|
الالهيّات ::: 41 ـ 50 |
|
(41)
الثانية : إِنَّ برهان النَّظم و إِنْ كان يعتمد على مقدمات أَربع غير أَنَّ الثلاثة الأُول مما اتفق فيه جميع العقلاء إلاّ شذّاذ الآفاق من المثاليين المنكرين للحقائق الخارجية. و إِنما المهم هو التركيز على توضيح المقدمة الرابعة باستعانة من العلوم الطبيعية و الفلكية و غيرها التي تعد روحاً و أَساساً لتلك المقدمة. و في هذا المضمار نجد كلمات بديعة لخبراء العلم من المخترعين و المكتشفين : يقول « كلودم هزاوي » مصمم العقل الإِلكتروني : طلب مني قبل عدة سنوات القيام بتصميم آلة حاسبة كهربائية ، تستطيع أَنْ تحل الفرضيات و المعادلات المعقدة ذات البعدين ، و استفدت لهذا الغرض من مئات الأدوات و اللوازم الالكتروميكانيكية ، و كان نتاج عملي وسعيي هذا هو « العقل الالكتروني ».
و بعد سنوات متمادية صرفتها لإنجاز هذا العمل ، و تحمل شتّى المصاعب و أَنا أَسعى لصنع جهاز صغير ، يصعب عليَّ أن أتقبل هذه الفكرة و هي أَنَّ الجهاز هذا ، يمكن أَنْ يوجد من تلقاء نفسه دون حاجة إلى مصمم.
إِنَّ عالمنا مملو بالأَجهزة المستقلة لذاتها و المتعلقة بغيرها في الوقت ذاته ، و تعتبر كل واحدة منها أَعقد بكثير من العقل الإِلكتروني الذي صنعته ، و إِذا استلزم أَنْ يكون للعقل الالكتروني هذا مصمم فكيف يمكننا إِذن أَنْ ننفي هذا القول بالنسبة إلى أجسامنا بما فيها من خواص حياتيّة و أعمال فيزيائية و تفاعلات كيميائية ، فلا بد من وجود مصمّم حكيم خالق لهذا الكون و الذي أنا جزء حقير منه (1).
و العجب من الفرضية التي يعتمد عليها الماديون خلفاً عن سلف ،
1 ـ العلم يدعو للإِيمان ، ص 159.
(42)
و يقولون بأنّ الإِنفعالات اللامتناهية اللاشعورية انتهت صدفة إلى هذا النظام البديع.
يقول البروفسور « أَدوين كونكلين » في حق هذه النظرية : إِنَّ هذا الإِفتراض لا يختلف عن قولنا : « اِنَّ قاموساً لغوياً ضخماً أَنتجته المطبعة إِثْر انفجار فيها ».
إِنَّ نظام الكون الدقيق يجعل العلماء يتنبأون بحركة السيارات و الأَقمار الفلكية ، و التعبير عن الظواهر الطبيعية بمعادلات رياضية.
إِنَّ وجود هذا النظام في الكون بدلا من الفوضى ، لدليل واضح على أَنَّ هذه الحوادث تجري وفق قواعد و أسس معينة و أنّ هناك قوة عاقلة ، مهيمنة عليه ، و لا يستطيع كل من أوتي حظاً من العقل أَنْ يعتقد بأَنَّ هذه المادَّة الجامدة الفاقدة للحس و الشعور ـ و في إِثْر الصدفة العمياء ـ قد منحت نفسها النظام ، و بقيت و لا تزال محافظة عليه (1).
إِنَّ هناك مئات الكلمات حول تشييد برهان النَّظم و عرضها بشكل أَدبي ، علمي ، موافق لروح العصر ، و قد اكتفينا بعرض هذا المقدار.
1 ـ المصدر السابق نفسه.
(43)
الإِنسجام آية دخالة الشعور في وجود الكون
إِنَّ التقرير السابق لبرهان النَّظم كان يعتمد على ملاحظة كل ظاهرة مادية ، مستقلة و منفصلة عن سائر الظواهر ، فالنظام السائد على الخلية منفصلا عن سائر الظواهر ، كان محل البحث و النظر.
و مثله سائر الظواهر المادية ذات الأَنظمة البديعة كحركة الشمس و القمر و غيرها ، غير أَنَّه يمكن تقرير هذا البرهان بشكل آخر يعتمد على الإِنسجام السائد على العالم ، و الإِتصال البديع بين أَجزائه فيستدل بالإِنسجام و الإِتصال على أَنَّ ذاك النظام المتصل المنسجم إِبداع عقل كبير و علم واسع ، و لولا وجوده لما تحقق ذلك النظام المعجب المتصل المتناسق.
إِنَّ الأبحاث العلمية كشفت عن الإِتصال الوثيق بين جميع أَجزاء العالم و تأثير الكل في الكل ، حتى أَنَّ صفصفة أَوراق الشجر غير منقطعة عن الريح العاصف في أقاصي بقاع الأرض و حتى أَنَّ النجوم البعيدة التي تحسب مسافاتها بالسنين الضوئية ، مؤثرة في حياة النبات و الحيوان و الإِنسان ، و هذا الإِنسجام الوثيق ، الذي جعل العالم كمعمل كبير يشدّ بعضه بعضاً ، أَدل
(44)
دليل على تدخل عقل كبير في إِبداعه و إِيجاده بحيث جعل الكل منسجماً مع الكل.
و بعبارة واضحة ، إِنَّ الضبط و التوازن في الكون السائدين على الطبيعة أَوضح دليل على تدخل عقل كبير في طروئهما ، و لأجل أن تتبين ملامح هذا التقريب نأْتي بالأَمثلة التالية :
1 ـ إِنَّ حياة كل نبات تعتمد على مقدار صغير من غاز ثاني أوكسيد الكاربون ، الذي يتجزأ بواسطة أَووراق هذا النبات إلى كاربون و أوكسجين ، ثم يحتفظ النبات بالكاربون ليصنع منه و من غيره من المواد ، الفواكه و الأَثمار و الأَزهار و يلفظ الأوكسجين الذي نستنشقه في عملية الشهيق و الزفير الأساسية في حياة الإِنسان.
ولو أَنَّ الحيوانات لم تقم بوظيفتها في دفع ثاني أو كسيد الكاربون ، أو لم يلفظ النبات الأوكسجين ، لا نقلب التوازن في الطبيعة و استنفذت الحياة الحيوانية ، أو النباتية كل الأوكسجين أو كل ثاني أوكسيد الكاربون ، و ذوى النبات و مات الإِنسان.
فمن ذا الذي أَقام مثل هذه العلاقة بين النبات و الحيوان و أَوجد هذا النظام التبادلي بين هذين العالمين المتباينين؟ أَلا يدل ذلك على وجود فاعل مدبر وراء ظواهر الطبيعة هو الذي أَقام مثل هذا التوازن؟.
2 ـ منذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبَّار في أوستراليا كسياج وقائي ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطى مساحة واسعة وزاحم أَهالي المدن و القرى ، و أتلف مزارعهم و لم يجد الأَهالي وسيلة لصده عن الإِنتشار و صارت أوستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع صامت ، يتقدم في سبيله دون عائق!!.
(45)
وطاف علماء الحشرات في أرجاء المعمورة إلى أَنْ وجدوا أَخيراً حشرة لا تعيش إلاّ على ذلك الصبار ، ولا تتغذى بغيره وهي سريعة الإنتشار وليس لها عدو يعوقها في أوستراليا و ما لبثت هذه الحشرة أَنْ تغلب على الصبار ، ثم تراجعت و لم يبق منها سوى بقية للوقاية تكفي لصد الصبار عن الإِنتشار إلى الأَبد (1).
فكيف عرفت هذه الحشرة أَنَّ عليها أَنْ تقضي على الزائد من الصبار و تكف عن الباقي لتحفظ أَشجار الصبار على توازنها فلا تطغى على الأَشياء الأُخرى؟ أَلا يكشف هذا التوازن و الضبط عن خالق مدبر حكيم؟.
3 ـ كان ملاّحُو السفن الكبيرة في العهود الماضية يصابون بمرض الأسقربوط (و هو من أَمراض سوء التغذية و ينشأ عن نقص فيتامين (ث)) ، ولكن أحد الرحالة اكتشف دواءً بسيطاً لذلك المرض و هو عصير الليمون ، ترى من أَين نشأت هذه العلاقة بين الفواكه التي تحوي فيتامين (ث) و هذا المرض ، ألا يدل ذلك على أَنَّ خالق الداء خلق الدواء المناسب له ، و لولا هذا التوازن لعمّت الكارثة وانعدم النوع الإِنساني و غاب كلية عن وجه البسيطة؟.
4 ـ عندما نزل المهاجرون الأولون أوستراليا و استقروا فيها ، استوردوا اثني عشر زوجاً من الأرانب و أطلقوها هناك ، و لم يكن لهذه الأَرانب أَعداء طبيعيون في أوستراليا ، فتكاثرت بشكل مذهل ، مما تسبب بإِحداث أَضرار بالغة بالأَعشاب و الحشائش ، ولم تنفع المحاولات الكثيرة لتقليل نسل هذه الأَرانب حتى اكتشف فيروس خاص يسبب مرضاً قاتلا لها ، فعادت المروج الخضراء يانعة ، وزاد على أَثر ذلك إِنتاج الأغنام و المواشي.
1 ـ العلم يدعو للإِيمان ، ص 159.
(46)
أليس هذا التوازن الدقيق المبرمج في مظاهر الطبيعة و الذي يؤدي أَي تخلخل فيه إلى أَضرار بالغة ، دليلا قاطعاً على وجود الخالق الخبير و الإِله المدبر وراء الطبيعة؟
5 ـ الماء هو المادة الوحيدة المعروفة التي تقل كثافتها عندما تتجمد ، و لهذه الخاصية أهميتها الكبيرة بالنسبة للحياة إذ بسببها يطفو الجليد على سطح الماء عندما يشتد البرد ، بدلا من أَنْ يغوص إلى قاع المحيطات و البحيرات و الأَنهار ، و يكون تدريجياً كتلة صلبة لا سبيل إلى إخراجها و إذابتها. و الجليد الذي يطفو على سطح البحر يكون طبقة عازلة تحفظ الماء تحتها عند درجة حرارة فوق درجة التجمد ، و بذلك تبقى الأسماك و غيرها من الحيوانات المائية حية ، فإِذا جاء الربيع ذاب الجليد بسرعة و بلا عائق.
فهل يمكن إِعزاء كل هذا الضبط و الدقة في المقاييس و النسب إلى فعل المادة الصمَّاء العمياء البكماء ، و الحال إِنَّه يكشف عن تدبير و حساب و يحكي عن نظام متقن و عظيم و يدل على أَنَّ وراء كل ذلك خالقاً حكيماً هو الذي أَوجد هذا التوازن المدهش و الضبط الدقيق.
أَجل إِنَّ ذلك التوازن و هذا الضبط يشهدان على دخالة الشعور و الحكمة و العقل في إِدارة هذا العالم و تدبيره و تسييره و هي أمور لا تتوفر في الصدفة بل تتوفر في قوة عليا شاعرة هادفة تدرك مصلحة الكون و احتياجات الحياة إِدراكاً كاملا و شاملا ، فتخضع الكون لمثل هذه الضوابط و العلاقات.
(47)
الهادفية آية تدخل الشعور في تطور النظم :
إِنَّ النظرة الدقيقة في عالم الكون تهدينا إلى نظام خاص نسميه بنظام الخدمة ، بحيث نرى أنَّ أَنظمة خاصة في الكون جعلت في خدمة أَنظمة كونية أُخرى بحيث لا بقاء للثانية بدون الأُولى ، و لذالك نلاحظ صلة قويمة بين المظاهر المختلفة. فعندئذ يطرح السؤال التالي : إِنَّ هذه الكيفية الملموسة في عالم الكون كيف برزت في عالم الوجود؟.
أَمِنْ ناحية الصدفة ، و هي أقل شأناً من أَنْ تبدع أَنظمة يكون قسم منها في خدمة القسم الآخر ، و هي عاجزة عن إِيجاد فرد بهذا الشكل الدقيق فكيف بهذه المجموعة الكبيرة؟.
أَمْ من ناحية « خاصية المادة » التي ربما يلتجئ إِليها بعض الماديين. و هي أَيضاً أَعجز عن القيام بالتفسير. فإِنَّ « فرضيّة الخاصية » تهدف إلى أَنَّ لكل خلية ، أَوْ لكل ذرة من الذرات أَثراً خاصاً ينتهي إلى موجود خاص و هو ذو نظام. و أَمَّا كون أنظمة كبيرة في خدمة أَنظمة مثلها فلا يمكن أَنْ يفسر
(48)
بخاصية المادة ، فإِن هذا أثر المجموع لا أثر كل جزء من أجزاء المادة. و لنأتي بمثال : لا شك أنَّ لتكون المرأة و الأجهزة التي خلقت بها عللا مادية تظهرها على صفحة الوجود ، فلها مع ثدييها و الخصوصيات الحافَّة بها و اللبن الذي يتكون في صدرها عللا مادية تنتهي إلى تلك الظواهر.
كما أَنَّ لتكون الطفل في رحمها و ولادته على نحو يتناسب و الخصوصيات القائمة بها و تكونه بفم خاص و مجاري تغذية خاصة تعتمد على اللبن فقط ، إِنَّ لكل ذلك عللا مادية لا تُنكر.
إِلا أَنَّ هناك أَمراً ثالثاً و هو كون المرأة بأجهزتها الماديّة في خدمة الظاهرة الثَّانية بعامة أجهزتها بحيث لولا الأُولى لما كان للثانية مجال العيش و إِدامة الحياة. فعندئذ نسأل عن هذه الكيفية التي سميناها بنظام الخدمة ، هي وليدة أَية علة؟ هل الصدفة جعلت الأولى وسيلة للثانية ، و هي عاجزة عن إِيجادها بهذه الكمية الهائلة ، ولو صح التفسير بها لصح في مولود أو مولودين لا في هذه المواليد غير المتناهية و غير المعدودة ، إِلاَّ بالأَرقام النجومية.
أو من ناحية خاصية المادة و هو إِذن عقيم ، لأن فرضية الخاصية ، على فرض صحتها ، تهدف إلى تفسير النظام الجزئي بخاصية المادة ، و أَمَّا تفسير الكمية من النُّظُم التي يقع بعضها في خدمة البعض بخاصية المادة فهو مما لا تفي به تلك الفرضية ، و لا يقول به أصحابها ، و الإِنسجام و التخادم مما لا يمكن أَنْ يكون أَثراً لخلية واحدة أو نحوها.
إِنَّ العقل في هذا الموقف يقضي بوجه بات بأَنَّ هذا النظام و هذه الخصوصية وليدة مبدع عالم قادر قد نسّق هذه النُّظُم بأطروحة علمية ، و خريطة خاصة جعلت الظاهرة الأُولى ذريعة للثانية ، و أَوجد الأُولى قبل أَنْ
(49)
يبدع الثانية بزمن ، و هذا ما نسميه بالهادفية ، و أنَّ الخلقة غير منفكَّة عن الهدف ، كما أنَّ القول به لا ينفك عن إِشراف مبدع عالم قادر على الكون و هو الذي يتبناه الإِلهيون باسم إِله العالم.
و بعبارة واضحة نرى أَنَّ يد القدرة و الإِبداع قد هيَّأتْ قبل ولادة الطفل بأَعوام ، أَجهزة كثيرة يتوقف عليها عيش الطفل و حياته في مسير الحياة ، و تداركت ما يتوقف عليه حياة الطفل في أوليات عمره بوجه بديع ، و هذا أَوضح دليل على أنَّ الكون لا يخلو من هدف ، و أَنَّ مبدعه كان هادفاً. و هو لا ينفك عن تدخل الشعور ، و رفض الصدفة عن قاموس تفسير الكون و تحليله.
و كمترى من نظائر بارزة و أَمثلة رائعة لهذا النوع من الهادفية في صفحة الكون طوينا عنها الكلام.