كتاب الايمان والكفر وآثارهما على الفرد والمجتمع ::: 41 ـ 50
(41)
المحرقة تُظلل الناس بوارف ظلها ، وهي تصطلي حرَّ الهاجرة وأوارها. روي عن الاِمام الصادق عليه السلام أنّه قال : « ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصال : وقورٌ عند الهزائز ، صبور عند البلاء ، شكور عند الرخاء ، قانع بما رزقه الله ، لا يظلم الاَعداء ، ولا يتحامل للاَصدقاء ، بدنه منه في تعب ، والناس منه في راحة » (1).
     ولا بدَّ من إلفات النظر إلى أنّ المؤمن وعلى الرغم من صلابته الاِيمانية فهو يتصف بالمرونة مثل العشب الناعم ينحني أمام النسيم ولكن لاينكسر للعاصفة ، يقول الاِمام الصادق عليه السلام : « المؤمن له قوّة في دين ، وحزم في لين ، وإيمان في يقين » (2).

2 ـ إلتزام الحق عند الرّضا والغضب :
    المؤمن لا يندفع بغريزته إلى آفاق تبعده عن ساحة الحق ، كما أنه يقاوم بلا هوادة نزعة الغضب الكامنة في نفسه حتى لا تجره إلى مهاوي الباطل ، وفي حالة امتلاكه القوة أو القدرة يتجنب الظلم والعدوان كأمير المؤمنين عليه السلام الذي كان يرى أن سلب جُلب شعيرة من نملة ظلم وعصيان لله وابتعاد عن الحق ، وفي ذلك يقول : « والله لو أعطيت الاَقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جُلب شعيرة ما فعلته .. » (3).
     وعليه فالمؤمن من يبلغ مرحلة من السموّ الروحي والتهذيب الوجداني بحيث لا يخرج عن جادة الحق المستقيمة ، وفي هذا الاَطار
1 ـ اُصول الكافي 2 : 47/1 كتاب الاِيمان والكفر.
2 ـ اُصول الكافي 2 : 231/4 كتاب الاِيمان والكفر.
3 ـ نهج البلاغة ، صبحي الصالح : 347/خطبة 224.


(42)
ورد عن أبي حمزة قال : سمعت فاطمة بنت الحسين عليه السلام تقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم « ثلاث من كنَّ فيه استكمل خصال الاِيمان ، الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل ، وإذا غضب لم يخرجه غضبه من الحقِّ ، وإذا قدر لم يتعاط ما ليس له » (1).
     أنّ القوة الحقيقية هي القوة النفسية التي يصنعها الاِيمان ويرسخها اليقين ، تلك القوة التي يتميز بها المؤمن والتي يتمكن من خلالها من كبح عواطفه المتأججة عند نشوة الحب وسورة الغضب وسكرة القوة التي تغري صاحبها بالجموح والغطرسة ، فعن الاِمام الصادق عليه السلام ، عن أبيه عن جده عليه السلام قال : « مرَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوم يرفعون حجراً ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : نعرف بذلك أشدّنا وأقوانا فقال : ألا أخبركم بأشدّكم وأقواكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : أشدّكم وأقواكم الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل ، وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحق وإذا قدر لم يتعاط ما ليس له بحق » (2).

3 ـ البشر وانشراح الصدر :
    من العلائم الاُخرى للمؤمن أنّ البشر يطفح على وجهه أما حزنه فيدفنه في أعماق قلبه كما إنّه يمتاز بسعة الصدر وإنشراحه ، قال أمير المؤمنين عليه السلام محدداً أبرز علامات المؤمن : « المؤمن بشره في وجهه وحزنه في قلبه ، أوسع شيء صدراً ، وأذل شيء نفساً ، يكره الرفعة ، ويشنأ السمعة ، طويل غمه ، بعيدٌ همهُ ، كثيرٌ صمته ، مشغول وقتُه. شكورٌ صبور ، مغمور بفكرته ، ضنين بخلَّته ، سهلُ الخليقة ،
1 ـ الاختصاص : 233.
2 ـ معاني الاَخبار : 366.


(43)
ليِّن العريكة ! نفسه أصلب من الصلد وهو أذل من العبد » (1). وعن أبي عبدالله عليه السلام قال : « ما من مؤمن إلاّ وفيه دُعابة ، قلتُ : ما الدعابة ؟ قال : المزاح » (2). فالمؤمن تتألق ملامحه بالبشر والنور وتفيض عيناه بالوداعة واللطف فيعبر عما يجيش في نفسه من أحاسيس خيرة تجاه الناس عن طريق المزاح محاولاً إدخال السرور على قلوبهم ، على العكس من المنافق الذي يغلي قلبه غيضاً وحقداً كالمرجل على المؤمنين ، فينعكس ما في داخله على صفحات وجهه فتجده مقطب الجبين تنتابه نوبات من الهستريا والغضب.
     وقد ورد عن الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « المؤمن دعبٌ لعبٌ ، والمنافق قطب غضب » (3).
     والملاحظ أنه في الوقت الذي يُعتبر (المزاح) أحد علائم المؤمن النفسية ، نجد أنّ الاِسلام يحث على عدم الاسراف فيه بحيث يصل إلى حد السخف والسفاهة أو تجافي الحق. وقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يمازح أصحابه وأهل بيته عليهم السلام ويحب إدخال السرور على الجميع ، ولكن لا يقول إلاّ حقاً ، ولا يخرج عن طوره ، ولا يخل بوقاره وهيبته.
     عن الاِمام الصادق عليه السلام : « أنَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال : كثرة المزاح يذهب بماء الوجه ، وكثرة الضحك يمحو الاِيمان .. » (4).
1 ـ نهج البلاغة ، صبحي الصالح : 533/حكم 333.
2 ـ معاني الاَخبار : 164.
3 ـ تحف العقول : 49.
4 ـ أمالي الصدوق : 223/4.


(44)
     وعن أبي عبدالله عليه السلام قال : « كان بالمدينة رجل بطّال يضحك الناس منه ، فقال : قد أعياني هذا الرجل أن أضحكه يعني علي بن الحسين عليهما السلام قال : فمرَّ علي عليه السلام وخلفه موليان له فجاء الرجل حتى انتزع ردائه من رقبته ثم مضى لم يلتفت إليه علي عليه السلام فاتبعوه وأخذوا الرداء منه فجاؤا به فطرحوه عليه ، فقال لهم من هذا ، فقالوا له هذا رجل بطّال يضحك أهل المدينة ، فقال عليه السلام : قولوا له إنَّ لله يوماً يخسر فيه المبطلون » (1).

4 ـ قوة الاِرادة :
    وهي من علامات المؤمن الرئيسية التي يتمكن من خلالها من كبح شهواته والسيطرة على غرائزه ، فالاِنسان بلا إرادة كالسفينة بلا بوصلة سرعان ما تنحرف عن المسير فالاِرادة هي الخيط المتين الذي يكبح جموح النفس ويمكّنها من السيطرة على رغباتها. فمن يفتقد الاِرادة ـ إذن ـ يكون حاله كقارب تمزقت حبال مرساته في بحر هائج مائج !
     وهنا يبدو من الضروري بمكان الاِشارة الاجمالية إلى علائم نفسية أُخرى تميز المؤمن عن غيره قد تنكشف لنا من خلال نظرته الواعية لمن حوله وما حوله ، كما قد تظهر أيضاً في طبيعة صمته وذكره أو سرعة رضاه وعفوه عمن أساء إليه ، كما قد ننتهي إليها من نيته وما يضمره من الخير للغير ، ويجمع هذه الاُمور ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام : « إنَّ المؤمن إذا نظر إعتبر ، وإذا سكت تذكّر ، وإذا تكلّم ذكر ، وإذا استغنى شكر. وإذا أصابته شدّة صبر ، فهو ربيب الرضى بعيد السخط ، يرضي عن الله اليسير ، ولا يسخطه الكثير ولا يبلغ بنّيته إرادته في الخير ، ينوي كثيراً في الخير
1 ـ المصدر السابق : 183/6.

(45)
ويعمل بطائفةٍ منه ويتلهف على ما فاته من الخير كيف لم يعمل به » (1).

5 ـ الاستغلال الاَمثل للزمن :
    للزمن ـ كما هو معروف ـ قيمة حضارية كبرى ، لذلك نجد المؤمن حريصاً على الزمن الذي هو رأس مال حضاري كبير ، فيقسّم أوقاته بين العبادة الحقة والعمل المثمر واللذَّة المباحة ، لذلك ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام : « للمؤمن ثلاثُ ساعات : فساعة يُناجي فيها ربَّهُ ، وساعة يَرُمُّ معاشه ، وساعة يُخلِّي بين نفسه وبين لذتها فيما يحلُ ويجمُلُ. وليس للعاقل أن يكون شاخصاً إلاّ في ثلاث : مرَمَّةٍ لمعاش ، أو خطوةٍ في معادٍ ، أو لذَّةٍ في غير مُحرَّمٍ » (2).
     إذن فأحد علامات المؤمن الحضارية هي الحرص على الزمن والاستغلال الاَمثل له.

ثالثاً : علائم أخلاقية :
     لا يخفى أنّ هناك علاقة وطيدة بين الاِيمان والاَخلاق ، كلّما سما المؤمن في إيمانه كلّما حسنت أخلاقه وعليه فالمؤمن المتسلح بإيمان عميق نجد أنه يتصف بخلق رفيع. والاَخلاق ـ بدورها ـ هي السور الواقي الذي يصون المؤمن من التردي في مهاوي الضلال والرَّذيلة. ومما يكشف لنا عن عمق نظرة الاِمام الصادق عليه السلام أنه يحثّ أصحابه على عدم الانخداع بالمظاهر العبادية للرجل التي قد لا تكلفه شيئاً وقد تنجم عن الاَلفة والعادة ، ولكن يجب النظر إلى مظاهره الاَخلاقية : كالصدق ، والاَمانة ، فمن خلال إلتزامه الدائم بها يظهر إيمانه على حقيقته ، يقول عليه السلام :
1 ـ تحف العقول : 212.
2 ـ نهج البلاغة ، صبحي الصالح : 545/حكم 390.


(46)
« لاتنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده فإنَّ ذلك شيء قد اعتاده فلو تركه استوحش لذلك ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته » (1).
     وقال عليه السلام أيضاً : « المؤمن لا يُخلق على الكذب ولا على الخيانة » (2).
     ويذهب أهل البيت عليهم السلام في تعاليمهم الاَخلاقية إلى أقصى حد ، فعن أبي حمزة الثمالي قال : « سمعتُ سيد الساجدين علي بن الحسين عليهما السلام يقول لشيعته : « عليكم بأداء الاَمانة ، فو الذي بعث محمداً بالحق نبياً لو أنّ قاتل أبي الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام أئتمنني على السيف الذي قتله به لاَديته إليه » (3).
     ونسج حفيده الاِمام الصادق عليه السلام على هذا المنوال ، فقال لاَصحابه : « اتقوا الله وعليكم بأداء الاَمانة إلى من أئتمنكم فلو أنّ قاتل أمير المؤمنين عليه السلام أئتمنني على أمانة لاَديتها إليه » (4).
     وهناك خصلة أخلاقية تميز المؤمن عن غيره هي خصلة الحياء ، والواقع أنّ الحياء والايمان صفتان متلازمتان يؤدي زوال أحديهما إلى زوال الاُخرى ، وهذا هو ما عبر عنه الاِمام الباقر عليه السلام بقوله : « الحياء والاِيمان مقرونان في قرن فإذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه » (5).
     وهناك خصال أخلاقية أُخرى كالفهم والرأفة. تشكّل مع الحياء أبرز
1 ـ اُصول الكافي 2 : 105/12 كتاب الاِيمان والكفر.
2 ـ تحف العقول : 367.
3 ـ أمالي الصدوق : 204.
4 ـ المصدر السابق نفسه.
5 ـ تحف العقول : 297.


(47)
علائم المؤمن ، قال الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم : « ... وأمّا علامة المؤمن فإنَّه يرأف ويفهم ويستحي » (1).
     أضف إلى ذلك ليس من أخلاق المؤمن أن يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله ، عن أبي عبدالله عليه السلام : « إنَّ المؤمن يغبط ولا يحسد والمنافق يحسد ولا يغبط » (2) لاَنَّ المؤمن يعلم جيداً أنّ الرزق بيد الله تعالى يقسمه وفق علمه وحكمته وما صرف عنه قد يكون رحمةً به لانقمة عليه.
     كما أنّ من أبرز علائم المؤمنين أنهم لا يسيئون إلى الآخرين حتى يعتذروا منهم ، على عكس المنافقين الذين ديدنهم الاِساءة ثم الاعتذار قال الاِمام الحسين عليه السلام : « إياك وما تعتذر منه ، فإنَّ المؤمن لا يسيء ولايعتذر ، والمنافق كلَّ يوم يُسيء ويعتذر » (3).

رابعاً : علائم إجتماعية :
     من الاُمور الهامة التي تكشف عن مدى إيمان الفرد شعوره نحو أبناء جنسه وعلاقته معهم. فالمؤمن الواقعي لا يدفن رأسه في رمال اللامبالاة بل يتحسس معاناة الناس ويمد يد العون لهم ، وقد ورد عن الاِمام الصادق عليه السلام أنّه قال : « المؤمن حسن المعونة خفيف المؤونة.. » (4).
     وكان أئمة أهل البيت عليهم السلام نموذجاً فريداً للاِيمان الكامل يقدّمون العون للفقراء والمعوزين ـ كما أشرنا سابقاً ـ ويحرصون على عدم الكشف
1 ـ المصدر السابق : 20.
2 ـ اُصول الكافي 2 : 307/7 كتاب الاِيمان والكفر.
3 ـ تحف العقول : 248.
4 ـ اُصول الكافي 2 : 241/38 كتاب الاِيمان والكفر.


(48)
عن شخصياتهم ، توخياً للثواب الجزيل على صدقة السر ، وبُعداً عن الرياء فكانوا في إعانة الملهوف كالبنفسج المختبىء بين لفائف الاَدغال ينشق الناس طيبه ويحمدون عرفه وإن لم يعرفوا مكانه. وفي الخصال بسنده عن الباقر عليه السلام : « كان علي بن الحسين عليهما السلام يخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب على ظهره وفيه الصرر من الدنانير والدراهم ، وربما حمل على ظهره الطعام أو الحطب حتى يأتي باباً باباً فيقرعه ثم يناول من يخرج إليه ، وكان يغطي وجهه إذا ناول فقيراً لئلا يعرفه فلما توفى فقدوا ذلك فعلموا أنه كان علي بن الحسين ، ولقد خرج ذات يوم وعليه مطرف خز فتعرض له سائل فتعلق بالمطرف فمضى وتركه » (1).
     من جانب آخر أنّ المؤمن ألف مألوف ، يتحبب إلى الناس ، ويسعى لكسب رضاهم ، يقول أمير المؤمنين عليه السلام : « المؤمن مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف » (2). فالمؤمن لا يعيش منعزلاً خلف الاَسوار العالية والابراج العاجية ، بل يتفاعل مع الناس ويحرص على مداراتهم والترَّفق بهم ، وقد اعتبر الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّ : « مداراة الناس نصف الاِيمان ، والرفق بهم نصف العيش » (3).
     وهناك قرينة اجتماعية قوية تفرز لنا الاِيمان الحقيقي من المزيف وهي علاقة المؤمن بجيرانه ، فمن أحسن إليهم كشف لسان حاله عن عمق إيمانه. وقد صاغ الاِمام الصادق عليه السلام قاعدة تلازمية لا تقبل الخطأ بين الاِيمان والاِحسان إلى الجيران ، عن أبي حمزة قال : سمعتُ أبا
1 ـ في رحاب أئمة أهل البيت عليهم السلام ، للسيد محسن الاَمين 3 : 194.
2 ـ اُصول الكافي 2 : 102/17 كتاب الاِيمان والكفر.
3 ـ المصدر السابق 2 : 117/5.


(49)
عبدالله عليه السلام يقول : « المؤمن من آمن جاره بوائقه ، قلتُ : ما بوائقه ؟ قال : ظلمه وغشمه » (1). وفي كتب السيرة : « أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أتاه رجل من الاَنصار فقال : إنّي اشتريت داراً من بني فلان ، وإنَّ أقرب جيراني منّي جواراً من لا أرجو خيره ولا آمن شرّه. فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً وسلمان وأبا ذر.. أن ينادوا في المسجد بأعلى أصواتهم بأنّه « لا إيمان لمن لم يأمن جاره بوائقه ». فنادوا بها ثلاثاً » (2).
     وقال صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً : « ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع.. » (3). فحسن الجوار ـ إذن ـ من أبرز العلائم الاجتماعية للمؤمن.
1 ـ وسائل الشيعة 8 : 488 كتاب الحج.
2 ـ المصدر السابق 8 : 487.
3 ـ اُصول الكافي 2 : 668/14 كتاب العشرة.


(50)
الفصل الثاني
الكفر وعلامات الكافر
الايمان والكفر وآثارهما على الفرد والمجتمع ::: فهرس