فأخذهم الحرّ بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ولا في قرية، فقال له الحسين : «دعنا ويحك ننزل في هذه القرية أو هذه » ـ يعني نينوى والغاضريّة ـ .
قال : لا والله لا أستطيع ذالك ، هذا رجل قد بُعث عيناً عليّ .
فقال زهير بن القين : إنّي والله ما أراه يكون بعد هذا الذي ترون إلاّ أشدّ ما ترون ، يا ابن رسول الله إنّ قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم ، فلعمري ليأتينا بعدهم من لا قبل لنا به .
فقال الحسين عليه السلام : «ما كنت لأبدأهم بالقتال » ثمّ نزل ، وذلك في يوم الخميس الثاني من المحرّم سنة إحدى وستين .
فلمّا كان من الغد قدم عليهم عمر بن سعد بن أبي وقّاص في أربعة آلاف فارس فنزل نينوى، فبعث إلى الحسين عليه السلام عروة بن قيس الأحمسي ، فقال له : فأته فسله ما الذي جاء بك ؟ وكان عروة ممّن كتب إلى الحسين عليه السلام فاستحيى منه أن يأتيه ، فعرض ذلك على الرؤساء فكلّهم أبى ذلك لمكان أنّهم كاتبوه، فدعا عمرقرّة بن قيس الحنظليّ فبعثه ، فجاء فسلّم على الحسين عليه السلام فبلّغه رسالة ابن سعد، فقال الحسين عليه السلام : «كتب إليّ أهل مصركم هذا أن أقدم ، فامّا إذا كرهوني فأنا أنصرف عنكم » .
فلمّا سمع عمر هذه المقالة قال : أرجو أن يعافيني الله من حربه وقتاله ، وكتب إلى عبيدالله بن زياد لعنه الله : أمّا بعد: فإني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي فسألته عمّا أقدمه وماذا يطلب ، فقال : كتب إليّ أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم يسألوني القدوم فأمّا إذ كرهوني فإنّي منصرف عنهم .
فلمّا قرأ ابن زياد الكتاب قال :

( 452 )
الآنَ إذْ علِقتْ مخالبنا بهِ * يرجو النجاةَ ولاتَ حينَ مناصِ
وكتب إلى عمر بن سعد: أمّا بعد: فقد بلغني كتابك وفهمته ، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد هو وجميع أصحابه ، فإذا هو فعل ذلك رأينا رأينا والسلام.
فلما ورد الجواب قال عمر بن سعد : قد خشيت أن لا يقبل ابن زياد العافية، وورد كتاب ابن زياد في الأثر إليه : أن حل بين الحسين وأصحابه وبين الماء، فلا يذوقوا منه قطرة كما صُنع بالتقيّ الزكيّ عثمان بن عفّان ! !
فبعث ابن سعد في الوقت عمرو بن الحجّاج في خمسمائة فارس فنزلوا على الشريعة وحالوا بين الحسين وأصحابه أن يستقوا منه ، وذلك قبل قتل الحسين عليه السلام بثلاثة أيام .
ونادى عبدالله بن الحصين الأزدي لعنه اللهّ بأعلى صوته : يا حسين ، ألا ترون إلى الماء كأنّه كبد السماء، والله لا تذوقون منه قطرة حتّى تموتوا عطشاً.
فقال الحسين عليه السلام : «اللهمّ اقتله عطشاً ولا تغفر له أبداً» .
قال حميد بن مسلم : فوالله لعدته بعد ذلك في مرضه ، فوالله الذي لا إله غيره ، لقد رأيته يشرب الماء حتّى يبغر(1) ثمّ يقيء ويصيح : العطش العطش ، ثمّ يعود يشرب الماء حتّى يبغر، ثمّ يقيئه ويتلظّى عطشاً، فما زال ذلك دأبه حتى لفظ نفسه .
ولما رأى الحسين عليه السلام نزول العساكر مع عمر بن سعد
____________
(1) البغر: داء ياخذ الابل فتشرب فلا تروى وتمرض منه فتموت .
قال الفرزدق :
فقلت ما هو الا السامُ تركبهُ * كأنما الموت في أجنادهِ البَغرُ
«لسان العرب 4 : 72» .

( 453 )
ومددهم لقتاله أنفذ إلى عمر بن سعد: «أنّي اُريد لقاءك » فاجتمعا فتناجيا طويلاً.
ثمّ رجع عمرإلى مكانه وكتب إلى عبيدالله بن زياد : أمّا بعد : فإنّ الله تعالى قد أطفأ النائرة ، وجمع الكلمة ، وأصلح أمر الاُمّة ، هذا حسين أعطاني عهداً أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى أو أن يسير إلى ثغر من الثغور فيكون رجلاً من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم ، أو أن ياتي أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده فيرى فيما بينه وبينه رأيه ، وفي هذا لك رضا وللاُمّة صلاح .
فلما قرأ عبيدالله الكتاب قال : هذا كتاب ناصح مشفق على قومه .
فقام إليه شمر بن ذي الجوشن فقال : أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك وإلى جنبك ؟! والله لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك ليكوننّ أولى بالقوّة ولتكوننّ أولى بالضعف ، فلا تعطه هذه المنزلة، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه ، فإن عاقبت فانت أولى بالعقوبة ، وإن عفوت كان ذلك لك .
فقال ابن زياد: نعم ما رأيت ، الرأي رأيك اُخرج بهذا الكتاب إليّ عمر بن سعد فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي ، فإن أبوا فليقاتلهم ، فإن أبى أن يقاتلهم فانت أمير الجيش واضرب عنقه وأنفذ إلف برأسه .
وكتب إلى عمر: إنّي لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه ، ولا لتطاوله ، ولا لتمنّيه السلامة، ولا لتعتذر له ، ولا لتكون له عندي شافعاً، انظر فإن نزل الحسين وأصحابه على حكمي واستسلموا فابعث بهم إليّ سلماً، وإن أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم فإنهم لذلك مستحقّون ، فإن قتلت الحسين فاوطن الخيل صدره وظهره ، فإنّه عاق ظلوم ! ! ولست أرى أن هذا يضرّ بعد الموت شيئاً ولكن على قول قد قلته : لوقد قتلته لفعلت هذا به ،
( 454 )
فإن أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع ، وإن أبيت فاعتزل جندنا وعملنا وخلّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر، فإنّا قد أمرناه بامرنا والسلام .
فاقبل شمر بكتاب عبيدالله إلى عمر بن سعد، فلمّا قرأه قال له : ما لك ؟ لاقرّب الله دارك ،قبّح الله ما قدمت به عليّ ، لايستسلم والله حسين ، إنّ نفس أبيه لبين جنبيه ، قال شمر: اخبرني ما أنت صانع ، امض أمر أميرك وإلاّ فخلّ بيني وبين الجند، قال : لا، ولا كرامة لك ، ولكن أنا أتولّى ذلك وكن أنت على الرجالة .
ونهض عمربن سعد عشيّة يوم الخميس لتسع مضين من المحرّم ، وجاء شمر فوقف على أصحاب الحسين عليه السلام فقال : أين بنو اُختنا؟ فخرج إليه العبّاس وجعفر وعثمان بنوعليّ عليه السلام فقالوا : ما تريد؟ قال : أنتم يا بني اُختي آمنون ، فقالوا : لعنك الله ولعن أمانك ، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له ! !
ثمّ نادى عمر بن سعد: يا خيل الله اركبي ، فركب الناس ثم زحف نحوهم بعد العصر، والحسين عليه السلام جالس أمام بيته محتب بسيفه إذ خفق برأسه على ركبتيه ، وسمعت اُخته الصيحة فدنت من أخيها فقالت : يا أخي أما تسمع الأصوات ؟ فرفع رأسه فقال : «إنّي رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في المنام فقال لي : إنّك تروح إلينا» فلطمت اُخته وجهها ونادت بالويل ، فقال لها : «ليس لك الويل يا اُخيّة، اسكتي رحمك اللهّ » .
وقال له العبّاس بن عليّ : يا أخي قد جاءك القوم ، فنهض وقال : «يا عبّاس ، اركب - بنفسي أنت يا أخي - حتّى تلقاهم وتقول لهم : ما لكم »؟
فاتاهم العبّاس في عشرين فارساً فيهم زهيربن القين وحبيب بن مظاهر فقال : ما بدا لكم وما تريدون ؟ قالوا : جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن
( 455 )
تنزلوا على حكمه أو نناجزكم ، فانصرف العبّاس راجعاً يركض إلى الحسين عليه السلام يخبره الخبر، ووقف أصحابه يعظون القوم ويكفّونهم عن قتال الحسين عليه السلام ، وجاء العبّاس وأخبره بما قال القوم ، فقال : «ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غد وتدفعهم عنّا العشيّة فافعل ، لعلّنا نصلّي لربنّا الليلة وندعوه ونستغفره ».
ومضى العبّاس ورجع ومعه رسول من قبل عمر بن سعد يقول : إنّا قد أجّلناكم إلى غد وانصرف .
ــ فجمع الحسين عليه السلام أصحابه عند قرب المساء، قال عليّ بن الحسين زين العابدين عليهما السلام : «فدنوت لأسمع ما يقول لهم وأنا إذ ذاك مريض فسمعت أبي عليه السلام يقول لأصحابه :
اُثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السرّاء والضرّاء، اللهم إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القران ، وفقّهتنا في الدين (1) .
أمّا بعد : فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي خير الجزاء ، ألا وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ، ليس عليكم منّي ذمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً .
فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبدالله بن جعفر: ولم نفعل ذلك ، لنبقى بعدك ؟ ! لا أرانا اللهّ ذلك أبداً ، بدأهم بهذا القول العبّاس بن عليّ فأتبعه الجماعة عليه وتكلّموا بمثله .
فقال الحسين عليه السلام : يا بني عقيل ، حسبكم من القتل بمسلم فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم .

____________
(1) في الارشاد زيادة : وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة فاجعلنا من الشاكرين .

( 456 )
قالوا : سبحان الله فما يقول الناس ؟ ! يقولون : إنا تركنا شيخنا وسيّدنا وسيّد بني عمومتنا خير الأعمام ولم نرم معهم بسهم ، ولم نطعن برمح ، ولم نضرب دونهم بسيف ، ولا ندري ما صنعوا؟! ، لا واللهّ لا نفعل ، ولكن نفديك بانفسنا وأموالنا وأهلينا، ونقاتل معك حتّى نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك .
وقام إليه مسلم بن عوسجة فقال : أنحن نخلّي عنك ولم نعذرإلى الله تعالى في أداء حقّك ؟! لا والله حتّى أطعن في صدورهم برمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ،والله لو علمت أنّي اُقتل ثمّ اُحرق ثمّ اُحيى ، يفعل بي ذلك سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك ، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً!
وقام زهير بن القين فقال : والله لوددت أنّي قُتلت ثمّ نُشرت ثمّ قُتلت ، وهكذا ألف مرّة، وأنّ الله سبحانه يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك .
ثمّ تكلّم جماعة من أصحابه بكلام يشبه ما ذكرناه ، فجزاهم الحسين عليه السلام خيراً وانصرف إلى مضربه » .
قال عليّ بن الحسين عليهما السلام : «إنّي لجالس في تلك العشيّة ـ وعندي عمّتي زينب تمرّضني ـ إذ اعتزل أبي في خباء له وعنده جوين مولى أبي ذرّ الغفاري وهو يعالج سيفه - ويصلحه - وأبي يقول :

يا دهرُ أفٍّ لــكَ من خليلِ * كم لكَ بالإشراقِ والأصيلِ
منْ صـاحبِ أو طالبِ قتيلِ * والدهرُ لا يقــنعُ بالبديل
وإنَما الأمَرُ إلى الَجــلـيلِ * وكلّ حيٍّ سالكٌ ســـبيلِ

وأعادها مرّتين أو ثلاثاً حتى فهمتها وعرفت ما أراد فخنقتني العبرة، فرددتها ولزمت السكوت ، وعلمت أنّ البلاء قد نزل ، وأمّا عمّتي فإنّها سمعت
( 457 )
ما سمعت وهي امرأة ومن شأن النساء الرقّة والجزع ، فلم تملك نفسها أن وثبت تجرّثوبها وإنّها لحاسرة حتّى انتهت إليه فقالت : واثكلاه ، ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت اُمّي فاطمة الزهراء وأبي عليّ وأخي الحسن ، يا خليفة الماضين وثمال الباقين ، فنظر إليها الحسين عليه السلام وقال : يا اُختاه لا يذهبنّ حلمك الشيطان ، وترقرقت عيناه بالدموع وقال : لوترِك القطا لنام ، فقالت : يا ويلتاه أتغتصب نفسك اغتصاباً، فذاك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي ، ثمّ لطمت على وجهها وأهوت إلى جيبها فشقّته وخرّت مغشياً عليها، فقام إليها الحسين عليه السلام فصبّ الماء على وجهها وقال لها : يا اُختاه اتّقي الله وتعزّي بعزاء الله ، واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون ، وأنّ كلّ شيء هالك إلاّ وجه اللهّ الذي خلق الخلق بقدرته وإليه يعودون وهو فرد واحد، وإنّ أبي خيرٌ منّي ، وأخي خيرٌ منّي ، ولكلّ مسلم برسول اللهّ اُسوة، فعزّاها بهذا ونحوه ، وقال لها : يا اُختاه ، إني أقسمت عليك فأبرّي قسمي ، لاتشقّي عليّ جيباً، ولا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تدعي عليّ بالويل والثبورإذا أنا هلكت ، ثمّ جاء بها وأجلسها عندي .
ثمّ خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقرّب بعضهم بيوتهم من بعض ، وأن يدخلوا الأطناب بعضها في بعض ، وأن يكونوا بين البيوت فيستقبلوا القوم من وجه واحد والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم قد حفّت بهم إلاّ الوجه الذي يأتيهم منه عدوّهم .
ورجع إلى مكانه فقام الليل كلّه يصلّي ويستغفر ويدعو، وقام أصحابه كذلك يدعون ويصلّون ويسغفرون » .
وأصبح عليه السلام فعبأ أصحابه بعد صلاة الغداة، وكان معه اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً، فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه ، وحبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه ، وأعطى رايته العبّاس أخاه ، وجعلوا
( 458 )
البيوت في ظهورهم ، وأمر بحطب وقصب كان من وراء البيوت أن يترك في خندق كان هناك قد حفر وأن يحرق بالنار مخافة أن ياتوهم من ورائهم .
ــ وأصبح عمربن سعد في ذلك اليوم ، وهويوم الجمعة ـ وقيل : يوم السبت ـ فعبأ أصحابه ، فجعل على ميمنته عمرو بن الحجّاج ، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن ، وعلى الخيل عروة بن قيس ، وعلى الرجّالة شبث بن ربعي . ونادى شمرـ لعنه الله ـ باعلى صوته : يا حسين ، تعجّلت النار قبل يوم القيامة، فقال الحسين عليه السلام : «يا ابن راعية المعزى أنت أولى بها صليّاً» ورام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم فمنعه الحسين عليه السلام من ذلك ، فقال له : دعني حتّى أرميه ، فإنّ الفاسق من عظماء الجبّارين وقد أمكن الله منه ،فقال عليه السلام : «أكره أن أبدأهم ».
ثمّ دعا الحسين عليه السلام براحلته فركبها ونادى بأعلى صوته - وكلّهم يسمعون - فقال : «أيّها الناس إسمعوا قولي ولا تعجلوا حتّى أعظكم بما يحقّ عليّ لكم وحتّى أعذر إليكم فإنّ أعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد وإن لم تعطوني النصف من أنفسكم فاجمعوا رأيكم ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ثمّ اقضوا إليّ ولا تنظرون ،إنّ وليّي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين » .
ثمّ حمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ عليه وآله السلام فلم يسمع متكلّم قطّ قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه ، ثمّ قال : «أمّا بعد : فانسبوني وانظروا من أنا ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي ؟ ألست ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه وأوّل المؤمنين المصدّقين لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بماجاء به من عند ربّه ؟ أو َليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي ؟ أوَ ليس جعفر الطيّار في الجنة بجناحين عمّي ؟ أو َلم يبلغكم ما قال رسول اللهّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لي ولأخي :
( 459 )
هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟ فإن صدقتموني بما أقول ـ وهو الحق ـ فوالله ما تعمّدت كذباً منذ علمت أنّ الله تعالى يمقت عليه [أهله]، وإن كذّبتموني فإنّ فيكم من إذا سألتموه عن ذلك أخبركم ، سلوا جابر بن عبدالله الأنصاريّ ، وأبا سعيد الخدريّ ، وسهل بن سعد الساعديّ ، وزيد بن أرقم ، وأنس بن مالك يخبرونكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لي ولأخي ، أما في هذا حاجزلكم عن سفك دمي ؟».
فقال له شمر لعنه الله : هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول ، فقال له حبيب بن مظاهر: واللهّ إنّي لأراك تعبد الله على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول ،قد طبع الله على قلبك .
ثمّ قال لهم الحسين عليه السلام : «فإن كنتم في شكّ من هذا أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم ؟ ! فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم ، ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته ، أومال لكم استهلكته ، أو بقصاص جراحة؟ ! »فأخذوا لا يكلّمونه .
فنادى عليه السلام : «يا شبث بن ربعي ، يا حجّار بن أبجر، يا قيس ابن الأشعث ، يا يزيد بن الحارث ، ألم تكتبوا إليّ : أن قد أينعت الثمار واخضرّ الجناب وإنّما تقدم على جند لك مجنّد؟».
فقال له قيس بن الأشعث : ما ندري ما تقول ، ولكن انزل على حكم بني عمّك فإنّهم لم يريدوا بك إلاّ ما تحبّ.
فقال الحسين عليه السلام : «لا والله لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرّ فرار العبيد، ثمّ نادى : يا عباد الله (إنّي عُذتُ بِربّي وَرَبِّكم أنْ تَرجُمُونِ)(1) أعوذ (برّبي وربكمُر مِنْ كُلِّ مُتَكَبّرٍ لايُؤمِنُ بيَومِ الحِسإِب)(2)

____________
(1) الدخا ن 44 : 20 .
(2) غافر 40 : 27 .

( 460 )
ثمّ إنّه أناخ راحلته وأمرعقبة بن سمعان فعقلها ، وأقبلوا يزحفون نحوه .
فلمّا رأى الحرّ بن يزيد أنّ القوم قد صمّموا على قتال الحسين عليه السلام قال : لعمر بن سعد : اي عمر، أتقاتل الحسين ؟ ! قال : إي والله قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح فيه الأيدي ، قال : أفما لكم فيما عرضه عليكم رضىً؟ قال : لوكان الأمرإليّ لفعلت ، ولكن أميرك قد أبى .
فاقبل الحرّ ومعه رجل من قومه يقال له : قرّة بن قيس فقال له : يا قرّة هل سقيت فرسك اليوم ؟ قال : لا. قال قرّة: فظننت أنّه يريد أن يتنحّى فلا يشهد القتال ، ولوأنّه اطلعني على الذي يريد لخرجت معه إلى الحسين عليه السلام ، فاخذ يدنو من الحسين عليه السلام قليلاً قليلاً فقال له رجلٌ : ما هذا الذي أرى منك ؟ فقال : إني والله أخيّر نفسي بين الجنّة والنار، فوالله ما أختارعلى الجنّة شيئاً ولوقُطعتُ وحُرّقتُ ، ثمّ ضرب فرسه فلحق بالحسين عليه السلام فقال له : جعلت فداك يا ابن رسول الله ، أنا صاحبك الذي جعجعت بك في هذا المكان ، وما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضته عليهم ولا يبلغون منك هذه المنزلة، والله لو علمت أنّ القوم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت منك الذي ركبت ، وإنّي تائب إلى الله تعالى ممّا صنعت ، فترى لي من ذلك توبة؟
فقال الحسين عليه السلام : «نعم يتوب الله عليك فانزل » قال : فانا لك فارساً خيرٌ منّي راجلاً، اُقاتلهم لك على فرسي ساعة وإلى النزول يصير آخر أمري ، فقال له الحسين عليه السلام : «فاصنع ـ يرحمك الله ـ ما بدا لك » .
فاستقدم أمام الحسين عليه السلام فقال : يا أهل الكوفة لاُمّكم الهبل والعبر، دعوتم هذا العبد الصالح حتّى إذا أتاكم أسلمتموه ، وزعمتم أنّكم
( 461 )
قاتلوا أنفسكم دونه ، ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه ، أخذتم بكظمه (1)، وأحطتم به من كلّ جانب لتمنعوه التوجّه إلى بلاد الله العريضة، فصار كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعاً، ولايدفع عنها ضرّاً، وحلأ تموه (2)ونساءه وصبيته وأهله عن ماء الفرات الجاري يشربه اليهود والنصارى والمجوس وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه ، وها هم قد صرعهم العطش ، بئس ما خلّفتم محمّداً في ذرّيّته ،لا سقاكم الله يوم الظمأ. فحمل عليه رجال يرمونه بالنبل ، فأقبل حتّى وقف أمام الحسين عليه السلام .
ورمى عمر بن سعد بسهم وقال : اشهدوا أنّي أوّل من رمى ، ثمّ ارتمى الناس وتبارزوا ، فبرز يسار مولى زياد بن أبيه ، فبرز إليه عبدالله بن عمير فضربه بسيفه فقتله ، فشدّ عليه سالم مولى عبيدالله بن زياد فصاحوا به : قد رهقك العبد، فلم يشعر حتّى غشيه فبدره بضربة اتّقاها ابن عمير بيده اليسرى فأطارت أصابع كفّه ، ثمّ شدّ عليه فضربه حتّى قتله ، وأقبل وقد قتلهما وهو يرتجز ويقول :
إنْ تَنكروني فأنا ابنُ الكلب * إنّي امرؤٌ ذو مرة وَعضب (3)
ولستُ بالَخوّار عندَ النكب
وحمل عمرو بن الحجّاج على ميمنة أصحَاب الحسين عليه السلام بمن كان معه من أهل الكوفة، فلمّا دنا من الحسين عليه السلام جثوا له على الركب واشرعوا الرماح نحوهم فلم تقدم خيلهم على الرماح ، فذهبت الخيل لترجع فرشقهم أصحاب الحسين عليه السلام بالنبل فصرعوا منهم رجالاً وجرحوا آخرين .

____________
(1) أخذتم بكظمه : أي بمخرج نفسه . «الصحاح ـ كظم ـ 5 : 2023» .
(2) حلأه عن الماء: طرده ولم يدعه يشرب . «الصحاح ـ حلأ ـ 1 :45».
(3) العضب : السيف القاطع . «العين 1 : 283» .

( 462 )
وجاء رجل من بني تميم يقال له : عبدالله بن حوزة إلى عسكرالحسين عليه السلام فناداه القوم : إلى أين ثكلتك اُمّك ؟ فقال : إنّي أقدم على ربّ كريم وشفيع مطاع ، فقال الحسين عليه السلام لأصحابه : «من هذا؟» فقيل : ابن حوزة، فقال : «اللهم حزه إلى النار» فاضطربت به فرسه في جدول فوقع وتعلّقت رجله اليسرى في الركاب وارتفعت اليمنى، وشدّ عليه مسلم بن عوسجة فضرب رجله اليمنى فطارت ، وعدا به فرسه فضرب رأسه كلّ حجروكلّ شجر حتى مات وعجّل الله بروحه إلى النار.
ونشب القتال ، فقتل من الجميع جماعة، وحمل الحرّ بن يزيد على أصحاب عمر بن سعد وهويتمثّل بقول عنترة :

مازلتُ أرميهم بغُرّةِ وجههِ * ولبانِهِ (1)حتّى تسربلَ بالدم
فبرزإليه رجل من بني الحارث فقتله الحرّ.
وبرز نافع بن هلال وهو يقول :
أنا ابنُ هلالِ البجلي * أنا على دينِ علي
فبرز إليه مزاحم بن حريث وهو يقول : أنا على دين عثمان ، فقال له نافع : أنت على دين الشيطان ، وحمل عليه فقتله .
فصاح عمر بن الحجّاج بالناس : يا حمقى ، أتدرون من تبارزون ومن تقاتلون ؟ تقاتلون فرسان أهل المصر، تقاتلون قوماً مستميتين ، لا يبرز إليهم منكم أحدٌ فإنّهم قليل وقلّما يبقون ، واللهّ لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم ، فقال عمر بن سعد : صدقت الرأي ما رأيت ، فأرسل في الناس واعرض عليهم أن لا يبارز رجل منكم رجلاً منهم .
ثمّ حمل عمرو بن الحجّاج في أصحابه على أصحاب الحسين عليه
____________
(1) لبانة : صدره . «الصحاح ـ لبن ـ 6 : 2193 » .

( 463 )
السلام من نحو الفرات ، واضطربوا ساعة ، فصرع مسلم بن عوسجة الأسديَ ـ رحمه الله ـ وانصرف عمرو بن الحجّاج وأصحابه ، وانقطعت الغبرة فوجدوا مسلماً صريعاً، فسعى إليه الحسين عليه السلام فإذا به رمق فقال له : «رحمك الله يا مسلم مِنهُم مَن قَضى نحبَة (وَمنهُم مَن يَنتَظِرُ وَفا بَدّثوا تَبدِيلاً)(1).
وحمل شمربن ذي الجوشن في الميسرة على أهل الميسرة، وحمل على الحسين عليه السلام وأصحابه من كلّ جانب ، وقاتلهم أصحاب الحسين عليه السلام قتالاً شديداً ، وأخذت خيلهم تحمل - وإنّما هي اثنان وثلاثون فارساً - فلا تحمل على جانب من خيل الكوفة إلاّ كشفته .
فلما رأى ذلك عروة بن قيس ـ وهوعلى خيل الكوفة ـ بعث إلى عمر ابن سعد: أما ترى ما تلقى خيلي منذ اليوم من هذه العدّة اليسيرة، فابعث إليهم الرجال الرماة ، فبعث إليهم بالرماة ، فعقر بالحرّ بن يزيد فرسه فنزل عنه وهو يقول :

إن تَعقروا بي فآنا ابنُ الحُرّ * أشجَعُ مِن ذِي لِبَدٍ هِزَبرِ
فجعل يضربهم بسيفه ، وتكاثروا عليه حتّى قتلوه .
وقاتل أصحاب الحسين عليه السلام أشدّ قتال ، حتّى أنتصف النهار فلمّا رأى الحصين بن نميرـ وكأن على الرماة ـ صبر أصحاب الحسين عليه السلام تقدّم إلى أصحابه - وكانوا خمسمائة نابل -: أن يرشتوا أصحاب الحسين عليه السلام بالنبل فرشقوهم ، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم وجرحوا الرجال حتى ارجلوهم ، واشتدّ القتال بينهم ساعة.
وجاءهم شمر بن ذي الجوشن لعنه الله في اصحابه ، فحمل عليهم
____________
(1) الأحزا ب 33 : 23 .

( 464 )
زهير بن القين في عشرة رجال وكشفوهم عن البيوت ، وعطف عليهم شمر فقتل من القوم وردّ الباقين إلى مواضعهم ، وكان القتل يبين في أصحاب الحسين عليه السلام لقلّة عددهم ولا يبين في أصحاب عمر بن سعد لكثرتهم .
واشتدّ القتال ، وكثر القتل في أصحاب أبي عبدالله عليه السلام إلى أن زالت الشمس فصلّى الحسين عليه السلام بأصحابه صلاة الخوف .
وتقدم حنظلة بن سعد الشبامي بين يدي الحسين عليه السلام فنادى أهل الكوفة : يا قوم إنّي أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب ، يا قوم إنّي أخاف عليكم يوم التناد، يا قوم لا تقتلوا حسيناً فيسحتكم الله بعذاب وقد خاب من افترى، ثمّ تقدّم فقاتل حتّى قتل - رحمه الله -.
وتقدم بعده شوذب مولى شاكر فقال : السلام عليك يا أبا عبدالله ورحمة الله وبركاته ، أستودعك الله ، ثمّ قاتل حتّى قتل ، ولم يزل يتقدّم رجلٌ بعد رجل من أصحابه فيقتل حتّى لم يبق مع الحسين عليه السلام إلاّ أهل بيته خاصّة .
فتقدم ابنه عليّ بن الحسين عليهما السلام وكان من أصبح الناس وجهاً وله يومئذ بضع عشرة سنة، فشدّعلى الناس وهويقول :

أناعليّ بنُ الحسينِ بنِ عليّ * نحن وبيتِ اللهِ أولى بالنَّبيّ
تاللهِ لا يحكم فِينا ابنُ الدعي

ففعل ذلك مراراً وأهل الكوفة يتّقون قتله ، فبصر به مُرّة بن منقذ العبدي لعنه الله ، فطعنه فصرعه ، واحتواه القوم فقطّعوه بأسيافهم ، فجاء الحسين عليه السلام حتّى وقف عليه فقال : «قتل اللهّ قوماً قتلوك يا بُنيّ ، ما أجرأهم على اللهّ وعلى انتهاك حرمة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم » وانهملت عيناه بالدّموع ، ثم قال : «على الدنيا بعدك العفاء»، وخرجت زينب اُخت
( 465 )
الحسين مسرعة تنادي : يا اُخيّاه وابن اُخيّاه ، وجاءت حتّى أكبّت عليه ، وأخذ الحسين عليه السلام برأسها فردها إلى الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه .
ثمّ رمى رجلٌ من أصحاب عمر بن سعد يقال له : عمرو بن صبيح عبدالله بن مسلم بن عقيل بسهم ، فوضع عبدالله يده على جبهته يتقيه فاصاب السهم كفّه ونفذ إلى جبهته فسمّرها بها فلم يستطيع تحريكاً، ثمّ انتحى عليه اخر برمحه فطعنه في قلبه فقتله .
وحمل عبدالله بن قطبة الطائي على عون بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب عليه السلام فقتله .
وحمل عامربن نهشل التيمي على محمّد بن عبداللهّ بن جعفربن أبي طالب عليه السلام فقتله .
قال حميد بن مسلم : فأنا كذلك إذ خرج علينا غلام كأنّ وجهه فلقة قمر، في يده سيف وعليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسعع إحداهما، فقال لي عمربن سعيد بن نفيل الأزديّ : والله لأشدّنّ عليه ، فقلت : سبحان الله ، وماذا تريد منه ؟! دعه يكفيكه هؤلاء القوم ، فشد عليه فقتله ، ووقع الغلام لوجهه فقال : يا عمّاه ، فجلى(1) الحسين عليه السلام كما يجلي الصقر، ثمّ شدّ شدّة ليث أغضب ، فضرب عمر بن سعيد بالسيف فاتّقاها بالساعد فأطنّها(2) من لدن المرفق ، فصاح صيحة سمعها أهل العسكر ثمّ تنحّى عنه الحسين وحملت خيل أهل الكوفة ليستنفذوه فتوطّأته بأرجلها حتّى مات لعنه الله ، وانجلت الغبرة فرأيت الحسين عليه السلام قائماً على رأس الغلام وهو يفحص برجليه والحسين عليه السلام يقول : «بعداً لقوم قتلوك
____________
(1) جلى ببصره : إذا رمى به كما ينظر الصقر إلى الصيد. «الصحاح ـ جلا ـ 6 :2305».
(2) اطنها : أي قطعها، ويراد بذلك صوت القطع . «الصحاح ـ ضنن ـ 6 : 2159» .

( 466 )
ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدّك» ثمّ قال : «عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا ينفعك ، صوت ـ والله ـ كثر واتره وقلّ ناصره» ثمّ حمله على صدره ، فكأنّي أنظر إلى رجلي الغلام يخطّان الأرض ، فجاء به حتّى ألقاه مع ابنه عليّ بن الحسين والقتلى من أهل بيته ، فسألت عنه فقيل : هوالقّاسم بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام .
ثمّ جلس الحسين عليه السلام أمام الفسطاط ، فأُتي بابنه عبداللهّ بن الحسين وهوطفلٌ فأجلسه في حجره ، فرماه رجل من بني أسد بسهم فذبحه ، فتلقّى الحسين من دمه ملء كفّه وصبّه في الأرض ثمّ قال : «ربّ إن تكن حبست عنّا النصر من السماء، فاجعل ذلك لما هوخير، وانتقم لنا من هؤلاء الظالمين »، ثمّ حوّله حتّى وضعه مع قتلى أهله .
ورمى عبدالله بن عقبة الغنوي أبا بكربن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام فقتله .
فلما رأى العبّاس بن عليّ كثرة القتلى في أهله قال لإخوته من أمّه ـ وهم عبداللهّ وجعفر وعثمان ـ: يا بني اُمّي تقدّموا حتّى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله ، وإنّه لا ولد لكم ، فتقدّم عبداللهّ فقاتل قتالاًَ شديداً فاختلف هو وهانئ بن ثبيت الحضرمي ضربتين فقتله هانئ ، وتقدّم بعده جعفر بن عليّ عليه السلام فقتله أيضاً هانئ ، وتعمّد خولي بن يزيد الأصبحي عثمان بن عليّ - وقد قام مقام إخوته - فرماه فصرعه ، وشدّ عليه رجل من بني دارم فاحتزّ رأسه .
وحملت الجماعة على الحسين عليه السلام فغلبوه على عسكره ، واشتدّ به العطش فركب المسنّاة يريد الفرات وبين يده أخوه العبّاس ، فاعترضته خيل ابن سعد وفيهم رجلٌ من بني دارم ، فقال لهم : ويلكم حولوا بينه وبين ماءِ الفرات ولا تمكنوه من الماء، فقال الحسين عليه السلام :
( 467 )
«اللهم اظمأه » فغضب الدارمي فرماه بسهم فاثبته في حنكه (1)، فانتزع الحسين عليه السلام السهم وبسط يده تحت حنكه (2) فامتلأت راحتاه بالدم فرماه ثمّ قال : «اللهم إنّي أشكوإليك ما يفعل بابن بنت نبّيك صلَى الله عليه وآله وسلّم » .
ثمّ رجع إلى مكانه واشتدّ به العطش ، وأحاط القوم بالعبّاس فاقتطعوه عنه ، فجعل يقاتلهم وحده حتّى قُتل رحمه الله .
ولمّا رجع الحسين عليه السلام من المسنّاة تقدّم إليه شمر بن ذي الجوشن لعنه الله في جماعة من أصحابه ، وضربه رجل يقال له : مالك الكنديّ على رأسه بالسيف ، وكان عليه قلنسوة فقطعها حتّى وصل إلى رأسة فادماه وامتلأت القلنسوة دماً، فقال له الحسين عليه السلام : «لا أكلت بيمينك ، ولا شربت بها، وحشرك الله مع الظالمين » ثمّ ألقى القلنسوة ودعا بخرقة فشدّ بها رأسه ، واستدعى قلنسوة اُخرى فلبسها واعتمَ عليها، ورجع عنه شمر ومن كان معه إلى مواضعهم ، مكث هنيهة ثمّ عاد وعادوا إليه وأحاطوا به ، فخرج إليه عبدالله بن الحسن - وهو غلامٌ لم يراهق - من عند النساء يشتد حتّى وقف إلى جنب الحسين عليه السلام فلحقته زينب بنت علي عليه السلام لتحبسه فقال لها الحسين عليه السلام : «احبسيه يا أختي » فابى وامتنع عليها إمتناعاً شديداً وقال : والله لا اُفارق عمّي ، فأهوى ابجر بن كعب إلى الحسين بالسيف فقال له الغلام : ويلك يا ابن الخبيثة أتقتل عمّي ؟ فضربه ابجر بالسيف فاتّقاها الغلام بيده فاطنّها إلى الجلدة فإذا يده معلّقة ، فنادى الغلام : يا اُمّاه ، فأخذه الحسين عليه السلام فضمّه إلى صدره وقال
____________
(1) في نسختي «ق » و«ط»: جبينه .
(2) في نسختي «ق» و«ط» : جبينه .

( 468 )
له: «يا بنيّ اصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير، فإنَ الله يلحقك بآبائك الصالحين » .
ثم رفع الحسين عليه السلام يده وقال : «اللهم إن متّعتهم إلى حين ففرّقهم فرقاً، واجعلهم طرائق قدداً ، ولا ترض الولاة عنهم أبداً ، فإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا فقتلونا» .
وحملت الرجّالة يميناً وشمالاً على من كان بقي معه ، فقتلوهم حتّى لم يبق معه إلاّ ثلاثة نفر أو أربعة، فلمّا رأى الحسين عليه السلام ذلك دعا بسراويل (1) يلمع فيها البصر ففزرها(2) ثمّ لبسها ، وإنّما فزرها لكي لا يسلب بعد قتله ، فلمّا قتل عليه السلام عمد أبجر بن كعب -لعنه الله - إليه فسلبه السراويل وتركه مجرّداً ، فكانت يدا أبجر بن كعب بعد ذلك تتيبّسان في الصيف كأنّهما عودان ، وتترطّبان في الشتاء فتنضحان دماً وقيحاً إلى أن أهلكه الله .
ولما لم يبق معه إلاّ ثلاثة رهط من أهله أقبل على القوم يدفعهم عن نفسه وعن الثلاثة والثلاثة يحمونه ، حتّى قتل الثلاثة وأثخن بالجراح في رأسه وبدنه ، وجعل يضاربهم بسيفه وهم يتفرّقون عنه يميناً وشمالاً .
قال حميد بن مسلم : فوالله ما رأيت مكثوراً قطَ قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً منه ، إن كانت الرجالة لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه فيكشفهم عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذأ اشتدّ عليها الذئب .
فلمّا رأى ذلك شمر بن ذي الجوشن أمر الرماة أن يرموه ، فرشقوه
____________
(1) في الإرشاد : بسراويل يمانية .
(2) الفزر: الفسخ في الثوب ، يقال : لقد تفزّر الثوب ، اذا تقظع وبلى . «الصحاح ـ فزرـ 2 : 781 » .