الارشاد الجزء الثاني
* ولمّا أرادَ الحسينُ عليه السّلامُ التّوجُّهَ إلى العراقِ ، طافَ بالبيتِ وسعى بينَ الصّفا والمروةِ، وأحلَّ من إِحرامِه وجعلَها عُمرةً، لأنّه لم يتمكّنْ من تمامِ الحجِّ مخافةَ أن يُقبَضَ عليه بمكّةَ فيُنفَذَ إِلى يزيد بن معاويةَ، فخرجَ عليه السّلامُ مُبادِراً بأهلِه وولدِه ومنِ انضمَّ إِليه من شيعتِه ، ولم يكنْ خبرُ مسلمٍ قد بلغَه لخروجِه يومَ خروجِه على ما ذكرْنا ه .
فروِيَ عن الفَرَزْدَقِ الشّاعرِ أنّه قالَ : حَجَجْتُ بأُمِّي في سنةِ سِتِّينَ ، فبينا أنا أسوقُ بعيرَها حينَ دخلتُ الحرمَ إِذ لقيتُ الحسينَ بنَ عليٍّ عليهما السّلامُ خارجاً من مكّةَ معَه أسيافُه وتِراسُه (1) فقلتُ : لمن هذا القِطارُ؟ فقيلَ : للحسينِ بنِ عليٍّ ، فأتيتُه فسلّمتُ عليه وقلتُ له : أعطاكَ اللّهُ سُؤْلَكَ وأمَلَكَ فيما تُحبُّ ، بأبي أنتَ وأُمِّي يا ابنَ رسولِ اللّهِ ، ما أعجلَكَ عنِ الحجِّ ؟ فقالَ : « لو لم أعْجَلْ لأخِذْتُ» ثمّ قالَ لي : «مَنْ أنتَ ؟» قلتُ : امرؤٌ منَ العربِ ، فلا واللّهِ ما فتّشَني عن أكثرَ من ذلكَ ، ثمّ قالَ لي : «أخبِرْني عنِ النّاسِ خلفَكَ» فقلتُ : الخبيرَسألْتَ ، قلوبُ النّاسِ معَكَ وأسيافُهم عليكَ ، والقضاءُ ينزلُ منَ السّماءِ، واللهُّ يفعلُ ما يشاءُ، فقالَ : «صدقتَ ، للّهِ الأمرُ، وكلَّ يومٍ ربنُّا هو في شَأْنٍ ، (إِنْ نزلَ القضاءُ)(2) بما نُحِبُ فنحمدُ اللّهَ على نعمائه ، وهو المُستعان على أداءِ الشُّكرِ،وان حالَ القضاءُ دونَ الرّجاءِ، فلم يُبْعِدْ مَنْ كانَ الحقُّ نيّتَه والتّقوى سريرتَه» فقلتُ له : أجل ، بلّغَكَ اللّهُ ما تُحبُّ وكفاكَ ما تحذرُ، وسألتُه
____________
(1) تِراس : جمع ترس ، وهو ما يستتربه المقاتل من عدوه في الحرب ، انظر «الصحاح - ترس -910:3».
(2) في هامش «ش»: ان ينزل القضاء.

( 68)
عن أشياء من نذورٍ ومناسكَ فأخبرَني بها، وحرّكَ راحلتَه وقالَ : «السّلامُ عليكَ» ثمّ افترقْنا (1).
وكانَ الحسينُ بنُ عليٍّ عليهما السّلامُ لمّا خرجَ من مكّةَ اعترضَه يحيى بن سعيدِ بن العاص ، ومعَه جماعةٌ أرسلهم عمرُو بنُ سعيدٍ(2) إِليه ، فقالوا له : انصرف ، إِلى أَينَ تذهبُ ، فأبى عليهم ومضى وتدافعَ الفريقانِ واضطربوا بالسِّياطِ ، وامتنعَ الحسينُ وأصحابُه منهم امتناعاً قوياً . وسارَ حتّى أتى التّنعيمَ (3) فلقيَ عِيراً قد أقبلتْ منَ اليمن ، فاستأْجرَ من أهلِها جمالاً لرحلِه وأصحابِه ، وقالَ لأصحابِها : «من احبَّ أن ينطلقَ معَنا إِلى العَراقِ وفيناه كراءه وأحسنّا صحبتَه ، ومن أحبَّ أن يفارقَنا في بعضِ الطرّيقِ أعطيناه كراءً على قدرِ ما قطعَ منَ الطّريقِ» فمضى معَه قومٌ وامتنعَ اخرون .
وألَحقَه عبدُاللهّ بن جعفرٍ رضيَ اللهّ عنه بابنيه عونٍ ومحمّدٍ ، وكتبَ على أيديهما إِليه كتاباً يقولُ فيه :
أمّا بعدُ : فإِنِّي أسألكَ بالله لمّا انصرفتَ حينَ تنظرُ في كتابي ، فإِنِّي مشفقُ عليكَ منَ الوجهِ الّذي توجّهتَ له أن يكونَ فيه هلاكُكَ واستئصال أهلِ بيتِكَ ، إِن هلكتَ اليومَ طفئَ نورُ الأرضِ ، فإِنّكَ
____________
(1) ذكره ابن اعثم في الفتوح 5: 77، والخوارزمي في مقتله 1 : 223 ، والطبري في تاريخه 5: 386، باختلاف يسير، ومختصراً في مناقب ابن شهراشوب 4 :95، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44 :365 .
(2) في هامش «ش» : كان امير مكة من قبل يزيد.
(3) التنعيم : موضع بمكة في الحل ، وهوبين مكة وسرف ، على فرسخين من مكة وقيل على أربعة «معجم البلدان 2 : 49» .

( 69)
عَلَمُ المهتدينَ ورجاءُ المؤمنينَ ، فلا تعجلْ بالمسير فإِنِّي في أثر كتابي ، والسّلامُ .
وصارَ عبدُاللهّ بن جعفرِ إِلى عمرو بن سعيدٍ فسألَه أن يكتبَ للحسينِ أماناً ويُمنيه ليرجعَ عن وجهه ، فكتبَ إليه عمرو بنُ سعيدٍ كتاباً يُمنِّيه فيه الصِّلةَ ويؤُمِنهُ على نفسِه ، وأنفذَه معَ أخيه يحيى بن سعيدٍ ، فلحقَه يحيى وعبدُاللّه ابن جعفرٍ بعدَ نفوذِ ابنيه ودفعا إِليه الكتابَ وجهدا به في الرُّجوعِ فقالَ : «إِنِّي رأيت رسولَ اللّهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ في المنام ، وأمرَني بما انا ماضٍ له » فقالا له : فما تلكَ الرُّؤيا؟ قالَ :»ما حدّثتُ أحداً بها، ولا أنا مُحدِّثٌ أحداً حتّى ألقى ربِّي جلّ وعزَّ« فلما أيسَ منه عبدُاللهّ بن جعفرٍ أمرَ ابنيه عوناً ومحمّداً بلزومهِ والمسيرِمعَه والجهادِ دونَه ، ورجعَ معَ يحيى بن سعيدٍ إِلى مكّةَ .
* وتوجّهَ الحسينُ عليهِ السّلامُ نحوَ العراقِ مُغِذّاً(1) لا يلوي على شيءٍ حتى نزلَ ذاتَ عِرق (2).
ولمّا بلغَ عبيدَاللهّ بن زيادٍ إِقبالُ الحسينِ عليهِ السّلامُ من مكّةَ إِلى الكوفةِ، بعثَ الحُصينَ بنَ نُمَيرٍ صاحبَ شُرَطِهِ حتّى نزلَ القادسيّةَ(3) ، ونظمَ الخيلَ بينَ القادسيّةِ إِلى خفّانَ (4)، وما بينَ القادسيّةِ إِلى القُطْقُطانَةِ(5).
____________
(1) الاغذاذ في السير: الاسراع فيه . «الصحاح - غذذ - 2 : 567» .
(2) ذات عرق : مكان في طريق مكة وهو الحد بين نجد وتهامة . «معجم البلدان 4 : 107».
(3) القادسية : موضع بالعراق . «معجم البلدان 4 : 291» .
(4) خفّان : موضع فوق القادسية . «معجم البلدان 2 : 379» .
(5)القطقطانة : موضع قرب الكوفة، كان به سجن النعمان بن المنذر (معجم

=


( 70)
وقالَ النّاسُ : هذا الحسينُ يُريدُ العراقَ .
ولمّا بلغَ الحسين عليهِ السّلامُ الحاجرَ من بطنِ الرُّمةِ(1)، بعثَ قيسَ بنَ مُسْهرٍ الصّيداويّ ، - ويُقالُ : بل بعثَ أخاه منَ الرّضاعةِ عبدَاللّه بن يَقْطُر(2)- إِلى أهلِ الكوفةِ، ولم يكن عليهِ السّلامُ عَلِمَ بخبرِمسلمِ ابنِ عقيلٍ رحمةُ اللهِّ عليهما وكتبَ معه إِليهم :

«بسمَ اللّهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
منَ الحسينِ بنِ عليٍّ إِلى إِخوانِه منَ المؤمنينَ والمسلمينَ ، سلامٌ عليكم ، فإِنِّي أحمدُ إِليكم اللّهَ الّذي لا إِلهَ إلأ هو.
أمّابعدُ: فإِنّ كتابَ مسلمِ بنِ عقيلِ جاءَني يُخبرُ فيه بحسنِ رأيِكم واجتماعِ مَلَئكم على نصرِنا والطّلب بحقِّنا، فسألتُ اللّهَ أن يُحسنَ لنا الصّنيعَ ، وأن يُثيبَكم على ذلكً أعظمَ الأجرِ، وقد شخصتُ إِليكم من مكّةَ يومَ الثُلائاءِ لثمانٍ مضينَ من ذي الحجّةِ يومَ التّرويةِ، فإِذا قدمَ عليكم رسولي فانكمِشوا(3) في أمرِكم وجِدُّوا ، فإِنِّي قادمٌ عليكم في أيّامي هذه ، والسّلامُ عليكم ورحمةُ اللّهِ» .

____________
=
البلدان 4 : 374».
(1) بطن الرمة : منزل يجمع طريق البصرة والكوفة الى المدينة المنورة «مراصد الاطلاع 2 : 634» .
(2) كذا في النسخ الخطية وكذا ضبطه علماؤنا الاً ان ابن داود ذكر قولاً بالباء - بًقطر-: 125 | 920 ، وهو قول الطبري في تاريخه 5: 398، وضبطه ابن الاثيربالباء كما في الكامل 4 : 42، وفي القاموس المحيط : 376 : بُقْظَر- كعصفر- رجل .
(3) في هامش «ش»و«م»: فأكْمِشوا. وكلاهما بمعنى أسرعوا.

( 71)

* وكانَ مسلمٌ كتبَ إِليه قبلَ أن يُقتلَ بسبعٍ وعشرينَ ليلةً، وكتبَ إِليه أهلُ الكوفةِ : انّ لكَ هاهنا مائةَ ألفِ سيف فلا تتأخّرْ. فأقبلَ قيسُ بنُ مُسْهرٍ إلى الكوفةِ بكتابِ الحسينِ عليهِ السّلامُ حتّى إِذا انتهى إِلى القادسيّةِ أخذَه الحُصينُ بن نُمَيرٍ فأنفَذَه (1) إِلى عُبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ ، فقالَ له عُبيدُاللّهِ : اصعدْ فسُبَّ الكذّابَ الحسينَ بنَ عليٍّ ؛ فصعدَ قيسٌ فحمدَ اللهَّ وأثنى عليه ثمّ قالَ : أيُّها النّاسُ ، إِنّ هذا الحسينَ بنَ عليٍّ خيرُ خلقِ اللّهِ ابنُ فاطمةَ بنتِ رسولِ اللّهِ وأنا رسولهُ إليكم فاجيبوه ، ثمّ لعنَ عُبيدَاللهّ بن زيادٍ وأباه ، واستغفرَ لعليّ بنِ أبي طالبِ عليه السّلامُ وصلّى عليه . فأمرَ به عُبيدُاللهِ أن يُرمى به من فوقِ القصرِ، فرَمَوا به فتقطّعَ .
فصل
ورُوِيَ : أنّه وقعَ إِلى الأرضِ مكتوفاً فتكسّرَتْ عظامُه وبقيَ به رمقٌ ، فجاءَ رجلٌ يُقالُ له عبد الملك بن عُميرٍ اللخميّ فذبحَه ، فقيلَ له في ذلكَ وعِيِبَ عليه ، فقالَ : أردتُ أن أُريحَه (2).
ثمّ أقبلَ الحسينُ عليهِ السّلامُ منَ الحاجرِ يسيرنحوَالكوفةِ فانتهى إِلى ماءٍ من مياهِ العرب ، فإِذا عليه عبدُاللّه بن مُطيعٍ العَدويّ وهو نازلٌ به ، فلمّا راى الحسينَ عليهِ السّلام قامَ إِليه فقالَ : بأبي أنتَ وأُمِّي - يا ابنَ رسولِ
____________
(1) في «م» وهامش «ش»: فبعث به .
(2) تاريخ الطبري 5: 398، كامل ابن الاثير 4 : 43 ، مقتل الحسين للخوارزمي 1 : 228 ، مناقب ابن شهرآشوب 4 :95، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44 : 370 .

(72)
اللّهِ - ما أقدَمَكَ ؟ واحتملَه وأنزلَه ، فقالَ له الحسينُ عليهِ السّلامُ : «كانَ من موتِ معاويةَ ما قد بلغَكَ ، فكتبَ إِليَّ أهلُ العراقِ يدعونَني إِلى أنفسِهم» فقالَ له عبدُاللّهِ بنِ مُطيعٍ : أُذكرُكَ اللهَّ يا بنَ رسولِ اللهِّ وحرمةَ الأسلامِ أن تُنتَهَكَ ، أنْشُدُكَ اللهَّ في حرمةِ قُريشٍ ، أنشُدُكَ اللّهَ في حرمةِ العرب ، فواللّهِ لئن طلبتَ ما في أيدي بني أُمّيةَ لَيَقْتُلُنَّكَ ، ولئن قتلوكَ لا يهابوَا(1) بعدَكَ أحَداً أبداً، واللّهِ إِنّها لحُرمةُ الأسلام تُنْتَهَك ، وحرمةُ قريشٍ وحرمةُ العرب ، فلا تَفعلْ ، ولا تأْتِ الكوَفَة، ولا تُعرِّضْ نفسَكَ لبني أُميّةَ . فأبى اَلحسينُ عليهِ السّلامُ إلاّ أن يَمضيَ .
وكانَ عُبيدُاللّه بن زيادٍ أمرَ فأُخِذَ ما بينَ واقِصَةَ(2) إِلى طريقِ الشّام إِلى طريقِ البصرةِ ، فلا يَدَعونَ أحداً يَلِجُ ولا أحداً يخرجُ ، وأقبلَ الحسينُ عليهِ السّلامُ لا يَشعرُ بشيءٍ حتّى لقيَ الأعرابَ ، فسألهَم فقالوا: لا واللّهِ ما ندري ، غيرإنّا لا نستطيعُ أن نَلِجَ (أو نَخرج) (3) . فسارَتِلقاءَ وجهِه عليهِ السّلامُ .
* وحدَّثَ جماعةٌ من فَزارةَ ومن بَجيلة قالوا : كُنّا معَ زُهَيرِ بنِ القَيْنِ البَجَليِّ حينَ أقبلنْا من مكّةَ، فكنّا نُسايرُ الحسينَ عليهِ السّلام فلم يكَنْ شيءٌ أبغضَ إِلينا من أن نُنَازلَه في منزلٍ ، فإِذا سارَ الحسينُ عليهِ السّلامُ ونزلَ منزلاً لم نجدْ بُدّاً من أن نُنازلَه، فنزلَ الحسينُ في جانبِ ونزلْنا في جانبٍ ، فبينا نحن جُلوس نتغذّى من طعامٍ لنا إِذْ أقبلَ رَسولُ الحسينِ عليهِ السّلامُ حتّى سلّمَ ثمّ دخلَ ، فقالَ : يا
____________
(1) كذا في النسخ وله وجه ، والاولى«لايهابون»كما في الطبري .
(2) واقصة : موضع في طريق مكة الى العراق «معجم البلدان 5: 354» .
(3) في «ش» و «م» : ولا نخرج ، وما أثبتناه من هامشهما.

(73)
زُهيرَبنَ القَيْنِ إِنَّ أبا عبدِاللّهِ الحسينَ بعثَني إِليكَ لتأْتِيَه . فطرحَ كلُّ إِنسانٍ منّا ما في يدِه حتّى كأنّ على رُؤُوسنا الطّيرَ، فقالتْ له امرأتهُ : سبحانَ اللّهِ ، أيبعثُ إِليكَ ابنُ رسولِ اللّهِ ثمّ لا تأْتيه ، لو أتيتَه فسمعتَ من كلامِه ، ثمّ انصرفتَ . فأتاه زُهيرُ بنُ القينِ ، فما لبثَ أن جاءَ مُستبشراً قد أشرقَ وجهُه ، فأمرَبفسطاطِه وثقله ورحلِه ومتاعِه فقُوِّضَ وحُمِلَ إِلى الحسينِ عليهِ السلامُ ، ثمّ قالَ لامرأَتِه : أنتِ طالقٌ ، الحقي بأهلِكَ ، فإنِّي لا أُحبُّ أن يًصيبَكِ بسببي ألاٌ خيرٌ ، ثمّ قالَ لأصحابه : من أحَبَّ منكم أن يتبعَني ، وإلاّ فهو آخرُ العهدِ، إِنيِّ سأُحدِّثُكم حديثا ً: إِنّا غَزَوْنا البحر(1) ، ففتحَ اللّهُ علينا وأصبْنا غنائمَ ، فقالَ لنا سلمان الفارسيُّ رضيَ اللهُّ عنه : أفرِحْتُم بما فتحَ اللهُ عليكم ، وأصبْتم منَ الغنائم ؟ فقلنا : نعم ، فقال : إِذا أدركْتُم شباب آلِ محمّدٍ فكونوا أشدَّ فرحاً بقتالِكم معَهم ممّا أصبتُمُ اليومَ منَ الغنائم . فامّا أنا فأستودعُكمُ اللّه . قالوا : ثمّ واللهِّ ما زالَ في القومِ معَ الحسينِ عليهِ السّلامُ حتّى قُتِلَ رحمةُ اللّهِ عليه (2).
وروى عبدُاللهّ بن سليمانَ والمُنْذِرُ بنُ المُشْمَعِلِّ الأسَدِيّانِ قالا: لمّا قَضَيْنا حجَّنا لم تكنْ لنا همةٌ إلاّ اللحاق بالحسينِ عليهِ السّلامُ في الطّريقِ ، لننظرَ ما يكونُ من أمرِه ، فأقبلْنا تُرْقِلُ (3) بنا
____________
(1) كذا في النسخ ، وفي وقعة الطف لابي مخنف وتاريخ الطبري : (بلنجر) : وهي مدينة ببلاد الروم . انظر«معجم ما استعجم 1 : 376» .
(2) وقعة الطف لابي مخنف : 161 ، تاريخ الطبري 5: 396، الكامل في التاريخ 4 : 42 ، ومختصراً في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي 1 : 225 ، عن أحمد بن اعثم .
(3) أرَقلَتْ في سيرها: أسرعت . «مجمع البحرين - رقل - 5 : 385».

( 74)
نِياقنا(1) مُسرِعَيْنِ حتّى لحقْنا بِزَرُوْدَ(2)، فلمّادنونا منه إِذا نحن برجلٍ من أهلِ الكوفةِ قد عدلَ عنِ الطّريقِ حينَ رأى الحسينَ عليهِ السّلام ، فوقفَ الحسينُ كأنّه يُريدُه ثمّ تركه ومضى ، ومضينا نحوَه ، فقالَ أحدُنا لصاحبه : اذهب بنا إِلى هذا لنسألَه فإِنّ عندَه خبرَ الكوفةِ، فمضينا حتَّى انتهينا إِليه فقلنا: السّلامُ عليكَ ، فقالَ : وعليكم السّلامُ ، قلنا : ممّنِ الرّجلُ ؟ قالَ : أسَدِيٌّ ، قلنا : ونحن أسَدِيّانِ ، فمن أنتَ ؟ قالَ : أنا بكرُ بنُ فُلانٍ ، وانتسبْنا له ثمّ قلنا له : أخبِرْنا عنِ النّاسِ وراءَك ؛ قالَ : نعم ، لم أخرجْ منَ الكوفةِ حتّى قُتِلَ مسلمُ بنُ عقيلٍ وهانئُ بنُ عُروةَ، ورأَيتُهما يُجَرّانِ بأرجلِهما في السُّوقِ .
* فأقبلْنا حتّى لحقْنا الحسينَ صلوات اللهِّ عليه فسايرْناه حتّى نزلَ الثَّعْلَبيَّةَ مُمْسِياً، فجئناه حينَ نزلَ فسلّمْنا عليه فردَّ علينا السّلامَ ، فقلناَ له : رحمَكَ اللّه ، إِنّ عندَنا خبراً إِن شئتَ حدّثْناكَ علانيةً، وِانْ شئتَ سِرّاً ؛ فنظرَ إِلينا ِ والى أصحابِه ثمّ قالَ : «ما دونَ هؤلاءِ سترٌ» فقلنا له : رأيتَ الرّاكبَ الّذي استقبلتَه عشيَّ أمسِ ؟ قالَ : «نعم ، وقد أردتُ مسألَتَه» فقلنا : قد واللّهِ استبرأْنا لكَ خبرَه ، وكفيناكَ مسألَتَه ، وهو امِرؤٌ منّا ذو رأْي وصدقٍ وعقلٍ ، وِانّه حدّثَنا أنّه لم يخرجْ منَ الكوفةِ حتّى قُتِلَ مسلمٌ وهانئ، ورَآهما يُجَرّانِ في السُّوقِ بأرجلِهما : فقالَ : «إِنّا للهِّ وِانّا اليه راجعونَ ، رحمةُ اللهِّ عليهما»
____________
(1) في «م» وهامش «ش» : ناقتانا .
(2) زَرُود: موضع على طريق حاج الكوفة بين الثعلبية والخزيمية . «معجم البلدان 3 : 139» .

(75)
يكرِّر(1) ذلكَ مِراراً، فقلنا له : نَنْشُدُكَ اللّهَ في نفسِكَ وأهلِ بيتِكَ إلأ انصرفتَ من مكانِكَ هذا، فإِنّه ليسَ لكَ بالكوفةِ ناصرٌ ولا شيعةٌ ، بل نَتخوّفُ أن يكونوا عليكَ . فنظرَإِلى بني عقيلٍ فقالَ : «ماتَرَوْنَ ؟ فقد قتِلَ مسلمٌ» فقالوا : واللهِّ لا نَرجعُ حتّى نُصيبَ ثأْرَنا أَو نذوقَ ما ذاقَ ، فأقبلَ علينا الحسينُ عليهِ السّلامُ وقالَ : «لا خيرَ في العيشِ بعدَ هؤلاءِ» فعلمْنا أنّه قد عزمَ رأْيَه على المسيرِ، فقلنا له : خارَ اللّهُ لكَ ، فقالَ : «رحمَكُما اللّهُ» . فقالَ له أصحابُه : إِنّكَ واللّهِ ما أَنتَ مثل مسلمِ ابن عقيل ، ولو قدمتَ الكوفةَ لكانَ النّاسُ إِليكَ أسرعَ . فسكتَ ثمّ انتظرَ حتّى إِذا كانَ السّحرُ قالَ لفتيانِه وغلمانِه : «اكْثِرُوا منَ الماءِ» فاسْتَقَوْا وأكْثَرُوا ثمّ ارتحلوا، فسارَ حتّى انتهى إِلى زُبالةَ(2) فأَتاه خبرُ عبدِاللّهِ بنِ يَقْطُرَ ، فأخرجَ إِلى النّاسِ كتاباً فقرأه عليهم (3) :
«بسم اللّهِ الرّحمنِ الرّحميمِ
أمّا بعدُ: فإِنّه قد أتانا خبرٌ فظيعٌ قَتْلُ مسلمِ بنِ عقيلٍ ، وهانيِ بنِ عُروةَ، وعبدِاللّهِ بنِ يَقْطُرَ، وقد خَذَلَنا شيعتُنا، فمن أحبَّ منكم الانصرافَ فلينصرفْ غيرَحَرِجٍ ، ليسَ عليه ذمامُ»

فتفرّقَ النّاسُ عنه وأخذوا يميناً وشمالاً، حتّى بقيَ في أصحابِه
____________
(1) في «م» وهامش «ش» : يردّد .
(2) زبالة : منزل بطريق مكة من الكوفة . «معجم البلدان 3 : 129» .
(3) رواه الطبري في تاريخه 5 : 397، والخوارزمي في مقتل الحسين عليه السلام 1 : 228 ، وذكره أبو الفرج في مقاتله : 110 مختصراً، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44 : 372 .

(76)
الّذينَ جاؤوا معَه منَ المدينةِ ، ونفرٍ يسيرٍ ممّنِ انضَوَوْا إِليه . ِوانّما فعلَ ذلكَ لأنّه عليه السلام علمَ أنّ الأعرابَ الّذينَ اتّبعوه إِنّما اتّبعوه وهم يظنُّون أنّه يأتي بلداً قدِ استقامتْ له طاعةُ أهلهِ ، فكرهَ أن يسيروا معَه إلاّ وهم يعلمونَ على ما(1) يقدمونَ .
فلمّا كانَ السّحرُ أمرَ أصحابَه فاستقَوْا ماءً وأكثروا، ثمّ سارَ حتّى مرَّ ببطنِ العَقَبةِ (فنزلَ عليها)(2)، فلقيَه شيخٌ من بني عِكْرِمةَ يقالُ له عمرُو بن لوذانَ ، فسألهَ : أينَ تريدُ؟ فقالَ له الحسينُ عليهِ السّلامُ : «الكوفةَ» فقال الشّيخُ : أنشدُك اللّهَ لمّا انصرفتَ ، فواللهِّ ما تقدمُ إلاٌ على الأسنّةِ وحدِّ السُّيوفِ ، وِانّ هؤلاءِ الّذينَ بعثوا إِليكَ لو كانوا كَفَوْكَ مؤونةَ القتالِ ووطّؤوا لكَ الأَشياءَ فقدمتَ عليهم كانَ ذلكَ رأْياً، فأمّا على هذه الحالِ الّتي تَذْكُرُ فإنّي لا أرى لكَ أن تفعلَ . فقالَ له : «يا عبدَاللّهِ ، ليس يخفى عليَّ الرأْيُ ، ولكنَّ اللّهَ تعالى لا يُغلَبُ على أمرِه ، ثمّ قالَ عليهِ السّلامُ : واللّهِ لا يَدَعُوني حتّى يستخرجوا هذه العلقةَ من جوفي ، فإِذا فعلوا سلّطَ اللهُّ عليهم من يُذلُّهم حتّى يكونوا أذلَّ فِرَقِ الأممَ»(3).
ثمّ سارَعليهِ السّلام من بطنِ العَقَبةِ حتّى نزلَ شَراف (4)، فلمّا كانَ في السّحرِ أمرَ فتيانَه فاسْتَقَوْا منَ الماءِ فأكْثَروا، ثمّ سارَ منها حتّى
____________
(1) كذا في النسخ ، والأصح : علامَ .
(2) في النسخ الخطية : فنزل عنها، وما في المتن من هامش«ش» .
(3) مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي 1 : 228، عن ابن اعثم ، ولم نجده في الفتوح ولعله عن غيره ، تاريخ الطبري 5: 397، عن ابي مخنف . . . عن عبدالله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديّين ، ونقله العلامة المجلسي في البحار 44 : 372 .
(4) شراف : موضع بنجد «معجم البلدان 3 : 331».

(77)
انتصفَ النّهارُ، فبينا هو يسيرُ إِذ كبّرَ رجلٌ من أصحابه فقالَ له الحسينُ عليهِ السّلامُ : «اللهُّ أكبرُ، لِمَ كَبَّرت ؟» قالَ : رأيت النّخلَ ، فقالَ له جماعةٌ من أصحابه : واللهِّ إِنّ هذا المكانَ ما رأينا به نخلةً قطّ ، فقالَ الحسينُ عليهِ السَّلامُ : «فما تَرَوْنَه ؟» قالوا : نراه واللّهِ آذانَ (1) الخيلِ ، قالَ : «أنا واللهِ أرى ذلكَ» ثمّ قالَ عليهِ السلامُ : «ما لنا(2) ملجأُ نلجأ إِليه فنجعله في ظهورِنا، ونستقبل القومَ بوجهٍ واحدٍ ؟» فقلنا: بلى ، هذا ذو حُسمى(3) إِلى جنبِكَ ، تميلُ إِليه عن يسارِكَ ، فإِن سبقتَ إِليه فهوكما تُريدُ .
* فأخذَ إِليه ذاتَ اليسارِ ومِلْنا معَه ، فما كانَ بأسرعَ من أن طلعتْ علينا (هوادي الخيل)(4) فتبيّنّاها وعدلْنا ، فلمّا رأوْنا عدلْنا عن الطريقِ عدلوا إِلينا كأنّ أسنّتَهم اليعاسيبُ (5) ، وكأنّ راياتِهم أجنحةُ الطّيرِ، فاستبقْنا إِلى ذي حسمى فسبقْناهم إِليه ، وأمرَ الحسينُ عليهِ السّلامُ بابنيتهِ فضربَتْ .
____________
(1) في «م» : أداني ، وقد كتب تحتها : جمع ادنى .
(2) في هامش «ش»: أما لنا.
(3) في هامش «م»: حُسْمى- هكذا في نسخة الشيخ .
وهامش آخر في «ش» و «م» : حِسْمَى بكسر الحاء جبال شواهق بالبادية، قد ذكرها النابغة في شعره قال :
فاصبح عاقلاً بجبال حسمى * دقاق الترب مخترم القتام

وفي هامشهما كتبت : ذوجشَم ، ذوجَشَم ، جُسَم ، حُسْم ، وفي «م» : ذي حُسىً .
(4) اقبلت هوادي الخيل : اذا بدت أعناقها . «الصحاح - هدى - 6 : 2534» .
(5) اليعسوب : طائر أطول من الجرادة لا يضم «الصحاح - عسب - 1 : 1181 وفي هامش «ش» : الاصل في اليعسوب فحل النحل .

(78)

وجاءَ القومُ زُهاءَ ألفِ فارسٍ معَ الحُرِّبن يزيدَ التّميميّ حتّى وقفَ هو وخيلُه مُقابلَ الحسينِ عليهِ السّلامُ في حَرًّ الظّهيرةِ، والحسينُ وأصحابُه معتمُّونَ متقلِّدوأسيافِهم ، فقالَ الحسينُ عليهِ السّلامُ لفتيانِه : «اسقوا القومَ وأرْوُوْهُم منَ الماءِ ، ورَشِّفُوا الخيلَ ترشيفاً» ففعلوا وأقبلوا يملؤون القِصاعَ والطّساسَ (1) منَ الماء ثمّ يُدنونَها منَ الفَرَسِ ، فإِذا عبَّ فيها ثلاثاً أوأربعاً أَو خمساً عُزِلَتْ عنه وسَقَوا آخرَ، حتّى سَقَوْها كلَّها.
فقالَ عليُّ بنُ الطعَّانِ المُحاربي : كنتُ معَ الحُرِّ يومئذٍ فجئتُ في اخرِ من جاءَ من أصحابِه ، فلمّا رأى الحسينُ عليهِ السّلامُ ما بي وبفرسي منَ العطشِ قالَ : «أنَخِ الراويةَ» والراويةُ عندي إلسِّقاءُ، ثمّ قالَ : «يا ابنَ أخي أنِخِ الجملَ» فأنَخْتُه فقالَ : «اشربْ» فجعلتُ كلَّما شربتُ سالَ الماءُ منَ السِّقاءِ، فقالَ الحسين عليه السّلامُ : «اخنِثِ السِّقاءَ» أي اعطفْه ، فلم أدْرِ كيفَ أفعل ، فقامَ فخنثَه فشربتُ وسقيتُ فرسي .
* وكانَ مجيءُ الحُرِّ بن يزيدَ منَ القادسيّةِ، وكَانَ عُبيدُاللّه بن زيادٍ بعثَ الحُصينَ بنَ نمُيرٍ وأًمرَه أن ينزلَ القادسيّة، وتقدّمَ الحُرُّ بينَ يديه في ألفِ فارسٍ يستقبلُ بهم حسيناً، فلم يَزَلِ الحُرًّ مُواقِفاً للحسينِ عليهِ السّلامُ حتّى حضرتْ صلاةُ الظُّهرِ، وأمرَ الحسينُ الحجّاجَ بنَ مسرورٍ أن يُؤَذِّنَ، فلمّا حضرتِ الأقامةُ خرجَ الحسينُ عليهِ السّلامُ
____________
(1) الطساس : جمع طسٌ وهومعرّب طست وهو اناء معروف «مجمع البحرين - طست -210:2».
(79)
في إِزارٍ ورداءٍ ونعلينِ ، فحمدَ اللّهَ وأثنى عليه ثمّ قالَ : «أيًّها النّاسُ ، إِنِّي لم آتِكم حتّى أتَتْني كتبُكم وقدمتْ عليَ رسلُكم : أنِ اقدمْ علينا فإِنّه ليس لنا إِمام ، لعلَّ اللهَّ أن يجمعَنا بكَ على الهدى والحقِّ ؛ فإِن كنتم على ذلكَ فقد جئتُكم فاعطوني ما أطمئنًّ إِليه من عهودِكم ومواثيقِكم ، وِان لم تفعلوا وكنتم لمَقدمي كارهينَ انصرفتُ عنكم إِلى المكانِ الّذي جئتُ منه إِليكم» فسكتوا عنه ولم يتكلّم أحدٌ منهم بكلمةٍ.
فقالَ للمؤذِّنِ : «أقِمْ» فأقامَ الصّلاةَ فقالَ للحُرِّ: «أتُريدُ أن تُصليَ بأصحابكَ ؟» قالَ : لا، بل تُصلِّي أنتَ ونُصلِّي بصلاتِكَ . فصلّى بهم الحسينَُ بن عليٍّ عليهما السّلامُ ثمّ دخلَ فاجتمعِ إِليه أصحابُه وانصرفَ الحُرُّ إِلى مكانِه الّذي كانَ فيه ، فدخلَ خيمةَ قد ضُرِبَتْ له واجتمعَ إِليه جماعةٌ من أصحابِه ، وعادَ الباقونَ إِلى صفِّهم الّذي كانوا فيه فأعادوه ، ثمّ أخذَ كلُّ رجلٍ منهم بعنانِ دابّتهِ وجلسَ في ظلِّها .
فلمّا كانَ وقتُ العصرِ أمرَ الحسينُ بنُ عليِّ عليهِ السّلامُ أن يتهيّؤوا للرّحيلِ ففعلوا ، ثمّ أمرَ مناديَه فنادى بالعصرِ وَأقامَ ، فاستقامَ (1) الحسينُ عليه السّلام فصلّى بالقومِ ثمّ سلّمَ وانصرفَ إِليهم بوجهه ، فحمدَ اللّهَ وأَثنى عليه ثمّ قالَ :
«أمّا بعدُ : أيُّها النّاس فإِنّكم إِن تتّقوا اللّهَ وتعرفوا الحقَّ لأهلهِ يكنْ أرضى للهِ عنكم ، ونحن أهلُ بيتِ محمّدٍ ، وأولى بولايةِ هذا الأمرِعليكم من هؤلاءِ المدَعينَ ما ليسَ لهم ، والسّائرينَ فيكم بالجورِ والعدوانِ ؟
____________
(1) في «م» وهامش «ش» : فاستقدم .
( 80)
واِن أبيتم إلاٌ كراهيةً(1) لنا والجهلَ بحقِّنا، فكانَ رأْيُكم الان غيرَ ما أتتني به كتبُكم وقَدِمَتْ به عليَّ رسلُكم ، انصرفتُ عنكم».
فقالَ له الحُرُّ: أنا واللّهِ ما أدري ما هذه الكتب والرُّسل الّتي تَذْكرُ، فقالَ الحسينُ عليهِ السّلامُ لبعضِ أصحابِه : «يا عُقْبَةَ بنَ سِمْعانَ ، أخرِج الخُرْجَينِ اللَذينِ فيهما كتبُهم إِليَ» فأخرجَ خُرْجَينِ مملوءَينِ صحفاً فنُثرتْ بينَ يديه ، فقالَ له الحُرُ: إِنّا لسنا من هؤلاءِ الّذينَ كتبوا إِليكَ ، وقد أُمِرْنا إِذا نحن لقيناكَ ، ألاّ نفارِقَكَ حتّى نُقْدِمَكَ الكوفةَ على عُبيدِاللّهِ . فقالَ له الحسينُ عليه السّلامُ : «الموتُ أدنى إِليكَ من ذلكَ» ثمّ قالَ لأصحابه : «قوموا فاركبوا» فركبوا وانتظرَ حتّى رَكِبَ نساؤهم ، فقالَ لأَصَحابه : «انصرفوا» فلمّا ذهبوا لينصرفوا حالَ القومُ بينَهم وبينَ الانصرافِ ،َ فقالَ الحسينُ عليهِ السّلامُ للحُرِّ: «ثكلتْكَ أُمُّك ، ما ترُيدُ؟» فقالَ له الحرًّ: أما لو غيرُك منَ العرب يقولهُا لي وهو على مثلِ الحالِ الّتي أنتَ عليها، ما تركتُ ذكرَأُمِّه بالثُّكَلِ كائناً من كانَ ، ولكنْ واللّهِ ما لي إِلى ذكرِ أُمِّكَ من سبيلٍ إلاّ بأحسنِ ما يقْدَرُ عليه ؟ فقالَ له الحسين عليه السّلامُ : «فما تُريدُ؟» قالَ : أُريدُ أن أنطلقَ بكَ إِلى الأميرعُبيدِاللهِّ بنِ زيادٍ ؛ قالَ : «إِذاً واللهِّ لا أتبعكَ» قالَ : إِذاً واللّهِ لا أدعكَ . فترادَّا القول ثلاثَ مرّاتٍ . فلمّا كثر الكلامُ بينهَما قالَ له الحُرُّ: إِنِّي لم اُؤمَرْ بقتالِكَ ، إِنّما أُمِرْتُ ألاّ أُفارِقَكَ حتّى أُقدمَكَ الكوفَة، فإِذ أبيتَ فخذْ طريقاً لا يُدخلُكَ الكوفةَ ولا يَردُّكَ إِلى المدينةِ، تكونَ بيني وبينَكَ نصفاً، حتّى أكتبَ إِلى الأميرِ وتكتَب الى يزيدَ أو إِلى عُبيدِاللّهِ فلعلّ اللهَّ إِلى ذلكَ أن يأْتيَ بأمرٍ يرزقُني فيه العافيةَ من أَن أُبتلى
____________
(1) في هامش «ش» و «م» : الكراهية .
( 81)
بشئ من امرك ، فخذ هاهنا ، فتياسر عن طريق العذيب والقادسية، وسار الحسين عليه السلام وسار الحر في أصحابه يسايره وهو يقول له : يا حسين اني اذكرك الله في نفسك ، فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن ، فقال له الحسين عليه السلام : ( أفبالموت تخوفني ؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ؟ وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمه ، وهو يريد نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله فخوفه ابن عمه وقال :أين تذهب ؟ فانك مقتول ؛ فقال :
سأمضي فما بالموت عار على الفتى* إذا مــا نوى حـقـا وجــاهد مسلما
وآسى الرجــال الصـــالحين بنـفــسه* وفارق مثبورا وباعد (1) مجرما
فإن عشـت لــم انـدم وان مت لم ألم * كفى بك ذلا ان تعيش وترغما »

فلما سمع ذلك الحر تنحى عنه ، فكان يسير بأصحابه ناحية ، والحسين عليه السلام في ناحية أخرى ، حتى انتهوا الى عذيب الهجانات(2)
ثم مضى الحسين عليه السلام حتى انتهى الى قصر بني مقاتل فنزل به ، فاذا هو بفسطاط مضروب فقال : ( لمن هذا ؟) فقيل : لعبيد الله بن الحر الجعفي ، فقال :( ادعوه الي) فلما أتاه الرسول قال له : هذا الحسين بن علي يدعوك ، فقال عبيد الله : انا لله وانا اليه راجعون ، والله ماخرجت من الكوفة الا كراهية أن يدخلها الحسين وانا بها ، والله ما اريد ان اراه ولا يراني ؛ فأتاه الرسول فأخبره فقام الحسين عليه
____________
(1) في هامش (ش) و(م) : وخالف .
(2) عذيب الهجانات : موضع في العراق قرب القادسية (معجم البلدان 4: 92 ) .

( 82)
السّلامُ فجاءَ حتّى دخلَ عليه فسلّمَ وجلسَ ، ثمّ دعاه إِلى الخروج معَه ، فأعادَ عليه عُبيدُ اللهِّ بن الحرِّ تلكَ المقالةَ واستقاله ممّا دعاه إِليه ، فقالَ له الحسينُ عليهِ السّلامُ : « فإِن لم تنصرْنا فاتّقِ اللّهَ أن تكونَ ممّن يُقاتلُنا؛ واللّهِ لا يسمعُ واعيتَنا(1)أحدٌ ثمّ لا ينصرُنا إلاّ هلكَ » فقالَ : أمّا هذا فلا يكونُ أبداً إِن شاءَ اللّهُ ؛ ثمّ قامَ الحسينُ عليهِ السّلامُ من عندِه حتّى دخلَ رحله .
ولمّا كانَ في اخرِ ألليلِ أمرَ فتيانَه بالاستقاءِ منَ الماءِ، ثمّ أمرَ بالرّحيلِ ، فارتحلَ من قصرِ بني مُقاتلٍ ، فقالَ عُقبةُ بنُ سمعانَ : سِرْنا معَه ساعةً فخفقَ وهوعلى ظهرِفرسِه خفقةً ثمّ انتبهَ ، وهو يقولُ : «إِنّا للّهِ وإنّا إِليه راجعونَ ، والحمدُ للّهِ ربِّ العالمينَ » ففعلَ ذلكَ مرّتينِ أو ثلاثاً، فأقبلَ إِليه ابنُه علي بنُ الحسينِ عليهما السّلامُ على فرسٍ فقالَ : ممَّ حمدتَ الله واسترجعتَ ؟ فقاَل : «يا بُنَيَّ ، إِنِّي خفقتُ خَفقةً فعَنَّ لي فارسٌ علىَ فرسٍ وهو يقولُ : القومُ يسيرونَ ، والمنايا تسيرُ إِليهمِ ، فعلمتُ أَنّها أَنفسُنا نُعِيَتْ إِلينا» فقالَ له : يا أبَتِ لا أراكَ اللهُّ سوءاً، ألسنا على الحقِّ ؟ قالَ : «بلى، والّذي إِليه مرجعُ العبادِ » قال : فإِنّنا إِذاً لا نبالي أَن نموتَ مُحِقِّينَ ؛ فقالَ له الحسينُ عليهِ السّلامُ : «جزاكَ اللّه من ولدٍ خيرَ ما جزى وَلداً عن والدِه » .
____________
(1) الواعية : الصارخة . « الصحاح - وعى - 6 : 2526 » .