وامضِ الى بَني سلَيْم فإنّهم قريبٌ من الحَرَّة» فمض ومعه القوم حتّى قارب أرضَهم ، فكانت كثيرةَ الحجارة والشجر، وهم ببَطْن الوادي ، والمنحدَرُ إليه صعبٌ .
فلمّا صار أبو بكر إلى الوادي وأراد الانحدار خرجوا إليه فهزموه وقتلوا من المسلمين جمعاً كثيراً، وانهزم أبوبكرمن القوم .
فلمّا وَرَدوا(1)على النبي صلّى الله عليه واله عَقَد لعُمَر بن الخَطّاب وبعثه إليهم ، فكَمنوا له تحت الحجارة والشجر، فلمّا ذهب ليَهْبِط خرجوا إليه فهزموه .
فساء رسولُ الله صلّى الله عليه واله ذلك ، فقال له عمرو بن العاص : اِبعَثْني - يا رسولَ الله - إليهم ، فإنّ الحربَ خُدعةٌ ، ولَعَلّي أخْدَعُهم . فأنفذه مع جماعة ووصّاه ، فلما صار الى الوادي خرجوا إليه فهزموه ، وقَتَلوا من أصحابه جماعةً.
ومكث رسولُ الله صلّى الله عليه وآله أيّاماً يدَعُو عليهم ،ثمّ دعا اميرَ المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فعَقَد له ، ثمّ قال : «أرسلتُه كرّاراً غيرَ فَرّار» ورفع يديه إلى السماء وقال : «اللهمّ إن كنتَ تَعلم أنّي رسولُك ، فاحفَظني فيه وافعَلْ به وإفعَلْ» فدعا له ما شاء الله .
وخَرَج عليُّ بن أبي طالب عليه السلام ، وخَرَج رسولُ الله صلّى الله عليه وآله لتشييعه ، وبَلَغ معه الى مسجد الأحزاب ،وعليّ عليه
_________
(1) في «م» وهامش «ش» : قدموا .

( 164 )
السلام على فرَس أشْقَرَ مَهْلوب(1)، عليه بُردان يمانيان ، وفي يده قَناةٌ خَطِية(2)، فَشَيَّعه رسولُ الله صلّى الله عليه واله وأنفذَ معه فيمن أنفذ أبا بكر وعُمَر وعَمرو بن العاص ، فسار بهم عليه السلام نحوَ العراق مُتَنكّبْاً للطريق حتّى ظَنّوا أنّه يُريد بهم غيرَذلك الوجه ، ثمّ أخَذَ بهم على مَحَجَّة غامِضة، فسار بهم حتّى استقبل الوادي من فمه ، وكان يَسيرُ الليل وَيكْمن النهار.
فلمّا قَرب من الوادي أمر أصحابَه أنَ يكْعَموا(3) الخيلَ ، ووَقَفَهم مكاناً وقال : «لا تَبْرحوا» وانتبذ أمامَهم فأقامَ ناحيةً منهم .
فلمّا رأى عَمرو بن العاص ما صَنَع لم يَشُكَّ أنَ الفتح يكون له ، فقال لأبي بكر: أنا أعلم بهذه البلاد من عليّ ، وفيها ما هوأشدُّ علينا من بني سُلَيْم ، وهي الضِباع والذِئاب ، وإن خرجَتْ علينا خشيتُ أن تُقَطِّعنا، فكَلِّمْه يَخْلُ عنّا نَعْلو الوادي .
قال : فانطَلَق أبو بكر فكلَّمَه فاطال ، فلم يُجِبْه أميرُ المؤمنين عليه السلام حرفاً واحداً، فرَجَعَ إليهم فقال : لا والله ما أجابَني حرفاً .
فقال عَمرو بن العاص لعُمَر بن الخَطّاب : أنتَ أقوى عليه ، فانطلق عمَر فخاطبه فصَنَع به مثلَ ما صَنَع بأبي بكر، فرَجَع إليهم
_________
(1) المهلوب : هو المقصوص شعر الهلب ، وهو الذنب . « القاموس المحيط 1 : 140» .
(2) الخط : موضع باليمامة ، وهو خط هجر ، تنسب إليه الرماح الخطَية ، لأنها تحمل من بلاد الهند فتقوّم به. «الصحاح - خطط - 3 : 1123» .
(3) كعم بعيره أو فرسه : شدّ فمه كي لا يظهر منه صوت . اُنظر « الصحاح - كعم - 5 : 2023» .

( 165 )
فأخبرَهم أنّه لم يُجبه .
فقال عَمرو بن العاص : إنّه لا ينبغي أن نُضَيِّعَ أنْفسَنا، اِنطلقوا بنا نعلو الوادي ، فقال له المسلمون : لا والله لا نَفْعَل ، أمَرَنا رسولُ الله صلّى الله عليه وآله أن نَسْمَعَ لِعَليٍّ ونُطيع ، فَنتْرُك أمرَه ونسمَعُ لك ونُطيعُ ؟!
فلم يزالوا كذلك حتى احسَّ أميرُ المؤمنين عليه السلام الفجرَ، فكَبَس (1) القومَ وهم غارّون (2)، فأمكنهُ الله منهم ، ونزلت على النبي صلّى الله عليه وآله : ( وَالْعَادِيَاتِ ضبْحاً . . . ) (3) إلى آخرالسورة ، فبَشَّرَ النبيُ صلّى الله عليه وآله أصحابَه بالفتح ، وأمرهم أن يستَقْبِلوا أميرَ المؤمنين عليه السلام فاستقبَلوه ، والنبيُّ صلّى الله عليه وآله يَقْدًمُهم فقاموا له صَفّين .
فلمّا بَصُرَ بالنبي صلّى الله عليه وآله تَرَجَّل عن فرسه ، فقال له النبي عليه وآله السلام : «اِرْكَبْ فإنّ الله ورسولَه راضيان عنك» فبكى أميرُ المؤمنين عليه السلام فَرَحاً، فقال له النبي صلّى الله عليه وآله : «يا عليّ ، لولا أنّني أُشْفِقُ أن تقولَ فيك طوائفُ من اُمتي ما قالت النصارى في المسيح عيسى بن مريم ، لقلتُ فيك اليومَ مَقالاً لا تَمُرُّ بملأٍ من الناس إلاّ أخذوا الترابَ من تحت قدَمَيْك» .

_________
(1) كَبَسُوا دار فلان : أغاروا عليه فجأة . «الصحاح - كبس - 3 : 969» .
(2) أي غافلون .
(3) العاديات 100 : 1 .

( 166 )

فصل

فكان الفتحُ في هذه الغَزاة لأَمير المؤمنين عليه السلام خاصّةً، بعد أن كان من غيره فيها من الإفساد ما كان ، واختصَّ عليه السلام من مَديح النبي صلّى الله عليه واله فيها بفضائل لم يَحْصُل منها شيءٌ لغيره وبان له من المنقبة فيها ما لم يَشْرَكه فيه سواء.

فصل

ولما انتشرالإسلامُ بعد الفتح وما وَلِيَه من الغَزَوات المذكورة وقَويَ سلطانُه ، َوفدَ الى النبي صلّى الله عليه وآله الوُفودُ ، فمنهم مَن أسلمَ ومنهم مَن استأمَنَ ليعوُدَ إلى قومه برأيه عليه السلام فيهم .
وكان في مَن وَفَدَ عليه أبو حارثة اُسْقُف نَجران في ثلاثين رجلاً من النصارى ، منهم العاقِب والسيد وعبدُ المسيح ، فقَدِموا المدينةَ وقت (1) صلاة العصر، وعليهم لباسً الديباج والصُلُب ، فصار إليهم اليهود وتساءلوا بينهم فقالت النصارى لهم : لستُم على شيء ، وقالت لهم اليهود : لستم على شيء ، وفي ذلك أنزل الله سبحانه : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ ، النَّصَارئ عَلى شيَء وَقَالَتِ النَّصَارى لَيْسَتِ الْيَهوُدُ عَلى
_________
(1) في «م» وهامش «ش» : عند.

( 167 )

شَيء . . . )(1) إلى آخر الأية .
فلمّا صلّى النبي صلّى الله عليه وآله العصرَتوجّهوا إليه يَقْدُمًهم الأسقُف ، فقال له : يا محمّد ، ما تقول في السيد المسيح ؟ فقال النبي عليه وآله السلام : «عبدٌ لله اصطفاهُ وانتَجَبَه» فقال الأسْقف : أتَعْرِفُ له - يا محمّد - أباً ولده ؟ فقال النبي عليه وآله السلام : «لم يَكُنْ عن نكاح فيكونُ له والد» قال : فكيف قلت : إِنَّه عبد مخلوق ، وأنت لم تَرَ عبداً مخلوقاً إلاّ عن نكاح وله والد؟ فانزل اللهُ تعالى الايات من سورة آل عمران إلى قوله :
(إنَ مَثَلَ عيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ ادَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *الْحَقُّ مِنْ رَبّكَ فَلاتَكُنْ مِنَ المُمْتَرين * فَمَنْ حَاجَّكَ فيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدعُ اَبْنَاءَنَا وَابنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَانفُسَنَا وَانفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبينَ )(2) فتلاها النبي صلّى الله عليه وآله على النصارى ، ودعاهم إلى المباهلة ، وقال : «إنّ الله عزًّ اسمه أخبَرَني أنّ العذابَ يَنْزِلُ على المُبْطِل عقيبَ المباهلة ، ويُبَينِّ الحقَّ من الباطل بذلك» فاجتمع الأسْقُف مع عبد المسيح والعاقب على المشورة ، فاتّفق رأيُهم على استنظاره إلى صَبيحةِ غدٍ من يومهم ذلك .
فلمّا رجعوا إلى رِحالهم قال لهم الأسْقُف : انْظُروا محمّداً في غَدٍ ، فان غَدا بولده واهله فاحذَروا مباهلته ، وإن غدا باصحابه فباهلوه ،
_________
(1) البقرة 2 : 113.
(2) آل عمران 3 : 59 - 61 .

( 168 )

فإنّه على غيرشيء .
فلمّا كان من الغد جاء النبي عليه وآله السلام آخذاً بيد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن والحسين بين يديه يَمشِيان وفاطمة - صلوات الله عليهم - تَمشي خلفَه ، وخرج النصارى يَقْدُمُهم أُسْقُفهم .
فلمّا رأى النبيَ صلّى الله عليه وآله قد أقبل بمن معه ، سأَل عنهم ، فقيل له : هذا ابنُ عمّه عليّ بن أبي طالب وهو صِهره وأبو ولده وأحبُّ الخلق إليه ، وهذان الطفلان ابنا بنته من عليِّ وهما من أحبِّ الخلق إليه ، وهذه الجاريةُ بنتُه فاطمة أعزُّ الناس عليه وَأقربُهم إلى قلبه .
فنَظَر الأسْقُف إلى العاقب والسيد وعبد المسيح وقال لهم : انظُروا إليه قد جاء بخاصّته من ولده وأهله ليُباهِلَ بهم واثقاً بحقّه ، والله ما جاء بهم وهويتخوّف الحجةَ عليه ، فاحذَروا مباهلته ، والله لولا مكانُ قَيْصَر لأسلمت له ، ولكن صالحوه على ما يتفق بينكم وبينه ، وارْجِعُوا إلى بلادكم وارتَؤُوا لأنفسكم ، فقالوا له : رأيُنا لرأيك تَبَعٌ ، فقال الأسْقًف : يا با القاسم إنّا لا نُباهِلك ولكنّا نصالِحُك ، فصالحنا على ما نَنْهَضُ به .
فصالحهم النبيُ صلّى الله عليه وآله على ألفَيْ حُلّة من حُلَل الأواقي قيمةَ كلّ حُلةٍ أربعون درهماً جياداً ، فما زاد أو نقص كان بحساب ذلك ، وكتب لهم النبي صلّى الله عليه وآله كتاباً بما صالحهم عليه ، وكان الكتاب :

( 169 )

بسم الله الَّرحمن الَّرحيم
هذا كتابٌ من محمّدٍ النبي رسولِ الله لنَجْران وحاشيتها، في كلّ صَفراء وبَيضاء وثَمرَةٍ ورقيقٍ ، لا يُؤْخَذُ منه شيءّ منهم غيرُ ألْفَيْ حُلّةٍ من حُلَلَِ الأواقِي ثمنُ (1) كلّ حُلّةٍ أربعون درهماً، فما زاد أو نقص فعلى حساب ذلك ، يُؤَدّون ألفاً منها في صَفَرٍ ، وألفاً منها في رجب ، وعليهم أربعون ديناراً مثواةَ رسولي ممّا فوقَ ذلك ، وعليهم في كلّ حَدَثٍ يكون باليمن من كلّ ذي عَدْنٍ عاريةٌ مضمونةٌ ثلاثون دِرعاً وثلاثون فرساً وثلاثون جَمَلاً عاريةٌ مضمونةٌ ، لهم بذلك جوارُ الله وذمّةُ (محمّد بن عبدالله )(2)، فمن أكل الرِبا منهم بعد عامهم هذا فذمّتي منه بريئة .
وأخذ القومُ الكتابَ وانصرفوا .

فصل

وفي قصة أهل نَجران بيان عن فضل أمير المؤمنين عليه السلام مع ما فيه من الآية للنبي صلّى الله عليه وآله والمعجز الدال على نبوته .
_________
(1) في «م» وهامش «ش» : قيمة .
(2) في «م» : رسول الله .

( 170 )

ألا ترى إلى اعترافِ النصارى له بالنبوّة ، وقطعِهِ عليه السلام على امتناعهم من المباهلة، وعلمِهم بأنّهم لو باهلوه لَحَلّ بهم العذابُ ، وثقتِه عليه وآله السلام بالظفربهم والفَلَجِ بالحُجَّة عليهم .
وأنّ الله تعالى حَكَم في آية المباهلة لأَمير المؤمنين عليه السلام بانّه نفسُ رسول الله صلّى الله عليه واله ،كاشفاً بذلك عن بلوغه نِهاية(1) الفضل ، ومساواتِه للنبي عليه واله السلام في الكمال والعِصمة من الاثام ، وأن اللهَ جلّ ذكره جَعَله وزوجتَه وولَديْه - مع تقارب سنّهما- حجّةً لنبيه عليه وآله السلام وبرهاناً على دينه ، ونَصَّ على الحُكْم بأنّ الحسن والحسين أبناؤه ، وأنّ فاطمةَ عليها السلام نساؤه المتوجِّهُ إليهن الذكر والخطاب في الدعاء الى المباهلة والاحتجاج ، وهذا فضلٌ لم يَشْركهم فيه أحدٌ من الأمّة ، ولا قاربَهم فيه ولا ماثَلهم في معناه ، وهو لاحِقٌ بما تقدّم من مناقب أمير المؤمنين عليه السلام الخاصّة له ، على ما ذكرناه .

فصل

ثمّ تلا وَفْدَ نَجْران من القصص المُنْبِئَة عن فضل أمير المؤمنين عليه السلام وتَخَصُّصِه من المناقب بما بان به من كافّة العباد، حجةً الوداع وما جرى فيها من الأقاصيص ، وكان فيها لأمير المؤمنين عليه السلام من جليل المقامات . فمن ذلك أنّ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله
_________
(1) في هامش «ش»: غاية .

( 171 )

كان قد أنفذَه عليه السلام إلى اليمن ليخمِّسَ زكاتها(1)، ويَقْبِضَ ما وافق عليه أهلُ نجران من الحُلَل والعَينْ وغيرِذلك ، فتوجّه عليه السلام لما نَدَبه إليه رسولُ الله صلّى الله عليه وآله ،فأنجزه ممتثلاً فيه أمره مسارعاً إلى طاعته ، ولم يَأْتَمِنْ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله أحداً غيرَه على ما ائتمَنه عليه من ذلك ، ولا رأى في القوم من يَصْلَحُ للقيام به سواه ، فأقامه عليه السلام مقامَ نفسه في ذلك واستَنابَه فيه ، مطمئناً إِليه ،ساكناً إلى نُهوضه بأعباء ما كَلَّفه فيه .
ثمّ اراد رسول الله صلّى الله عليه واله التوجه للحجّ وأداء فَرْض الله تعالى عليه فيه ، فأذَّنَ في الناس به ، وبَلَغَتْ دعوتُه عليه السلام أقاصِيَ بلاد الإسلام ، فتجهَّزَ الناسُ للخروج وتأهَّبوا معه ، وحَضَرَ المدينةَ من ضَواحيها ومِنْ حَوْلها وبفربِ منها خلقٌ كثيرٌ ، وتهيَّأؤا للخروج معه ، فخرج النبيُّ صلّى الله عليه وَآله بهم لخَمْسٍ بقين من ذي القعدة، وكاتَبَ أميرَ المؤمنين عليه السلام بالتوجه إلى الحجّ من اليمن ولمِ يَذْكُرْ له نوعَ الحجّ الذي قد عَزَمَ عليه ، وخَرَجَ عليه وآله السلام قارِناً للحجّ بسِياق الهَدْي ، وأحْرَمَ من ذِي الحُلَيْفَة(2) وأحْرَمَ الناسُ معه، ولبّى(3) عليه السلام من عند المِيل الذي بالبَيْداء، فاتَّصل ما بين الحرمين بالتَلبِيَة حتّى انتهى إلى كُرَاعِ الغَمِيم (4)،
_________
(1) في «م» وهامش «ش» : رِكازها .
(2) ذو الحليفة : قرية بينها وبين المدينة المنورة ستة أميال أوسبعة، وفيها ميقات أهل المدينة . «معجم البلدان 2 :295».
(3) لبّى اي رفَع صوتَه بالتَلبية.
(4) كراع الغميم : واد في طريق المدينة إلى مكة المكرمة . «معجم البلدان 4 : 443» .

( 172 )

وكان الناسُ معه ركباناً ومُشاةً ، فشَقًّ على المُشاة المسيرُ، وأجْهَدَهم السيرُ والتعبُ به ، فشَكَوْا ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وآله واستحْمَلُوه فأعلَمَهمُ أنه لا يَجدُ لهم ظَهْراً، وأمَرَهم أن يَشُدًّوا على أوساطهم يخلِطوا الرَمَلَ (1) بالنَسًل(2) ، ففَعَلوا ذلك واستَراحوا إليه ، وخَرَجَ أميرُ المؤمنين عليه السلام بمن معه من العَسْكَر الذي كان صَحِبَه إلى اليمن ، ومعه الحُلَلُ التي أخَذَها من أهل نَجران .
فلمّا قارَبَ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله مكّة مَن طريق المدينة، قارَبَها أميرُ المؤمنين عليه السلام من طريق اليمن ، وتقدَّمَ الجَيشَ للقاء النبي صلّى الله عليه وآله وخَلَّفَ عليهم رجلاً منهم ، فأدرك النبيَّ عليه وآله السلام وقد أشرَفَ على مكّة ، فسلَّم وخَبَّرهَ بما صنع وبقَبْض ما قَبَض ، وأنّه سارع للقائه أمامَ الجَيش ، فسُرَّ رسولُ الله صلّى الله عليه واله بذلك وابتَهَج بلقائه وقال له : «بما أهْلَلْت يا عليّ ؟ فقال له : يا رسولَ الله ، إنّك لم تكْتُبْ إليّ باهلالك ولا عَرَّفْتَنِيه (3) فَعَقَدْتُ نيتي بنيّتِك ؛ وقلتُ : اللهمّ إهلالاً كإهلال نبيك ، وسُقْتُ معي من البدن أربعاً وثلاثين بدنَةً ، فقال رسولُ الله صلّى الله عليه وآله : الله أكبر، فقد سُقْت أنا سِتّاً وستّين ، وأنت شريكي في حَجّي ومناسكي وهَدْي ، فأقِمْ على إحرامك وعُدْ إلى جَيشك فعَجِّل بهم إليَّ حتّى نجتمع بمكّة إن شاء الله».

_________
(1) الرَمَل : الهرولة . «الصحاح - رمل - 4 : 1713» .
(2) النسل : الركض بسرعة . انظر«الصحاح - نسل - 5 : 1830».
(3) في «م» وهامش «ش»: عرفته .

( 173 )

فودَعه أميرُ المؤمنين عليه السلام وعاد إلى جيشه ، فَلقيَهم عن قُربٍ فوجدهم قد لَبِسُوا الحُلَلَ التي كانت معهم ، فأنكر ذلك عليهم ، وقال للذي كان استخلفه فيهم : «وَيلك ، ما دعاك إلى أن تًعْطِيَهم الحُلَلَ من قبل أن نَدْفَعَها إلى النبي عليه وآله السلام ولم أكُنْ أَذِنْتُ لك في ذلك ؟» فقال : سَألوني أن يتجمّلوا بها ويحرمُوا فيها ثمّ يردّونَها عليّ . فانتزعها أميرُ المؤمنين عليهَ السلام من القوم وشدَّها في الأعْدال فاضطَغنوا لذلك عليه .
فلمّا دخلوا مكّةَ كَثُرَتْ شكايتهم من أمير المؤمنين عليه السلام ، فأَمَرَ رسولُ الله صلّى الله عليه واله مناديه فنادى في الناس : «اِرْفَعوا ألسنتَكم عن عليّ بن أبي طالب ، فإنه خَشِنٌ في ذات الله عزّوجلّ ، غيرُ مُداهِنٍ في دينه» فكفَّ الناسُ عن ذِكره ، وعَلِمُوا مَكانَه من النبي صلّى الله عليه وآله ، وسَخَطَه على من رام الغَمِيْزَةَ فيه . فأقام أميرُ المؤمنين عليه السلام على إحرامه تأسّياً برسول الله صلّى الله عليه واله .
وكان قد خرج مع النبي صلّى الله عليه وآله كثيرٌ من المسلمين بغير سِياق هَدْي . فأنزل الله عزّ ذكره(وَاَتِمًّوا الْحَج وَالْعُمْرَة للّهِ )(1) فقال رسولُ الله صلّىالله عليه واله : «دَخَلَت العًمرةُ في الحجّ - وشَبَّك بين أصابع إحدى يَدَيْه بالأخرى - إلى يوم القيامة» ثم قال عليه واله السلام : «لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ ما سُقْتُ الهَدْي» ثمّ أمَرَ مناديَه فنادى : مَنْ لم يَسُقْ منكم هَدْياً فليُحِلّ ولْيَجْعَلها عُمْرَةً ، ومن ساق منكم هَدْياً فليُقِمْ على إحرامه . فأطاع بعضُ الناس
_________
(1) البقرة 2 : 196 .

( 174 )

في ذلك وخالف بعضٌ ، وجَرَت خُطوبٌ بينهم فيه ، وقال منهم قائلون : إنَ رسولَ الله صلّى الله عليه واله أشْعَث أغْبر، ونَلْبِسُ الثياب ونَقْربُ النساءَ وندهن ! .
وقال بعضُهم : أَما تَستحيون أن تخرُجوا ورؤسُكم تَقْطُر من الغُسل ، ورسولُ الله صلّى الله عليه وآله على إحرامه ! .
فأنكر رسولُ الله على من خالف في ذلك وقال : «لولا أنّي سُقْتُ الهَدْي لأَحللتُ وجعلتُها عُمرةً ، فمن لم يَسُقْ هدياً فليُحِلّ» فرجع قومٌ وأقام آخرون على الخلاف .
وكان فيمن أقام على الخلاف للنبي صلّى الله عليه وآله عُمَر بن الخَطّاب ، فاستدعاه رسول الله عليه وآله السلام وقال له : «ما لِي أراك - يا عُمَر- مُحرِماً أَسُقتَ هَدْياً؟!» قال : لم أسُقْ ، قال : «فلِمَ لا تُحِلّ وقد أمرتُ من لم يَسق الهَدْي بالإحلال ؟» فقال : والله يا رسولَ الله لا أَحْلَلتُ وأنتَ مُحرمٌ ، فقال له النبي عليه وآله السلام : «إنّكَ لن تُؤْمن بهاحتّى تموت».
فلذلك اقام على إنكارمُتعة الحجّ ، حتّى رَقى المِنْبرَ في إمارته فنهى عنها نَهياً مجدداً(1) وتوعّد عليها بالعقاب .
ولمّا قضى رسولُ الله صلّى الله عليه واله نُسُكَه أشرك علياً عليه السلام في هَدْيه ، وقَفَل إلى المدينة وهو معه والمسلمون ، حتّى انتهى إلى الموضع المعروف بغَدير خُمّ ،وليس بموضع إذ ذاك للنزول لعدم الماء
_________
(1) في «ش» و «م» : مجرداً ، واثبتنا ما في هامش «ش» ونسخة العلامة المجلسي .

( 175 )

فيه والمرعى ، فنَزَل صلّى الله عليه وآله في الموضع ونَزَل المسلمون معه .
وكان سببُ نزوله في هذا المكان نزولَ القرآن عليه بنَصْبه أميرَ المؤمنين عليه السلام خليفةً في الاُمّة من بعده ، وقد كان تَقَدَّم الوحيُ إليه في ذلك من غيرتوقيتٍ له فأخَّرَه لحضُور وقتٍ يَأْمَنُ فيه الاختلافُ منهم عليه ، وعَلِمَ اللهُ سبحانه أنّه إن تجاوز غديرَ خُمّ انفصل عنه كثيرٌ من الناس إلى بلادهم وأماكنهم وبواديهم ، فأراد اللهُ تعالى أن يَجْمعَهم لسِماع النصّ على أمير المؤمنين عليه السلام تأكيداً للحُجّة عليهم فيه . فأنْزَل جلّت عظمته عليه : (يَا اَيُّهَا الرَّسولُ بَلِّغْ مَا اُنْزِلَ اليْكَ مِنْ رَبِّكَ)(1) يعني في استخلاف عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام والنصّ بالإمامة عليه (وَاِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ)(2) فأكَّد به الفرضَ عليه بذلك ، وخوَّفَه من تأخيرالأمرِ فيه ، وضمِنَ له العِصمةَ ومَنْعَ الناس منه .
فنزل رسولُ الله صلّى الله عليه وآله المكانَ الذي ذكرناه ، لما وَصَفناه من الأمر له بذلك وشرحناه ، وَنَزَلَ المسلمون حوله ، وكان يوماً قائظاً شديد الحَرّ، فأمر عليه السلام بدَوْحاتٍ هناك فقُمَّ ما تحتها ، وأمر بجمع الرِحال في ذلك المكان ، ووَضْعِ بعضها على بعض ، ثمَّ أمَرَ مناديه فنادى في الناس بالصلاة . فاجتمعوا من رِحالهم إليه ، وإنَّ أكثرَهم ليلُفُّ رداءه على قدمَيْه من شدّة الرَمْضاء. فلمّا اجتمعوا صَعِدَ عليه واله السلام على تلك الرِحال حتى صار في ذِرْوَتها ، ودَعا أميرَ المؤمنين عليه السلام فرَقى معه حتّى قام عن يمينه ،
_________
(1 ، 2) المائدة5: 67 .

( 176 )

ثمَّ خَطَبَ للناس فحَمَد الله وأثنى عليه ، ووَعَظَ فابلغ في الموعظة، ونَعى إلى الأُمّة نفسَه ، فقال عليه واله السلام : «إني قد دُعِيْت ويُوشِك أن أُجِيب ، وقد حان مني خفوفٌ (1) من بين أظْهُركم ، وإنّي مُخلِّفٌ فيكم ما إن تَمَسّكتم به لن تَضِلّوا أبداً(2): كتاب الله وعترتي أهلَ بيتي ، وإنَّهما لن يَفْتَرِقا حتّى يَرِدا عَليَّ الحوضَ» .
ثمّ نادى بأعلى صوته : (3) «ألَسْتُ أولى بكم منكم بأنفسكم ؟» فقالوا : اللهم بلى، فقال لهم على النَسَق ، وقد أخذ بضَبْعَيْ (4) أميرِالمؤمنين عليه السلام فرَفَعَهما حتّى رُئيَ بياضُ إِبْطَيْهما وقال : «فَمَنْ كُنتُ مَوْلاه فهذا عليٌّ مَوْلاه ، اللهم والِ من والاه ، وعادِ من عَاداه ، وانْصر من نَصَره ، واخْذُل من خَذَله» .
ثمَّ نَزَل صلّى الله عليه وآله - وكان وقت الظَهيرة - فصَلّى ركعتين ، ثمّ زالتِ الشمس فأَذَّن مُؤَذنُه لصلاة الفَرْض فصَلّى بهم الظهر، وجَلَس صلّى الله عليه وآله في خَيمته ، وأمَرعلياً أن يَجْلِس في خَيمةٍ له بازائه ، ثُمّ أمَرَ المسلمين أن يَدْخُلوا عليه فَوْجاً فَوْجاً فَيُهَنَؤوه بالمَقام ، ويُسلِّموا عليه بإمْرَة المؤمنين ، ففعل الناسُ ذلك كلُّهم ، ثمّ أمَرَ أزواجَه وجميعَ نِساء المؤمنين معه أن يَدْخُلن عليه ، ويُسَلِّمن عليه بإمْرَة المؤمنين ففَعلنَ .

_________
(1) يقال خف القوم خفوفاً : أي قلوا ، وهي كناية منه صلى الله عليه وآله عن ارتحاله من الدنيا. انظر«الصحاح - خفف - 4 : 1353».
(2) أبداً : ليس في «ش» و«ح» وأثبتناها من «م» وهذا الموضع منها بخط متأخرعن زمن نسخها .
(3) في «م» زيادة : أيها الناس . وهذا القطعة من النسخة : بخط متاخر عن زمن نسخها .
(4) الضّبْع : بسكون الباء، وسط العضد ، وقيل :هوما تحت الإبط . «النهاية - ضبع - 3 :73».

( 177 )

وكان ممّن أطْنَبَ في تَهنئته بالمَقام عُمَر بن الخَطّاب فأظْهَر له المسَرّة به وقال فيما قال : بَخٍ بَخٍ يا عليّ ، أصبحتَ مَولاي ومَولى كلِّ مُؤمنٍ ومُؤمنةٍ .
وجاء حَسّان إلى رسول الله صلّى الله عليه والهِ فقال له : يا رسولَ اللهِ ، إئْذَن لي أن أقول في هذا المقام ما يَرضاه الله؟ فقال له : «قل يا حَسّان على اسم الله» فوَقَف على نَشَزٍ (1) من الأرض ، وتَطاول المسلمون لسماع كلامه ، فأنشأ يقول :
يُناديهمُ يومَ الغَديرِ نَبيُّهُمْ * بخُمٍّ وأسمِعْ بالرسولِ مُنادِيا
وقالَ : فمَنْ مَولاكم ووَلِيّكم ؟ * فقالوُا ولم يَبدُوا هُناك التعادِيا
إلهًك مَوْلانا وأنْتَ وَليّنا * ولَنْ تَجِدن مِنّا لكَ اليومَ عاصِيا
فقال له : قُمْ يا عليّ فإِنّني * رَضيتُك مِنْ بَعدي إِماماًوهادِيا
فَمَنْ كُنْتُ مَولاه فَهذا وَلِيُّه * فُكُونُوا لَهُ أنصارَصِدْقٍ موالِيا
هُناكَ دَعا: اللهُمَّ والِ وَلِيَّه * وَكُنْ لِلّذي عادى عَلِيّاً مُعادِيا
فقال له رسولُ الله صلّى الله عليه وآله : «لا تَزال - يا حَسّان - مُؤيّداً بروحِ القدُسُ ما نَصَرْتَنا بلِسانك».
وإنّما اشترط رسولُ الله صلّى الله عليه وآله في الدعاء له ، لعلمه بعاقبة أمره في الخِلاف ، ولو عَلِمَ سلامته في مستقبل الأحوال لدعا له على الأطلاق ، ومثلُ ذلك ما اشترط اللهُ تعالى في مدح أزواج النبي عليه السلام ، ولم يَمْدَحْهُنَّ بغير اشتراط ، لعلمه أنَّ منهنّ من يتغيّر بعد
_________
(1) النَّشز: المرتفع من الأرض . «النهاية - نشز- 5: 55» .

( 178 )

الحال عن الصلاح الذي يُستَحَقّ عليه المدحُ والإكرامُ ، فقال عزّ قائلاً : (يَا نِسَاءَ ألنّبِيّ لَسْتُنَّ كَأحَدٍ مِنَ ألنِسَاءِ إن اتَّقَيْتُنَ)(1) ولم يَجْعَلهن في ذلك حسبَ ما جَعَلَ أهلَ بيت النبي صلّى الله عليه وآله في محلّ الأكرام والمِدْحَة ، حيث بَذَلوا قوتهم للمسكين واليتيم والأسير، فأنزل اللهُ سبحانه وتعالى في عليّ بن أبي طالب وفاطمةَ والحسنِ والحسين عليهم السلام وقد آثَروا على أنفسهم مع الخَصاصة التي كانت بهم ، فقال جلّ قائلاً: (وَيُطْعِمونَ الطَعَامَ عَلى حُبّهِ مِسْكيناً وَيَتيماً وَاَسيراً * اِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُريدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكورأَ * اِنّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبوساً قَمْطَريراً * فَوَقاهًمُ الله شَرَ ذَلِكَ أليَوْم وَلَقّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا َصبروا جنّة وَحَريراً)(2) فقَطَعَ لهم بالجزاء، ولم يَشْتَرِط لهم كما اشتَرط لغيرهم ، لعلمه باختلاف الأحوال على ما بيّناه .

فصل

فكان في حَجّة الوداع من فضل أمير المؤمنين عليه السلام الذي اختصّ به ما شَرَحناه ، وانفرد فيه من المنقبة الجليلة بما ذكرناه ، فكان شريكَ رسول الله صلّى الله عليه وآله في حجّه وهَدْيه ومناسكه ، ووَفَّقه اللهُ تعالى لمساواة نبيه عليه وآله السلام في نيّته ، ووِفاقه في عبادته ،
_________
(1) الأحزاب 33 : 32 .
(2) الإنسان 76 : 8 - 12 .

( 179 )

وظَهَرمن مكانه عنده صلّى الله عليه وآله وجليلِ محلّه عند الله سبحانه ما نوَّه به في مِدْحَته ، فأوْجَبَ به فَرْضَ طاعته على الخلائق واختصاصه بخلافته ، والتصريح منه بالدعوة إلى اتباعه والنهي عن مخالفته ، والدعاء لمن اقتدى به في الدين وقام بنصرته ، والدعاء على من خالفه ، واللعن لمن بارَزه بعداوته . وكَشَفَ بذلك عن كونه أفضلَ خلق الله تعالى وأجلَّ بريّته ، وهذا ممّا لم يَشْرَكه - أيضاً - فيه أحدٌ من الأُمّة، ولا تعرض(1) منه بفضل يُقاربه على شبهةٍ لمن ظنّه ، أو بصيرة لمن عرَف المعنى في حقيقته ، والله المحمود .

فصل

ثمّ كان ممّا أَكَّدَ له الفضلَ وتخصّصه منه بجليل رتبته ، ما تَلا حجّةَ الوداع من الأُمور المُتَجدِّدة لرسول الله صلّى الله عليه واله والأحداثِ التي اتّفقت (بقضاء الله وقدره )(2).
وذلك أنه عليه واله السلام تَحَقَّق من دُنُوّ أجله ما كان (قَدَّم الذِكرَ) (3) به لأمتّه ، فَجَعَل عليه السلام يَقوم مَقاماً بعد مَقام في المسلمين يُحذِّرُهم من الفتنةِ بعده والخلافِ عليه ، ويُؤكِّد وَصاتَهم بالتمسك بسنته والاجتماع عليها والوفاق ، ويحُثُّهم على الاقتداء
_________
(1) في هامش «ش»: تَعَوَّض .
(2) في هامش «ش» : بعون الله وقدرته .
(3) في هامش «ش» : تقدم الذكر.

( 180 )

بعِترته والطاعة لهم والنصرة والحِراسة ، والاعتصام بهم في الدين ، ويَزْجُرهم عن الخلاف والارتداد . فكان فيما ذكره من ذلك عليه وآله السلام ما جاءت به الرواة على اتفاق واجتماع من قوله عليه السلام :
«أيّها الناس ، إنّي فَرَطُكم وأنتم واردون عليَّ الحوض ، ألا وانّي سائلُكم عن الثقلين ، فانظُروا كيف تَخْلُفوني فيهما، فإنّ اللطيفَ الخبيرَ نبّأني أنّهما لن يفترقا حتى يَلْقَياني ، وسألتُ ربّي ذلك فأعطانيه ، ألا وإِنّي قد تَرَكتُهما فيكم : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فَلا تَسبقوهم فتفرّقوا ، ولا تُقَصِّروا عنهم فتَهْلِكوا ، ولا تعَلِّموهم فإنّهم أعلم منكمَ .
أيّها الناس ، لا ألفِينّكم بعدي تَرجِعون كُفّاراً يَضرب بعضُكم رقابَ بعض ، فتَلقَوْني في كَتيبةٍ كمَجَرّ السيل الجرّار (ألا وان عليّ بن أبي طالب أخي )(1) ووصيّي ، يُقاتل بعدي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيِله»(2).
فكان عليه وآله السلام يَقوم مجلساً بعد مجلس بمثل هذا الكلام ونحوه .
ثمّ إنّه عَقَد لأسامة بن زيد بن حارثة الإمرةَ، ونَدَبه أن يَخْرُجَ بجمهور الاًمّة إلى حيث أصيب أبوه من بلاد الروم ، واجتمع رأيهُ عليه السلام على إخراج جماعة من متقدّمي المهاجرين والأنصار في
_________
(1) في نسخة «ش» : الا علي بن ابي طالب فانه اخي ، وفي «م» وهامش «ش» : او علي بن ابي طالب فانه اخي ، واثبتنا مافي نسخة العلامة المجلسي
(2) وردت قطع من الحديث في الطبقات الكبرى 2 : 194 ، تأريخ اليعقوبي 2 : 111 و 112 ، صحيح مسلم 4 : 1873 ، مسند أبي يعلى 2 : 297 ، 303، مستدرك الحاكم 3 : 109 ، مصباح الأنوار: 285 . ونقله العلامة المجلسي في البحار 22 : 465 / 19 .

( 181 )

معَسْكَره ، حتّى لا يَبقى في المدينة عند وفاته صلّى الله عليه وآله من يَختلف في الرئاسة، ويَطْمَع في التقدّم على الناس بم الإمارة ، ويستتِبُّ الأمرُلمن استخلفه من بعده ، ولا يُنازِعُه في حقّه مُنازع ، فعَقَد له الإمرةَ على من ذكرناه .
وجدَّ عليه وآله السلام في إخراجهم ، فأمَرَ أًسامةَ بالبرُوز(1) عن المدينة بمُعَسكره إلى الجُرْف (2)، وحَثَ الناسَ على الخروج إليه والمسير معه ، وحَذَّرَهم من التَلَوّم والإبطاء عنه .
فبينا هو في ذلك إذ عَرَضت له الشَّكاةُ التي تُوُفّي فيها، فلمّا أَحَسَّ بالمرض الذي عراه أخذ بيد علي بن أبي طالب عليه السلام واتَّبعَه جماعةٌ من الناس وتَوَجَّه إلى البقيع ، فقال لمن تَبعَه : «إنّني قد أُمِرْتُ بالاستغفار لأهل البقيع» فانطَلَقوا معه حتّى وَقَف بين أظهرهم فقال عليه السلام : «السَّلامُ عليكم يا أهلَ القُبور، ليَهْنِئكم ما أصبحتم فيه ممّا فيه الناس ، أقْبَلَت الفِتَن كقِطَع الليل المُظْلِم يَتْبَع أولَها آخرُها» ثمّ استَغْفَر لأهل البَقيع طويلاً، وأقْبَل على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقال : «إنّ جبرئيل عليه السلام كان يَعْرِض عليّ القرآن كلّ سنة مَرّة، وقد عَرَضه عليّ العامَ مرّتين ، ولا أراه إلاّ لحضور أجَلي».
ثمّ قال : «يا عليّ ، إنّي خُيّرتُ بين خزائن الدنيا والخلُود فيها أو الجنّة ، فاخترتُ لقاءَ ربي والجنّة ،َ فإذا أنا متّ فَاغسِلني واستُرعَورتي ،
_________
(1) في «م» وهامش «ش» : بالخروج .
(2) الجرف : موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام . «معجم البلدان 2 : 128» .

( 182 )

فإنّه لا يَراها أحدٌ إلاّ أكْمِهَ» .
ثمّ عاد إلى منزله عليه وآله السلام فَمَكَث ثلاثةَ أيّامٍ مَوعوكاً، ثمّ خَرَج إلى المسجد معَصوبَ الرأس ، معتمِداً على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بيُمنى يَدَيْه ، وعلى الفَضْل بن عبّاس باليَد الأخرى، حتّى صَعِد المِنْبرَ فجلس عليه ، ثمّ قال : «معاشِرَ الناس ، قد حان منّي خفوفٌ من بين أظهركم ، فمن كان له عندي عِدَةٌ فليَأْتنِي أُعْطِه إيّاها، ومن كان له عَلَيّ دينٌ فليُخْبِرني به .
معاشِرَ الناس ، ليس بين الله وبين أحدٍ شيءٌ يُعطيه به خيراً أويَصْرِفُ به عنه شرّاً إلاّ العمل .
أيّها الناس ، لا يَدَّعي مُدَّعٍ ولا يَتَمَنّى متَمَنٍّ ،والذي بعثني بالحقّ لايُنَجِّي إلاّ عمل مع رحمة ولوعَصَيْتُ لهَوَيْتُ ، اللهمّ هل بلّغت ؟» .
ثمّ نزل فصَلّى بالناس صلاةً خفيفةً ودخل بيتَه ، وكان إذ ذاك بيت أُمّ سَلَمة رضي الله عنها فأقام به يوماً أويومين .
فجاءت عائشة إليها تسألُها ان تَنْقله إلى بيتها لتتولّى تعليلَه ، وسألتْ أزواجَ النبي عليه واله السلام في ذلك فأذِنَّ لها، فانتَقَل صلّى الله عليه وآله إلى البيت الذي أسكنه عائشة ، واستمَرَّ به المرضُ أيّاماً وثقل عليه السلام .
فجاء بِلال عند صَلاة الصبح ورسولُ الله صلّى الله عليه واله مغمورٌ بالمَرَض فنادى : الصلاة يَرْحَمكم الله ، فأُوذن رسولُ الله صلّى الله عليه واله بندائه ، فقال : «يُصلّي بالناس بعضُهم فإنّني مشغولٌ بنفسي».
فقالت عائشة : مُروا أبا بكر، وقالت حَفْصةُ : مُروا عُمر.