الارشاد الجزِء الثاني
باب
ذكر الأمام بعدَ الحسنِ بنِ عليّ
عليهما السّلامُ وتارَيخ مولدِه ، ودلائل إمامتهِ ،
ومبلغ سنِّه ، ومدّة خلافتِه ، ووقت وفاتِه وسببها ،
وموضع قبرِه ، وعدد أولادِه ، ومختصر من أخبارِه

والأمامُ بعدَ الحسنِ بنِ عليٍّ عليهما السّلامُ أخوه الحسينُ بنُ عليٍّ ، ابنُ فاطمةَ بنتِ رسولِ اللهِ صلّى اللّهُ عليهم بنصِّ أبيه وجَدِّه عليه ، ووصيّةِ أخيه الحسنِ إِليه .
كنيتهُ أبو عبدِاللهِّ . وُلِدَ بالمدينةِ لخمسِ ليالٍ خَلَوْنَ من شَعبانَ سنةَ أربعٍ منَ الهجرةِ، وجاءتْ به أُمُّه فاطمةُ عليهما السّلامُ إِلى جَدِّهِ رسولِ اللهِ صلّى اللّهُ عليهِ وآلهِ فاستبشرَ به وسمّاه حُسَيْنَاً وعَقَّ عنه كبشاً ؛ وهو وأخوه بشهادةِ الرّسولِ صلّى اللّهُ عليهِ وعليهما سيِّدا شبابِ أهل الجنّةِ، وبالاتِّفاقِ الّذي لا مِرْيَةَ فيه سِبطا نبيِّ الرّحمةِ .
وكانَ الحسنُ بنُ عليّ عليهما السلامُ يُشبَّهُ بالنّبيِّ صلّى الله عليهِ وآلهِ من صدرِه إِلى رأْسِه ، والحسينُ يُشبَّهُ به من صدرِه إِلى رجليه ، وكانا حبيبَيْ رسولِ الله صلّى اللّهُ عليهِ وآلهِ من بينِ جميعِ أهلهِ وولدِه .
روى زَاذانُ عن سلمانَ رضيَ اللهُ عنه قالَ : سمعتُ رسولَ اللهِ صلّى اللّهُ عليهِ وآلهِ يقولُ في الحسنِ والحسينِ عليهما السّلامُ :
( 28)
«اللّهمَّ إِنِّي أُحِبُّهما فأحِبَّهما (وأحِبَّ من أحبّهما)(1)»(2) .
وقالَ عليهِ وآلهِ السّلامُ : «مَنْ أحَبَّ الحسنَ والحسينَ - عليهما السّلامُ - أحْبَبْتُهُ ، ومن أحْبَبْتُهُ أحبّه اللهُّ ، ومن أحَبَّه اللهّ عزّ وجلّ أدْخَلَه الجنّةَ، ومن أبْغَضَهما أبْغَضْتُهُ ، ومن أبْغَضْتُهُ أبْغَضَه اللهُ ، ومن أبْغَضَهُ اللّهُ خَلَّدَه في النّارِ»(3) .
وقالَ عليهِ وآلهِ السّلامُ : «إِنّ ابنيَّ هذينِ رَيحانتايَ مِنَ الدُّنيا»(4) .
وروى زرُّ بنُ حُبَيْشٍ ، عنِ ابنِ مسعودٍ قالَ : كانَ النّبيُّ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ يصُلِّي فجاءه الحسنُ والحسينُ عليهما السّلامُ فارْتَدَفاه ، فلمّا رَفعَ رأسَه أخذَهما أخذاً رفيقاً، فلمّا عَادَ عادَا ، فلما انصرفَ أجلسَ هذا على فخذِه وهذا على فخذِه ، وقالَ : «مَنْ أحَبَّني فَلْيُحِبَّ هذينِ »(5).
____________
(1) في «م » وهامش «ش» : وأحبب من يحبهما.
(2) رواه الترمذي في سننه 5: 56 6| ذح 3769 عن اسامة بن زيد، وابن الأثير في أُسد الغابة 2 : 11 ، والمتقي الهندي في كنز العمال 13 : 37697|666، ورواه ابن عساكر عن مسند حصين بن عوف الخثعمي في تاريخ دمشق - ترجمة الامام الحسين عليه السلام -: 95 بدون جملة (وأحب من احبهما) فراجع هوامش الكتاب .
(3) ذكره الحاكم النيسابوري في مستدركه 3 : 666 باختلاف يسير، وابن عساكر في تاريخ دمشق - ترجمة الامام الحسين عليه السلام -: 97| 131 و 132|98 ، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب : 422 ، والمتقي الهندي في كنز العمال 12 : 119 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 43 : 275 |42 .
(4)ذكره البخاري في الصحاح 5: 33 ، باختلاف يسير، والترمذي في سننه 5 : 656| 3770 ، وابن عساكر في تاريخ دمشق - ترجمة الامام الحسين عليه السلام -: 38 - 58|39 - 60 ، وابن الأثير في اُسد الغابة 2 : 19 ، وابن الصباغ في الفصول المهمة : 154 ، والمتقي الهندي في كنز العمال 12 : 113 ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 43 :42|275 .
(5) روى نحوه البيهقي في سننه 2 : 263 ، وابن عساكر في تاريخ دمشق - ترجمة الامام

=


( 29)
وكانا عليهما السّلامُ حجّةَ اللهِ تعالى لنبيِّه عليهِ وآلهِ السّلامُ في المُباهلةِ ، وحجّةَ اللّهِ من بعد أبيهما أميرِ المؤمنينَ عليهِ وعليهما السّلامُ على الأمّةِ في الدِّينِ والأسلامِ والملّةِ .
وروى محمّدُ بنُ أبي عُمَيْرٍ ، عن رجالهِ ، عن أبي عبدِاللهّ عليهِ السّلامُ قالَ : «قالَ الحسنُ بنُ عليٍّ عليهما السّلامَُ لأصحابِه : إِنّ للّهِ تعالى مدينتينِ : إِحداهما في المشرقِ ، والأخرى في المغرب ، فيهما خَلْق للّهِ عزّ وجلّ لم يَهُمُّوا بمعصيةٍ له قطُّ ، واللهِّ مافيهما وَما بينَهما حجّةٌ للهِّ على خلقِه غيري وغيرُأخي الحسينِ »(1).
وجاءتِ الرِّوايةُ بمثلِ ذلكَ عن الحسينِ عليهِ السّلامُ أنّه قالَ لأصحابِ ابنِ زيادٍ : «ما بالُكم »(2) تَناصَرونَ عليَّ ؟ ! أمَ واللهِ لَئنْ قتلتموني لَتَقتُلُنَ حجّةَ اللهِّ عليكم ، لا واللهِ ما بينَ جَابَلْقَا وجَابَرْسَا ابنُ نبيٍّ احتجَّ اللّهُ به عليكم غيري »(3) يَعني بَجابَلْقَا وجَابَرْسَا المدينتينِ اللتينِ ذكرَهما الحسنُ أخوه عليهِ السّلامُ .
وكانَ من برهانِ كمالِهما وحجّةِ اختصاصِ اللهِ لهما - بعدَ الّذي ذكرْناه من مُباهلةِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُّ عليهِ وآلهِ بهما- بيعةُ رسولِ اللهِ لهما، ولم يُبايِعْ صبيّاً في ظاهرِ الحالِ غيرَهما، ونزولُ القرآنِ بإِيجابِ
____________
=
الحسين عليه السلام -: 83| 116 ، ومحب الدين الطبري في ذخائر العقبى : 131 و 132 ، والمتقي الهندي في كنز العمال 12 : 121 مختصرأ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 43 : 275 | 43 .
(1) أورد نحوه الصفار في بصائر الدرجات : 359| 4 و ه ، والكليني في الكافي 1: 384| 5 .
(2) في «م » وهامش «ش » : ما لكم .
(3) انظر نحوه في الطبري 3 : 319، الكامل 4 : 62 .

( 30)
ثواب الجنّةِ لهما على عملِهما معَ ظاهر الطّفوليّةِ فيهما، ولم ينزلْ بذلكَ في مثلِهماَ، قالَ اللّهُ عزّ اسمُه في سورةِ هل أتى : ( وَيُطْعِمُوْنَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيْنَاً ويَتِيْمَاً وأسِيْرَاً* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيْدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوْرَاً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمَاً عَبُوْسَاً قَمْطَرِيْرَاً * فَوَقَاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوْرَاً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوْا جَنَّةً وَحَرِيْر )(1) فعمَّهما هذا القولُ معَ أبيهما وأمِّهما عليهم السّلامُ ، وتضمَّنَ الخبرُ نُطقَهما في ذلكَ وضميرَهما الدّالّينِ على الآيةِ الباهرةِ فيهما، والحجّةِ العُظمى على الخلقِ بهما، كما تضمَّنَ الخبر عن نُطقِ المسيح عليه السّلامُ في المهدِ وكانَ حُجَّةً لنًبُوَّته ، واختصاصِه منَ اللّهِ بالكرامةِ الدّالّةِ على محلِّه عندَه في الفضلِ ومكانِه .
وقد صرّحَ رسول اللّهِ صلّى اللهُّ عليهِ والهِ بالنّصِّ على إِمامتهِ وامامةِ أخيه من قبلهِ بقولهِ : « ابناي هذانِ إِمامانِ قاما أوقعدا» ودَلّت وصيّةُ الحسنِ عليهِ السّلامُ إِليه على إِمامتِه ، كما دَلّتْ وصيّةُ أميرِ المؤمنينَ إِلى الحسنِ على إِمامتهِ ، بحسبِ ما دَلّتْ وصيّةُ رسولِ اللّهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ إِلى أميرِ المؤمنينَ على إِمامتهِ من بعدِه .
فصل

فكانتْ إِمامةُ الحسينِ عليهِ السّلامُ بعدَ وفاةِ أخيه بما قدّمناه ثابتةً،وطاعتُه - لجَميعِ الخلقِ - لازمة، وِإن لم يَدْعُ إِلى نفسِه عليهِ السّلامُ
____________
(1) الانسان 76 : 8 - 12 .
( 31)
للتّقيّةِ الّتي كانَ عليها، والهُدنةِ الحاصلة بينَه وبينَ معاوية بن أبي سفيانَ فالتزمَ الوفاءَ بها، وجرى في ذلكَ مجرى أَبيهِ أميرِ المؤمنينَ عليهِ السّلامُ وثبوتِ إِمامتهِ بعدَ النّبيِّ صلّى اللهً عليهِ وآلهِ معَ الصموتِ ، وِامامةِ أخيه الحسنِ عليهِ السّلامُ بعدَ الهُدنةِ معَ الكفِّ والسُّكوتِ ، وكانوا في ذلكَ على سنَن نبيِّ اللّهِ صلّى اللهُّ عليهِ وآلهِ وهوفي الشِّعب محصورٌ ، وعندَ خروجِه مهاجِرأ من مكّةَ مستخفِياً في الغار وهو من أعدائه مستورٌ .
* فلمّا ماتَ معاويةُ وانقضتْ مُدَّةُ الهُدنةِ الّتي كانتْ تمنعُ الحسينَ ابنَ عليِّ عليهما السّلامُ منَ الدّعوةِ إِلى نفسه ، أظهرَ أمرَه بحسب الأمكاَنِ ، وأبانَ عن حقه للجاهلينَ به حالاً بحالٍ ، إِلى أنِ اجتمع لهَ في الظاهر الأنصارُ. فدعا عليهِ السّلامُ إِلى الجهادِ وشمّرَ(1) للقتالِ ، وتوجّه بولدِه وأهلِ بيتهِ من حرَمِ اللّهِ وحرَمِ رسولهِ نحوَ العراقِ ، للاستنصارِ بمن دعاه من شيعتهِ على الأعداءِ . وقدّمَ أمَامَهُ ابنَ عمِّه مُسلِمَ بنَ عقيلٍ - رضيَ اللهُ عنه وأرضاه - للدّعوةِ إِلى اللهِّ والبيعةِ له على الجهادِ، فبايَعه أهلُ الكوفةِ على ذلكَ وعاهدوه ، وضَمِنُوا له النصرةَ والنصّيحةَ ووَثَّقوا له في ذلكَ وعاقدوه ، ثمّ لم تطُلِ المُدّةُ بهم حتّى نكثوا بيعتَه وخذلوه وأسلموه ، فقُتِلَ بينهم ولم يمنعوه ، وخرجوا إِلى الحسين عليهِ السّلامُ فحصروه ومنعوه المسيرَفي بلادِ اللّهِ ، واضطرُّوه إِلى حيث لا يَجِدُ ناصراً ولا مَهْرباً منهم ، وحالوا بينَه وبينَ ماءِ الفُراتِ حتّى تمكَّنوا منه وقتلوه ، فمضى عليهِ السّلامُ ظَمآنَ مجاهداً صابراً
____________
(1) في هامش «ش »: وتشمر.
( 32)
محتسباً مظلوماً، قد نُكِثَتْ بيعتُه ، واستُحِلَّتْ حرمتُه، ولم يُوفَ له بعهدٍ ، ولا رُعيَتْ (1) فيه ذِمَّةُ عَقْدٍ ، شهيداً على ما مضى عليه أبوه وأخوه عليهما أَفضل الصّلاةِ والرّحمةِ والتّسليمِ .
فصل
فمن مختصر الأخبارِ الّتي جاءتْ بسبب دعوته عليهِ السلامُ وما أخذَه
على النّاسِ في الجهادِ من بيعتِه ، وذكرِ جملةٍ منَ أمرِه وخروجِه ومقتلِه .
ما رواه الكَلبيُّ والمدائنيُّ وغيرُهما من أصحاب السِّيرةِ قالوا : لمّا ماتَ الحسنُ بنُ عليٍّ عليهما السّلامُ تحرّكتِ الشِّيعةُ بالعراقِ وكتبوا إِلى الحسينِ عليهِ السّلامُ في خلعِِ معاويةَ والبيعةِ له ، فامتنعَ عليهم وذكرَ أنّ بينَه وبينَ معاويةَ عهداً وعقداَ لا يجوزُ له نقضُه حتّى تمضِيَ المُدّةُ، فإِن ماتَ معاويةُ نظرَ في ذلكَ .
فلمّا ماتَ معاويةُ - وذلكَ للنِّصفِ (2) من رجب سنة ستِّينَ منَ الهجرةِ - كتبَ يزيدُ إِلى الوليدِ بنِ عُتْبة بن أبي سفيانَ - وكانَ على المدينةِ من قِبَلِ معاويةَ - أن يأْخذَ الحسينَ عليهِ السّلامُ بالبيعةِ له، ولا يُرخِّصَ له في التّأخُّرِعن ذلكَ . فأنفذَ الوليدُ إِلى الحسينِ عليهِ السّلامُ في الليلِ فاستدعاه ، فعَرفَ الحسينُ الّذي أرادَ فدعا جماعةً من مواليه وأمرَهم بحملِ السِّلاحِ ، وقالَ لهم : «إِنّ الوليدَ قد
____________
(1) في هامش «ش » و «م » : روعيت .
(2) في هامش«ش »و«م »: في النصف .

(33)
استدعاني في هذا الوقتِ ، ولستُ آمَنُ أن يُكلِّفني فيه أمراً لا أُجيبُه !ليه، وهو غيرُ مأْمونٍ ، فكونوا معي ، فإِذا دخلتُ إِليه فاجلِسوا على البابِ ، فإِن سمعتم صوتي قد علا فادخُلوا عليه لتمنعوه منِّي .
فصارَ الحسينُ عليهِ السّلامُ إلى الوليدِ فوجدَ عندَه مروانَ بنَ الحكمِ ، فنعى الوليدُ إِليه معاويةَ فاسترجعَ الحسينُ عليهِ السّلامُ ، ثم قرأ كتابَ يزيدَ وما أمرَه فيه من أخذِ البيعةِ منه له ، فقالَ له الحسينُ : «إِنِّي لا أراكَ تَقنعُ ببيعتي ليزيدَ سرّاً حتّى أُبايعَه جهراً ، فيعرف الناسُ ذلكَ » فقالَ الوليدُ له : أجل ، فقالَ الحسينُ عليهِ السَّلامُ : «فتصبحُ وترى ريكَ في ذلكَ » فقالَ له الوليدُ: انصرفْ على اسمِ اللّهِ حتّى تأْتينا معَ جماعةِ النّاسِ . فقالَ له مروانُ : واللهِ لئن فارقَكَ الحسينُ السّاعةَ ولم يُبايعْ لا قَدرت منه على مثلِها أبداً حتّى يكثرَ القتلى بينَكم وبينَه ، احبسِ الرّجلَ فلا يخرج من عندِكَ حتّى يبايعَ أوتضربَ عنقَه . فوثبَ عندَ ذلكَ الحسينُ عليهِ السّلامُ وقالَ : «أنتَ - يا ابنَ الزّرقاءِ- تَقتلني أو هو؟! كذبتَ واللّهِ وأثمتَ » وخرجَ (يمشي ومعَه)(1) مواليه حتّى اتى منزلَه .
فقالَ مروان للوليد ِ: عصيتَني ،لا واللهِ لا يُمكِّنكَ مثلَها مِن نفسِه أبداً، فقالَ الوليدُ : (الويح لغيرك)(2) يا مروانُ إِنَّكَ اخترتَ لي الّتي فيها هلاكُ ديني ، واللّهِ ما أُحِبُّ أنّ لي ما طلعتْ عليه الشّمسُ وغربتْ عنه من مالِ الدُّنيا وملكِها وأنّي قتلتُ حسيناً، سبحانَ اللهِّ ! أقتلُ حسيناً أنْ
____________
(1) في هامش «ش » و«م »: فمشى معه .
(2) في هامش «ش » و«م» : ويح غيرك ، وما أثبتناه من «ش » و«م » و«ح» . قال العلامة المجلسي في البحار 44 : 360 : قال هذا تعظيماً له ، أي لا اقول لك ويحك بل أقول لغيرك .

( 34)
قالَ لا أُبايعُ ؟! واللهِ إنَي لأظنُّ أنّ امراً يُحاسبُ بدمِ الحسينِ خفيفُ الميزانِ عندَ اللهِ يومَ القيامةِ . فقالَ له مروانُ : فإِذا كانَ هذا رأيك فقد أصبتَ فيما صنعتَ ؟ يقولُ هذا وهوغيرُ الحامدِ له في رأْيِه (1).
* فأقامَ الحسينُ عليهِ السّلامُ في منزلهِ تلكَ الليلَة، وهي ليلةُ السبتِ لثلاثٍ بَقِيْنَ من رجبِ سنةَ ستَينَ . واشتغلَ الوليدُ بنُ عُتْبةَ بمراسلةِ ابنِ الزُّبيرِ في البيعةِ ليزَيدَ وامتناعِه عليه . وخرجَ ابنُ الزُبيرِمن ليلتِه عنِ إلمدينةِ متوجِّهاً إِلى مكّةَ ، فلمّا أصبحَ الوليدُ سرّحَ في أثرِه الرِّجالَ ، فبعثَ راكباً من موالي بني أُمّيةَ في ثمانينَ راكباً، فطلبوه فلم يُدرِكوه فرجعوا .
فلمّا كانَ آخر (نهارِ يوم)(2) السّبتِ بعثَ الرِّجالَ إِلى الحسينِ بنِ عليِّ عليهما السّلامُ ليحضرَ فيبايعِ الوليدَ ليزيد بن معاويةَ، فقالَ لهم الحسَينُ : «أصبِحوا ثمّ تَرَوْن ونرَى» فكفُّوا تلكَ الليلةَ عنه ولم يُلِحُّوا عليه . فخرجَ عليهِ السّلامُ من تحتِ ليلتِه - وهي ليلةُ الأحدِ ليومين بَقِيا من رجبٍ - متوجِّهاً نحوَمكّةَ ومعَه بنوه واخوتُه وبنوأخيه وجُلُّ أهلِ بيتهِ إلأ محمّدَ بنَ الحنفيّةِ - رضوان اللهِ عليه - فإِنّه لمّا علمَ عزمَه على الخروجِ عنِ المدينةِ لَم يدْرِ أينَ يتوجّهُ ، فقالَ له : يا أخي أنتَ أحبُّ النّاس إِليَّ وأعزُّهم عليَّ ولستُ أَدّخِرُ النّصيحةَ لأحدٍ منَ الخلقِ إِلا لكَ وأَنتَ أحقُّ بها، تَنَحَّ ببيعتِكَ عن يزيد بن معاويةَ وعنِ الأمصارِ ما استطعتَ ، ثمّ ابعثْ رُسُلَكَ إِلى النّاسِ فادعُهم إِلى نفسِكَ ، فإِن تابَعَكَ النّاسُ وبايَعوا لكَ حمدتَ اللهَّ على ذلكَ ، وإن
____________
(1) تاريخ الطبري 5 : 339 .
(2) في هامش «ش » : النهار من يوم .

( 35)
أجمعَ النّاسُ على غيرِكَ لم يَنْقُصِ اللّهُ بذلكَ دينَكَ ولا عقلَكَ ولا تَذْهَب به مروءتُكَ ولا فضلُكَ ؛ إِنّي أخافُ أن تَدخلَ مصراً من هذه الأمصارِ فيختلف النّاسُ بينَهم فمنهم طائفةٌ معَكَ وأُخرى عليكَ ، فيقتَتِلونَ فتكونُ أنتَ لأوّلِ الأسِنَّةِ، فإِذا خيرُهذه الأُمّةِ كلِّها نفساً وأباً وأُمّاً أضيعُها دماً وأذلُّها أهلاً، فقالَ له الحسينُ عليهِ السّلامُ : «فأينَ أذهبُ يا أخي ؟» قالَ : انزلْ مكّةَ فإِنِ اطمأنّتْ بكَ الدّارُ بها فسبيلُ ذلكَ ، وِإن (نَبَت بك)(1) لحقتَ بالرِّمالِ وشَعَفِ الجبالِ وخرجتَ من بلدٍ إِلى بلدٍ ، حتّى تنظرَ(ما يصيرُأمرُ النّاسِ إِليه)(2)، فإِنّكَ أصوبُ ما تكونُ رأياً حينَ تستقبَلُ الأمرَ استقبالا. فقالَ : «يا أخي قد نصحتَ وأشفَقْتَ ، وأرجو أن يكونَ رأْيُكَ سديداً موفّقاً» .
فسارَ الحسينُ عليهِ السّلامُ إلى مكّةَ وهو يقرأ: ( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفَاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّني مِنَ الْقَوْم الظَالِميْنَ )(3) ولزمَ الطّريقَ الأعظمَ ، فقالَ له أهلُ بيتِه : لوتنكّبْتَ الطَّريقَ الأَعظمَ كما صنعَ (4) اَبنُ الزُّبيرِلئلاّ يلحقَكَ الطّلبُ ، فقالَ : «لا واللّهِ لا أُفارقُه حتّى يقضيَ اللّهُ ما هوقاضٍ » .
ولمّا دخلَ الحسينُ مكّةَ كانَ دُخُولُه إِليها(5) ليلةَ الجمعةِ لثلاث مَضَيْنَ من شعبانَ ، دخلهَا وهو يقرأُ: ( وَلَمِّا تَوَجَّههَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قالَ
____________
(1) نبت بك : أي لم تجد بها قراراً، ولم تطمئن عليها . .«انظر لسان العرب - نبا - 15 : 302».
(2) في هامش «ش »: الى ما يصير امر الناس .
(3)القصص 28 : 21.
(4) في هامش «ش » و «م » : فعل .
(5) في هامش «ش »: أياها.

( 36)
عَسَى رَبِّيْ أنْ يَهْدِيَنيْ سَوَاءَ السَّبِيْل )(1)ثمّ نزلَهاوأقبلَ أهلُها يختلفونَ إِليه ، ومن كانَ بها من المعتمرينَ وأَهل الآفَاقِ ، وابنُ الزُّبيرِ بها قد لزمَ جانبَ الكعبةِ فهو قائمٌ يصلِّي عندَها ويطوفُ ، وياْتي الحسينَ عليهِ السّلامُ فيمن ياْتيه، فيأْتيه اليومينِ المتواليينِ وياْتيه بينَ كلِّ يومينِ مرّةً، وهو أثقلُ خلقِ اللهِّ على ابنِ الزُبيرِ، قد عرفَ أنّ أهلَ الحجازِ لا يُبايعونَه ما دامَ الحسينُ عليهِ السّلامُ في البلدِ(2)، وأنّ الحسينَ أطوعُ في النّاس منه وأجلُ .
وبلغَ أهل الكُوفةِ هلاك معاويةَ فأرجفوا بيزيدَ، وعَرفوا خبرَ الحسينِ عليهِ السّلامُ وامتناعَه من بيعتهِ ، وما كانَ من ابنِ الزُّبيرِ في ذلكَ ، وخروجهما إِلى مكّةَ، فاجتمعتِ الشِّيعةُ بالكوفةِ في منزلِ سُليمان ابن صُرَد، فذكروا هلاكَ معاويةَ فحمدوا اللهَ عليه ، فقالَ سليمانُ : إِنّ معاويةَ قد هلكَ ، وانّ حُسَيناً قد تَقَبَّضَ (3)على القوم ببيعتِه ، وقد خرجَ إِلى مكّةَ، وأنتم شيعتُه وشيعةُ أبيه ، فإِن كنتم تعَلمونَ أنّكم ناصِروه ومجاهِدو عَدوِّه (فاعلموه ، وان خفتم الفشل والوهن فلا تغروا الرجل في نفسه ، قالوا : لا، بل نقاتل عدوه ، ونقتل انفسنا دونه ، قال : )(4)؛ فكَتَبُوا :
بسمَ اللّهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
للحسينِ بنِ عليٍّ عليهما السّلامُ من سُليمان بن صُرد،والمسَيَّبِ
____________
(1) القصص 28 : 22 .
(2) في «م » وهامش «ش » : بالبلد .
(3) تقبّض ببيعته : انزوى بها ولم يعطهم اياها «لسان العرب - قبض - 7 : 213» .
(4) في «ش » و«م »: بدل ما بين القوسين : ونقتل أنفسنا دونه.

( 37)
ابن نَجَبَةَ، ورِفاعة بن شدّادٍ ، وحبيبِ بنِ مُظاهِر(1)، وشيعتِه من المؤمنينَ والمسلمينَ من أهلِ الكوفةِ :
سلامٌ عليك ، فإِنّا نحمدُ إِليكَ اللهَ الّذي لا إِلهَ إلا هو.
أمّا بعدُ : فالحمدُ للّهِ الّذي قصمَ عدوَّكَ الجبّارَ العنيدَ، الّذي انتزى على هذهِ الأمّةِ فابتَزَها أمرَها، وغصبَها فيئَها، وتأمّرَ عليها بغيرِ رضىً منها، ثمّ قتلَ خيارَها واستبقى شِرارَها، وجعلَ مالَ اللّهِ دُوْلةً بينَ (جبابرتِها وأغنيائها)(2)، فبعُداً له كما بَعدَتْ ثمودُ . إِنّه ليسَ علينا إِمامٌ ، فأقبِلْ لعلّ اللّهَ أن يجمعَنا بكَ على الحقِّ ؛ والنُّعمانُ بنُ بشيرٍ في قصرِ الأمارة لسْنا نجَمِّعُ معَه في جمعةٍ ولا نخرجُ معَه إِلى عيدٍ ، ولوقد بَلَغَنا أنّكَ أَقبلتَ إِلينا أخرَجْناه حتّى نُلحقَه بالشّامِ إِن شاءَ اللّهُ .
ثمّ سرّحوا الكتابَ (3) معَ عبدِاللهِ بنِ مِسْمَعٍ الهَمْدانيّ وعبدِاللّهِ ابنِ والٍ ، وأمروهما بالنّجاءِ(4)، فخرجا مُسرِعَيْنِ حتّى قدما على الحسينِ عليهِ السّلامُ بمكّةَ(5)، لعشرٍ مَضَيْنَ من شهرِ رمضانَ .
(ولبثَ أهلُ الكُوفةِ يومينِ بعدَ تسريحِهم)(6) بالكتاب ، وأنفذوا قيسَ بنَ مُسْهِرٍ الصَّيْداويّ و (عبدَ الرّحمن بن عبدِ الله الأرحبّي )(7) وعمارةَ
____________
(1) في هامش «ش »و«م »: مظهَر.
(2) في هامش «ش » و «م » : عتاتها واغنيائها .
(3) في هامش «ش » : بالكتاب .
(4) النجاء : السرعة « القاموس المحيط - نجو- 4 : 393» .
(5) في «م » وهامش «ش »: مكة.
(6) في «م » وهامش «ش»: ثم كتب أهل الكوفة بعد تسريحهم .
(7) في النسخ الخطية : عبدالله بن شداد الأرحبي ، وبعده بأسطر ذكره باسم عبد الرحمن

( 38)
ابنَ عبدٍ السّلوليّ إِلى الحسينِ عليهِ السّلام ومعَهم نحوٌ من مائةٍ وخمسينَ صحيفةً منَ الرّجلِ والاثنينِ والأربعةِ .
ثمّ لبثوا يومينِ آخرينِ وسرّحوا إِليه هانئ بنَ هانئ السّبيعيّ وسعيدَ بنَ عبدِاللهِّ الحنفيّ ، وكتبوا إِليه : بسمِ اللهِّ الرّحمنِ الرّحيمِ ، للحسينِ بنِ عليٍّ من شيعتهِ منَ المؤمنينَ والمسلمينَ .
أمّا بعدُ: فحيَّ هلا، فإِنّ النّاسَ ينتظرونَكَ ، لا رأيَ لهم غيركَ ، فالعجلَ العجلَ ، ثمّ العجلَ العجلَ ،والسلامُ .
وكتبَ شَبَثُ بنُ رِبعيّ وحجَّارُ بنُ أبجرَ ويزيدُ بنً الحارثِ بنِ رُوَيمٍ و(عروةُ بنُ قيسٍ)(1) ، وعمروبنُ الحجّاجِ الزّبيديّ و(محمّد بنُ عمرو التّيميّ)(2): أمّا بعدُ : فقد اخضرَّ الجَناب وأينعتِ الثِّمارُ، فإِذا شئتَ فاقدمْ على جُندٍ لكَ مجنَّدٍ ، والسّلامُ .
وتلاقتِ الرُسّلُ كلًّها عندَه ، فقرأ الكُتُبَ وسألَ الرّسلَ عنِ النّاسِ ، ثمّ كتبَ معَ هانئ بنِ هانئ وسعيدِ بنِ عبدِاللّهِ وكانا آخرَ الرُّسُلَ :
____________
ابن عبدالله الارحبي والمصادر مجمعة عليه انظر ،(تاريخ الطبري 5 : 352، انساب الاشراف للبلاذري 3 : 158 ، الفتوح لابن اعثم 5: 32، وقعة الطف لابي مخنف : 92 ، تذكرة الخواص : 220 ، وفي الاخبار الطوال : 229 : ابن عبيد .
(1) لم نجد في كتب الرجال عروة بن قيس ، والظاهر ان الصحيح عزرة بن قيس، انظر تاريخ الطبري 5: 353، انساب الاشراف 3 : 158 ، وهو عزرة بن قيس بن عزية الاحمس البجلي الدهني الكوفي .
(2) كذا في النسخ الخطية، ولم نجد له في كتب الرجال ترجمة، والظاهر ان الصحيح محمد بن عمير التميمي ، انظر تاريخ ألطبري 5 : 353، انساب الاشراف 3 : 158 ، وهو محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب الدارمي التميمي الكوفي ، كان من اشراف أهل الكوفة، لسان الميزان 330:5، مختصر تاريخ دمشق 23 : 151 .

( 39)
« بسمِ اللّهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
منَ الحسينِ بنِ عليٍّ
إِلى الملإِ منَ المسلمينَ والمؤمنينَ .
أمّا بعد : فإِنّ هانئاً وسعيداً قَدِما عليَّ بكتبكم ، وكانا آخرَ من قدمَ عليَّ من رسلِكم ، وقد فهمت كلَّ الّذي اقتصصتم وذكرتم ، ومقالة جُلِّكم : أنّه ليسَ علينا إِمامٌ فأقبلْ لعلّ اللّهَ أن يجمعَنا بكَ على الهدى والحقِّ . وإِنِّي باعثٌ إِليكم أخي وابنَ عمِّي وثقتي من أهلِ بيتي ، فإِن كتبَ إِليَّ أنّه قدِ اجتمعَ رأيُ مَلَئِكم وذوي الحِجا والفضلِ (1) منكم على مثلِ ما قدمتْ به رُسُلُكم وقرأتُ في كُتُبِكم ، أقدم عليكم وشيكاً إِن شاءَ اللّهُ . فَلعَمري ما الأمامُ إلأ الحاكمُ بالكتاب ، القائمُ بالقسطِ ، الدّائنُ بدينِ الحقِّ ، الحابسُ نفسَه على ذَاتِ اللّهِ ، والسّلامُ » .

ودعا الحسينُ بنُ عليٍّ عليهما السّلامُ مسلمَ بنَ عقيلِ بنِ أَبي طالبِ رضيَ اللهُّ عنه فسرَّحَه معَ قيسِ بنِ مُسْهِرِ الصّيداويّ وعُمارة بن عبدٍ السَّلوليّ وعبدِ الرّحمنِ بنِ عبدِاللّهِ الأَرحبي ، وأَمرَه بتقوى اللهِّ وكتمانِ أمرِه واللطفِ ، فإِنْ رأَى النّاسَ مجتمعينَ مُسْتوسِقِينَ عَجَّلَ إِليه بذلكَ .
فأقبلَ مسلمٌ حتّى أَتى المدينةَ فصلّى في مسجدِ رسولِ اللّهِ صلّى اللّهُ عليهِ والهِ وودعِ من أَحبَّ من أَهلِه ثمّ استأْجرَ دليلينِ من قيس ،
____________
(1) في هامش «ش » و «م » : الفضيلة .
( 40)
فأقبلا به يتنكّبانِ الطّريقَ ، فضلاّ وأصابَهم عطشٌ شديدٌ فعجزا عنِ السّيرِ، فأومئا له إِلى سَنَنِ الطّريقِ بعدَ أنْ لاحَ لهما ذلكَ ، فسلكَ مسلمٌ ذلكَ السَّنَنَ وماتَ الدّليلانِ عطشاً.
فكتبَ مسلم بنُ عقيلٍ - رحمهَ اللّهُ - منَ الموضعِ المعروفِ بالمضيقِ معَ قيسِ بنِ مُسْهِرٍ : أمّا بعدُ: فإِنّني أقبلتُ منَ المدينةِ معَ دليلينِ لي فجارَا عنِ الطّريقِ فضلاّ واشتدَّ علينا(1)، العطشُ فلم يلبثا أن ماتا، وأقبلْنا حتّى انتهينا إِلى الماءِ فلم نَنْجُ إلاّ بحُشاشةِ أَنفسِنا، وذلكَ الماءُ بمكانٍ يدعى المضيقَ من بطنِ الخَبْتِ (2)، وقد تطيَّرتُ من وجهي هذا ، فإِنْ رأَيتَ أَعفيتَني منه وبعثتَ غيري ، والسّلامُ .
فكتبَ إِليه الحسينُ بنُ عليٍّ عليهما السّلام :
«أمّا بعدُ : فقد خَشيتُ (3)أن لا يكونَ حَمَلَكَ على الكتابِ إِليَّ في الاستعفاءِ منَ الوجهِ الّذي وجّهتُك له إلاّ الجُبْنُ ، فامضِ لوجهِكَ الّذي وجّهتُكَ له ، والسّلامُ » .

فلمّا قرأَ مسلمٌ الكتابَ قالَ : أَمّا هذا فلستُ أتخوّفُه على نفسي . فأَقبلَ حتّى مرَّ بماءٍ لِطَيءٍ فنزلَ به ثمّ ارتحلَ منه ، فإِذا رجلٌ يرمي الصّيدَ فنظرَ إِليه قد رمى ظَبْياً حينَ أشرفَ(4) له
____________
(1) في «م » وهامش «ش»: عليهما.
(2) الخبت : ماء لقبيلة كلب «معجم البلدان - خبت -2 : 343».
(3) في هامش «ش » و «م » : حسبت .
(4) في هامش «ش » و «م » : اشرأبّ . ومعناه : مدّ عنقه لينظر. «الصحاح - شرب - 1 : 154 » .

(41)
فصرعَه ، فقالَ مسلمٌ : نقتلُ عدوَّنا إِن شاءَ اللهُّ . ثمّ أَقبلَ حتّى دخلَ الكوفةَ، فنزلَ في دار المختارِ بنِ أَبي عُبَيْدٍ ، وهي الّتي تدعى اليومَ دارَ سَلْمِ بنِ المسيَّب . وَأَقبلتِ الشِّيعةُ تختلفُ إِليه ، فكلما اجتمعَ إِليه منهم جماعةٌ قرأَ عليهَم كتابَ الحسينِ بنِ عليٍّ عليهما السّلامُ وهم يبكونَ ، وبايعَه النّاسُ حتّى بايَعَه منهم ثمانيةَ عشرَ أَلفاً، فكتبَ مسلمٌ رحمه اللّه إِلى الحسينِ عليهِ السّلامُ يُخبرهُ ببيعةِ ثمانيةَ عشرَأَلفاً ويأْمرُه بالقدوم . وجعلت الشِّيعةُ تختلفُ إِلى مسلمِ بنِ عقيلٍ رضيَ اللهَّ عنه حتّى عُلِمَ مكانُه (1)، فبلغَ النُّعمانَ بنَ بشيرٍ ذلكَ - وكانَ والياً على الكوفةِ من قِبَلِ معاويةَ فأقرَّه يزيدُ عليها - فصعدَ المنبرَ فحمدَ اللّهَ وأثنى عليه ثمّ قالَ :
أمّا بعدُ: فاتّقوا اللّهَ - عبادَ اللّه - ولا تُسارعوا إِلى الفتنةِ والفُرقةِ، فإِنّ فيها يَهْلِك الرِّجالُ ، وتُسْفَكُ الدِّماءُ ، وتُغْتَصَبُ (2) الأَموالُ ، إِنّي لا أُقاتلُ من لا يُقاتلني ، ولا آتي على من لم يأْتِ عليَّ ، ولا أُنبِّهُ نائمَكم ، ولا أتحرّشُ بكم ، ولا آخُذُ بالقَرْفِ (3) ولا الظِّنّةِ ولا التُّهمةِ، ولكنَّكم إِن أبديتم صفحتَكم لي ونكثتم بيعتَكم وخالفتم إِمامَكم ، فوَاللّهِ الّذي لا إِلهَ غيرُه ، لأضربَنَّكم بسيفي ما ثبتَ قائمهُ في يدي ، ولو لم يكنْ لي منكم ناصرٌ . أما إِنِّي أرجو أن يكونَ من يعرفً الحقَّ منكم أَكثرَ ممّن يُرديه الباطلُ .
فقامَ إِليه عبدُاللّه بن مسلمِ بن ربيعةَ الحضرميّ ، حليف بني أُميّةَ،
____________
(1) في هامش «ش» : بمكانه .
(2) في هامش «ش » : وتغصب .
(3) القرف : التهمة «الصحاح - قرف - 4 :1415».

( 42)
فقالَ : إِنَّه لا يُصلحُ ما ترى إِلاّ الغَشْمُ ؛ إنَّ هذا الّذي أَنتَ عليه فيما بينَكَ وبينَ عدوِّكَ رأيُ المستضعفينَ . فقالَ له النُّعمانُ : أَكون (1) من المستضعفينَ في طاعةِ اللهِّ ، أَحبّ إِليَّ من أَن أكونَ من الأَعزِّينَ في معصيةِ اللّهِ . ثمّ نزلَ .
وخرجَ عبداللهِّ بن مسلمٍ فكتبَ إِلى يزيد بن معاويةَ : أَمّا بعدُ : فإِنّ مُسلمَ بنَ عقيلٍ قد قدمَ الكوفَة، فبايعَتْه الشِّيعةُ للحسينِ بنِ عليِّ ، فإِنْ يَكُ لكَ في الكوفةِ حاجة فابعثْ إِليها رجلاً قويّاً، يُنَفِّذُ أَمرَكَ وَيعملُ مثلَ عملِكَ في عدوِّكَ ، فإِنّ النُّعمانَ بنَ بشيرٍ رجلٌ ضعيفٌ أو هو يَتَضعَّفُ . ثمّ كتبَ إِليه عُمارةُ بنُ عُقْبَةَ بنحوٍ من كتابه ؟ ثمّ كتبَ إِليه عُمَرُ ابنُ سعدِ بنِ أَبي وقّاصٍ مثلَ ذلكَ .
فلمّا وصلتِ الكتبُ إِلى يزيدَ دعا سَرْجُونَ مولى معاويةَ فقالَ : ما رأْيُكَ ؟ إِنَّ حسيناً قد وجّهَ إِلى الكوفةِ مسلمَ بنَ عقيل يُبايِعُ له ، وقد بَلَغَني عنِ النُّعمانِ بنِ بشيرٍ ضعفٌ وقولٌ سَيئ، فمَنْ تَرى أَن أَستعملَ على الكوفةِ؟ وكانَ يزيدُ عاتباً على عُبيدِاللهِّ بن زيادٍ ؟ فقالَ له سَرْجُون : أرأيتَ معاويةَ لو نُشِرَ(2) لكَ حيّاً أَما كنتَ اخَذاً برأْيه ؟ قالَ : نعم . قال : فأخرجَ سرجُونُ عهدَ عبيدِاللهِّ بنِ زيادٍ على الكوفةِ وقاَلَ : هذا رأْيُ معاويةَ، ماتَ وقد أمرَ بهذا الكتاب ، فضُمَّ المِصرينِ إِلى عُبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ ، فقالَ له يزيدُ : أفْعَلُ ، ابعثْ بعهدِ عَبيدِاللهِّ إِليه . ثمّ دعا مسلمَ بنَ عَمرو الباهليّ وكتبَ إِلى عبيدِاللّهِ بن زيادٍ معَه :
أَمّا بعدُ : فإِنّهَ كَتَبَ إِليَّ شيعتي من أَهلِ الكُوفةِ ، يُخبروني أنّ ابن
____________
(1) في هامش «ش » و«م »: لئن اكون.
(2) في «م » وهامش « ش » : انشر.

( 43)
عقيلٍ بها يَجمعُ الجمُوعَ ويشقُّ (1) عصا المسلمينَ ، فسِرْحينَ تقرأ كتابي هذا حتّى تأْتيَ الكوفةَ، فتطلب ابنَ عقيلٍ طَلَبَ الخرزَةِ حتّى تَثْقَفَهُ فتُوثقَهُ أَو تَقْتُلَهُ أَو تَنْفِيَهُ ، والسّلامُ .
* وسلّمَ إِليه عهدَه على الكوفةِ . فسارَ مسلمُ بنُ عمرو حتّى قدمَ على عُبيدِاللّهِ بالبصرةِ ، فأوصلَ إِليه العهدَ والكتابَ ، فأمَرَ عُبيدُاللهِّ بالجهازِ من وقتهِ ، والمسيرِ والتّهيًّؤ إِلى الكوفةِ منَ الغدِ، ثمّ خرجَ منَ البصرةِ واستخلفَ أَخاه عًثمانَ ، وأَقبلَ إلى الكوفةِ ومعَه مسلمُ بنُ عمرو الباهليّ وشريكُ بنُ أَعْوَرَ الحارثيّ وحَشَمُه وأَهلُ بيتهِ ، حتّى دخلَ الكوفةَ وعليه عمامةٌ سوداءُ وهو متَلثِّمٌ ، والنّاسُ قد بلغَهم إِقبالُ الحسينِ عليهِ السّلامُ إِليهم فهم ينتظرونَ قدومَه ، فظنُّوا حينَ رأوا عُبيدَاللّهِ أَنّه الحسينُ ، فأَخذَ لا يَمُرُّ على جماعةٍ منَ النّاسِ إلاّ سلَّموا عليهِ وقالوا: مرحباً بابنِ رسولِ اللهِّ ، قدمتَ خيرَ مقدم . فرأَى من تَباشرُهم بالحسينِ ما ساءه ، فقالَ مسلمُ بنُ عمرو لمّا أَكثروا : تَأخَّرُوا ، هذا الأَميرُ عبيدُاللّه بن زيادٍ .
وسارَ حتّى وافى القصرَ في الليلِ ، ومعَه جماعةٌ قدِ التفُّوا به لا يَشُكُّون أَنّه الحسينُ عليهِ السّلامُ ، فأَغلقَ النًّعمانُ بنُ بشيرٍ عليه وعلى حامّتهِ (2)، فناداه بعضُ من كانَ معَه ليفتح لهم البابَ ، فأطّلعَ إِليه النُّعمانُ وهو يظنُّه الحسين فقالَ : أَنْشُدُكَ اللهَّ إلاّ تَنَحَّيْتَ ، واللهِّ ما انا مُسلمٌ إِليكَ أمانتي ، وما لي في قتالِكَ من أَرَبٍ ، فجعلَ لا يُكلّمُه ، ثمّ إِنّه دنا وتدلّى
____________
(1) في هامش «ش » و«م »: ليشق .
(2) في « م » وهامش «ش » : خا صته .
وحامته : خاصته واقرباؤه . «الصحاح - حمم - 5: 1907 » .

( 44)
النُّعمانُ من شَرَفٍ فجعلَ يُكلِّمُه ، فقالَ : افتحْ لا فَتَحْتَ (1)، فقد طالَ ليلكَ . وسمعَها إِنسانٌ خلفَه فنكصَ إِلى القوم الّذينَ اتّبعوه من أهلِ الكوفةِ على أَنّه الحسينُ فقالَ : أيْ قوم ! ابن مَرْجَانةَ والّذي لا إِلهَ غيرهُ . ففتحَ له النُّعمانُ ودخلَ وضربوا البابَ في وُجوهِ النّاسِ فانْفَضُّوا.
وأصبحَ فنادى في النّاسِ : الصّلاةُ جامعةٌ . فاجتمعَ النّاسُ ، فخرجَ إِليهم فحمدَ اللهَّ وأثنى عليه ثمّ قالَ :
أَمّا بعدُ : فإِنّ أَميرَ المؤمنينَ وَلاَّني مِصرَكم وثَغْرَكم وفيئكم ، وأمرَني بإِنصافِ مظلومِكم وإِعطاءِ محرومكم ، والأحسانِ إِلى سامعِكم ومُطيعِكم كالوالدِ البر، وسوطي وسيفي على من تركَ أمري وخالفَ عهدي، فليُبقِ(2) امرؤٌ على نفسِه؛ الصِّدقُ يُنبي عنك(3)، لا الوعيدُ .
ثمّ نزلَ فأَخذَ العُرَفاءَ(4) والنّاسَ (5) أخذاً شديداً فقالَ : اكتُبوا إِلى
____________
(1) قال العلامة المجلسي في البحار 44 : 361: لا فتحت دعاء عليه أي لا فتحت على نفسك باباً من الخير.
(2) في هامش «ش » و «م » : فليتق .
(3) في هامش «ش » و«م »: ينبي عنك - بغيرهمز- أي يدفع عنك من النبوة، ويمكن أن يكون من النبأ الخبر اي الصَدق يخبر عنك بالحقيقة . والأول سماع والثاني قياس .
وقال الجوهري في الصحاح - نبا - 6 : 2500 : في المثل : «الصدق ينبي عنك لا الوعيد» أي ان الصدق يدفع عنك الغائلة في الحرب دون التهديد . وقال أبو عبيد : هو ينبي بغيرهمز. ويقال : أصله الهمزمن الانباء أي ان الفعل يخبرعن حقيقتك لا القول .
وقد نقل ابن منظور في لسان العرب : 15 |302 هذا الكلام ناسباً إيّاه الى التهذيب وهو اشتباه والصحيح انه عن الصحاح .
(4) العرفاء : جمع عريف ، وهو القائم بامور جماعة من الناس يرفعها الى السلطان ، وعمله العِرافة «مجمع البحرين - عرف - 5: 97» .
(5) في «ش» : بالناس .

(45)
العُرفاءِ ومَنْ فيكم من طلبةِ أمير المؤمنين ، ومَنْ فيكم منَ الحَرُورِية وأَهلِ الرّيب ، الّذين رأيُهم الخلافُ والشِّقاق ، (فمن يجئ بهم لنا فبرئ) (1)، ومن لم يكتب لنا أحداً فليضمنْ لنا ما في عِرافتِه ألاّ يخالفَنا منهم مخالفٌ ، ولا يبغِ علينا منهم باغٍ ، فمن لم يفعلْ برئتْ منه الذِّمّةُ وحلالٌ لنا دمُه ومالُه ، وأيّما عريفٍ وُجدَ في عرافتِه مِن بُغيةِ أميرِ المؤمنينَ أحدٌ لم يرفعْه إِلينا، صلِبَ على باب داره ، واُلغيتْ تلكَ العرافةُ منَ العطاءِ.َ
ولمّا سمعَ مسلمُ بنُ عقيلٍ رحمَه اللهُّ بمجيءِ عبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ الكوفةَ، ومقالتهِ الّتي قالَها، وما أخذَ به العُرفاءَ والنّاسَ ، خرجَ من دارِ المختارِ حتّى انتهى إِلى دارِ هانئ بنِ عُروةَ فدخلَها، وأخذتِ الشِّيعةُ تختلفُ إِليه فِى دارِ هانئ على تستُّرٍ واستخفاف من عبيدِاللهِّ ، وتواصَوْا بالكتمانِ .
فدعا ابنُ زيادٍ مولىً له يُقالُ له مَعْقلٌ ، فقالَ : خُذْ ثلاثةَ آلافِ دِرهمٍ ، ثمّ اطلبْ مسلمَ بنَ عقيلٍ والتمسْ أَصحابَه ، فإِذا ظفرتَ بواحدٍ منهم أو جماعةٍ فأعطِهم هذهِ الثّلاثةَ آلاف درهمٍ ، وقلْ لهم : استعينوا بها على حرب عدوِّكم ، وأعلِمْهم أنّكَ منهم ، فإِنّكَ لو قد أعطيتَها إِياهم لقدِ اَطمأنوا إِليكَ ووثقوا بكَ ولم يكتموكَ شيئاً من أخبارِهم ، ثمّ اغدُ عليهم ورُح حتّى تعرفَ مستقرَّمسلم بن عقيلٍ ، وتدخلَ عليه .َ
ففعلَ ذلكَ وجاءَ حتّى جلسَ إِلى مسلمِ بنِ عَوْسَجةَ الأسديّ في المسجدِ الأعظمِ وهو يصلِّي ، فسمعِ قوماً يقولونَ : هذا يبايعُ للحسينِ ، فجاءَ فجلسَ إِلى جنبهِ حتّى فرغ من صلاتِه ، ثمّ قالَ : ياعبدَ اللهِّ ! إِنِّي امرؤٌ من أهلِ الشّامِ ، أنعمَ اللهُّ عليَّ بحبِّ أهلِ هذا البيتِ
____________
(1) في «ش» نسخة اخرى : ثم يجاء بهم لنرى رأينا فيهم .
( 46)
وحبِّ مَنْ أحبَّهم ؛ وتَباكى له وقالَ : معي ثلاثة آلافِ درهمٍ ، أردتُ بها لقاءَ رجلٍ منهم بلغَني أنّه قدمَ الكوفةَ يبايعُ لابنِ بنتِ رسولِ اللّهِ ، فكنتُ أُريدُ لقاءه فلم أجدْ أَحداً يدلُّني عليه ولا أعرفُ مكانَه ، فإِنِّي لجالسٌ في المسجدِ الان إِذْ سمعتُ نفراً منَ المؤمنينَ يقولونَ : هذا رجلٌ له علمٌ بأَهلِ هذا البيتِ ، ِوانِّي أتيتُكَ لتقبضَ منَي هذا المالَ وتُدخِلني على صاحبكَ ، فإِنما أنا أَخٌ من إِخوانِكَ وثقةٌ عليكَ ، وِان شئتَ أخذتَ بيعتي له قبَلَ لقائه .
فقالَ له مسلمُ بنُ عوسجة رحمه اللّه : احمد اللهَّ على لقائكَ إِيّايَ فقد سرَني ذلكَ ، لتنال الّذي تحبُّ ، ولينصر اللّهُ بكَ أهلَ بيتِ نبيِّه عليه والهِ السّلامُ ، ولقد ساءَني معرفةُ النّاسِ إِيّايَ بهذا إلأَمر قبلَ أَن يتمَّ ، مخافةَ هذا الطاغيةِ وسطوته ؛ فقالَ له معقلٌ : لا يكون إلأ خيراً، خُذِ البيعةَ عليَّ ، فأَخذَ بيعتَه وأَخذَ عليه المواثيقَ المغلَّظةَ لَيُناصِحَنَّ ولَيَكْتُمَنَّ ، فأَعطاه من ذلكَ ما رضيَ به ، ثمّ قال له : اختلفْ إِليَّ أيّاماً في منزلي فأنا طالبٌ لكَ الأذنَ على صاحبكَ . فأَخذَ يختلفُ مع النّاسِ ، فطلبَ له الأذنَ فأُذِنَ له ، فأَخذَ مسلمُ بنُ عقيلٍ رضيَ اللّه عنه بيعتَه ، وأمرَ أَبا ثُمامةَ الصائديَّ فقبضَ المالَ منه ، وهو الّذي كانَ يَقبضُ أموالَهمِ وما يُعينُ به بعضُهم بعضاً، ويشتري لهم السِّلاحَ ، وكانَ بصيراًَ ومن فرسانِ العربِ ووُجوهِ الشِّيعةِ .
وأَقبل ذلكَ الرّجلُ يختلفُ إِليهم ، وهو أَوّلُ داخلٍ وآخرُ خارج ، حتّى فَهِمَ ما احتاجَ إِليه ابنُ زيادٍ من أَمرِهم ، وكانَ يُخبرهُ به وقتاً فوقتاَ. وخافَ هانئً بنُ عُروةَ عبيدَاللهّ بن زيادٍ على نفسِه فانقطعِ من حضور مجلسِه وتمارضَ ، فقالَ ابنُ زيادٍ لجلسائه : ما لي لا أَرى هانئاً؟ فقالوا : هو