ثانياً : هل ذلك المصدر أزَلِيُّ أو حادثٌ ، واحدٌ أو كثير ، بسيطُ أو مُرَكَّب ، جامع لجميع صفات الجمال و الكمال أو
لا؟ ثالثاً : هل لعلمه حدّ ينتهي إليه أو لا؟ رابعاً : هل لقدرته نهاية تَقِفُ عندها أو لا؟ خامساً : هل هو أَوّلُ الأَشياء و آخرُها أو لا؟ سادساً : هل هو ظاهر الأَشياء و باطنها؟ إنّ هذه المعارف يطرحها القرآن الكريم و يأمر بالتدبّر فيها و يقول : ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا ) (1). والإِمعان في الطبيعة لا يفيد في الإِجابة عن هذه التساؤلات ، والوقوف على المعارف المطروحة في القرآن. و عندئذ لا مناص عن سلوك أحد الطريقين : إمَّا أنْ يصار إلى التعطيل و تحريم البحث حول هذه المعارف. و إمَّا الإِذعان بوجود طريق عقليٍّ يوصِلُنا إلى تحليل هذه المعارف و يساعدُنا على الوقوف
عليها. إِنَّ الذين يُحَرِّمون الخوضَ في هذه المباحث يعتمدون على أَنَّ التعرُّفَ على حقيقة الذات و كُنْهِ صفاتها أَمرٌ محال ، ولكن ليس كلُّ بحث كلامي ينتهي إلى ذلك الحد و يحاول البحث عن حقيقة الذات الإِلهية كما أَوضحناه. إِنَّ العلومَ الطبيعيةَ قد خَدَمَت مَسْلَكَ الإِلهيين و عزَّزَت موقفهم ، حيث أَثبتت أَنَّ الكون نظامٌ كله ، إِلاّ أَنها قاصرة عن حل كل المشاكل المطورحة في مجال العقائد. 1 ـ سورة محمد : الآية 24.
(102)
نعم ، إِنَّ في هذه الأَبحاث ليس متاحاً لكل أحد ، وليس مُيَسَراً لكل قاصد ، فهي من قبيل السهل الممتنع ، و ذلك لأنَّ الإِنسان بسبب أنسِه بالأُمور الحِسِّية يصعب عليه تحريرُ فِكْرِه عن كل ما تَفْرِضه عليه ظروفه حتى يَتَهَيَّأَ للتفكر فيما وراءَ الطبيعة بفكر متحرر من أغلال الماديَّة. و هناكَ وجهُ آخر لمحدودية الإِنسان عن درك عميق المعارف الإِلهية و هو أنَّ أدواتَ الإِنسان للتعبير محدودةٌ بألفاظ و كلمات لم توضع إلاّ لبيان المعاني الحسية المحدودة فلأَجل ذلك لا مناص له عن التعبير عن الحقائق الكونية العُليا المُطْلَقَة عن الزمان و المكان بتلك الأَلفاظ الضَيِّقة ، و إلى ذلك يشير بعض العرفاء بقولة :
أَلاَ إنّ ثَوْباً خِيْطَ مِنْ نَسْجِ تِسْعَة
و عشرينَ حَرْفاً عن معانيه قاصر
و الشيخ الرئيس ابن سينا يُوصي بِأنْ لا تُطرحَ المسائلُ الالهيةُ العويصةُ إِلاّ على أَهلها و يقول إِشاراته في خاتمة الكتاب : « أَيُّها الأخ إنّي قد مَخَضْتُ في هذه الإِشارات عن زُبدة الحق و أَلقَمْتُكَ قُفَّي الحكمِ في لطائف ، فصُنهُ عن الجاهلين و المبتذلين و من لم يرزق الفطنة الوقادة ، و الدَّرِبَة و العادة ، و كان صَفاهُ مع الفاغَة ، أو كان من ملحدة هؤلاء الفلاسفة و من همجهم. فإِنْ وجدت من تثق بنقاء سريرته ، و بتوقفه عما يتسرع إليه الوسواس ، و بنظره إلى الحق بعين الرضا و الصدق ، فاعطه ما يسألُكَ منه مدرّجاً مُجَزَّءاً مُفَرَّقاً تَسْتَفْرِسُ مما تُسْلِفُه لما تَسْتَقْبِلُه ، و عاهِدْهُ بالله و بأَيْمان لا مخارج لها ليجري في ما يأتيه مجراكَ ، متأسّياً بكَ ، إِنْ أَذعتَ هذا العلمَ أَو أَضعته فالله بيني و بينَك و كفى بالله وكيلا » (1). ولسنا هنا مدعين أَنَّ هذه المباحثَ مباحثُ عامةٌ يجوزُ لكل أَحد 1 ـ الإِشارات ، ج 3 ، ص
419.
(103)
ارتيادها لدقة مسالكها ، و كثرة مزالقها. بل خاصةٌ بجماعة أَوتوا مقدرة فكرية فائقة. فلأَجل ذلك نطرح المعارف الإِلهية في ضوء العقل و الوحي مستمدين من الله سبحانه أَنْ يرينا الحقَّ و يحفظنا عن ركوب الباطل ، إِنَّهُ عزيز حكيم.
أجمع الإِلهيون على أنَّ العلم من صفات الله الذاتيَّة الكماليَّة ، و أنَّ العالِمْ من أسمائه العليا ، و هذا لم يختلف فيه اثنان على إجماله. و لتبيين الحال تُمهد بمقدمة :
ما هو العلم؟ عُرِّف العلمُ بأنَّه صورة حاصلة من الشيء على صفحة الذهن ، أو أنه انعكاس الخارج على الذهن عند اتصال الإِنسان بالخارج. و قد أخذ الحكماء هذا التعريف من العلوم الرائجة عن الإِنسان. ولكن التَّعريف ناقص لعدم شموله لبعض أقسام العلم. فإِنَّ العلم ينقسم إلى حصولي و حضوري ، و التعريف المذكور يناسب الأول دون الثاني. و إليك توضيح القسمين : إنَّ الإِنسان عندما يُطلُّ بنظره إلى الخارج و يلاحظ ما يحيط به في الكون من شجر و حجر ، و شمس و قمر ، يصبح مُدرِكاً و الشَّيء الخارجيُ مدرَكاً ولكن بتوسط صورة بين المدرِك و المدرَك تُنْتَزَعُ تلك الصورة من
(108)
الخارج بأدوات المعرفة ثم تَنْتَقِلُ إلى مراكز الإِدراك. فالشجرُ هو المعلوم بالعَرَض ، و الصورةُ هي المعلوم بالذَّات ، و الإِنسان هو العالم و إنما أسمينا الشيء الخارجي معلوماً بالعرَض و الصورة معلوماً بالذَّات ، لأن الخارجَ معلوم لنا بواسطة هذه الصورة و لولاها لا نقطعت صلة الإِنسان بالواقع. و بعبارة أخرى : إنَّ الواقعية الخارجية ليست حاضرة عندنا بهذه السِّمة. لأن الشيء الخارجي له أثره الخارجي : الحرارة في النار ، و الرطوبة في الماء ، و الثِقَل في الحجر و الحديد. و معلوم انَّ الشيء الخارجي لا يَرِدُ إلى أذهاننا بهذه الصفات. و لأجل ذلك أصبح الشيء الخارجي معلوماً بالعَرَض ، و الصورة معلومة بالذَّات لمزاولة الإِنسان دائماً للصور الذهنيَّة. و بذلك تقف على تعريف العلم الحصولي و هو : ما لا تكون فيه الواقعيَّة الخارجيَّة معلومة بنفسها ، بل بتوسط صورة مطابقة لها. و الأدوات الحسّية كلُّها موظَّفةٌ في خدمة هذا العِلْم ـ فهو يعتمد على ثلاثة ركائز : المدرك ، الخارج ، الصورة. و لا تَظُنَّنَ هذا اعترافاً بأصالة الصورة و فرعية الخارج ، إذ لا شك أنَّ الأَمر على العكس ، فالخارج هو الأصيل و الصورة هي المنتزعة منه والحاكية عنه ، غير أنَّ الذي يمارسه الذهن و يزاوله هو الصورة الموجودة عنده لا نفس الخارج. و هذه الصورة الذهنية و سيلته الوحيدة لدرك الخارج و إحساسه. إلى هنا وقفت على تعريف العِلْم الحصولي. و أما العِلْم الحضوري فهو عبارة عن حضور المدرَك لدى المدرِك من دون توسط أي شيء ، وله قسمان : 1 ـ ما لا يتوسط فيه بين المدرِك و المدرَك شيء مع كون المدرِك غير المدرَك حقيقةً. و هذا كالعلم بنفس الصورة المنتزعة من الخارج. و ذلك أنَّ الخارج يدرَك بواسطة الصورة ، وأمّا الصورةُ نفسُها فمعلومةٌ بالذات و لا
(109)
يتوسط بينها و بين المدرِك أي شيء. فعند اتصال الإِنسان بالخارج عن طريق الصورة الذهنية يجتمع هناك عِلمان : حصوليٌّ باعتبار علمه بالخارج عن طريق الصورة ، وحضوريٌّ باعتبار علمه بنفس الصورة و حضورها بواقعيتها عند المدرِك. و بذلك تقف على فرق جوهري بين العِلْمين و هو أنَّ المعلومَ في العلم الحصولي غيرَ حاضر لدى المدرِك بواقعيته كما عرفت ، و في الحضوري يكون المعلوم حاضراً لديه بواقعيته و هذا كالصورة العِلْمية الذهنيَّة فإنها بواقعيتها التي لا تخرج عن كونها موجوداً ذهنياً ، حاضرة لدى الإِنسان. و بذلك يظهر أنَّ الحصوليَّ ثلاثيُّ الأطراف و الحضوريَّ ثنائيُّها في هذا القسم الأول منه. 2 ـ ما لا يتوسط فيه بين المدرِك و المدرَك أي شيء ولكنهما يتحدان بالذات و يختلفان باللحاظ و الاعتبار. و ذلك كعلم الإِنسان و دَرْكِه لذاته ، فإِنَّ واقعية كل إنسان حاضرة بذاتها لديه ، و ليست ذاتُه غائبةً عن نفسه ، و هو يشاهد ذاتَه مشاهدة عقلية و يحس بها إحساساً وجدانياً ويراها حاضرة لديه من دون توسط شيء بين الإِنسان المدرِك و ذاتِه المدرَكة. و في هذه الحالة يصبح العِلمُ أحاديَّ الأطراف بدل ثنائيِّها في الثاني و ثلاثيِّها في الأول. فالإِنسان في هذه الحالة هو العالم و هو المعلوم في آن واحد. و عندئذ يتّحد المدرِك و المدرَك و تصبح ذات الإِنسان عِلْماً و انكشافاً بالنسبة إلى ذاته. و من العلم الحضوري علم الإِنسان بأحاسيسه من أفراحه و آلامه ، فالكل حاضر لدى الذات بلا توسط صورة. و بذلك تقف على ضعف الإِستدلال على وجود الإِنسان بتفكره ، فيقال : « أنا أفَكَّر إِذَنْ أَنَا موجود » ، فاستُدِلَّ بوجود التَّفَكُّر على وجود
(110)
المُفَكِّر (1) ، وجه الضعف : أولا ـ إنَّ عِلمَ الإِنسان بوجود نفسه ضروريٌ لا يحتاج إلى البرهنة ، فليس تفكر الإِنسان أوضح من علمه بذاته و نفسه. ثانياً ـ إنَّ المستدل اعترف بالنتيجة في مقدمة الاستدلال حيث قال : « أنا » أُفكر. فقد أخذ وجود نفسه أمراً مفروضاً و مسلَّماً ثم حاول الاستدلال عليه.
تعريف جامع على ضوء ما ذكرنا من تقسيم العلم إلى الحصولي و الحضوري يصح أنْ يُقال إِنَّ العلم على وجه الإِطلاق عبارة عن « حضور المعلوم لدى العالم » ، و هذا التعريف يشمل العلم بكلا قسميه (2). غير أنَّ الحاضر في الأول هو الصورة الذهنية دون الواقعية الخارجية و في الثاني نفس واقعية المعلوم من دون وسيط بينها و بين العالم. فالصورة الذهنية في العلم الحصولي حاضرة لدى الإِنسان غير غائبة عنه. كما أنَّ ذات الإِنسان في العلم الحضوري حاضرة لديه ، و هي فيه ، بما أنها واقفة على نفسها ، تسمى عالمة ، و بما أنها مكشوفة لنفسها غير غائبة عنها ، تُعَدُّ معلوماً ، و بما أنّ هناك حضوراً لا غيبوبة ، يسمى ذلك الحضور علماً. و هذا التعريف جامع شامل كلَّ أنواع العلوم الحاصلة في الممكن والواجب. فإِذا وقفت على هذه المقدمة يقع البحث في علمه سبحانه تارة بذاته و أخرى بفعله (الأشياء الخارجة عن ذاته).
1 ـ المستدل هو الفيلسوف الفرنسي (ديكارت). 2 ـ ليس الهدف من التعريف إلا الإِشارة بوجه إلى حقيقة العلم من دون مراعاة شرط التعريف الحقيقي فلا يؤاخذ عليه بأنه مستلزم للدور لأخذ المُعَرَّف في التعريف.