(الباب الخامس)
في ذكر مسائل يسال عنها أهل الخلاف في غيبة
صاحب الزمان عليه السلام ، وحلّ الشبهات فيها
بواضح الدليل ولائح البرهان

وهي سبع مسائل :
مسألة : قالوا : ما الوجه في غيبته عليه السلام على الاستمرار والدوام ، حتى صار ذلك سبباً لإنكار وجوده ، ونفي ولادته (1) ، وآباؤه عليهم السلام وإن لم يظهروا الدعاء إلى نفوسهم فيما يتعلق بالإمامة ، فقد كانوا ظاهرين يفتون في الأحكام ، فلا يمكن لأحدٍ نفي وجودهم ؟
الجواب : قد ذكر الأجل المرتض - قدّس الله روحه - في ذلك طريقة لم يسبقه إليها أحد من أصحابنا ، فقال : إنّ العقل إذا دلّ على وجوب الإمامة فإنّ كل زمان - كلّف المكلّفون الذين يقع منهم القبيح والحسن ، ويجوز عليهم الطاعة والمعصية - لا يخلو من إمام ، لأنّ خلوه من الإمام
____________
(1) في نسخة« م » زيادة :وكيف يجوز أن يكون إماماً للخلق ولم يظهر قط لأحدٍ منهم .

( 298 )
إخلال بتمكينهم ، وقادح في حسن تكليفهم .
ثم دل العقل على أنّ ذلك الإمام لا بد أن يكون معصوماً من الخطأ ، ماموناً منه كل قبيح ، وثبت أن هذه الصفة - التي دل العقل على وجوبها - لا توجد إِلآ فيمن تدَعي الإماميّة إمامته ، ويعرى منها كل من تدعى له الإمامة سواه .
فالكلام في علة غيبته وسببها واضح بعد أن تقرّرت امامته ، لأنا إذا علمنا أنّه الإمام دون غيره ، ورأيناه غائباً عن الأبصار ، علمنا أنه لم يغب مع عصمته وتعيّن فرض الإمامة فيه وعليه إلآ لسبب اقتضى ذلك ، استدعته ، وضرورة حملت عليه ، وان لم يعلم وجهه على التفصيل ؛ لأن ذلك مما لا يلزم علمه ، وجرى الكلام في الغيبة ووجهها مجرى العلم بمراد الله تعالى من الآيات المتشابهات في القران التي ظاهرها الجبر أو التشبيه .
فانا نقول : اذا علمنا حكمة الله سبحانه ، وأنّه لا يجوزأن يخبر بخلاف ما هو عليه من الصفات ، علمنا - على الجملة - أنّ لهذه الأيات وجوهاً صحيحة بخلاف ظاهرها ، تطابق مدلول أدلة العقل ، وإن غاب عنّا العلم بذلك مفضلاً ، فان تكلفنا الجواب عن ذلك ، وتبرعنا بذكره ، فهو فضل منّا غير واجب .
وكذلك الجواب لمن سأل عن الوجه في إيلام الأطفال ، وجهة المصلحة في رمي الجمار والطواف بالبيت ، وما أشبه ذلك من العبادات على التفصيل والتعيين ، فإنا إذا عولنا على حكمة القديم سبحانه ، وأنّه لا يجوز أن يفعل قبيحاً ، فلابد من وجه حسن في جميع ذلك وإن جهلناه بعينه ، وليس يجب علينا بيان ذلك الوجه وأنه ما هو ، وفي هذا سد الباب على مخالفينا في سؤالاتهم ، وقطع التوصيلات عنهم والاسهابات ، إلأ أن نتبرّع بايراد الوجه في غيبته عليه السلام على سبيل الاستظهار وبيان الاقتدار ، وإن
( 299 )
كان ذلك غير واجب علينا في حكم النظر والاعتبار .
فنقول : الوجه في غيبته عليه السلام هوخوفه على نفسه ، ومن خاف على نفسه احتاج إلى الاستتار ، فامّا لو كان خوفه على ماله أوعلى الأذى في نفسه لوجب عليه أن يتحمّل ذلك كله لتنزاح علّة المكلّفين في تكليفهم ، وهذا كما نقوله في النبي في أنّه يجب عليه أن يتحمّل كل أذى في نفسه حتّى يصخ منه الأداء إلى الخلق ما هو لطف لهم ، وانّما يجب عليه الظهور وإن أدّى إلى قتله كما ظهركثير من الأنبياء وإن قتلوا ، لأنّ هناك كان في المعلوم أنّ غير ذلك النبي يقوم مقامه في تحمّل أعباء النبوّة ، أو أن المصالح التي كان يؤدّيها ذلك النبيّ قد تغيّرت ، وليس كذلك حال إمام الزمان عليه السلام ، فإن الله تعالى قد علم أنّه ليس بعده من يقوم مقامه في باب الإمامة والشريعة على ما كانت عليه ، واللطف بمكانه لم يتغيّر ، ولا يصح تغيره ، فلا يجوز ظهوره إذا أدّى إلى القتل .
وإنّما كان آبناؤه عليهم السلام ظاهرين بين الناس يفتونهم ويعاشرونهم ، ولم يظهر هو لأن خوفه عليه السلام أكثر ، فإن الأئمة الماضين من آبائه عليهم السلام أسرّوا إلى شيعتهم أن صاحب السيف هو الثاني عشر منهم ، وأنّه الذي يملأ الأرض عدلاً ، وشاع ذلك القول من مذهبهم حتى ظهر ذلك القول بين أعدائهم ، فكانت السلاطين الظلمة يتوقفون عن إتلاف آبائه لعلمهم بأنّهم لا يخرجون بالسيف ، ويتشوقون إلى حصول الثاني عشر ليقتلوه ويبيدوه .
ألا ترى أن السلطان قي الوقت الذي توفّي فيه العسكريّ عليه السلام وكل بداره وجواريه من يتفقد حملهنّ لكي يظفربولده ويفنيه ؟
كما أنّ فرعون موسى لمّا علم أن ذهاب ملكه على يد موسى عليه السلام منع الرجال من أزواجهم ، ووكّل بذوات الأحمال منهنّ ليظفر به .
( 300 )

وكذلك نمرود لمّا علم أنّ ملكه يزول على يد إبراحميم عليه السلام وكّل بالحبالى من نساء قومه ، وفرّق بين الرجال وأزواجهم ، فستر الله سبحانه ولادة إبراهيم وموسى عليهما السلام كما ستر ولادة القائم عليه السلام لما علم في ذلك من التدبير .
وأما كون غيبته سبباً لنفي ولادته ، فإن ذلك لضعف البصيرة والتقصير عن النظر ، وعلى الحق الدليل الواضح ، لمن أراده ، الظاهر لمن قصده .
مسألة ثانية : قالوا : إذا كان الإمام غائباً بحيث لا يصل إليه أحدٌ من الخلق ولا ينتفع به ، فما الفرق بين وجوده وعدمه ؟ وإلاّ جاز أن يميته الله تعالى أو يعدمه حتّى إذا علم أنّ الرعيّة تمكّنه وتسلّم له وجده أو أحياه كما جاز أن يبيحه الاستتار حتّى يعلم منهم التمكين له فيظهره .
الجواب : أول ما نقوله : إنّا لا نقطع على أن الإمام لا يصل إليه أحدٌ ، فهذا أمر غير معلوم ، ولا سبيل إلى القطع به . ثمّ إن الفرق بين وجوده غائباً عن أعدائه للتقية- وهوفي أثناء تلك الغيبة منتظر ان يمكنوه فيظهر ويتصرف - وبين عدمه واضح ، وهو أنّ الحجة هناك فيما فات من مصالح العباد لازمة لله تعالى ، وههنا الحجة لازمة للبشر ، لأنه إذا خيف فغيّب شخصه عنهم كان ما يفوتهم من المصلحة-عقيب فعل كانوا هم السبب فيه -منسوباً إليهم ، فيلزمهم في ذلك الذم ، وهم المؤاخذون به ، الملومون عليه .
وإذا أعدمه الله تعالى ، كان ما يفوت العباد من مصالحهم ، ويحرمونه من لطفهم وانتفاعهم به ، منسوباً الى الله تعالى ، ولا حجّة فيه على العباد ، ولالوم يلزمهم ، لأنهم لايجوزأن ينسبوا فعلاً للهّ تعالى .
مسألة ثالثة : فان قالوا : الحدود التي تجب على الجناة في حال الغيبة ماحكمها؟
فإن قلتم : تسقط من أهلها [ فقد ] صرّحتم بنسخ الشريعة ، وإن كانت
( 301 )
ثابتة فمن الذي يقيمها والامام مستتر غائب ؟
الجواب : الحدود المستحقّة ثابتة في جنوب (الجناة بما)(1) يوجبها من الأفعال ، فان ظهر الإمام ومستحقّوها باقون أقامها عليهم بالبينة أو الاقرار ، وإن فات ذلك بموتهم كان الإثم في تفويت إِقامتها على المخيفين للإمام ، المحوجين إيّاه إلى الغيبة .
وليس هذا بنسخ لإقامة الحدود ، لأن الحد انّما تجب إقامته مع التمكّن وزوال المانع ، وسقوط فرض إقامته مع الموانع وزوال التمكّن لا يكون نسخاً للشرع المتقرّر ، لأنّ الشرط في الوجوب لم يحصل ، وإنّما يكون ذلك نسخاً لو سقط فرض إقامتها عن الإمام مع تمكنه .
على أنّ هذا أيضاً يلزم مخالفينا إذا قيل لهم : كيف الحكم في الحدود في الأحوال التي لا يتمكّن فيها أهل الحل والعقد من اختيار الإمام ونصبه ؟ وهل تبطل أوتثبت من تعذّر إقامتها؟ وهل يقتضي هذا التعذر نسخ الشريعة؟
فكل ما اجابوا به عن ذلك فهوجوابنا بعينه .
مسألة رابعة : فان قالوا : فالحقّ مع غيبة الإمام كيف يدرك ؟
وإن قلتم : لا يدرك ولا يوصل إليه ، فقد جعلتم الناس في حيرة وضلالة مع الغيبة . .
لان قلتم : يدرك الحقّ من جهة الأدلّة المنصوبة(2) عليه فقد صرّحتم بالاستغناء عن الإمام بهذه الأدلّة ، وهذا يخالف مذهبكم .
الجواب : ان الحقّ على ضربين عقليّ وسمعيّ ، فالعقلي يدرك بالعقل ، ولا يؤثر فيه وجود الإمام ولا فقده .
والسمعي عليه أدلّة منصوبة من أقوال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم
____________
(1) في نسخنا : جناة بما ، ولعله تصحيف ، واثبتنا ما رأيناه صواباً .
(2) في نسخة « م » : المنصوص بها .

( 302 )
ونصوصه ، وأقوال الأئمة الصادقين عليهم السلام ، وقد بينوا ذلك وأوضحوه ، غير أن ذلك وان كان على ما قلناه فالحاجة إِلى الإمام مع ذلك ثابتة ، لأن جهة الحاجة إليه -المستمرّة في كل عصر وعلى كلّ حال -هي كونه لطفاً في فعل الواجب العقليَ من الانصاف والعدل واجتناب الظلم والبغي ، وهذا ممّا لا يقوم غيره مقامه فيه .
فاما الحاجة إليه من جهة الشرع فهي أيضاً ظاهرة ، لأن النقل الوارد عن النبي والأئمة عليهم السلام يجوز أن يعدل الناقلون عن ذلك إما بتعمّد أوشبهة فينقطع النقل أويبقى فيمن ليس نقله حجة ولا دليلاً ، فيحتاج حينئذ إلى الإمام ليكشف ذلك ، يبنه (1) ، وإنما يثق المكلفون بما نُقل إليهم وأنه جميع الشرع إِذا علموا أن وراء هذا النقل أماماً متى اختلّ سدّ خلله وبيّن المشتبه فيه .
فالحاجة إلى الإمام ثابتة مع إدراك الحق في احوال الغيبة من الأدلّة الشرعية ، على أنّا إذا علمنا بالاجماع أن التكليف لازم لنا إلى يوم القيامة ولا يسقط بحال ، علمنا أنٌ النقل ببعض الشريعة لا ينقطع في حال تكون تقية الإمام فيها مستمرّة ، وخوفه من الأعداء باقياً ، ولو اتفق ذلك لما كان إلا في حال يتمكن فيها الإمام من البروز والظهور ، والإعلام والانذار .
مسألة خامسة : فان قالوا : إذا كانت العلة في غيبة الإمام خوفه من الظالمين واتقاء من المخالفين فهذه العلة منتفية عن أوليائه فيجب أن يكون ظاهراً لهم أويجب أن يسقط عنهم التكليف الذي إمامته لطف فيه .
الجواب : قد أجاب أصحابنا عن هذا السؤال باجوبة :
أحدها : أن الإمام ليس في تقية من أوليائه وإن غاب عنهم كغيبته من
____________
(1) في نسخة « ط » : ويثبته .

( 303 )
أعدائه لخوفه من إيقاعهم الضرر به ، وعلمه بانه لو ظهر لهم لسفكوا دمه . وغيبته عن أوليائه لغير هذه العلّة ، وهو أنّه أشفق من إشاعتهم خبره ، والتحدّث منهم كذلك على وجه التشرّف بذكره ، والاحتجاج بوجوده ، فيؤدّي ذلك إلى علم أعدائه بمكانه ، فيعقب علمهم بذلك ما ذكرناه من وقوع الضرر به .
وثانيها : أن غيبته عن أعدائه للتقيّة منهم ، وغيبته عن أوليائه للتقيّة عليهم ، والإشفاق من إيقاع الضرر بهم ، إذ لو ظهر للقائلين بإمامته وشاهده بعض أعدائه وأذاع خبره طولب أولياؤه به ، فاذا فات الطالب بالاستتار أعقب ذلك عظيم المكروه والضرر باوليائه ، وهذا معروف بالعادات .
وثالثها : أنّه لابدّ أن يكون في المعلوم أنّ في القائلين بإمامته من لا يرجع عن الحقّ من اعتقاد إمامته ، والقول بصحتها على حال من الأحوال ، فامره الله تعالى بالاستتار ليكون المقام على الإقرار بإمامته مع الشُبه في ذلك وشدّة المشقّة أعظم ثواباً من المقام على الإقرار بإمامته مع المشاهدة له ، فكانت غيبته عن أوليائه لهذا الوجه ، ولم تكن للتقية منهم .
ورابعها : وهو الذي عول عليه المرتضى - قدّس الله روحه - قال : نحن أولاً : لا نقطع على أنّه لا يظهر لجميع أوليائه ، فإنّ هذا أمرمغيّب عنّا ، ولا يعرف كل منّا إلاّ حال نفسه ، فإذا جوّزنا ظهوره لهم كما جوّزنا غيبته عنهم فنقول في علّة غيبته عنهم : إنّ الإمام عند ظهوره من الغيبة إنّما يميّزشخصه كما يعرف عينه بالمعجز الذي يظهر على يديه ، لأنّ النصوص الدالّة على إمامته لا تميّز شخصه من غيره كما ميّزت أشخاص آبائه ، والمعجز إنّما يعلم دلالته بضرب من الاستدلال ، والشبه تدخل في ذلك ، فلا يمتنع أن يكون كلّ من لم يظهر له من أوليائه ، فإن المعلوم من حاله أنّه متى ظهرله قصر في النظر في معجزه ، ولحق لهذا التقصير بمن يخاف منه من الأعداء .
( 304 )
على أنّ أولياء الإمام وشيعته منتفعون به في حال غيبته ، لأنهم مع علمهم بوجوده بينهم ، وقطعهم بوجوب طاعته عليهم ، لابدّ أن يخافوه في إرتكاب القبيح ، ويرهبوا من تأديبه وإنتقامه ومؤاخذته ، فيِكثر منهم فعل الواجب ، ويقلّ إرتكاب القبيح (1) ، أو يكونوا إلى ذلك أقرب ، فيحصل لهم اللّطف به مع غيبته ، بل ربما كانت الغيبة في هذا الباب أقوى؟ لأنّ المكلّف إذا لم يعرف مكانه ، ولم يقف على موضعه ، وجوز فيمن لا يعرفه أنّه الإمام ، يكون إلى فعل الواجب أقرب منه إلى ذلك لوعرفه ولم يجوز فيه كونه اماماً .
فإن قالوا : إنّ هذا تصريح منكم بان ظهور الإمام كاستتاره في الانتفاع به والخوف منه .
فنقول : إن ظهوره لا يجوز أن يكون في المنافع كاستتاره ، وكيف يكون ذلك وفي ظهوره وقوّة سلطانه إنتفاع الولي والعدو ، والمحب والمبغض ، ولا ينتفع به في حال الغيبة إلاّ وليّه دون عدوه ، وأيضاً فإنّ في إنبساط بده منافع كثيرة لأوليائه وغيرهم ، لأنه يحمي حوزتهم ، ويسدّ ثغورهم ، ويؤمن طرقهم ، فيتمكنون من التجارات والمغانم ، ويمنع الظالمين من ظلمهم ، فتتوفر أموالهم ، وتصلح أحوالهم .
غير أن هذه منافع دنيوتة لا يجب إذا فاتت بالغيبة أن يسقط التكليف معها ، والمنافع الدينيّة الواجبة في كل حالة بالإمامة قد بيّنّا أنها ثابتة لأوليائه مع الغيبة ، فلايجب سقوط التكليف
مسألة سادسة : قالوا : لا يمكن أن يكون فىِ العالم بشر له من السنَ ما تصفونه لإمامكم ، وهو مع ذلك كامل العقل ، صحيح الحس ؟ وأكثروا التعجب من ذلك ، وشنّعوا به علينا .
____________
(1) في نسخة « م » : المعصية .

( 305 )
والجواب : أن من لزم طريق النظر ، وفرق بين المقدور والمحال ، لم ينكر ذلك ، الآ أن يعدل عن الإنصاف إلى العناد والخلاف .
وطول العمر وخروجه عن المعتاد لا اعتراض به لأمرين : أحدهما : إنا لا نسلم أن ذلك خارق للعادة ، لأن تطاول الزمان لا ينافي وجود الحياة ، فإن مرور الأوقات لا تاثير له في العلوم والقدر ، ومن قرأ الأخبار ونظر فيما سطّر في الكتب من ذكر المعمّرين علم أن ذلك مما جرت العادة به ، وقد نطق القرآن بذكر نوح وأنه لبث في قومه ألف سنة الأ خمسين عاماً . وقد صنّفت الكتب في أخبار المعمرين من العرب والعجم ، وقد تظاهرت الأخبار بانّ أطول بني آدم عمراً الخضر عليه السلام ، وأجمعت الشيعة وأصحاب الحديث بل الامّة باسرها - ما خلا المعتزلة والخوارج - على أنه موجود في هذا الزمان ، حي كامل العقل ، ووافقهم على ذلك أكثر أهل الكتاب .
ولا خلاف في أن سلمان الفارسي أدرك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد قارب من عمره أربعمائة عام .
وهب أن المعتزلة والخوارج يحملون أنفسهم على دفع الأخبار ، فكيف يمكنهم دفع القرآن وقد نطق بدوام أهل الجنة والنار ، وجاءت الأخبار بلا خلاف بين الاُمة فيها بانْ أهل الجنة لا يهرمون ولا يضعفون ، ولا يحدث بهم نقصان في الأنفس
ولوكان ذلك منكراً من جهة العقول لما جاء به القرآن ، ولاحصل عليه الإجماع ، ومن اعترف بالخضر عليه السلام لم يصح منه هذا الاستبعاد ، ومن أنكره حجة الأخبار ، وجاءت الرواية عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « لمّا بعث الله نوحاً إلى قومه بعثه وهو ابن خمسين ومائتي سنة ، ولبتَ في قومه ألف سنة إلآ خمسين عاماً ، وبقي بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة ، فلمّا أتاه ملك الموت عليه السلام قال له :
( 306 )
يانوح ، يا أكبر الأنبياء ، ويا طويل العمر ، ويا مجاب الدعوة ، كيف رأيت الدنيا؟
- قال : مثل رجل بني له بيت له بابان فدخل من واحد وخرج من الآخر »(1) .
وكان لقمان بن عاد الكبير أطول الناس عمراً بعد الخضر ، وذلك أنّه عاش ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة . ويقال : انّه عاش عمر سبعة أنسر ، وكان يأخذ فرخ النسر الذكر فيجعله في الجبل فيعيش النسر منها ما عاش ، فإذا مات أخذ آخر فرباه ، حتّى كان آخرها لبد وكان أطولها عمراً فقيل : أتى أبد على لبد(2) .
وعاش الربيع بن ضبع الفزاري ثلأثمائة سنة وأربعين سنة ، وأدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي يقول :
هـا أنـا ذا آمل الخلود وقد * أدركَ عمري ومولدي حجــرا
أما امــرئ القيسِ قد سمعتُ * بهِ هيهاتَ هيهاتَ طالَ ذا عمرا

وهو القائل :
إذا عاشَ الفتى مائتين عاماً * فقد أودى المسرّةَ والغناءَ

وله حديث طويل مع عبد الملك بن مروان .
وعاش المستوعر بن ربيعة ثلاتمائة وثلاثة وثلاثين سنة ، وهو الذيَ يقول :
ولقد سئمتُ من الحياةِ وطولها * وعمرتُ من بعدالسنين سنينا

وعاش أكثم بن صيفي الأسدي ثلاثمائة وستاً وثلاثين سنة ، وهو الذي
____________
(1) راجع كتاب المقنع في الغيبة للسيد المرتضى رحمه الله تعالى ، والمنشور محققاً . على صفحات مجلة تراثنا الفصلية ، العدد 027 الصفحة155
(2) كمال الدين : 559 .

( 307 )
يقول :
وإنْ امرء قد عاش تسعين حجةً * إلى مائةٍ لم يسأم العيشَ جاهل
خلت مائتانِ غيـر ستٍ وأربعٍ * وذلكَ مَنْ عـد الليالي قـلائلُ

وكان ممن أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وآمن به ، ومات قبل أن يلقاه .
وعاش دريد بن زيد أربعمائة سنة وستّاً وخمسين سنة ، فلمّا حضره الموت قال :
ألقى علي الدهر رِجلاً ويدا * والدهرُ ما أصلحَ يوماً أفسدا
يُفسد ما أصلحه اليوم غدا

وعاش ألريد بن الصمة مائتي سنة ، وقتل يوم حنين .
وعاش صيف (1) بن رياح بن أكثم مائتي سنة وسبعين سنة ، لا يُنكرمن عقله شيئاً وهو ذو الحلم ، زعموا فيه ما قال المتلمّس :
لذي الحلمِ قبل اليوم مايقرعُ العصا * وما علم الإنسانُ إلآ ليعلما

وعاش نصر بن دهمان بن سليم بن أ شجع مائة وتسعين سنة حتى سقطت أسنانه ، وابيض رأسه ، فاحتاج قومه الى رأيه ، فدعوا الله أن يردّ إليه عقله ، فعاد إليه شبابه واسود شعره ، فقال في ذلك سلمة بن الخرشب
لنصرِبن دهمان الهنيدة عاشهـا * وتسعينَ حولاً ثم قـوم فانصاتا
وعـادَ سواد الرأس بعد بياضهِ * وراجعه شرخ الشبابِ الذي فاتا
وعاش ممليا في رخاء وغبطة * ولـكنه مـن بعـد ذا كله ماتا

وعاش ضبيرة بن سعيد السهمي مائتين وعشرين سنة ، وكان أسود
____________
(1) في نسخة« م » :صيفي .

( 308 )
الرأس ، صحيح الأسنان .
وعاش عمرو بن حممة الدوسي أربعمائة سنة ، وهو الذي يقول :
كبرتُ وطالَ العمرُ حتّى كاننـي * سليتم يراعي ليله غيـر مـودعِ
فلا الموتُ افناني ولكنْ تتابعتْ * علي سنون من مصيفب ومرتع
ثلاث مئاتٍ قد مررنَ كوامـلاُ * وهـا أنا ذا أرتجـي مـرّأربعِ

وروى الهيثم بن عدي ، عن مجاهد ، عن الشعبي قال : كنّا عند ابن عباس في قبة زمزم وهو يفتي الناس ، فقام إليه أعرابيّ : فقال قد أفتيت أهل الفتوى فافت أهل الشعر .
فقال :قل .
قال : ما معنى قول الشاعر :
لذي الحلمِ قبل اليوم مايقرع العصا * وما علم الإنسانُ إلأ ليعلما

قال : ذلك عمروبن حممة الدوسيّ ، قضى على العرب ثلاثمائة سنة ، فلما كبر ألزموه السادس أو السابع من ولد ولده ، فقال : إنّ فؤادي بضعة منّي ، فربما تغير علي في اليوم مراراً ، وأمثل ما أكون فهماً في صدر النهار ، فإذا رأيتني تد تغترت فاقرع العصا ، فكان إذا رأى منه تغيّر أقرع العصا فراجعه فهمه .
وعاش زهير بن حباب بن عبدالله بن كنانة بن عوف أربعمائة سنة وعشرين سنة ، وكان سيداً مطاعاً شريفاً في قومه .
وعاش الحارث بن مضاض الجرهمي أربعمائة سنة ، وهو القائل :
كأنْ لم يكن بينَ الحجونِ إلى الصفا * أنـيس ولـم يسمر بمكّةَ سـامرُ
بلـى نـحن كنـا أهلـها فابـارنا * صروف الليالي‌والجدودُ العواثـر

وعاش عامر بن الظرب العدواني مائتي سنة ، وكان من حكماء العرب ، وله يقول ذو الأصبع :

( 309 )
ومنّا حكم يقضي * ولاينقض مايقضي (1)
فهذا طرف يسير ممّا ذكر من المعمّرين ، وفي إيراد أكثرهم إطالة في الكتاب ، وإذا ثبت أنّ الله سبحانه قد عمّر خلقاً من البشر ما ذكرناه من الأعمار ، وبعضهم حجج الله تعالى وهم الأنبياء ، وبعضهم غير حجة ، وبعضهم كفّار ، ولم يكن ذلك محالاً في قدرته ، ولا منكراً في حكمته ، ولا خارقاً للعادة ، بل مألوفاً على الأعصار ، معروفاً عند جميع أهل الأديان ، فما الذي ينكر من عمر صاحب الزمان أن يتطاول إلى غاية عمر بعض من سمّيناه ، وهو حجّة الله تعالى على خلقه ، وأمينه على سره ، وخليفته في أرضه ، وخاتم أوصياء نبّيه صلّى الله عليه وآله وسلّم ّوقد صحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال : « كلّ ما كان في الاُمم السالفة فإنه يكون في هذه الاُمّة مثله حذو النعل بالنعل ، والقذّة بالقذّة »(2)
هذا وأكثر المسلمون يعترفون ببقاء المسيح عليه السلام حيّاً إلى هذه الغاية ، شابّا قوياً ، وليس في وجود الشباب مع طول الحياة -ان لم يثبت ما ذكرناه - أكثر من أنّه نقض للعادة في هذا الزمان ، وذلك غير منكر على ما نذكره .
والأمر الاخر أن نسلّم لمخالفينا أن طول العمر إلى هذا الحدّ مع وجود الشباب خارق للعادات - عادة زماننا هذا وغيره - وذلك جائز عندنا وعند أكثر المسلمين ، فإنّ إظهار المعجزات عندهم وعندنا يجوز على من ليس بنبيّ ، من إمام أو وليّ ، لا ينكر ذلك من جميع الاُمّة إلاّ المعتزلة والخوارج ، وإن سمّى بعض الاُمّة ذلك كرامات لا معجزات ، ولا إعتبار بالأسماء ، بل المراد
____________
(1) انظر : كمال الدين : 549 ، كشف الغمة : 543
(2) كمال الدين : 576 ، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 210 | 1 .

( 310 )
خرق العادات ، ومن أنكر ذلك في باب الأئمّة فانا لا نجد فرقاً بينه وبين البراهمة في إنكارهم إظهار المعجزات ونقض العادات لأحد من البشر ، وإلاّ فليأت القوم بالفصل ، وهيهات .
مسألة سابعة : قالوا : إذا حصل الإجماع على أن لا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنتم قد زعمتم أن القائم إذا قام لم يقبل الجزية من أهل الكتاب ، وأنّه يقتل من بلغ العشرين ولم يتفقّه في الدين ، ويأمر بهدم المساجد والمشاهد ، وأنه يحكم بحكم داود عليه السلام لا يسأل عن بينة ، وأشباه ذلك مما ورد في آثاركم ، وهذا يكون نسخاً للشريعة ، وابطالاُ لأحكأمها ، فقد أثبتم معنى النبوّة وإن لم تتلفظوا باسمها ، فما جوابكم عنها؟
الجواب : أنا لا نعرف ما تضمنه السؤال من أنه عليه السلام لا يقبل الجزية من أهل الكتاب ، وأنّه يقتل من بلغ العشرين ولم يتفقّه في الدين ، فإن كان ورد بذلك خبر فهو غير مقطوع به .
وأمّا هدم المساجد والمشاهد فقد يجوز أن يختص بهدم ما بُني من ذلك على غير تقوى الله تعالى ، وعلى خلاف ما أمر الله سبحانه به ، وهذا مشروع قد فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلّم .
وأمّا ما روي من أنه عليه السلام يحكم بحكم داود لا يسأل عن بيّنة فهذا أيضاً غيرمقطوع به ، وإن صحّ فتأويله : أنه يحكم بعلمه فيما يعلمه ، وإذا علم الإمام أو الحاكم أمراً من الاُمور فعليه أن يحكم بعلمه ولا يسأل البينة ، وليس في هذا نسخ للشريعة .
على أنّ هذا الذي ذكروه من ترك قبول الجزية واستماع البيّنة ، لو صح لم يكن ذلك نسخاً للشريعة ، لإنّ النسخ هوما تأخّر دليله عن الحكم المنسوخ ولم يكن مصاحباً له ، فاما إذا اصطحب الدليلان فلا يكون أحدهما
( 311 )
ناسخاً لصاحبه لان كان يخالفه في الحكم ، ولهذا اتفقنا على أن الله سبحانه لوقال : ألزموا السبت إلى وقت كذا ، ثمّ لا تلزموه ، أن ذلك لا يكون نسخاً ، لأنّ الدليل الرافع مصاحب للدليل الموجب .
وإذا صحت هذه الجملة ، وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد أعلمنا بان القائم من ولده يجب إتّباعه وقبول أحكامه ، فنحن اذا صرنا إلى ما يحكم به فينا - وإن خالف بعض الأحكام المتقدّمة - غير عاملين بالنسخ ، لأن النسخ لا يدخل فيما يصطحب الدليل ، وهذا واضحٌ .
وهذا ما أردنا أن نبين من مسائل الغيبة وجواباتها ، واستقصاء الكلام في مسائل الامامية والغيبة يخرج عن الغرض المقصود في هذا الكتاب ، ومن تأمل كتابنا هذا ، ونظر فيه بعين الإنصاف ، وتصفّح ما أثبتناه من الفصول والأبواب ، وصل إلى الحق والصواب ، ونحن نحمد الله سبحانه على ما يسّره من ذلك ، وسهّله ، وأعان عليه ، ووفّق له ، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعل ما عملناه خالصاً لوجهه ، وموصلاً إلى ثوابه ، ومنجياً من عقابه ، ويلحقنا دعاء من أوغل في شعاب ، وغاص في الدرر الثمينة من لجج عبابه ، واستفاد الغرر الثمينة من خلل أبوابه .
(تم الكتاب ، والحمد لله أوّلاُ وآخراً)