الارشاد الجزء الثاني

الإرشــاد

في معرفة حجج الله على العباد
تأليف
الشيخ المفيد الإمام أبي عبدالله محمد بن محمد بن النعمان
العكبري ، البغدادي
( 336 ـ 413 هـ )
الجزء الثاني
تحقيق
مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث

(5)
باب
ذكرالإمامِ بعدَ أميرِ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ
وتاريخَ مولدِه ، ودلائل إمامتهِ ، ومدّةِ خلافتِه ، ووقتِ
وفاتِه ، وموضعِ قبرِه ، وعددِ أولادِه ، وطرفٍ من أخبارِه
والإمامُ بعدَ أميرِ المؤمنينَ عليه السلام ابنهُ الحسنُ ابنُ سيدةِ نساءِ العالمينَ فاطمةَ بنتِ محمّد سيدِ المرسلينَ صلّى اللهّ عليه وآله الطاهرينَ .
كنيتُه أبومحمّدٍ . ولدَ بالمدينةِ ليلةَ النِّصفِ من شهر رمضانَ سنةَ ثلاثٍ منَ الهجرة، وجاءتْ به فاطمةُ إلى النّبيِّ عليه وآلهِ السلام يومَ السابعِ من مولدِه في خرقةٍ من حريرِالجنّةِ كانَ جَبْرَئِيْل عليه السلام نزلَ بها إِلى رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ فسمّاه حسناً وعَقَّ عنه كبشاً، روى ذلكَ جماعةٌ، منهم أحمدُ بنُ صالحٍ التميميّ، عن عبدِاللهِ بنِ عيسى، عن جعفرِبنِ محمّدٍ عليهما السّلامُ (1) .
وكانَ الحسنُ أشبهَ الناسِ برسولِ اللهِ صلّى الله عليهِما خَلْقاً(2) وسُؤدداً وهَدياً . روى ذلكَ جماعةٌ منهم معمر، عنِ الزُّهريِّ ، عن أنسِ ابن مالكٍ قالَ : لم يكنْ أحدٌ أشبهَ برسولِ اللهِ صلّىَ اللهُ عليهِ وآلهِ
____________
(1) نقله العلامة المجلسي في البحار 43 : 26|250 .
(2) في هامش «ش » و«م »: خُلُقاً.

(6)
منَ الحسنِ بنِ عليٍّ عليهما السّلامُ (1) .
وروى إِبراهيمُ بنُ عليِّ الرافعي (2)، عن أبيه ، عن جدّتِه زينبَ بنتِ أبي رافعٍ قالَ (3): أتتْ فاطمَةُ بابنيها الحسنِ والحسينِ إِلى رسولِ اللّهِ
____________
(1) صحيح البخاري 5: 33، سنن الترمذي 5: 59 3776|6 ، تاريخ دمشق - ترجمة الامام الحسن عليه السلام -: 28 /48 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 43 : 338/ 10 .
(2) في «ش » و «م » : الرافقي ، واضاف في هامش «ش» : « الرافقة بلدة مما يلي المصر» وفيه دلالة على التفات الناسخ الى هذهِ الكلمة واختياره لها . الا ان الصواب ما في «ح» وهوما اثبتناه في المتن . فقد ذكره الشيخ الطوسي في رجاله (146 |65) قائلاً: ابراهيم بن علي بن الحسن بن علي بن ابي رافع المدني . وفي تاريخ بغداد (6 : 131) : ابراهيم بن علي بن حسن بن علي بن ابي رافع المدني حدّث عن ابيه علي . . روى عنه ابراهيم بن حمزة الزبيري . وهذا الخبرمذكور في عدة مصادر مع بعض الاختلاف ، ففي الخصال (1 : 77) ذكره باسناده عن ابراهيم بن حمزة الزبيري عن ابراهيم بن علي الرافعي عن ابيه عن جدته بنت ابي رافع ، وبهذا الاسناد في تاريخ ابن عساكرمسنداً الى ابن منده ، وكذا في اُسد الغابة (1 : 41) عن ابن مندة وابي نعيم ، الا انه اسقط منه (عن ابيه)، لكن اورد الخبر في الاصابة وقال : اخرجه ابن مندة من رواية ابراهيم بن حمزة الزبيري عن ابراهيم بن حسن بن علي الرافعي عن ابيه ، ونظيره في كفاية الطالب عن حلية الاولياء . والظاهر وقوع التحريف فيه اما بسقوط (بن علي ) بعد ابراهيم او بتقديم وتاخير. فتأمل .
(3) النسخ ههنا مشوشة غاية التشويش ، ففي «ش » : عن جدّته زينب وشبيب بن أبي رافع قال . . . وجعل فوق (وشبيب) علامة الزيادة، فيصير المتن : عن جدّته زينب بن ابي رافع قال . . وفيه اشكال من ناحية تذكيركلمتي (بن ) و (قال )، وفي هامش «ش » أشار الى ثلاث نسخ احداهن : جدهّ وشبيب ، والثانية : زينب بنت أبي، والثالثة :عمّن حدثه ، وبعد هذه النسخة علامة : ج . ونسخة «م » أكثرتشويشاً، ففيها قد غيرت العبارة وذكر في هامشها نسخاً وكأنّ فيها نفس النسخ أيضاً، وفي هامشها : صوّب نسخة (عن جده وشبيب بن أبي رافع قال . .) وهذه النسخة هي الموجودة في «ح » وعلى أي حال فالنسخ متفقة على اثبات كلمة قال بصيغة التذكير ويمكن توجيهه بارجاع الضمير الى أبي رافع ، وان كان الاظهر غفلة النساخ عن تصحيح هذه الكلمة بعد تصحيح اسم الراوي . وفي بعض

=


(7)
صلّى اللّهُ عليهِ والهِ في شكواه الّتي تُوفِّيَ فيها فقالتْ : «يا رسولَ اللّهِ ، هذانِ ابناكَ ورِّثْهما(1) شيئاً» فقالَ : «أمّا الحسنُ فإنّ له هَدْي وسؤددي ، وأمّا الحسينُ فإِنّ له جودي وشَجاعتي » (2) .
وكانَ الحسنُ بنُ عليٍّ وصيَّ أبيهِ أمير المؤمنينَ صلواتُ اللهِ عليهما على أهلِه وولده وأصحابِه ، ووصّاه بالنّظرِ في وُقُوفه وصَدَقاتِه ، وكتبَ له (3) عهداً مشهوراً ووصيّةً ظاهرةً في معالمِ الدِّينِ وعُيونِ الحكمةِ والادابِ ، وقد نقلَ هذهِ الوصيّةَ جمهورُ العلماءِ، واستبصرَ بها في دينهِ ودنياه كثيرٌ منَ الفقهاءِ .
* ولمّا قُبضَ أميرُ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ خطبَ النّاسَ الحسنُ عليهِ السّلاَمُ وذكرَحقَّه ، فبايَعَه أصحابُ أبيه على حرب مَنْ حارَبَ وسِلْمِ مَنْ سالَمَ .
وروى أبو مخنف لوطُ بنُ يحيى قالَ : حدّثَني أشعثُ بنُ سوّار(4)، عن أبي إِسحاقَ السَّبيعي وغيرِه قالوا: خطبَ الحسنُ بنُ عليٍّ عليهما السّلامُ صبيحةَ اللَيلةِ الّتي قُبِضَ فيها أميرُ المؤمنينَ عليهِ
____________
=
النسخ المعتبرة والبحار: زينب بنت أبي رافع ، ثم ان مصادر الحديث مختلفة أيضاً، وذكر الخبرفي ترجمة زينب بنت أبي رافع لا يرفع الاشكال في المسألة .
(1) في هامش «ش » و«م »: فورّثهما.
(2) ذكره الصدوق في الخصال : 122|77 ، والخوارزمي في مقتل الحسين عليه السلام 1 : 105 ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ضمن ترجمة الامام الحسن عليه السلام : 123 ، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب : 424 ، وابن حجر في الاصابة 4 : 316، ونقله العلامة المجلسي في البحار 34 : 263| 10 .
(3) في « ش » وهامش « م » : اليه .
(4) كذا في «م » و«ح »، وفي «ش » : سوّاد، وهو تصحيف .

(8)
السّلامُ فحمدَ اللّهَ وأثنى عليه ، وصلّى على رسولِ اللّهِ صلّى اللّهُ عليهِ وآلهِ ثمّ قال : «لقد قُبِضَ في هذِه الليلةِ رجلٌ لم يَسبِقْه الأوّلونَ بعملٍ ، ولا يُدرِكُه الآخِرونَ بعملٍ ، لقد كانَ يُجاهِدُ معَ رسولِ اللهِّ فَيقِيهِ بنفسِه ، وكانَ رسولُ اللهِّ صلّى اللهّ عليهِ وآلهِ يُوجِّههُ برايتهِ فيَكنُفُه جَبْرَئيْلُ عن يمينهِ وميكائيلُ عن يسارِه ، فلايَرجعُ حتّى يفتحَ اللهُ على يديهِ . ولقد تُوُفِّيَ عليهِ السّلامُ في الليلةِ الّتي عُرِجَ فيها بعيسى بن مريم عليهِ السّلامُ ، وفيها قُبِضَ يُوْشَعُ بنُ نونٍ وصيُّ موسى، وماخلّفَ صفراءَ ولابيضاءَ إلاّسبعمائةِ دِرْهمٍ فضلَتْ من عطائه، أرادَ أنْ يبتاعَ بها خادِماً لأهلِه » ثمّ خنقتْه العبرةُ فبكى وبكى النّاسُ معَه .
ثمّ قالَ : «أنا ابنُ البشيرِ، أنا ابنُ النّذيرِ، أنا ابنُ الدّاعي إِلى اللهِ بإِذنهِ ، أنا ابنُ السِّراجِ المنيرِ، أنا من أهلِ بيتٍ أذهبَ اللهُ عنهم الرِّجسَ وطهّرَهم تطهيراً، أنا من أهلِ بيتٍ افترضَ اللهُ حبَّهم في كتابهِ فقالَ عزّ وجلّ : (قُلْ لا أسْثَلُكُمْ عَلَيْهِ أجْرَاً إلا الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرف حَسَنَةً نَزِدْ لهُ فِيْهَا حُسْنَاً )(1) فالحسنةُ مودَّتُنا أهلَ البيتِ » .
ثمّ جلسَ فقامَ عبدُاللهِ بن عبّاسٍ رحمة اللهِّ عليهما بينَ يديه فقالَ : معاشرَ النّاسِ ، هذا ابنُ نبيِّكم ووصيُّ إِمامِكم فبايعُوه . فاستجابَ له النّاسُ وقالوا : ما أحبَّه إِلينا! وأوجبَ حقَّه عَلينا!
____________
(1) الشورى 42 : 23 .
(9)
وتَبادَروا إِلى البيعةِ له بالخلافةِ(1)، وذلكَ في يومِ الجمعةِ الحادي والعشرينَ من شهرِ رمضانَ سنةَ أربعينَ منَ الهجرةِ . فرتّبَ العُمآَلَ وأمر الامراءَ، وأنفذَ عبدَاللّه بن العبّاسِ رضيَ اللهُّ عنه إِلى البصرةِ، ونظرَ في الأمورِ.
* ولمّا بلغَ معاويةَ بنَ أبي سُفيانَ وفاةُ أميرِ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ وبيعةُ النّاسِ الحسنَ عليهِ السّلامُ دَسَّ رجلاًَ من حِمْيَر إِلى الكوفةِ، ورجلاً من بَلقَين (2) إِلى البصرةِ، ليكتُبا إِليه بالأخبارِ ويُفسِدا على الحسنِ عليهِ السّلام الأمورَ. فَعرَفَ ذلكَ الحسنُ عليهِ السّلام فأمرَ باستخراجِ الحِميريِّ من عندِ حَجّامٍ بالكوفةِ فأُخرِجَ فأمرَ بضربِ عنقهِ ، وكتبَ إِلى البصرةِ فاستخرج القَيْنيّ من بني سُلَيْم وضرِبَتْ عنقه .
وكتبَ الحسنُ عليهِ السّلامُ إِلى معاويةَ :
«أما بعد فإنكَ دسست الرجال للاحتيال والاغتيال، وأرصدت العيون كأنك تُحب اللقاء، (وما أوشَكَ ذلك (3) ! فتوقعه إن شاء الله. وبلغني أَنك شمتَ بما لا يشمت به ذوو الحجى، وإنما مثلك في ذلك كما قال الاول:
____________
(1) مقاتل الطالبيين : 51، شرح ابن ابي الحديد 16 : 30، ونقله العلامة المجلسي في البحار 43 : 362، وأخرج قطعاً منه اكثرأهل السير.
(2) بلقين : أصله بنوالقين والنسبة قيني احدى قبائل العرب . انظر «القاموس المحيط - قين - 4 : 262» .
(3) في هامش «ش »: وما اشك في ذلك .

(10)
فقُلْ للذِي يَبْنِيْ خِلاَفَ الّذِي مَضـىَ * تَجــَهَزْ لأخـــْرَى مِثْلــِهَا فــــَكَأنْ قَــدِ
فإِنّا وَمَنْ قــَدْ مــَاتَ مِنَّــــا لَكَالّــَذِيْ* يَرُوْحُ َفيُمسِي في المَبِيْتِ لَيَغْتَدِيْ »

فأجابَه معاويةُ عن كتابِه بما لا حاجةَ بنا إِلى ذكرِه (1) .
وكانَ بينَ الحسنِ عليهِ السّلامُ وبينَه بعدَ ذلكَ مُكاتباتٌ ومُراسلاتٌ واحتجاجاتٌ للحسنِ عليهِ السّلامُ فِى استحقاقِه الأمرَ، وَتَوَثُّب من تقدَّمَ على أبيه عليهما السّلامُ وابتزازِه سُلطان ابنِ عمِّه رسولِ اللّهِ صلّى اللّهُ عليهِ والهِ وتحقُقِّهم به دونَه ، وأشياء يطولُ ذكرُها .
* وسارَ معاويةً نحوَ العراقِ ليَغلِبَ عليه، فلمّا بلغَ جسرَ مَنْبِجَ (2) تحرّكَ الحسنُ عليهِ السّلامُ وبعثَ حُجْرَ بنَ عَدِيٍّ فأمَر العُمّالَ بالمسيرِ، واستنفرَ النّاسَ للجهادِ فتثاقلوا عنه، ثمّ خفَّ معَه أخلاطٌ منَ النّاسِ بعضُهم شيعةٌ له ولأبيه عليهما السّلامُ ، وبعضُهم ُمحكِّمةٌ (3) يُؤثرونَ قتالَ معاويةَ بكلِّ حيلةٍ ، وبعضُهم أصحابُ فتنِ وطمعٍ في الغنائمِ ، وبعضُهم شُكّاكٌ ، وبعضُهم أصحابُ عصبيّةٍ اتَّبعوا رؤساءَ قبائلِهم لا يَرجعونَ إِلى دين .
____________
(1) رواه ابو الفرج الاصفهاني في مقاتل الطالبيين : 53 وكذا ما بعده مفصلاً الى آخر الفصل، وابن أبي الحديد في شرحه 16 : 31، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44 : 45 |5.
(2) منبج : بلد بالشام . «معجم البلدان 205:5».
(3) المحكمة : الخوارج . انظر «الملل والنحل 1 : 106 » و «القاموس المحيط - حكم - 4 : 98» .

(11)
* فسارَحتّى أتى حَمّامَ عُمرَ(1)، ثمّ أخذَ على دَيرِكَعْبٍ ، فنزلَ سَاباط دون القَنطرةِ وباتَ هناكَ ، فلمّا أصبحَ أرَادَ عليهِ السّلام أن يَمتحِنَ أصحابَه ويَستبرئَ أحوالَهم في الطّاعةِ له ، ليتميّزَ بذلكَ أولياؤه من أعدائه ، ويكونَ على بصيرِة في لقاءِ معاويةَ وأهلِ الشّامِ ، فأمرَ أن يُناديَ في النّاسِ بالصّلاةِ جامعةً، فاجتمعَوا فصعدَ المنبرَ فخطبَهم فقالَ : «الحمدُ للهِّ بكلِّ ما حَمِدَه حامِدٌ ، وأشهدُ أن لا إِلهَ إِلاّ اللهُ كلَّما شهدَ له شاهدٌ ، وأشهدُ أنّ محمّداً عبدُه ورسولُه ، أرسلَه بالحقِّ وائتمنَه على الوحيِ صلّى اللّه عليهِ وآلهِ .
أمّا بعدُ : فوَاللهِ إِنِّي لأرجو أن أكونَ قد أصبحتُ - بحمدِ اللهِ َومنِّهِ - وأنا أنصحُ خلقِ اللهِ لخلقهِ ، وما أصبحتُ محتملاً على مسلم ضغِيْنةً ولا مُريداً له بسوءٍ ولا غَائلةٍ ، ألا واِنَ ما تَكرهُونَ في الجماعةِ خيرلكم ممّا تحبُّونَ في الفُرقةِ، ألا وَانِّي ناظرٌ لكم خيراً من نَظرِكم لأنفسِكم فلا تُخالِفوا أمري ، ولا تَرُدُّوا عليَّ رأيي ، غفرَ اللهُ لي ولكم وأرشَدَنِي ِوايّاكم لما فيه المحبّةُ والرِّضا» (2) .
قالَ : فنظرَ النّاسُ بعضُهم إِلى بعض وقالوا : ما تَرَوْنَه يرُيدُ بما قالَ ؟ قالوا : نَظُنُّه - واللهِّ - يرُيدُ أن يُصالحَ معاويةَ ُويُسَلِّمَ الأمر إليه ، فقالوا: كفرَ- واللهِ -الرّجلُ ، ثمّ شدُّوا على فُسْطَاطِه فانتهبوه ، حتّى أخذوا مُصلاّه من تحتهِ ، ثمّ شدَّ عليه عبدُ الرحمن بن عبدِاللّهِ بنِ جِعَالٍ الأزْديّ فنزعَ مِطْرَفَه (3) عن عَاتِقهِ ، فبقيَ جالساً متقلِّداً السّيفَ بغير
____________
(1) حَمّام عمر: هي قرية، كذا في هامش «ش »و«م ».
(2) مقاتل الطالبيين : 63 .
(3) المطرف : رداء من خز. «الصحاح - طرف -4 : 1394».

(12)
رداءٍ .
* ثمّ دَعَا بفرسِه فرَكِبَه ، وأحْدَقَ به طَوَائفُ مِن خاصّتِه وشيعتِه ومنعوا مِنه مَنْ أرادَه ، فقالَ : «ادعُوا إِليَّ (1) رَبيْعةَ وهَمْدانَ » فدُعُوا له فأطافوا به ودفعوا النّاسَ عنه . وسارَو معَه شوبٌ (2) منَ النّاسِ ، فلمّا مرَّ في مُظلمِ ساباط بَدَرَ إِليه رجلٌ من بني أسد يُقالُ له : الجَرّاحُ بنُ سِنان ، فأخذَ بلجامِ بغلتهِ وبيدِه مِغْوَلٌ(3) وقالَ : اللهُ أكبرُ، أشركتَ - يا حسنُ - كما أشركَ أبوكَ من قبلُ، ثمّ طعنَه في فخذِه فشقَّه حتّى بلغَ العظمَ ، فاعتنقَه الحسنُ عليهِ السّلامُ وَخَرّا جميعاً إِلى الأرضِ ، فوثبَ إِليه رجلٌ من شيعةِ الحسنِ عليهِ السّلامُ يقُالُ له : عبدُالله بن خَطَلٍ الطّائي ، فانتزعَ المغولَ من يدِه وخَضْخَضَ به جوفَه ، وأكبَ عليهِ آخر يُقالُ له : ظَبْيَانُ بنُ عُمارةَ، فقطعَ أنفَه، فهلكَ من ذلكَ. وأُخِذَ آخرُ كانَ معَه فقُتِلَ .
وحُمِلَ الحسنُ عليهِ السّلامُ على سريرٍ إِلى المدائنِ، فاُنزلَ به على سعدِ بنِ مسعودٍ الثّقفيّ ، وكانَ عاملَ أميرِ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ بها فأقرَّه الحسنُ عليهِ السّلامُ على ذلكَ ، واشتغلَ بنفسِه يعُالِجُ جُرْحَه . وكتبَ جماعةٌ من رؤساءِ القبائلِ إِلى معاويةَ بالطّاعةِ له في السِّرِّ، واستحثّوه على السّيرِ نحوَهم ، وضَمِنُوا له تسليمَ الحسنِ عليهِ السّلامُ إِليه عندَ دُنُوِّهم من عسكرِه أو الفتكَ به ، وبلغَ الحسنَ ذلكَ . ووردَ
____________
(1) في «م » وهامش «ش »: لي .
(2) الشوب : الخليط - من الناس - . « الصحاح - شوب - 1 : 158 » .
(3) المغول : سيف دقيق له قفا يكون غمده كالسوط . «الصحاح - غول - 5: 1786 » .

(13)
عليه كتابُ قيسِ بنِ سعدٍ رضيَ اللهُ عنه وكانَ قد أنفذَه مع عُبيدِاللهِ بنِ العبّاسِ عندَ مسيرِه منَ الكوفةِ، ليَلقى معاويةَ فيَرُدَّه عنِ العراق، وجعلَه أميراً على الجماعةِ وقالَ : «إِنْ أُصبتَ فالأميرُ قيسُ بنُ سعدٍ» فوصلَ كتابُ ابنِ سعدٍ يُخبِرهُ أنّهم نازَلوا معاويةَ بقريةٍ يُقالُ لها الحَبُونيّة ُ(1) بإزاءِ مَسْكِنَ (2)، وأنّ معاويةَ أرسلَ إِلى عبيدِاللهِ بنِ العبّاس يُرَغِّبًه في المصيرِ إليه ، وضَمِنَ له ألفَ ألفِ دِرْهمٍ ، يُعجِّلُ له منها النًّصفَ ، يُعطيه النِّصفَ الآخرَ عندَ دخوله الكوفةَ، فانسلّ عُبيدُالله بن العبّاسِ في الليلِ إِلى مُعسكر(3) معاويةَ في خاصّتِه ، وأصبجَ النّاسُ قد فَقَدُوا أميرَهم ، فصلّى بهم قيسٌ رضيَ اللهُ عنه ونظر َفي أُمورِهم .
فازدادتْ بصيرةُ الحسنِ عليهِ السّلامُ بخذلانِ القوم له، وفسادِ نيّاتِ المُحكِّمةِ فيه بما أظهروه له من السّبَّ والتكفيرِ واستحَلالِ دمِه ونهب أموالهِ، ولم يبقَ معَه من يَاْمَنُ غوائلَه إِلاّ خاصّة من شيعتهِ وشيعَةِ أبيه أميرِ المؤمنينَ عليه السّلامُ، وهم جماعةٌ لا تقومُ لأجنادِ الشّام.
* فكَتبَ إِليه معاويةُ في الهُدْنةِ والصُّلحِ ، وأنفذَ إِليه بكُتُبِ أصحابِه التّي ضَمِنوا له فيها الفتكَ به وتسليمَه إِليه ، واشترط له على نفسِه في إِجابتهِ إِلى صلحِه شروطاً كثيرةً وعقدَ له عُقوداً كانَ في الوفاءِ بها مصالحٌ
____________
(1) كذا وردت في النسخ والصحيح : «الأخنونية» كما في تاريخ بغداد 1 : 208 ، وقال في معجم البلدان 1 : 125 : موضع من أعمال بغداد، قيل هي حَرْبى ، وفي ج 2 : 237 حَرْبى : بليدة في أقصى دُجيل بين بغداد وتكريت مقابل الحظيرة .
(2) مسكن : موضع قريب من أوانا على نهر دُجيل «معجم البلدان 5: 127» .
(3) في «م » و «ح » وهامش «ش » : عسكر.

(14)
شاملةٌ ، فلم يَثِقْ به الحسنُ عليهِ السّلامُ وعلمَ احتيالَه بذلكَ واغتيالَه ، غيرَ انّه لم يَجِدْ بدّاً من إِجابتهِ إِلى ما التمسَ (من ترك )(1) الحربِ وِانفاذِ الهدنةِ، لمِا كانَ عليه أصحابُه ممّا وصفْناه من ضعفِ البصائرِ في حقِّه والفسادِ عليه والخُلْفِ منهم له ، وما انطوى كثيرٌ منهم عليهِ في استحلالِ دمِه وتسليمهِ إِلى خصمِه ، وما كانَ في خذلانِ ابن عمِّه له ومصيرهِ إِلى عدوِّه ، وميلِ الجُمهورِمنهم إِلى العاجلةِ وزهدِهم في الآجلةِ .
فتوثّقَ عليهِ السّلامُ لنفسِه من معاويةَ لتأكيدِ الحجّةِ عليه ، والإعذارِ فيما بينَه وبينَه عندَ اللهِ عزّ وجلّ وعند كافَّةِ المسلمينَ ، واشترطَ عليه تركَ سبِّ أميرِ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ والعدولَ عنِ القُنوتِ عليه في الصّلواتِ ،وأنْ يُؤمنَ شيعتَه رضيَ اللهُ عنهم ولايتعرّضَ لأحدٍ منهم بسوءٍ، ويُوصِلَ إِلى كلِّ ذي حقٍّ منهم حقَّه . فأجابَه معاويةُ إِلى ذلكَ كلِّه ، وعاهدَه عليه وحَلفَ له بالوفاءِ به .
فلمّا استتمّتِ الهُدنةُ على ذلكَ ، سارَ معاويةُ حتّى نزلَ بالنُّخَيْلةِ(2)، وكانَ ذلكَ يومَ جمعةٍ فصلّى بالنّاسِ ضحى النّهارِ، فخطَبَهُم وقالَ في خطبتهِ : إِنِّي واللهِّ ما قاتلتُكم لتُصلُّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكُّوا، إِنّكم لتفعلونَ ذلكَ ، ولكنِّي قاتلتُكم لأتأمّرَ عليكم ، وقد أعطاني اللهُّ ذلكَ وأنتم له كارِهونَ . ألا ِوانِّي كنتُ منَّيتُ الحسنَ وأعطيتُه أشياءَ، وجَمِيعُها تحتَ قَدَمَيَّ لا أفي بشيءٍ منها له .
____________
(1) في «ش»: منه وترك .
(2) النخيلة : موضع قرب الكوفة «معجم البلدان 5: 278».

(15)

ثم سار حتى دخل الكوفة فأقام بها أياماً ، فلما استتمت البيعة له من أهلها ، صعد المنبر فخطب الناس ، وذكر أمير المؤمنين عليه السلام فنال منه ونال من الحسن ، وكان الحسن والحسين صلوات الله عليهما حاضرين ، فقام الحسين ليرد عليه فأخذ بيده الحسن فأجلسه ثم قام فقال : « أيها الذاكر علياً ، أنا الحسن وأبي علي ، وأنت معاوية وأبوك صخر ، وأمي فاطمة وأمك هند ، وجدي رسول الله وجدك حرب ، وجدتي خديجة وجدتك قتيلة ، فلعن الله أخملنا ذكراً ، وألأمنا حسباً ، وشرنا قدماً ، وأقدمنا كفراً ونفاقاً» فقال طوائف من أهل المسجد : آمين آمين .
ولما استقر الصلح بين الحسن صلوات الله عليه وبين معاوية على ما ذكرناه ، خرج الحسن عليه السلام إلى المدينة فأقام بها كاظماً غيظه ، لازماًمنزله ، منتظراً لأمر ربه جل ّ اسمه ، إلى أن تم لمعاوية عشر سنين من إمارته وعزم على البيعة لابنه يزيد ، فدس إلى جعدة بنت الأشعث بن قيس ـ وكانت زوجة الحسن عليه السلام ـ من حملها على سمه ، وضمن لها أن يزوجها بابنه يزيد ، وأرسل إليها مائة ألف درهم ، فسقته جعدة السم ، فبقي عليه السلام مريضاً أربعين يوماً ، ومضى عليه السلام لسبيله في صفر سنة خمسين من الهجرة وله يومئذ ثمان وأربعون سنة ، فكانت خلافته عشر سنين ، وتولى أخوه ووصيه الحسين عليه السلام غسله وتكفينه ودفنه عند جدته فاطمة بنت أسد بن هاشم ٍ بن عبد منافٍ رحمة الله عليها بالبقيعِ .
(16)
فصل

فمن الأخبار التي جاءت بسبب وفاة الحسن عليه السلام وما ذكرناه من سم معاوية له ، وقصة دفنه وما جرى من الخوض في ذلك والخطاب:
ما رواه عيسى بن مهران قال : حدثنا عبيدالله بن الصباح قال : حدثنا جرير، عن مغيرة قال : أرسل معاوية إلى جعدة بنت الأشعث بن قيس : أني مزوٌجك (يزيد ابني)(1) ، على أن تسمي الحسن ، وبعث إليها مائةألف درهم ، ففعلت وسمت الحسن عليه السلام فسوغها المال ولم يزوجها من يزيد ، فخلف عليها رجل من آل طلحة فأولدها ، فكان إذا وقع بينهم وبين بطون قريش كلام عيروهم وقالوا: يا بني مسمة الأزواج(2).
وروى عيسى بن مهران قال : حدثني عثمان بن عمر قال : حدثنا ابن عون ، عن عمر بن إسحاق قال : كنت مع الحسن والحسين عليهما السلام في الدار ، فدخل الحسن عليه السلام المخرج (3) ثم خرج قال : «لقد سقيت السم مراراً ، ما سقيته مثل هذه المرة ، لقد لفظت قطعة من كبدي ، فجعلت أقلبها بعود معي» فقال له الحسين
____________
(1) في هامش «ش» : من ابني يزيد.
(2) مقاتل الطالبيين : 73، شرح ابن ابي الحديد 16: 49 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44 : 155| 25 .
(3) المخرج : الكنيف ألمرحاض . «مجمع البحرين 2: 294» .

(17)
عليهِ السّلامُ : «ومن سقاكَه ؟» فقالَ : «وما تُريدُ منه ؟ أتريدَ قتلَه ، إن يكنْ هوهو فاللّهُ أشدُّ نقمةً منكَ ، وِإن لم يكنْ هو فما أحِبُّ أن يُؤخذَ بي بريءٌ »(1) .
وروى عبدُاللّهِ بن إبراهيمَ عن زيادٍ المخارقي قالَ : لمّا حضرتِ الحسنَ عليه السّلامُ الوفاةُ استدعى الحسينَ بنَ عليٍّ عليهما السّلامُ فقالَ : «يا أَخي ، إنِّي مُفارقًكَ ولاحق بربِّي جلّ وعزّ وقد سُقيتُ السّمَّ ورَمَيْتُ بكبدي في الطستِ ، وِإنَي لَعارفٌ بمن سقاني السّمَّ ، ومن أينَ دُهِيْتُ ، وأنا أُخاصِمُه إِلى اللهِ تعالى ، فبحقَي عليكَ إِن تكلّمتَ في ذلكَ بشيءٍ ، وانتظِرْ ما يُحدِثُ اللهُ عزّ ذكرُه فيَّ ، فإذا قضيتُ فَغمِّضْني وغَسِّلني وكفَنِّي واحمِلْني على سريري إِلى قبر ِجدِّي رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ لأجدِّدَ به عهداً ، ثمّ رُدَّني إِلى قبرِ جَدَّتي فاطمةَ بنتِ أسدٍ رحمةُ اللهِ عليها فادفنِّي هناكَ .
وستعلمُ يا ابنَ أُمّ أنّ القومَ يظنُّون أنّكم تريدونَ دفني عندَ رسوِلِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ فَيُجْلِبُونَ في منعِكم عن ذلكَ ، وباللهِ أُقسمُ عليكَ أن تُهريقَ في أمري مِحجمةَ دمٍ » ثمّ وصّى عليهِ السّلامُ إِليه باهلهِ وولدِه وتركاتِه، وما كانَ وصّى به إِليه أميرُ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ حينَ استخلفَه وأهَّلَه لمقامِه ، ودلَّ شيعتَه على استخلافِه ونصبِه لهم عَلَماً من بعدِه .
____________
(1) مقاتل الطالبيين : 74 ، شرح ابن ابي الحديد 16 : 49، وذكره المسعودي في مروج الذهب 2 : 427 باختلاف في الفاظه ، وانظر ترجمة الامام الحسن عليه السلام ضمن تاريخ دمشق : 207 - 208 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44 : 156 .
(18)
* فلمّا مضى عليهِ السّلامُ لسبيلِه غسّلَه الحسين عليهِ السّلامُ وكفّنَه وحملَه على سريرِه ، ولم يَشُكَّ مروانُ ومن معَه من بني أُميّةَ أنَّهم سيدفنونَه عندَ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ فَتَجَمَّعوا له ولبسوا السِّلاحَ ، فلمّا توجّهَ به الحسينُ بنُ عليٍّ عليهما السّلامُ إلى قبرِ جدِّه رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ ليُجدِّدَ به عَهداً أقبلوا إليهم في جمعِهم ، ولَحِقَتْهم عائشةُ على بغلٍ وهي تقولُ : مالي ولكم تُريدونَ أن تُدخِلوا بيتي من لا أُحِبُّ . وجعَل مروانُ يقولُ :
يَارُبَّ هَيْجَا هِيَ خَيْرٌ مِنْ دَعَة

أيدفَنُ عثمانُ في أقصى المدينةِ، ويُدفَنُ الحسن معَ النّبي ؟! لا يكونُ ذلكَ أبداً وأنا أحْمِلُ السّيفَ .
وكادتِ الفتنةُ تقعُ بينَ بني هاشمٍ وبني أُميَّةَ، فبادرَ ابنُ عبّاسٍ إِلى مروانَ فقالَ له : ارجعْ يا مروانُ من حيثُ جئتَ ، فإنّا ما نريدَ (أنْ نَدفِنَ صاحبَنا)(1) عندَ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ لكِنَّا نريدُ أن نُجدِّدَ به عهداً بزيارتِه ، ثم نَردَّه إِلى جدّتِه فاطمَة عليها السّلامُ فنَدفِنَه عندَها بوصيَّتهِ بذلكَ ، ولوكانَ وصَّى بدفنِه معَ النّبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ لعلمتَ أنّكَ أقصرُ باعاً من رَدِّنا عن ذلكَ ، لكِنَّه عليهِ السّلامُ كانَ أعلمَ باللهِ ورسوله وبحرمةِ قبرِه من أن يُطَرِّقَ عليه هَدْماً كما طَرّقَ ذلكَ غيرُه ، ودَخَلَ بيتَه بغيرِ إِذنِه .
ثمّ أقبلَ على عائشةَ فقالَ لها: واسوأتاه ! يوماً على بغلٍ ويوماً على جملٍ ، تريدينَ أن تُطفِئي نورَ اللهِ ، وتُقاتلينَ أولياءَ اللهِ ، ارجِعي
____________
(1) في «م » وهامش «ش » : دفن صاحبنا .
(19)
فقد كُفِيْتِ الّذي تَخافينَ وبلغتِ ما تُحبِّينَ ، والله تعالى مُنتصر لأهلِ هذا البيتِ ولوبعدَ حينٍ (1).
وقالَ الحسينُ عليهِ السّلامُ : «واللهِ لَولا عهدُ الحسنِ إِليَّ بحقن الدِّماءِ، وأن لا أُهريقَ في أمرِه محجمةَ دمِ ، لَعلمتُم كيفَ تَأْخذُ سُيوفُ اللهِّ منكم مَأْخذَها، وقد نَقَضْتُمُ العهَدَ بَينَنا وبينَكم ، وأبطلتُم ما اشترطْنا عليكم لأنفسِنا» .
ومَضَوا بالحسنِ عليهِ السّلامُ فَدَفَنُوه بالبقيعِ عندَ جدّتِه فاطمةَ بنتِ أسدِ بنِ هاشمِ بنِ عبدِ مَنافٍ رضيَ اللهُ عنها وأسكنَها جنّاتِ النعيمَ (2) .

____________
(1) في هامش «ح »: فقال لها ايضاً :
تـجـمـلـت تـبـغـلـت * ولو عـشـت تفيلت
لك الثمن من التسع * وفي الكل تطمعت

وفي الخرائج والجرائح : قال ابن عباس لعائشة : واسوأتاه ! يوماً على بغل ويوماً على جمل ، وفي رواية : يوماً تجملت وبوماً تبغلت وان عشت تفيلت ، فأخذه ابن الحجاج الشاعر البغدادي فقال :
يابنتَ أبـي بكــــــــر * لاكـــانَ ولاكُنتِ
لِــك التســع من الثُمن * وبالـــكلّ تملكت
تجملتِ تبغّلــــــــــتِ * وان عشتِ تفيّلت
ِ (2) هذا الخبر روته العامة والخاصة بتغير ببعض عباراته كل بحسب مذهبه ، انظر دلائل الامامة : 61 ، ومقاتل الطالبيين : 74 ، شرح النهج الحديدي 16 : 49 - 51 ، والخرائج والجرائح 1 : 8|242، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44 : 156 .

(20)
باب
ذكر ولد الحسنِ بنِ عليّ عليهما

السّلامُ وعددِهم وأسمائهم وطرفٍ من أخبارِهم

أولادُ الحسنِ بنِ عليٍّ عليهما السّلامُ خمسةَ عشرَ ولداً ذكراً وأُنثى : زيدُ بنُ الحسنِ وأُختاه أّمّ الحسنِ وأُمّ الحسينِ أُمُّهم أُمُّ بَشيرٍ بنتُ أبي مسعودٍ عُقْبة بن عمرو بنِ ثعلبةَ الخزرجيّةُ .
والحسنُ بنُ الحسنِ أُمُّه خَوْلةُ بنتُ منظورٍ الفَزاريّةُ .
وعَمْرُو بنُ الحسنِ وأخَواه القاسمُ وعبدُاللهِ ابنا الحسنِ أمُّهم أُمُّ ولدٍ .
وعبدُ الرحمن بن الحسنِ أُمُّه أُمُّ ولدٍ .
والحسين بنُ الحسنِ الملقّب بالأثرم وأخوه طلحةُ بنُ الحسنِ وأُختُهما فاطمةُ بنتُ الحسن ، أُمهم أُمُّ إِسحَاقَ بنتُ طلحةَ بن عبيدِاللهِ التّيميِّ .
وأُمُّ عبدِاللهِ وفاطمةُ وأُمُّ سَلَمَةَ ورُقيّةُ بناتُ الحسنِ عليهِ السّلامُ لأمهاتِ أولادٍ شتّى .

فصل
فأمّا زيدُ بنُ الحسنِ رضيَ اللّه عنه فكانَ على صدقاتِ رسولِ اللهِ
(21)
صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وأسَنَ ، وكانَ جليلَ القدرِ كريمَ الطّبعِ ظَلِفَ النّفسِ (1) ثيرَ البِرِّ، ومدحَه الشّعراءُ وقصدَه النّاسُ منَ الآفاقِ لطلبِ فضلهِ .
فذكرَ أصحابُ السِّيرِة : أنّ زيدَ بنَ الحسنِ كانَ يلي صدقاتِ رسولِ اللهِّ صلّى اللّهُ عليهِ وآلهِ فلمّا وُلِّيَ سليمانُ بنُ عبدِ الملكِ كتبَ إِلى عاملِه بالمدينةِ : أمّا بعدُ فإِذا جاءَكَ كتابي هذا ، فاعزِلْ زيداً عن صدقاتِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وادفَعْها إِلى فلانِ ابنِ فلانٍ - رجل من قومِه- وأعِنْه على ما استعانَكَ عليهِ ، والسّلامُ .
فلما استُخْلِفَ عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ إِذا كتابٌ قد جاءَ(2) منه : أمّا بعدُ فإنّ زيدَ بنَ الحسنِ شريفُ بني هاشمٍ وذوسِنِّهم ، فإِذا جاءَكَ كتابي هذا فاردُدْ اليه صدقاتِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ واعِنْه على ما استعانَكَ عليه ، والسّلامُ (3) .
وفي زيدِ بنِ الحسنِ يقولُ محمّدُ بنُ بَشيرٍ الخارِجيُّ :
إِذَا نَزَلَ ابْنُ المُصْطَفَى بَطْنَ تَلْعَةٍ (4) * نَفَى جَدْبَهَا وَاخْضَرَّ بِالنَّبْتِ عُوْدُهَا
وَزيـدٌ رَبـِيـْعُ النــَّاسِ فـيْ كــُلِّ شَـتـْوة * إِذَا أخْلـفَتْ أنـْوَاؤُهَ(5) وَرُعوْدُهـا

____________
(1) ظلف النفس : عزيزها . «الصحاح - ظلف - 4 : 1399» .
وفي «م» ! وهامش «ش » : ظريف النفس .
(2) في هامش «ش » و »م» : ورد .
(3) ذكر الذهبي استخلاف عمر بن عبد العزيز لزيد بن الحسن على الصدقات . انظر سير اعلام النبلاء 4 : 487 |186 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44 : 163 |2 .
(4) التلعة : مسيل ماء من أعلى الأرض الى بطن الوادي «الصحاح - تلع -3 : 1192 » .
(5)الأنواء: جمع نوء، وهوسقوط نجم وطلوع نجم ، وكانت العرب تنسب المطر الى الأنواء، فتقول : مطرنا بنوء كذا . «مجمع البحرين - نوأ- 1 : 423 » . وفي هامش «ش»: » :

=


(22)
حَمُوْلٌ لأشْنَاقِ (1) الدِّيَاتِ كَأنَّهُ * سِرَاجُ الدُّجَىِ إِذْ قَارَنته سُعُوْدُهَا(2)
وماتَ زيد وله تسعونَ سنة، فرثَاه جماعةٌ منَ الشُّعراءِ وذكروا مآثره وبكَوا فضلَه ، فممّن رثاه قُدامةُ بنُ موسى الجُمَحِيّ فقالَ :

فَإِنْ يَكُ زَبْدٌ غَالَتِ الأرْضُ شَخْــصَهُ * فَقَدْ بَانَ مَعْرُوْف هُنــَاكَ وَجُوْدُ
وانْ يك أمسى رهنَ رَمْــسٍ فقد ثَوَى * بــــــهِ وَهْوَمَحموْدُ الْفعَالِ فَقِيْدُ
سَمِيْعٌ إِلــــــــــىَ المُعْتَر يَعْلَــــــمُ أنَهُ * ســـًيــَطْلُبُهُ اْلمَعْرُوْفَ ثُمَّ يَعُوْدُ
وَلَيْسَ بِقَوَّالٍ وَقَــــــد ْحَطَّ رَحــــــْلَه *ُ لِمُلــْـتَمِسِ اْلمَعْرُوْفِ أيْنَ تُرِيْدُ
إِذَا قَصَّرَ الْوَغْد الدَّنـــيُّ نَمـــَـــــا بِهِ * إِلــــــَى اْلمَجْدِ ابَاءٌ لَهُ وَجدُوْدُ
مَبَاذِيْلُ لِلْمَوْلـــىَ مَحَاشِيْدُ لَلْقــــــِرَى * وَفي الرَّوْعِ عِنْدَ النَّائِبَاتِ أُسُودُ
إِذَا انْتــــــُحِلَ الْعِزُّالطَّرِيْفُ فَــــإِنَّـهُمْ * لـــــَهُـم إِرْثُ مَجْدٍ مَا يُرَامُ تَلِيْدُ
إِذَا مَاتَ مِنْهًمْ سَيِّدٌ قَــــــــامَ سَيِّــــــدٌ * كـــَـرِيْمٌ يُبَنِّيْ بَعْدَهُ ويَشِيْدُ (3)
في أمثالِ هذا ممّا يطولُ به الكتاب .
وخرجَ زيدُ بنُ الحسنِ رضيَ اللهُ عنه منَ الدُّنيا ولم يدَعِ الأمامةَ، ولا ادَّعاها له مُدَّعٍ منَ الشِّيعةِ ولا غيرهم ، وذلكَ أنَّ الشِّيعةَ رجلانِ : إِمامّي
____________
=
الأنواء منازل القمر.
(1) في هامش «ش» و «م » : الاشناق : ما دون الديات ، مثل أروش الجراحات ، والشنق أيضاً في الزكاة : ما دون النصاب .
(2 ) ذكره البلاذري في أنساب الأشراف 3 : 2 7| 84 عدا البيت الاول .
(3) ذكر البلاذري البيت الأول فقط 3 : 72 و 73 ، وذكر محقق أنساب الأشراف الشيخ المحمودي عن تاريخ دمشق لابن عساكرج 6 : 352 ب القصيدة كاملة .

(23)
وزيدّي ، فالأماميُّ يَعتمدُ في الإِمامةِ النُّصوصَ ، وهي معدومة في ولدِ الحسنِ عليهِ السّلامُ باتِّفاق ، ولم يدَّعِ ذلكَ أحدٌ منهم لنفسهِ فيقع فيه ارتيابٌ .
والزّيديُّ يُراعي في الأمامةِ بعدَ عليٍّ والحسنِ والحسينِ عليهم السلامُ الدعوةَ والجهادَ، وزيدُ بن الحسنِ رحمةُ اللهِ عليهِ كانَ مُسالِماً لبني أُميّةَ ومُتقلِّداً من قِبَلِهم الأعمالَ ، وكان رأْيُه التّقيَّةَ لأعدائه والتألُّفَ لهم والمداراةَ ، وهذا يُضادُّ عندَ الزّيديّةِ علاماتِ الأمامةِ كما حَكَيْناه .
فأمّا الحَشْويّة فإِنّها تَدينُ بامِامةِ بني أُمَّيَةَ، ولا ترى لولدِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ إمامةً على حالٍ .
والمُعتزلةُ لا ترى الأمامةَ إلاٌ فيمن كانَ على رأيِها في الاعتزالِ ، ومن تَوَلَّوا - هم - العقدَ له بالشورى والاختيار، وزيدٌ على ما قدّمْنا ذكرَه خارج عن هذه الأحوال .
والخوارجُ لا ترى إِمامةَ من تولىّ أميرَ المؤمنينَ عليَّ بنَ أبي طالبٍ عليهِ السّلامُ ، وزيدٌ كانَ متولِّياً أباه وجدّه بلا اختلافٍ .
فصل

فأمّا الحسنُ بنُ الحسنِ فكانَ جليلاً رئيساً فاضلاً وَرِعاً ، وكانَ يَلي صدقاتِ أميرِ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ في وقتِه ، وله معَ الحَجَّاجِ خبرٌ رواه الزُّبيرُ بنُ بكّارٍ قالَ : كانَ الحسنُ بنُ الحسنِ والياً صدقاتِ أميرِ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ في عصرِه ، فسايرَ يوماً الحَجَّاجَ بنَ يوسفَ في موكبِه - وهو إِذْ ذاكَ أمير المدينةِ - فقالَ له الحَجَّاجُ : أدْخِلْ
(24)
عُمَرَ بنَ عليٍّ معَكَ في صدقةِ أبيه ، فإِنّه عمُكَ وبقيّةُ أهلِكَ ، فقالَ له الحسنُ : لا أُغيّرُشرطَ عليٍّ ولا أُدْخِلُ فيها من لمِ يُدْخِلْ ، فقالَ له الحَجَّاجُ : إِذاً أُدْخِله أنا معَكَ .
فنكصَ الحسنُ بنُ الحسنِ عنه (حتّى غفلَ)(1) الحَجَّاجُ ، ثمّ توجّهَ إِلى عبدِ الملكِ حتّى قَدِمَ عليه فوقفَ ببابهِ يَطلُبُ الإذن ، فمرّ به يحي بن أُمِّ الحَكَمِ فلمّا رآه يَحيى مالَ إِليه وسلّمَ عليه وسألَه عن مَقدَمِه وخبرِه ، ثمَّ قالَ : إِنِّي سأنفعُكَ عندَ أميرِ المؤمنينَ - يعني عبدَ الملكِ - فلمّا دخلَ الحسنُ ابنُ الحسنِ على عبدِ الملكِ رَحّبَ به وأحسنَ مُسَاءَلَتَه ، وكانَ الحسنُ قد أسرعَ إليه الشَّيبُ ، ويَحيى بن أُمِّ الحكمِ في المجلسِ ، فقالَ له عبدُ الملكِ : لقد أسرعَ إليكَ إليكَ الشيبُ يا با محمّدٍ ، فقالَ يَحيى : وما يمنعُه يا أمير المؤمنينَ ؟ شيَّبَه أمانيُّ أهلِ العراقِ ، يَفِدُ(2) عليه الرّكبُ يُمَنُّونَه الخلافةَ . فأقبلَ عليه الحسنُ فقالَ : بئْسَ والله الرِّفدُ رَفَدْتَ ، لست (3) كما قلتَ ، ولكنّا أهلُ بيتٍ يُسرعُ إِليناَ الشَّيبُ . وعبدُ الملكِ يَسمعُ ، فأقبلَ عليه عبدُ الملكِ فقالَ : هلّم بما (4) قدمتَ له ، فاخبرهَ بقولِ الحجّاج فقالَ: ليس ذلكَ له ، أكْتُبُ إِليه كتاباً لا يتجاوزه . فكتبَ إِليه ووصلَ الحسنَ بنَ الحسنِ فأحسنَ صِلَتَه .
فلمّا خرجَ من عندِه لَقِيَه يَحي بن أُمِّ الحكمِ ، فعاتبَه الحسن على
____________
(1) كذا في النسخ الثلاث ، لكن في هامش «ح » والبحار: حين غفل ، والظاهر ان الصحيح :
حتى قفل - بالقاف - أي رجع . انظر مختصر تاريخ دمشق 6 : 330 .
(2) في «م » وهامش «ش » : يغدو.
(3) في هامش «ش»: ليس .
(4) في «م » وهامش «ش»: ما.

(25)
سوء مَحْضَرِه وقالَ له : ما هذا الّذي وعدْتَني به ؟ فقالَ له يَحيى : إِيهاً عنكَ ، فواللهِ لا يَزالُ يَهابُكَ ، ولولا هَيْبَتُكَ ما قضى لكَ حاجةً، وما ألَوْتُكَ رِفْداً(1) .
وكانَ الحسنُ بنُ الحسنِ حضرَمعَ عمِّه الحسينِ بنِ عليٍّ عليهما السلام الطّفَّ، فلما قُتِلَ الحسينُ وأسِرَ الباقونَ من أهلِه، جاءه أسماءُ بنُ خارِجةَ فانتزعَه من بينِ الأسرى وقالَ : واللّهِ لا يُوصَلُ إِلى ابن خَوْلَةَ أبداً، فقالَ عُمَرُ بنُ سعدٍ : دَعُوا لأبي حَسَّان ابنَ أُختِه . ويُقالُ إِنّه أُسِرَ وكانَ به جِراح قد أشفى منها.
ورُويَ :أنّ الحسنَ بنَ الحسنِ خطبَ إلى عمِّه الحسينِ عليهِ السّلامُ إحدى ابنتيه ، فقالَ له الحسينُ : «اختَرْ يا بُنيَّ أحبَّهُما إِليكَ » فاستحيا الحسنُ ولم يُحرْ جواباً ، فقالَ الحسينُ عليهِ السّلامُ : «فإِنِّي قدِ اخترتُ لكَ ابنتي فاطَمةَ، وهي أكثرُهما شبهاً بأُمِّي فاطمةَ بنتِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِما»(2).
وقُبضَ الحسنُ بنُ الحسنِ رضوانَ اللهِ عليه وله خمسُ وثلاثونَ سنةً وأخَوه زيدُ بنُ الحسنِ حيُّ ، ووصّى إِلى أخيه من أُمِّه إِبراهيم بن محمّدِ بنِ طلحةَ .
____________
(1) وذكر البلاذري في انساب الاشراف 3 : 85|73 الخبر مختصراً ، وكذا الذهبي في سير أعلام النبلاء 4 : 485 ، وفي هامش السير نقله عن مصعب الزبيري في نسب قريش : 46 ، 47 ، وتاريخ دمشق لابن عساكر 4 : 218 آ ، ب ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44 : 166 .
(2) مقاتل الطالبيين : 180 ، الأغاني 21 : 115 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44 : 167 |3 .

(26)

ولمّا ماتَ الحسنُ بنُ الحسنِ رحمةُ اللهِّ عليه ضَرَبَتْ زوجتُه فاطمةُ بنتُ الحسينِ على قبرِه فسطاطاً، وكانتْ تقومُ الليلَ وتصومُ النّهارَ، وكانتْ تُشبَّهُ بالحورِ العينِ لجمالِها، فلمّا كانَ رأسُ السّنةِ قالتْ لمواليها : إِذا أظلمَ الليلُ فقَوِّضُوا هذا الفسطاطَ ، فلمّا أظلمَ الليلُ سَمِعَتْ قائلاً يقول هَلْ وَجَدُوا ما فَقَدُوا؟ فاجابَه آخرُ: بَلْ يَئِسُوْا فانْقَلَبُوْا .
ومضى الحسنُ بنُ الحسنِ ولم يَدَّعِ الأمامةَ ولا ادّعاها له مُدَّعٍ ، كما وصفْناه من حالِ أخيه زيدٍ رحمةُ اللّهِ عليهما.
* وأمّا عَمْروٌ والقاسمُ وعبدُ اللهِ بنو الحسنِ بنِ عليّ رضوانُ اللهِ عليهم فإِنَّهم استُشْهِدُوا بينَ يَدَيْ عمِّهم الحسينِ عليهِ السّلامُ بالطّفِّ رضيَ الله عنهم وأرضاهم وأحسنَ عن الدِّينِ والإسلام وأهلهِ جَزاءهم .
* وعبدُ الرّحمن بن الحسنِ رضيَ اللهُ عنه خرجَ معَ عمِّه الحسينِ عليهِ السّلامُ إِلى الحجِّ فتُوفِّيَ بالأبواءِ وهومُحْرِمٌ .
والحسينُ بنُ الحسنِ المعروفُ بالأثرم كانَ له فضلٌ ولم يكنْ له ذِكر في ذلك.
وطلحةُ بنُ الحسنِ كانَ جَواداً .
* * *