى نزلوا بظلّ شجرة قريباً منه، فنظر إلى الغمامة حتّى أظلّت الشجرة، وتهصّرت(3)أغصان الشجرة على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتّى استظلّ تحتها، فلمّا رأى ذلك بحيراء نزل من صومعته ـ وقد أمر بذلك الطعام فصنع ـ ثمّ أرسل إليهم فقال:
____________
(1) كمال الدين: 176|34، كنز الفوائد 1: 187، دلائل النبوة للاصبهاني 1: 114، الوفا بأحوال المصطفى 1: 125، ونقله المجلسي في بحار الاَنوار 15: 191|11.
(2) دلائل النبوة للبيهقي 2: 9.
(3) تهصّرت: أي تدلّت عليه أغصانها. «انظر: النهاية 5: 264».

( 66 )
إنّي صنعت لكم طعاماً يا معشر قريش وإنّي اُحبّ أن تحضروا كلّكم صغيركم وكبيركم، وحرّكم وعبدكم.
فقال له رجل منهم: يا بحيراء إنّ لك اليوم لشأناً، ما كنت تصنع لنا هذا الطعام وقد كنّا نمرّ بك كثيراً، فما شأنك اليوم؟
فقال له بحيراء: صدقت قد كان ما تقول، ولكنّكم ضيفٌ، وقد أحببت أن اُكرمكم وأصنع لكم طعاماً تأكلون منه كلّكم.
فاجتمعوا إليه وتخلّف رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم من بين القوم لحداثة سنّه في رحال القوم تحت الشجرة، فلمّا رأى بحيراء القوم لم يجد الصفة التي يعرف فقال: يا معشر قريش لا يتخلّف أحد منكم عن طعامي هذا.
قالوا له: ما تخلّف عنّا أحد ينبغي له أن يأتيك إلاّ غلامٌ هو أحدث القوم سنّاً تخلّف في رحالهم.
قال: فلا تفعلوا، اُدعوه حتّى يحضر هذا الطعام معكم.
فقال رجل من قريش مع القوم: واللات والعزّى إنّ هذا اللوم بنا أن يتخلّف ابن عبد المطّلب عن الطعام من بيننا.
قال: ثمّ قام إليه فاحتضنه ثمّ أقبل به حتّى أجلسه مع القوم، فلمّا رآه بحيراء جعل يلحظه لحظاً شديداً وينظر إلى أشياء من جسده قد يجدها عنده في صفته، حتّى إذا فرغ القوم من الطعام وتفرّقوا قام بحيراء فقال له: يا غلام أسألك باللات والعزّى إلاّ أخبرتني عمّا أسألك عنه، وإنّما قال ذلك بحيراء لاَنّه سمع قومه يحلفون بهما.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا تسألني باللات والعزّى، فوالله ما أبغضت كبغضهما شيئاً قطّ.
فقال بحيراء: فوالله إلاّ أخبرتني عمّا أسألك.

( 67 )
فقال: سلني عمّا بدا لك.
فجعل يسأله عن أشياء من حاله من(1)نومه وهيئته واُموره، فجعل رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم يخبره فيوافق ذلك ما عند بحيراء من صفته، ثمّ نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده.
قال: لمّا فرغ منه أقبل على عمّه أبي طالب فقال: ما هذا الغلام منك؟
قال: ابني.
قال بحيراء: وما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيّاً.
قال: فإنّه ابن أخي.
قال: فما فعل أبوه؟
قال: مات واُمّه حبلى به.
قال: صدقت ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت منه ليبغيّنة شرّاً، فإنّه كائن لابن أخيك هذا شأن فاسرع به إلى بلده.
فخرج به عمّه أبو طالب سريعاً حتّى أقدمه مكّة حين فرغ من تجارته بالشام.
فزعموا أنّ نفراً من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمّه أبي طالب أشياء فأرادوه فردّهم عنه بحيراء وذكّرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته وأنّهم إن أجمعوا بما أرادوه لم يخلصوا إليه، ولم يزل بهم حتّى عرفوا ما قال لهم وصدّقوه بما قال وتركوه وانصرفوا(1).

____________
(1) سيرة ابن اسحاق: 73، وانظر كذلك: كمال الدين: 183|35، الخرائج والجرائح 1:

=


( 68 )
وفي ذلك يقول أبو طالب في قصيدته الدالية ـ أوردها محمّد بن إسحاق بن يسارـ:

إنّ ابن آمنــــة (الـنـبي)(1) محمّداً * عندي بـمـــثــــل منـــازل الاَولادِ
لمـّا تعـلـّـق بالـزّمامِ رحـمـتــهُ * والعيشُ قـــد (قـــــلصن)(2) بالاَزوادِ
(فــارفضِّ)(3) من عـينيّ دمعٌ ذارفٌ * مثل الجـمــانِ مــفرّد الاَفـــــــرادِ
راعــــيتُ فـــيه قرابة موصولة * وحفظتُ فـــيه وصــيــّة الاَجــــدادِ
وأمــرتـه بـالـسيـرِ بـين عمومةٍ * بــيــضُ الوجــــوِه مصالت أنجـــادِ
ســــاروا لاَبـعـد طيــّة معلومةٍ * ولـقـد تــبــاعــــد طـيــّة المرتادِ
حـتى إذا مــا الـقوم بُصرى عاينوا * لا قـــــوا على شرفٍ من الـمــرصـادِ
حـــبـراً فـأخـبرهم حديـثاً صادقاً * عــنـه وردّ مـعــاشـــر الحـسـّـادِ
قـــوماً يهـوداً قـد رأوا ما قد رأى * ظـــــلّ (الغمــام وغــرّ ذا الاكبادِ)(4)


____________
= 71|130، سيرة ابن هشام 1: 191، دلائل النبوة للبيهقي 2: 27، تأريخ الطبري 2: 277، دلائل النبوة للاصبهاني 1: 211|108.
(1) كذا في نسخنا، وفي ديوان شيخ الاباطح، وكتاب شعر ابي طالب: الامين، وهي الصواب، لان رسول الله صلّى الله عليه وآله كان لم يبعث بعد حين قال أبو طالب رحمه الله تعالى هذا الشعر.
كما ان هذا البيت برواية ابي هفان ورد هكذا:
ان الامين محمّداً في قومه * عندي يفوق منازل الاولاد
(2) قلصن: ارتفعن ونهضن للمسير «انظر: لسان العرب 7: 81».
(3)ارفضّ: سال وتفرّق. «اُنظر: لسان العرب 7: 81».
(4) كذا في نسخنا وفي سيرة ابن اسحاق: وغرّ ذي الاكياد، إلاّ أن الصواب ما ورد في ديوان شيخ الاباطح، وشعر أبي طالب لابي هفان حيث ورد بهذا الشكل: ظل الغمامة ناغري الاكباد، لوضوح العبارة وصحة كلماتها، فالرواية المعروفة تذكر بان غمامة واحدة كانت تظل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو منطقي ومعقول، فالفرد الواحد تكفيه غمامة واحدة، فما جدوى أكثر منها، ومن تظل.

=


( 69 )
(سـاروا)(1) لـقـتـل مـحـمّدٍ فنهاهم * عـنـه وأجـهـد أحـسـن الاِجهاد(2)(3)
وأمثال ماذكرناه كثيرة، لو قصدنا إيراد جميعها لخرجنا من الفرض المقصود بهذا الكتاب.

____________
=
ثمّ ان باقي الكلام الوارد في العجز اعلاه لا معنى له عكس ما جاء في الديوانين لانه يوفي بالغرض الذي جاء من أجله.
فالنغر شدة الغيظ، وحيث يقال للرجل الذي يغلي جوفه من الغيظ رجل ناغر «اُنظر: الصحاح ـ نغرـ 2: 833» أي ان اليهود لعنهم الله تعالى كانوا ينظرون إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والغمامة تظله واجوافهم تضطرم غيظاً وغضباً.
(1) في الديوانين: ثاروا، وفي سيرة ابن اسحاق كما في كتابنا.
(2) في الديوانين: التجهاد، وفي سيرة ابن اسحاق موافق لما في كتابنا.
(3) اُنظر: سيرة ابن اسحاق: 76، شعر ابن طالب وأخباره: 63، ديوان شيخ الاباطح: 33.

( 70 )

(فصل)
وأمّا ما ظهر منه صلوات الله عليه وآله عقيب البعث وإظهار النبوّة من الآيات والمعجزات فضربان:
أحدهما: هذا القرآن الذي أنزله الله سبحانه عليه وأيّده به.
والآخر: غيره من المعجزات.
فوجه الاستدلال من القرآن: أنّ كلّ عاقل سمع الاَخبار وخالط أهلها قد علم ظهور نبيّنا عليه وآله السلام وادّعاءه الرسالة من الله إلينا، وأنّه تحدّى العرب بهذا القرآن الذي ظهر على يده وادعى انه اختصه الله به، وان العرب مع تطاول الاَزمان لم يعارضوه، إذا ثبت ما ذكرناه، وعلمنا أنهم إنما لم يعارضوه لتعذّر المعارضة عليهم فهذا التعذّر معجز خارق للعادة.
فأمّا الذي يدلّ على أنّه عليه السلام تحدّى بالقرآن فهو أنّ المراد بالتحدّي أنّه كان يدّعي أنّ جبرئيل يهبط عليه بذلك، وأنّ الله سبحانه قد أبانه به، وهذا معلوم ضرورة وهو غاية التحدّي في المعنى.
وأيضاً: فأنّ آيات القرآن صريحة في التحدّي وهي قوله تعالى: (فأتوا بِعَشرِ سُورٍ مِثِلِه)(1)وفي موضع آخر:(فأتوا بِسورَةٍ مِن مِثِله)(2)
وأمّا الذي يدلّ على انتفاء المعارضة منهم فهو أنّه لو وقعت المعارضة لوجب ظهورها ونقلها، فإذا لم تنقل وجب القطع على انتفائها، وإنّما قلنا ذلك لاَنّ جميع ما يقتضي نقل القرآن من قوّة الدواعي وشدّة الحاجة وقرب العهد ثابتٌ في المعارضة، بل المعارضة تزيد عليه، لاَنّها كانت تكون
____________
(1) هود 11: 13.
(2) البقرة 2: 23.

( 71 )
الحجّة والقرآن شبهة، ونقل الحجّة أولى من نقل الشبهة، وكيف لا تنقل المعارضة لو كانت وقد نقلوا كلام مسيلمة مع ركاكته وبعده عن الشبهة.
فإنّ ادّعي ان المانع من النقل هو الخوف من أهل الاِسلام وقد بلغوا من الكثرة إلى حدّ يخاف من مثلهم.
فجوابه: أنّ الخوف لا يقتضي انقطاع النقل على كلّ وجه، وإنّما يمنع من التظاهر به.
ألا ترى أنّ فضائل أمير المؤمنين عليه السلام قد نقلت ولم ينقطع النقل بها مع الخوف الشديد من بني اُميّة والرهبة من التظاهر بها، وكان يجب أن ينقل ذلك أعدادالاِسلام أو يكون نقلاً مكتوماً فيما بينهم.
وأيضاً فإنّ الكثرة في الاِسلام كانت بعد الهجرة، فكان يجب نقل المعارضة قبل ذلك في مدّة مقامه بمكّة، وإذا نقلت وانتشرت لم تكن قوّة الاِسلام موجبة بعد ذلك لخفائها إلاّ أن يدعى أنّ المعارضة لم تقع في تلك المدّة وإنّما وقعت بعد الهجرة ، وفي ذلك كفاية في إعجاز القرآن وثبوت خرق العادة به.
على أنّ الاِسلام وإن قوي حينئذٍ بالمدينة، فقد كانت لاَهل الكفر ممالك كثيرة وبلاد واسعة، ومملكة الفرس كانت ثابتة لم يزل، وممالك الروم وغيرها من البلاد إلى هذه الغاية عريضة، فكان يجب ظهور المعارضة في هذه البلاد.
وأمّا الذي يدّل على أنّ انتفاء المعارضة كان للتعذّر إنّا قد علمنا أنّ كلّ فعل يرتفع من فاعله مع توفّر دواعيه إليه وقوّة بواعثه عليه فإنّه يدلّ على تعذّره، فإذا ثبت ذلك وعلمنا أنّ العرب تُحدّوا بالقرآن ولم يعارضوه مع شدّة حاجتهم إلى المعارضة وقوّة دواعيهم، علمنا أنّها متعذّرة عليهم، فإذا انضاف إلى ذلك أنّهم قد تكلّفوا الاُمور الشاقّة من الحرب وغيره ممّا لو بلغوا غاية
( 72 )
مرادهم فيه لم يكن لهم بذلك حجّة، اتّضح الاَمر في أنّهم قد تعذّرت المعارضة عليهم، هذا وقد دعاهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المعارضة وهم ذوو الأنفة والحميّة، وطالبهم بالرجوع عن دياناتهم، والنزول عن رئاستهم، والبراءة من آبائهم وأسلافهم وأبنائهم، ومجاهدة من خالف دينه وإن كان من أنسابهم وأقربائهم، وعلموا أنّ بالمعارضة يزول ذلك كلّه ويبطل، فأيّ داع أقوى من هذا؟ وكيف لا يكونون مدعوّين إليها وقد تحمّلوا ضروباً من الكلف والمشاقّ كالمحاربة وبذل الاَموال ونظم الهجاء، مع أنّ كلّ ذلك لا يغني، فلو تيسّرت لهم المعارضة لبادروا إليها، إذ كانت أسهل ممّا تكلّفوه وتحمّلوه وأحسم للمادّة من كلّ ما فعلوه.
وأمّا الذي يدلّ على أنّ تعذّر المعارضة كان على وجه الاِعجاز هو أنّ ما يمكن أن يدّعى في ذلك أن يقال أنّه عليه السلام كان أفصحهم فتأتّى له ما لم يتأت لهم، أو يقال: إنّه تعمّل زماناً لم يكن طويلاً فلم يتمكّنوا مع قصر الزمان من معارضتة، فإذا بطل هذان الوجهان لم يبق إلا أنّ هذا التعذّر غير معهود، فهو خارق للعادة.
والذي يدلّ على فساد الوجه الاَول: أنّ المطلوب في المعارضة ما يقارب الفصاحة، والاَفصح يقاربه في كلامه وفصاحته من هو دون طبقته، فإذا لم يماثلوه ولم يقاربوه فقد انتقضت العادة، وأيضاً فإنّ الاَفصح إنّما تمتنع مساواته ومجاراته في جميع كلامه أو أكثره وليس تمتنع مجاراته ومساواته في البعض منه على من هو دون طبقته، بهذا جرت العادة، ولهذا فقد ساوت الطبقة المتأخّرة من الشعراء الطبقة المتقدمة منهم في البيت والاَبيات، وربما زادوا عليهم في القليل، وإذاكان التحدّي وقع بصورة قصيرة من عرض القرآن فكونه أفصح لا يمنع من مساواته في هذا القدر اليسير، وأيضاً فليس يظهر من كلامه عليه السلام فصارحة تزيد على فصاحة غيره من القوم، ولو
( 73 )
كان أفصحهم وكان القرآن من كلامه لظهرت المزيّة في كلامه على كلّ كلام في الفصاحة كما ظهرت مزيّة القرآن.
وأمّا الذي يدلّ على فساد الوجه الثاني ـ وهو إنّه تعمّل زماناً طويلاً ـ: فهو أنّه كان ينبغي أن يتعمّلوا مثله فيعارضوه به مع امتداد الزّمان، فإذا ثبت أنّ التعذّر خارق للعادة فلابدّ من أحد أمرين: إمّا أن يكون القرآن نفسه خرف العادة بفصاحته فلذلك لم يعارضوه ، وإمّا أن يكون الله تعالى صرفهم عن معارضته ولولا الصرف لعارضوه ، وأيّ الاَمرين كان ثبتت معه صحّة النبوّة، لاَنّ الله تعالى لا يصدق كاذباً، ولا يخرق العادة لمبطل، ولو ذهبنا نَصِفُ ما سطَّره المتكلّمون في هذا الباب من الكلام وما فيه من السؤال والجواب لطال به الكتاب، وفيما ذكرنا ههنا مقنع وكفاية لذوي الاَلباب.
***