وقبرٌ ببغداد لنفسٍ زكيّةٍ * تضمَّنها الرحمنُ في الغُرفاتِ
قال الرضا عليه السلام : «أفلا أُلحق لك بهذا الموضع بيتين بهما تمام قصيدتك؟»
فقال : بلى يا ابن رسول الله .
فقال عليه السلام :

«وقبرٌ بطوسٍ يا لها من مصيبةٍ * توقّد فـي‌ الاَحشاءِ بالحرقاتِ
إلى الحشرِ حتّى يبعثَ الله قائماً * يفرِّج عنّا الـهمّ والكربـاتِ»
فقال دُعبل : ياابن رسول الله هذا القبر الذي بطوس قبر من هو؟
فقال الرضا عليه السلام : «قبري ، ولا تنقضي الاَيّام والليالي حتّى تصير طوس مختلف شيعتي وزوّاري ، ألا فمن زارني في غربتي بطوس كان معي في درجتي يوم القيامة مغفوراً له» .
ثمّ نهض الرضا عليه السلام بعد فراغ دعبل من إنشاد القصيدة وأمره أن لا يبرح من موضعه ، فدخل الدار فلمّا كان بعد ساعة خرج الخادم إليه بمائة دينار ـ وفي رواية غيره : ستّمائة دينار ـ وقال له : يقول لك مولاي : «إجعلها في نفقتك» .
فقال دعبل : والله ما لهذا جئت ، ولا قلت هذه القصيدة طمعاً في شيء ، وردّ الصرّة وسأل ثوباً من ثياب الرضا ليتبرّك به ويتشرّف ، فأنفذ إليه الرضا عليه السلام بجبّة خزّ مع الصرّة وقال للخادم : «قل له : خذ هذه الصرّة فإنّك ستحتاج إليها ، ولا تراجعني فيها» .
فانصرف دعبل وصار من مرو في قافلة فوقع عليهم اللصوص وأخذوا القافلة وكتّفوا أهلها وجعلوا يقسّمون أموالهم ، فتمثّل رجلٌ منهم بقوله :

أرى فيئهم في غيرهم متقسّماً * وأيديهم من فيئهم صفرات

فقال دعبل : لمن هذا البيت؟ قال : لرجل من خزاعة . قال : فأنا دعبل
( 68 )
قائل هذه القصيدة .
فحلّوا كتافه وكتاف جميع القافلة ، وردّوا إليهم جميع ما أُخذ منهم .
وسار دعبل حتّى وصل إلى قم وأنشدهم القصيدة فوصلوه بمال كثير وسألوه أن يبيع الجبّة منهم بألف دينار فأبى ، وسار عن قم فلحقه قومٌ من أحداثهم وأخذوا الجبّة منه ، فرجع دعبل وسألهم ردّها عليه فقالوا : لا سبيل لك إليها فخذ ثمنها ألف دينار ، فقال : على أن تدفعوا إليّ شيئاً منها ، فأعطوه بعضها وألف دينار .
وانصرف دعبل إلى وطنه فوجد اللصوص أخذوا جميع ما في منزله ، فباع المائة دينار التي وصله بها الرضا عليه السلام من الشيعة كلّ دينار بمائة درهم ، وتذكّر قول الرضا عليه السلام : «إنّك ستحتاج إليها»(1) .
وعن أبي الصلت الهرويّ قال : سمعت دعبل قال : لمّا أنشدت مولاي الرضا عليه السلام القصيدة وانتهيت إلى قولي :

خروجُ إمامٍ لا محالة خارجٍ * يـقومُ على اسمِ اللهِ والبركاتِ
يـميّزُ فينا كلّ حـقٍّ وباطلٍ * ويجزي على النعماءِ والنقماتِ

بكى الرضا عليه السلام بكاءً شديداً ثمّ رفع رأسه إليّ وقال : «يا خزعي ، نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين ، فهل تدري من هذا الاِمام ومتى يقوم؟»
قلت : لا يا مولاي ، إلاّ أنّي سمعت بخروج إمام منكم يملاَ الاَرض
____________
(1) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 263 | 34 ، وباختصار في : ارشاد المفيد 2 : 263 ، ورجال الكشي : 504 | 970 ، وقطعة منه في : دلائل الامامة : 182 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 338 ، كشف الغمة 2 : 318 ، الفصول المهمة : 248 .
( 69 )
عدلاً .
فقال : «يا دعبل ، الاِمام بعدي محمد ابني ، وبعد محمد ابنه عليّ ، وبعد عليّ ابنه الحسن ، وبعد الحسن ابنه الحجّة القائم المنتظر في غيبته المطاع في ظهوره ، لو لم يبق من الدينا إلاّ يوم واحد لطّول الله تعالى ذلك اليوم حتّى يخرج فيملأها عدلاً كما ملئت جوراً»(1) .
وروى الصولي ، عن أبي ذكوان ، عن إبراهيم بن العبّاس قال : كان الرضا عليه السلام ينشد كثيراً :

«إذا كنتَ في خيرٍ فلا تغترر بهِ * ولكن قلِ اللّهمّ سلّم وتمّم»(2)

وعن الريّان بن الصلت قال : أنشدني الرضا عليه السلام لعبد المطّلب :

« يــعيبُ الناسُ كلّهم زماناً * وما لزماننا عيبٌ سوانــــا
نعيبُ زماننــا والعيبُ فينا * ولو نطقَ الزمانُ بنا هجانـــا
ولـيس الذئب يأكلُ لحمَ ذئبٍ * ويأكلُ بعضُنا بعضاً عياناً »(3)

وشكا رجلٌ أخاه في مجلسه عليه السلام فأنشأ يقول :
«اعـذر أخاك على ذنوبهِ * واستـر وغـطِّ على عيوبهِ
واصبر على بهت السفيـ * ـهِ وللزمـانِ على خطوبهِ
ودعِ الــجوابَ تفضـّلاً * وكلِّ الظلومَ إلى حسيبهِ»(4)

____________
(1) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 265 | 35 ، كمال الدين : 372 | 6 ، كشف الغمة 2 : 328 ، الفصول المهمة : 250 .
(2) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 178 | 9 ، كشف الغمة 2 : 328 .
(3) أمالي الصدوق : 150 | 6 ، عيون أخبار الرضا عليه السلام2 : 177 | 5 ، كشف الغمة 2 : 329 . (4) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 176 | 4 ، بشارة المصطفى : 78 ، كشف الغمة 2 :

=


( 70 )
وروي عن عبدالرحمن بن أبي نجران قال : كتب أبوالحسن الرضا عليه السلام إلى بعض أصحابه : «إنّا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الاِيمان وبحقيقة النفاق»(1) .
وروي عن ياسر الخادم قال : كان غلمان لاَبي الحسن عليه السلام في البيت صقالبة وروم ، وكان أبو الحسن عليه السلام قريباً منهم فسمعهم بالليل يتراطنون بالصقلبيّة والروميّة ويقولون : إنّا كنّا نفتصد في كلّ سنة في بلادنا ثمّ ليس نفتصد هاهنا ، فلمّا كان من الغد وجّه أبو الحسن عليه السلام إلى بعض الاَطبّاء فقال : «افصد فلاناً عرق كذا ، وافصد فلاناً عرق كذا» ثمّ قال : «يا ياسر ، لاتفتصد أنت» .
قال : فافتصدت فورمت يدي واحمرّت ، فقال لي : «يا ياسر مالك؟»
فأخبرته فقال : «ألم أنهك عن ذلك ، هلّم يدك» فمسح يده عليها وتفل فيها ثمّ أوصاني أن لا أتعشّى ، فكنت بعد ذلك ما شاء الله لا أتعشّى ثمّ أتغافل فأتعشّى فتضرب عليّ(2) .
عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن أبي الصلت الهرويّ قال : كان الرضا عليه السلام يكلّم الناس بلغاتهم ، وكان والله أفصح الناس وأعلمهم بكلّ لسان ولغةم فقلت له يوماً : يا ابن رسول الله إنّي لاَعجب من معرفتك بهذه اللغات على إختلافها .
فقال : «يا أبا الصلت ، أنا حجّة الله على خلقه ، وما كان الله ليتّخذ
____________

=

269 و329 ، الفصول المهمة : 247 .
(1) بصائر الدرجات : 308 | 5 ، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 227 | 1 .
(2) بصائر الدرجات : 358 | 4 ، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 227 | 1 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 334 .

( 71 )
حجّة على قوم وهو لا يعرف لغاتهم ، أَوَما بلغك قول أمير المؤمنين عليه السلام : أوتينا فصل الخطاب؟ فهل فصل الخطاب إلاّ معرفة اللغات»(1) .
وروى الحسن بن عليّ بن فضّال ، عن الرضا عليه السلام : أنّه قال له رجل من أهل خراسان : يا ابن رسول الله ، رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في المنام كأنّه يقول لي : كيف أنتم إذا دفن في أرضكم بضعتي ، واستحفظتم وديعتي ، وغيّب في ثراكم نجمي؟
فقال له الرضا عليه السلام : «أنا المدفون في أرضكم ، وأنا بضعة من نبيّكم ، وأنا الوديعة والنجم ، ألا فمن زارني وهو يعرف ما أوجب الله تعالى من حقّي وطاعتي فأنا وآبائي شفعاؤه يوم القيامة ، ومن كنّا شفعاؤه نجا ولو كان عليه مثل وزر الثقلين الجنّ والاِنس . ولقد حدّثني أبي عن جدّي عن أبيه عليه السلام أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال : من رآني في منامه فقد رآني فإنّ الشيطان لا يتمثّل في صورتي ولا في صورة أحد من أوصيائي ولا في صورة أحد من شيعتهم ، وإنّ الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءاً من النبوّة»(2) .
وأما ما روي عنه عليه السلام من فنون العلم ، وأنواع الحكم ، ولاَخبار المجموعة والمنثورة ، والمجالس مع أهل الملل والمناظرات المشهورة فأكثر من أن تحصى .
____________
(1) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 228 | 3 ، ومختصراً في : المناقب لابن شهرآشوب 4 : 333 ، كشف الغمة 2 : 329 .
(2) أمالي الصدوق : 61 | 10 ، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 257 | 11 ، كشف الغمة 2 : 329 .

( 72 )
( الفصل الخامس )
في ذكر نبذ من أخباره مع المأمون
كان المأمون قد أنفذ إلى جماعة من الطالبيّة فحملهم من المدينة وفيهم الرضا عيله السلام ، فأخذ بهم على طريق البصرة حتّى جاؤوه بهم ، وكان المتولي لاِشخاصهم المعروف بالجلودي ، فقدم بهم على المأمون فأنزلهم داراً وأنزل الرضا عليه السلام داراً وأكرمه وعظّم أمره ، ثمّ أنفذ إليه أنّي اُريد ان أخلع نفسي من الخلافة واُقلّدك إيّاها ، فأنكر الرضا عليه السلام هذا الاَمر وقال له : «اُعيذك بالله يا أمير المؤمنين من هذا الكلام وأن يسمع به أحد» فرد عليه الرسالة : فإذا أبيت ما عرضته عليك فلا بدّ من ولاية العهد من بعدي ، فأبى عليه الرضا عليه السلام إباءً شديداً .
فاستدعاه إليه وخلا به ومعه ذو الرئاستين الفضل بن سهل وردد عليه هذا الكلام ، فقال عليه السلام : «إعفني من ذلك يا أمير المؤمنين» .
فقال له المأمون كالمهدّد : إنّ عمر بن الخطّاب جعل الاَمر شورى في ستّة أحدهم جدّك أمير المؤمنين وشرط فيمن خالف ذلك أن يضرب عنقه ، ولا بدّ من قبولك ما اُريده منك .
فقال الرضا عليه السلام : «فإنّي اُجيبك إلى ما تريده من ولاية العهد ، على أنّي لا آمر ولا أنهي ، ولا اُفتي ولا أقضي ، ولا اُولّي ولا اُعزل ، ولا اُغيّر شيئاً ممّا هو قائمٌ» فأجابه المأمون إلى ذلك كلّه(1) .

____________
(1) ارشاد المفيد 2 : 259 ، روضة الواعضين : 224 ، كشف الغمة 2 : 275 ، مقاتل الطالبيين : 562 .
( 73 )
وذكر رواة السير : أنّ المأمون لمّا أراد العقد للرضا عليه السلام أحضر الفضل بن سهل والحسن بن سهل فأعلمها بما قد عزم عليه من ذلك وقال : إنّي عاهدت الله تعالى أنّني إن ظفرت بالمخلوع أخرجت الخلافة إلى أفضل آل أبي طالب ، وما أعلم أحداً أفضل من هذا الرجل على وجه الاَرض .
فلمّا رأيا عزيمته على ذلك أمسكا عن معارضته ، فأرسلهما ألى الرضا ، فعرضا ذلك عليه فامتنع منه ، فلم يزالا به حتّى أجاب ورجعا إلى المأمون فعرّفاه إجابته ، فسّر به وجلس للخاصّة في يوم خميس ، وخرج الفضل بن سهل فأعلم الناس برأي المأمون في عليّ بن موسى عليه السلام ، وانّه قد ولاه عهده ، وقد سمّاه الرضا ، وأمرهم بلبس الخضرة والعَود لبيعته في الخميس الآخر ، على أن يأخذوا رزق سنة .
فلمّا كان ذلك اليوم ركب الناس على طبقاتهم من القوّاد والحجّاب والقضاة وغيرهم في الخضرة ، وجلس المأمون ووضع للرضا عليه السلام وسادتين عظيمتين حتّى لحق بمجلسه وفرشه ، وأجلس الرضا عليه السلام عليهما في الخضرة وعليه عمامة وسيف ، ثمّ أمر ابنه العبّاس بن المأمون فبايع له أوّل الناس ، فرفع الرضا عليه السلام يده فتلقّى بها وجه نفسه وببطنها وجوههم ، فقال المأمون : ابسط يدك للبيعة ، فقال الرضا عليه السلام : «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هكذا كان يبايع» .
فبايعه الناس ويده فوق أيديهم ، ووضعت البدر ، وقامت الخطباء والشعراء ، فجعلوا يذكرون فضل الرضا عليه السلام وما كان من المأمون في أمره ، ثمّ دعا أبو عبّاد بالعبّاس بن المأمون فوثب فدنا من أبيه فقبّل يده وأمره بالجلوس ، ثمّ نودي محمد بن جعفر بن محمد وقال له الفضل بن سهل : قم ، فقام فمشى حتّى قرب من المأمون فوقف فلم يقبّل يده ، فقيل له : إمض فخذ جائزتك ، وناداه المأمون : إرجع يا أبا جعفر إلى مجلسك ، فرجع ثمّ

( 74 )
جعل أبو عبّاد يدعو بعلويّ وعبّاسيّ فيقبضان جوائزهما حتّى نفدت الاَموال .
ثم قال المأمون للرضا عليه السلام : اخطب الناس ، فحمدالله سبحانه وأثنى عليه وقال : «إنّ لنا عليكم حقّاً برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولكم علينا حقّاً به ، فإذا أنتم أدّيتم إلينا ذلك الحقّ وجب علينا الحقّ لكم» .
ولم يذكر عنه غير هذا في ذلك المجلس ، وأمر المأمون فضربت الدراهم وطبع عليها إسم الرضا عليه السلام ، وخطب للرضا في كلّ بلد بولاية العهد(1) .
وخطب عبدالجبّار بن سعيد في تلك السنة على منبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمدينة فقال في الدعاء له : ولي عهد المسلمين عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ عليهم السلام .

ستّة آباءٍ هُم ما هُم * أفضُ مَنْ يَشرَبُ صَوبَ الغمامِ(2)

وذكر المدائنيّ عن رجاله قال : لمّا جلس الرضا عليه السلام لولاية العهد قام بين يديه الخطباء والشعراء ، وخفقت الاَلوية على رأسه ، فذكر بعض من حضر ذلك المجلس ممّن كان يختصّ بالرضا عليه السلام قال : نظر إليّ وكنت مستبشراً بما جرى ، فأومأ إليّ أن اُدن فدنوت منه فقال لي من حيث لا يسمعه غيري : «لا تشغل قلبك بهذا الاَمر ولا تستبشرله ، فإنّه شيء لا يتمّ»(3) .
( 75 )
وذكر الصوليّ بإسناده ، عن الفضل بن سهل النوبختي ـ أو عن أخ له ـ قال : لمّا عزم المأمون على العقد للرضا عليه السلام بالعهد قلت : والله لاَعتبرنّ بما في نفس المأمون أيحبُّ تمام هذا الاَمر أو هو تصنّع منه؟ فكتبت إليه على يد خادم له كان يكاتبني بأسراره على يده : قد عزم ذو الرئاستين على عقد العهد والطالع السرطان وفيه المشتري ، والسرطان وإن كان شرف المشتري فهو برج منقلب لا يتمّ أمر يعقد فيه ، ومع هذا فإنّ المرّيخ في الميزان في بيت العاقبة ، وهذا يدلّ على نكبة المعقود له ، وقد عرّفت أمير المؤمنين ذلك لئلاً يعتب عليّ إذا وقف على هذا من غيري .
فكتب إليّ : إذا قرأت جوابي إليك فاردده إليّ مع الخادم ، ونفسك أن يقف أحدٌ على ما عرّفتنيه ، أو أن يرجع ذوالرئاستين عن عزمه ، فإنّه إن فعل ذلك ألحقت الذنب بك وعلمت أنّك سببه .
قال : فضاقت عليّ الدنيا ، وبلغني أنّ الفضل بن سهل قد تنبّه على الاَمر ورجع عن عزمه ، وكان حسن العلم بالنجوم ، فخفت والله على نفسي وركبت إليه فقلت له : أتعلم في السماء نجماً أسعد من المشتريّ؟ قال : لا ، قلت : أتعلم في الكواكب [نجماً] يكون في حال أسعد منها في شرفها؟ قال : لا ، قلت : فأمض العزم على ذلك إن كنت تعقده وسعد الفلك في أسعد حالاته ، فأمضى الاَمر(1)على ذلك ، فما علمت أنّي من أهل الدنيا حتّى وقّع العقد فزعاً من المأمون(2) .
وروى عليّ بن إبراهيم ، عن ياسر الخادم والريّان بن الصلت جميعاً قالا : لمّا حضر العيد ـ وكان قد عُقد للرضا عليه السلام الاَمر بولاية العهد ـ
____________
(1) في نسختي «ق» و«ط» : العزم .
(2) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 147 | 19 .

( 76 )
بعث المأمون إليه في الركوب إلى العيد والصلاة بالناس والخطبة بهم ، فبعث إليه الرضا عليه السلام : «قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخول الاَمر ، فاعفني عن الصلاة بالناس» .
فقال له المأمون : إنّي اُريد أن تطمئنّ قلوب الناس ويعرفوا فضلك .
ولم يزل الرسول يتردّد بينهم في ذلك ، فلمّا ألحّ عليه المأمون أرسل عليه السلام إليه : «إن أعفيتني فهو أحبُّ إليّ ، وإن لم تعفني خرجت كما خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمير المؤمنين عليه السلام» .
فقال المأمون : اُخرج كيف شئت .
وأمر القوّاد والناس أن يبكروا إلى باب الرضا عليه السلام ، فقعد الناس لاَبي الحسن في الطرقات والسطوح ، واجتمع النساء والصبيان ينتظرون خروجه ، وصار جميع القوّاد والجند إلى بابه ، فوقفوا على دوابّهم حتّى طلعت الشمس ، فاغتسل أبو الحسن عليه السلام ، ولبس ثيابه ، وتعمّم بعمامة بيضاء من قطن ، ألقى طرفاً منها على صدره وطرفاً بين كتفيه ، ومسّ شيئاً من الطيب ، وأخذ بيده عكّازة وقال لمواليه : «إفعلوا مثل ذلك» .
فخرجوا بين يديه وهو حاف ، قد شمّر سراويله إلى نصف الساق ، وعليه ثياب مشمّرة ، فمشى قليلاً ورفع رأسه إلى السماء وكبّر مواليه معه ، ومشى حتّى وقف على الباب ، فلمّا رآه القوّاد والجند في تلك الصورة سقطوا كلّهم إلى الاَرض ، وكان أحسنهم حالاً من كان معه سكّين قطع بها شرابة چاچيلته(1)ونزعها وتحفّى ، وكبّر الرضا عليه السلام على الباب وكبّر الناس معه ، فخيل إلينا أنّ السماء والحيطان تجاوبه .
وتزعزعت مرو بالبكاء والضجيج لمّا رأوا أبا الحسن عليه السلام
____________
(1) الچاچله : كلمة فارسية تُطلق على الحذاء المصنوع من الجلد «اُنظر : لغت نامة 16 : 13» .
( 77 )
وسمعوا تكبيره ، وبلغ المأمون ذلك فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين : يا أمير المؤمنين ، إن بلغ الرضا المصلّى على هذا السبيل افتتن به الناس وخفنا كلّنا على دمائنا ، فأنفذ إليه أن يرجع فبعث إليه المأمون : قد كلّفناك شططاً وأتعبناك ، ولست اُحبّ أن تلحقك مشقّة ، فارجع وليصلّ بالناس من كان يصلّي بهم على رسمه ، فدعا أبو الحسن عليه السلام بخفّه فلبسه وركب ورجع واختلف أمر الناس في ذلك اليوم ولم تنتظم صلاتهم(1) .
وروى عليّ بن إبراهيم ، عن ياسر قال : لمّا عزم المأمون على الخروج من خراسان إلى بغداد خرج معه ذو الرئاستين وخرجنا مع أبي الحسن الرضا عليه السلام ، فورد على الفضل كتاب من أخيه الحسن بن سهل ونحن في بعض المنازل : إنّي نظرت في تحويل السنة فوجدت فيه أنّك تذوق في شهر كذا يوم الاَربعاء حرّ الحديد وحرّ النار ، وأرى أن تدخل أنت وأمير المؤمنين والرضا الحمّام في هذا اليوم وتحتجم فيه تصبّ على بدنك الدّم ليزول عنك نحسه .
فكتب ذوالرئاستين بذلك إلى المأمون وسأله أن يسأل أباالحسن في ذلك ، فكتب إلى الرضا عليه السلام يسأله فيه ، فأجابه : «لست بداخل الحمّام غداً» فأعاد عليه الرقعة مرّتين ، فكتب إليه أبو الحسن عليه السلام : «إنّي رأيت رسول الله صلّى لله عليه وآله وسلّم في هذه الليلة فقال لي : يا عليّ لا تدخل الحمّام غداً ، ولا أرى لك
يا أمير المؤمنين ولا للفضل أن تدخلا الحمّام» .
فكتب إليه المأمون : صدقت يا أبا الحسن وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ولست بداخل الحمّام غداً ، والفضل أعلم .
____________
(1) الكافي 1 : 408 ، ارشاد المفيد 2 : 264 ، وباختلاف يسير في : عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 150| ذيل حديث 21 ، روضة الواعضين : 227 ، وباختصار في : المناقب لابن شهرآشوب 4 : 371 ، كشف الغمة 2 : 278 .
( 78 )
قال ياسر : فلمّا أمسينا قال لنا الرضا عليه السلام : «قولوا : نعوذ بالله من شرّ ما ينزل في هذه الليلة» فلم نزل نقول ذلك ، فلّما صلّى الرضا عليه السلام الصبح قال لي : «إصعد السطح فاستمع هل تجد شيئاً» فلمّا صعدت سمعت الصيحة فكثرت وزادت فلم نشعر بشيء ، فإذا نحن بالمأمون قد دخل من الباب الذي كان من داره إلى دار أبي الحسن عليه السلام وهو يقول : يا سيّدي يا أبا الحسن ، آجرك الله في الفضل ، فإنّه دخل الحمّام ودخل عليه قوم بالسيوف فقتلوه ، وأُخذ ممّن دخل عليه ثلاثة نفر أحدهم ابن خالة الفضل ابن ذي القلمين .
قال : واجتمع الجند والقوّاد ومن كان من رجال الفضل على باب المأمون فقالوا : هو اغتاله وشغبوا عليه وطلبوا بدمه ، وجاؤوا بالنيران ليحرقوا الباب ، قال المأمون لاَبي الحسن عليه السلام : يا سيّدي إن رأيت أن تخرج إليهم وترفق بهم حتّى يتفرّقوا؟ قال : «نعم» .
فركب أبو الحسن وقال لي : «يا ياسر ، إركب» فركبت فلمّا خرجنا من باب الدار نظر إلى الناس وقد ازدحموا فأومأ إليهم بيده تفرّقوا .
قال : ياسر فأقبل الناس وقد يقع بعضهم على بعض ، وما أشار إلى أحد إلاّ ركض ومضى(1) .
وقال أبو عليّ السلامي : إنّما قتل الفضل بن سهل غالب خال المأمون في حمّام سرخس مغافضة(2)في شعبان سنة ثلاث ومائتين(3) .
____________
(1) الكافي 1 : 409 | 8 ، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 163 | ضمن حديث 24 ، ارشاد المفيد 2 : 266 ، روضة الواعضين : 228 ، كشف الغمة 2 : 279 .
(2) غافصت الرجل : أي اخذنه على غرة . «الصحاح ـ غفص ـ 3 : 1047» .
(3) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 166 ، دلائل الامامة181 .

( 79 )
عليّ بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن إبراهيم بن محمد الحسينيّ قال : بعث المأمون إلى أبي الحسن عليه السلام جارية ، فلمّا اُدخلت عليه اشمأزّت من الشيب ، فردّها إلى المأمون وكتب إليه :

«نعـى نفسي إلى نفسي المشيبُ * وعــندَ الشـيبِ يتّعظُ اللبيـبُ
فقــد ولّـى الشبـابُ إلى مداهُ * فلسـتُ أرىمـواضـعه تؤوبُ
سـأبكيــهِ وأندبـهُ طـويـلاً * وأدعـوهُ إلـيّ عسـى يجيـبُ
وهيهـاتَ الـذي قد فـاتَ منهُ * تمـنّيني بـهِ النفـسُ الكـذوبُ
وراعَ الغانيـاتِ بيـاضُ رأسي * ومـَن مُـدّ البقاءُ لـه يشيـبُ
أرى الـبيضَ الحسانِ يحدنَ عنّي * وفـي هجرانـهنّ لنا نصـيبُ
فـإن يكـن الشبابُ مضى حبيباً * فإنّ الشيبَ أيـضاً لـي حبيبُ
سـأصـحبهُ بتقــوى اللهِ حتّى * يفرّقَ بيننا الاَجلُ القريـبُ»(1)



* * *

____________
(1) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 178 | 8 .
( 80 )
( الفصل السادس )
في ذكر وفاته عليه السلام وسببها
وبعض ما جاء من الاَخبار في ذلك
وكان سبب قتل المأمن إيّاه أنه عليه السلام كان لا يحابي المأمون في حقّ ، ويجبه في أكثر أحواله بما يغيظه ويحقده عليه ، ولا يظهر ذلك له ، وكان عليه السلام يكثر وعظه إذا خلا به ، ويخوّفه بالله تعالى ، وكان المأمون يظهر قبول ذلك ويبطن خلافه .
ودخل عليه السلام يوماً عليه فرآه يتوضّأ للصلاة والغلام يصبّ على يده الماء فقال : «لا تشرك ـ يا أمير المؤمنين ـ بعبادة ربّك أحداً» فصرف المأمون الغلام وتولّى إتمام وضوئه .
وكان عليه السلام يزري على الفضل والحسن ـ ابني سهل ـ عند المأمون إذا ذكرهما ، ويصف له مساوئهما ، وينهاه عن الاِصغاء إلى مقالهما ، فعرفا ذلك منه ، فجعلا يَخطِبان(1)عليه عند المأمون ، ويخوفانه من حمل الناس عليه‎ ، حتّى قلبا رأيه فيه وعزم على قتله ، فاتّفق أنّه عليه السلام أكل هو والمأمون طعاماً فاعتلّ الرضا عليه السلام واظهر المأمون تمارضاً(2) .
فذكر محمد بن عليّ بن أبي حمزة ، عن منصور بن بشير ، عن أخيه عبدالله بن بشير قال : أمرني المأمون أن اُطوّل أظفاري عن العادة ولا أظهر لاَحد ذلك ، ففعلت ، ثمّ استدعاني وأخرج إليّ شيئاً شبيهاً بالتمر الهنديّ ،
____________
(1) حَطبَ فلان بفلان : سعى به . «لسان العرب 1 : 322» .
(2) ارشاد المفيد 2 : 269 ، وباختصار في : مقاتل الطالبيين : 565 .

( 81 )
وقال : اعجن هذا بيديك جميعاً ، ففعلت .
ثمّ قام وتركني ، فدخل على الرضا عليه السلام فقال له : ما خبرك؟ قال : «أرجو أن أكون صالحاً» .
فقال له : وأنا اليوم بحمد الله أيضاً صالح ، فهل جاءك أحدٌ من المترفّقين في هذا اليوم؟ قال : «لا» .
فغضب المأمون وصاح على غلمانه ، ثمّ قال : فخذ ماء الرّمان الساعة ، فإنّه مما لا يُستغنى عنه ، ثمّ دعاني فقال : إئتنا برمّان ، فأتيته به فقال لي : أعصره بيديك ، ففعلت وسقاه المأمون بيده ، وكان ذلك سبب وفاته ، ولم يلبث إلاّ يومين حتّى مات(1) .
وروي عن محمد بن الجهم أنّه قال : كان الرضا عليه السلام يعجبه العنب ، فأخذ له شيء منه فعجل في موضع أقماعه الاِبر أيّاماً ثمّ نزعت منه وجيء به إليه ، فأكل منه وهو في علّته التي ذكرناها فقتله ، وذكر أنّ ذلك من لطيف السموم(2) .
وروى جماعة كثيرة من أصحابنا ، عن عليّ بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن أبي الصلت الهرويّ قال : بينا أنا واقفٌ بين يدي الرضا عليه السلام إذ قال لي : «يا أبا الصلت ، اُدخل هذه القبّة التي فيها قبر هارون فائتني بترابه من أربعة جوانب» .
قال : فأتيته به فقال : «ناولني هذا التراب» ـ وهو من عند الباب ـ فناولته فأخذه وشمّه ثمّ رمى به فقال : «سيحفر لي ههنا ، فتظهر صخرة لو
____________
(1) ارشاد المفيد 2 : 270 ، اثبات الوصية : 181 ، روضة الواعظين : 232 ، كشف الغمة : 2 : 281 .
(2) ارشاد المفيد 2 : 270 ، روضة الواعظين : 232 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 374 ، كشف الغمة 2 : 282 ، مقاتل الطالبيين : 567 .

( 82 )
جمع عليها كلّ معول بخراسان لم يتهيّأ قلعها» ثمّ قال : «في الذي عند الرجل مثل ذلك ، وفي الذي عند الرأس مثل ذلك» .
ثم قال : «ناولني هذا التراب فهو من تربتي» ثمّ قال : «سيحفر لي في هذا الموضع فتأمرهم أن يحفروا لي سبع مراقي إلى أسفل ، وأن يشقّ لي ضريحاً ، فإن أبوا إلاّ أن يلحدوا فتأمرهم أن يجعلوا اللحد ذراعين وشبراً ، فإنّ الله عزّ وجلّ سيوسّعه لي بما شاء ، فإذا فعلوا ذلك فإنّك ترى عند رأسي نداوة ، فتكلّم بالكلام الذي اُعلّمك ، فإنّه ينبع الماء حتّى يمتلئ اللحد وترى فيه حيتاناً صغاراً ففتّت لها الخبز الذي أعطيك فإنّها تلتقطه ، فإذا لم يبق منه شيءُ خرجت حوته كبيرة فالتقطت الحيتان الصغار حتّى لا يبقى منها شيءُ ، ثمّ تغيب فإذا غابت فضع يدك على الماء وتكلّم بالكلام الذي اعلّمك فإنّه ينضب الماء ولا يبقى منه شيء ، ولا تفعل ذلك إلاّ بحضرة المأمون» .
ثمّ قال عليه السلام : يا أبا الصلت ، غداً أدخل إلى هذا الفاجر فإن أنا خرجت وأنا مكشوف الرأس فتكلّم اُكلّمك ، وإن خرجت وأنا مغطّى الرأس فلا تكلّمني» .
فلمّا أصبحنا من الغد لبس ثيابه وجلس في محرابه ينتظر ، فبينا هو كذلك إذ دخل عليه غلامُ المأمون فقال له : أجب أمير المؤمنين ، فلبس نعله ورداءه وقام يمشي وأنا أتبعه حتّى دخل على المأمون وبين يديه طبق عليه عنب وأطباق فاكهة وبيده عنقود عنب قد أكل بعضه وبقي بعضه ، فلمّا بصر بالرضا عليه السلام وثب إليه وعانقه وقبّل ما بين عينيه وأجلسه معه وناوله العنقود وقال : ياابن رسول الله ما رأيت عنباً أحسن من هذا ، فقال له الرضا عليه السلام : «ربّما كان عنباً حسناً يكون من الجنّة» فقال : كل منه ، فقال له الرضا عليه السلام : «تعفيني منه» فقال : لابدّ من ذلك ، وما يمنعك منه ،
( 83 )
لعلّك تتّهمنا بشيء ، فتناول العنقود وأكل منه ثمّ ناوله منه الرضا عليه السلام ثلاث حبّاب ثمّ رمى به وقام ، فقال له المأمون : إلى أين؟ «إلى حيث وجّهتني» .
وخرج عليه السلام مغطّى الرأس فلم اُكلّمه حتّى دخل الدار وأمر أن يُغلق الباب فاُغلق ثمّ نام عليه السلام على فراشه ، ومكثت واقفاً في صحن الدار مهموماً محزوناً ، فبينا أنا كذلك إذ دخل عليّ شابُّ حسن الوجه قطط الشعر أشبه الناس بالرضا عليه السلام فبادرت إليه وقلت : من أين دخلت والباب مغلق؟ فقال لي «الذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت هو الذي أدخلني الدار والباب مغلق عليّ» .
فقلت له : ومن أنت؟
فقال لي : «أنا حجة الله عليك يا أبا الصلت ، أنا محمّد بن عليّ» .
ثمّ مضى نحو أبيه عليه السلام فدخل وأمرني بالدخول معه ، فلمّا نظر إليه الرضا عليه السلام وثب إليه فعانقه وضمّه إلى صدره وقبّل ما بين عينيه ، ثمّ سحبه سحباً في فراشه وأكبّ عليه محمد بن علي يقبله ، وسارّه بشيء لم أفهمه ، ورأيت على شفتي الرضا زبداً أشد بياضاً من الثلج ، ورأيت أبو جعفر يلحسه بلسانه ، ثمّ أدخل يده بين ثوبيه وصدره فاستخرج منه شيئاً شبيهاً بالعصفور فابتلعه أبو جعفر ، ومضى الرضا عليه السلام .
فقال أبو جعفر : «قم يا أبا الصلت وائتني بالمغتسل والماء من الخزانة» .
فقلت : ما في الخزانه مغتسل ولا ماء .
فقال لي : «انته إلى ما أمرك به» .
فدخلت الخزانة ، فإذا فيها مغتسل وماء ، فأخرجته وشمّرت ثيابي لاُغسّله معه ، فقال لي : «[ تنح ] يا أبا الصلت ، فإنّ معي من يعينني غيرك» .
( 84 )
فغسّله ثمّ قال لي : «ادخل الخزانة فأخرج إليّ السفط الذي فيه كفنه وحنوطه» .
فدخلت ، فإذا أنا بالسفط لم أره في تلك الخزانة قطّ ، فحملته إليه وكفّنه وصلّى عليه ، ثم قال : «إئتني بالتابوت» .
فقلت : أمضي إلى النجار حتّى يصلح تابوتاً .قال : «قم ، فإنّ في الخزانة تابوتاً» .
فدخلت الخزانة فوجدت تابوتاً لم أره قطّ ، فأتيته به فأخذه عليه السلام فوضعه في التابوت بعدما صلّى عليه وصفّ قدميه وصلّى ركعتين ، لم يفرغ منها حتّى علا التابوت وانشقّ السقف فخرج منه التابوت ومضى ، فقلت : ياابن رسول الله الساعة يجيئنا المأمون يطالبنا بالرضا فما نصنع؟
فقال لي : «أسكت فإنه سيعود يا أبا الصلت ، ما من نبيّ يموت في المشرق ويموت وصيّه في المغرب إلاّ جمع الله بين أرواحهما وأجسادهما» .
فما أتم الحديث حتّى انشقّ السقف ونزل التابوت ، فقام عليه السلام واستخرج الرضا عليه السلام من التابوت ووضعه على فراشه كأنّه لم يغسّل ولم يكفّن ، ثمّ قال : «يا أبا الصلت ، ثم فافتح الباب للمأمون» .
ففتحت الباب فإذا المأمون والغلمان بالباب ، فدخل باكياً حزيناً قد شقّ جيبه ولطم رأسه وهو يقول : يا سيّداه ، فجعتُ بك يا سيّدي ، ثمّ دخل وجلس عند رأسه وقال : خذوا في تجهيزه .
فأمر بحفر القبر ، فحفرت الموضع فظهر كل شيء على ما وصفه الرضا عليه السلام ، فقام بعض جلسائه وقال : ألست تزعم أنّه إمام؟ قلت : بلى ، لا يكون الاِمام إلاّ مقدّم الناس ، فأمر أن يحفر له في القبلة ، فقلت : أمرني أن أحفرله سبع مراقي وأن أشقّ له ضريحه ، فقال : انتهوا إلى ما يأمر به أبو الصلت ـ سوى الضريح ـ ولكن يحفر له ويلحد .
( 85 )
فلمّا رأى ما ظهر له من النداوة والحيتان وغير ذلك قال المأمون : لم يزل الرضا عليه السلام يرينا العجائب في حياته حتّى أراناها بعد وفاته أيضاً .
فقال له وزير كان معه : أتدري ما أخبرك به الرضا .
قال : لا .
قال : أخبركم إنّ ملككم بني العبّاس ـ مع كثرتكم وطول مدّتكم ـ مثل هذه الحيتان ، حتّى إذا فنيت آجالكم وانقطعت آثاركم وذهبت دولتكم سلّط الله تعالى عليكم رجلاً منّا فأفناكم عن آخركم .
قال له : صدقت ، ثمّ قال : يا أبا الصلت ، علّمني الكلام الذي تكلمت به .
قلت : والله لقد نسيت الكلام من ساعتي ، وقد كنت صدقت ، فأمر بحبسي ، فحبست سنة ، فضاق عليّ الحبس وسألت الله أن يفرّج عنّي بحقّ محمد وآله ، فلم أستتمّ الدعاء حتّى دخل محمد بن علّي الرضا عليهما السلام فقال لي : «ضاق صدرك يا أبا الصلت؟»
فقلت : إي والله .
قال : «قم فاخرج» ثم ضرب بيده إلى القيود التي كانت عليّ ففكّها ، وأخذ بيدي وأخرجني من الدار ، والحرسة والغلمة يرونني فلم يستطيعوا أن يكلّموني ، وخرجت من باب الدار ثمّ قال لي : «إمض في ودائع الله ، فأنّك لن تصل إليه ولايصل إليك أبداً» .
قال أبو الصلت : فلم ألتق مع المأمون إلى هذا الوقت(1) .
وروي عن إبراهيم بن العبّاس قال : كانت البيعة للرضا عليه السلام
____________
(1) أمالي الصدوق : 526 | 17 ، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 242 | 1 ، روضة الواعظين : 229 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 374 ، الثاقب في المناقب : 489 | 417 .

( 86 )
لخمس خلون من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين ، وزوّجه ابنته اُمّ حبيب في أوّل سنة اثنين ومائتين ، وتوفّي سنة ثلاث ومائتين والمأمون متوجّه إلى العراق(1) .
وفي رواية هرثمة بن أعين عن الرضا عليه السلام ـ في حديث طويل ـ : أنّه قال : «يا هرثمة ، هذا أوان رحيلي إلى الله عزّ وجلّ ولحوقي بجدّي وآبائي عليهم السلام ، وقد بلغ الكتاب أجله ، فقد عزم هذا الطاغي على سمّي في عنب ورمّان مفروك ، فأمّا العنب فأنّه يغمس السلك في السمّ ويجذبه بالخيط في العنب ، وأمّا الرمّان فإنّه يطرح السمّ في كفّ بعض غلمانه ويفرك الرمّان بيده ليلطّخ حبّه في ذلك السمّ ، وإنّه سيدعوني في اليوم المقبل ويقرّب إليّ الرمّان والعنب ويسألني أكلهما فاكلهما ثمّ ينفذ الحكم ويحضر القضاء»(2) .
ثمّ ساق الحديث بطوله قريباً من حديث أبي الصلت الهرويّ في معناه ، ويزيد عليه بأشياء .
وكان للرضا عليه السلام من الولد ابنه أبو جعفر محمد بن علي الجواد عليه السلام لا غير(3) .
ولمّا توفّي الرضا عليه السلام أنفذ المامون إلى محمّد بن جعفر الصادق عليه السلام وجماعة آل أبي طالب الذين كانوا عنده ، فلمّا حضروه نعاه إليهم وأظهر حزناً شديداً وتوجّعاً ، وأراهم إيّاه صحيح الجسد ، وقال : يعزّ عليّ يا أخي أن أراك بهذه الحال وقد كنت آمل أن أقدم قبلك ، ولكنّ أبى الله إلاّ
____________
(1) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 245 | 2 .
(2) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 246 ، دلائل الامامة : 178 .
(3) انظر : عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 250 ، ارشاد المفيد 2 : 271 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 367 ، كشف الغمة 2 : 282 .

( 87 )
إلاّ ما أراد(1) .

____________
(1) انظر : ارشاد المفيد 2 : 271 ، كشف الغمة 2 : 282 ، مقاتل الطالبيين : 567 .