إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: 151 ـ 165
(151)
    إذا عرفت ذلك فنقول : كانت الصلاة يوم فرضت ركعتين مع مالها من الأجزاء والشرائط فصار له جامع متواطئ يصدق على أفراده على نحو واحد.
    ثمّ أُضيف إليهاما فرضه النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فسمّيت أيضاً بنفس التسمية مع ما بين المسمّيين من الفرق ، و ما هذا إلاّ لأنّ وحدة الأثر صارت سبباً لتبسيط الجامع الأوّل ، ثمّ طرأت عليه التصرّفات المختلفة بالعفو بحسب الحالات الطارئة والآثار اللاحقة من السفر والحضر والخوف والمرض والاضطرار ، كلّ ذلك صار سبباً لتسمية الفاقد بنفس الاسم لاشتراك الجميع في الأثر ، فكأنّ لوحدة الأثر دوراً في تبسيط الجامع الأوّل وتبديله إلى جامع أوسع ، وإن شئت قلت : سبباً لسبك جامع من جامع آخر. (1)
    وليس هذا بمعنى كثرة الوضع حسب اختلاف المراتب ، بل لأجل أنّ الاجزاء لم يؤخذ في المسمّى في المرحلة الأُولى ـ بما هي هي ، بل بما أنّ لها دوراً في الأثر المطلوب ، فإذا قام متى آخر بذلك الدور يجوز إطلاق الاسم عليه لكونه واجداً لنفس الحيثية التي بررت تسميته بنفس الاسم ، وعلى ضوء ذلك فعامّة الأجزاء والشرائط في كلّ مرتبة نفس المسمّى وليس خارجاً عنه ، كما انّه عند الشكّ في الجزئية والشرطية يكون المورد مصبّاً للبراءة ، وما ذلك إلاّ لأنّ الواجب نفس الأجزاء لا الأمر البسيط.
    إلى هنا تم تصوير الجامع على الصحيحي ، ومعنى هذا هو إمكان القول بالصحيح ثبوتاً ، وأمّا إثباتاً فيحتاج إلى دراسة أدلّته ، فنقول :
1 ـ حاشية الكفاية : 1/42 ، 43 ، بتوضيح منّا.

(152)
    الجهة الخامسة
أدلّة القول بالصحيح
    احتجّ القائل بالصحيح بوجوه نذكر بعضها :
    الأوّل : التبادر ، ودعوى انّ المنسبق إلى الأذهان منها هو الصحيح ، ولما كان المختار عند المحقّق الخراساني هو إجمال مفهوم الصلاة ، توجّه إليه إشكال يختص بمقالته ومقالة تلميذه القائلين بإجمال مفهوم الصلاة ، وانّها لا تعرف إلاّ بآثارها.
    وحاصل الإشكال انّه : كيف يمكن الجمع بين تبادر الصحيح والقول بإجمال مفهومها وعدم تبيّنها ؟ فأجاب عنه بقوله : ولا منافاة بين دعوى ذلك و بين كون الألفاظ على هذا القول مجملات ، فانّ المنافاة إنّما تكون إذا لم تكن معانيها على هذا الوجه مبينة بوجه ، وقد عرفت كونها مبينة بغير وجه.
    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ تبادر الصحيح بمعرفية بعض الآثار ، يلازم عدم تبادر شيء من حاق اللفظ أصلاً ، و رجوع هذا الدليل إلى الدليل الثالث المذكور في كلامه وهو التعرّف على معنى الموضوع له من خلال آثاره ويعلم ذلك بملاحظة أمرين :
    أ : التبادر عبارة عن فهم المعنى من ذات اللفظ وحاقه بلا استعانة بقرينة خارجية أو من آثاره وخواصّه.
    ب : انّ اللفظ في هذه المرحلة حسب فرض المستدلّ مجمل ، مغمور في


(153)
الإبهام لا نعرف منه شيئاً ، وإن كان الإجمال زائلاً بملاحظة آثاره وخواصّه.
    فنقول : إنّ ادّعاء تبادر الصحيح على الافتراض الأوّل غير ممكن ، لأنّ المفروض أنّ اللفظ مجمل فيها ، ومهما رجع العارف باللسان إلى ارتكازه لا يتبادر منه شيء.
    كما أنّ تبادر الصحيح منه على الافتراض الثاني وإن كان أمراً ممكناً لكنّه يرجع إلى الدليل الثالث ، وهو التعرف على الموضوع من حيث السعة والضيق من خلال آثاره كمعراج المؤمن.
    وبالجملة : لمّا ذهب المحقّق الخراساني وتلميذه المحقّق الاصفهاني إلى إجمال معنى اللفظ وإبهامه وعدم وضوحه إلاّ من خلال آثاره ، لم يكن لهم بد من إرجاع الدليل الأوّل إلى الثالث وحذف التبادر بما انّه دليل مستقل ، إذ لا معنى للتبادر مع القول بالإجمال ، وبعد رفع الإجمال بالآثار لا حاجة إلى التبادر لمعلومية الموضوع من خلال آثاره.
    وقد أورد على الاستدلال السيّد الأُستاذ قدَّس سرَّه بما هذا حاصله :
    إنّ أسماء الأجناس كالصلاة موضوعة للماهية المعرّاة عن كلّ شيء سوى نفسها ، وأمّا الصحّة فهي من لوازم وجود الماهية ، فانّ الماهية تتقرّر في مقام التسمية ، ثمّ توجد بفعل المكلّف ، ثمّ يعرضها الصحّة من المرحلة الثالثة ومعه كيف يمكن أخذ لازم الوجود في مرحلة التقرر الماهوي.
    يلاحظ عليه : أنّ الموضوع له ليس الماهية الصحيحة بالحمل الأوّلي أو الصحيحة بالحمل الشائع ( الصحة الخارجية ) لأنّهما ـ كما أفاد قدَّس سرَّه ـ متأخّران ، بل الموضوع له واقع الصحيح لا عنوانه ولا وجوده الخارجي نظير ذلك نسبة واقع التقدّم إلى عنوان التقدّم ، فانّ اليوم متقدّم على الغد بواقعه لا بعنوانه لأنّه لايوصف به ما لم يتحقّق الغد ، لأنّهما متضايفان ، هما متكافئان قوة وفعلاً ، ومع


(154)
ذلك فلليوم واقع التقدم وحقيقته. وقد صرح بذلك قدَّس سرَّه في الشرط المتأخر.
    وثانياً : انّ الدليل لا يثبت إلاّ كون الصحّة متبادراً في هذه الظروف ، وأمّا كونها كذلك في عصر النبي وبعده فلا يثبت بهذا النوع من التبادر.
    اللّهمّ إلاّ أن يدفع الإشكال بأصالة عدم النقل التي من لوازمها كون المتبادر اليوم هو المتبادر في عصر النبي ، وعند ذلك لا يكون التبادر دليلاً مستقلاً بل بضميمة أصل عقلائي آخر.
    الثاني : صحّة السلب عن الفاسد ، بسبب الإخلال ببعض أجزائه وشرائطه بالمداقة وإن صحّ الإطلاق عليه بالعناية ، فيقال الصلاة الفاسدة ليست بصلاة.
    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ الصلاة على مسلك المحقّق الخراساني وتلميذه موضوع لمعنى مبهم من جميع الجهات مبيَّن من جانب الآثار ، فعندئذ لا يمكن سلب الصلاة على وجه الإطلاق عن الصلاة الفاسدة ، وإنّما يكون المسلوب الصلاة المبيّنة من طريق آثارها كالنهي عن الفحشاء والمنكر ومعراج المؤمن ، فعندئذ يعود مفاد السلب إلى القول التالي : الصلاة الفاسدة ليست صلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ومن المعلوم أنّ السلب المقيّد لا يكون آية المجاز ، بل السلب المطلق دليل المجاز ، فلو قلنا العبد الكافر ليس رقبة مؤمنة لا يعدّ دليلاً على أنّه ليس برقبة على الإطلاق ، فآية المجاز هو ما إذا كان المحمول مسلوباً بنعت الإطلاق.
    وثانياً : أنّ صحّة السلب عن الفاسد إنّما هو بحسب عرفنا ، وأمّا أنّه كذلك حسب عرف النبيّ فلا يثبت إلاّ بأصالة عدم النقل ، وقد عرفت حالها.
    الثالث : الأخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواص والآثار للمسمّيات مثل « الصلاة عمود الدين » أو « معراج المؤمن » و « الصوم جنّة من النار » إلى غير ذلك ، أو نفي ماهياتها وطبائعها مثل : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » ونحوه ممّا كان ظاهراً


(155)
في نفي الحقيقة بمجرّد فقد ما يعتبر في الصحّة شرطاً أو شطراً ، وإرادة خصوص الصحيح من الطائفة الأُولى ، ونفي الصحّة من الثانية ، خلاف الظاهر لا يصار إليها مع عدم نصب قرينة عليه ، بل واستعمال هذا التركيب في نفي الصفة ممكن المنع حتى في مثل « لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد » ممّا يعلم أنّ المراد نفي الكمال بدعوى استعماله في نفي الحقيقة في مثله أيضاً بنحو من العناية لا على الحقيقة وإلاّ لما دلّ على المبالغة. (1)
    و أورد عليه سيّدنا الأُستاذ بأنّ هذه الآثار إنّما تترتّب على الصلاة إذا انضم إليها قصد القربة وإلاّ فلا تكون معراجاً ولا ناهية ، ولم يقل أحد بدخول هذا الجزء في مدلول الصلاة ، وعندئذ تكون الصلاة بالنسبة إلى هذه الآثار مقتضية لا علة تامّة ، والاقتضاء كما هو موجود في الصحيحة موجود في الفاسدة غاية الأمر أنّها في الأُولى أقرب إلى الآثار.
    يلاحظ عليه : أنّ القائل بالصحّة لا يدّعي أزيد من ذلك ، وهو أنّه وضع للماهية التامة من حيث الأجزاء والشرائط إذا انضم إليه قصد القربة تكون معراجاً للمؤمن وناهية عن الفحشاء والمنكر.
    وهذا بخلاف القول بالأعمّي ، فانّ المسمّى عنده إذا انضم إلى قصد الأمر لا تترتب عليه تلك الآثار على وجه القطع.
    نعم لو كان المدّعى كون الصلاة علّة تامّة لهذه الآثار بلا حاجة إلى شيء آخر ، لكان لما ذكر من الإشكال وجه ، لكن المدّعى غير ذلك كما عرفت.
    فإن قلت : على هذا تكون الصلاة الصحيحة مقتضية لهذه الآثار لا علّة تامّة ، ومع هذا القول لا يبقى فرق بينها و بين الفاسدة منها فانّها أيضاً مقتضية لهذه الآثار إذا انضم إليها ، سائر الأجزاء أو الشرائط.
1 ـ كفاية الأُصول : 1/45.

(156)
    قلت : هذا ما ذكره شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظله ـ في الدورة السابقة ـ لكن عدل عنه في هذه الدورة بما هذا حاصله : انّ ظاهر الروايات ، عدم الفصل بين الصلاة وهذه الآثار وانّها مترتبة عليها بلا ترتيب ، خرجنا عنه في مورد قصد القربة لأنّها روح العبادة ومقومها ، فالصلاة مع هذا الجزء علة تامة لهذه الآثار ، بخلاف الأعمّ من الصحيح والفاسد ، فهي ليست علة تامة حتى مع هذا الجزء ، بل يتوقف على انضمام أجزاء أُخرى إليها ، والروايات المبينة للآثار ، منصرفة عن هذا النوع من العبادة.
    نعم يرد على الاستدلال بالقسم الثاني من الروايات أنّ هذه التراكيب وإن كانت مستعملة في نفي الحقيقة حتى في نوعه « لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد » (1) ، وقوله : « يا أشباه الرجال ولا رجال » (2) لكن فرق بين نفي الحقيقة حقيقة و بين نفي الحقيقة مبالغة وعناية ، وهذه التراكيب كثيرة الاستعمال في نفي الحقيقة مبالغة وعناية مثل قوله : « لا رضاع بعد فطام » (3) ، و « لا رهبانية في الإسلام ». (4)
    ومع هذه الكثرة فلا تصلح تلك الأخبار للاستدلال ، لأنّ كثرة الاستعمال إذا صارت إلى حدّ وافر ، تزاحم ظهور اللفظ في نفي الحقيقة حقيقة كما في قوله : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » كما هو أساس الاستدلال. ولم يفرق المستدل بين نفي الحقيقة حقيقة ، ونفيها ادّعاءً ومبالغة.
1 ـ التهذيب للشيخ الطوسي : 3/261 ، باب فضل المساجد والصلاة فيها ، الحديث 55 ؛ الوسائل : 3 ، الباب 2 من أبواب أحكام المساجد ، الحديث 1 ، ورواه الدارقطني في سننه : 1/420.
2 ـ نهج البلاغة : الخطبة27.
3 ـ الوسائل : 14 ، كتاب النكاح ، الباب 5 من أبواب ما يحرم بالرضاع ، الحديث 5.
4 ـ بحار الأنوار : 68/317.


(157)
    الدليل الرابع : ويمكن تقريره بالنحو التالي ، وهو مركّب من مقدمات أربع :
    أ : انّ طريقة العقلاء في وضع الألفاظ هي وضعها للصحيح.
    ب : انّ الداعي إليه هو كثرة الحاجة إلى تفهيم الصحيح.
    ج : انّ هذه الحكمة أيضاً موجودة في وضع الشارع.
    د : لا يصحّ التخطّي عن هذه الطريقة. (1)
    يلاحظ عليه : بمنع المقدمة الثانية وهو كثرة الحاجة إلى تفهيم الصحيح فانّ الحاجة إلى تفهيم الفاسد ليست بأقل من العكس ، والأولى أن يقرر بنحو آخر ، وهو أنّ الغاية تحدِّد فعل الفاعل ، فلا يتصور أن يكون الفعل أوسع من الغرض والهدف ، فالسفر لغاية زيارة الصديق تتحدد بتلك الغاية ، و إرادة السفر في إطار أعم من هذا لا يصدر من الفاعل الحكيم.
    وعلى ضوء هذا فنقول : إنّ الشارع اخترع الصلاة لغاية خاصة ، وهي تهذيب الإنسان وتربيته ، ومن المعلوم أنّ تلك الغاية من نتائج الصلاة التامة لا الناقصة ، ومن آثار الصلاة الصحيحة لا الفاسدة ، فإذا كان الداعي للاعتبار هو تهذيب الإنسان وتربيته فيتحدد فعله ( أي اعتباره ماهية الصلاة ) بتلك الغاية ، فينتج أنّ ما هو المعتبر عند الشارع هو الصلاة الصحيحة لترتب الغرض عليه فقط ، وطبيعة الحال أن يكون المسمّى هو نفس المعتبر بأن يكون اللفظ موضوعاً لنفس ما اعتبره لا للأعم منه.
    نعم ربّما يتعلق الغرض بتفهيم قسم آخر وهو الفاسد فله أن يطلق عليه عناية. فقد خرجنا بالنتيجة التالية : انّ ألفاظ العبادات موضوعة للصحيح منها.
1 ـ كفاية الأُصول : 1/26.

(158)
    الجهة السادسة
في بيان أدلّة القول بالأعم
    إنّ دراسة القول بالأعم كدراسة القول بالصحيح فرع تصوير جامع له أوّلاً ، ثمّ دراسة أدلّته ، ولما كان هذا القول ساقطاً عندنا فندرس أدلّته فقط ونحيل دراسة تصوير الجامع إلى الكفاية وغيرها ، فقد بحثوا عنه بحثاً وافياً ، فلنركِّز البحث على دراسة أدلّته. استدلّ القائل بالأعم بوجوه :

    الأوّل : التبادر
    الثاني : عدم صحّة سلب الصلاة عن الفاسدة

    يلاحظ عليهما انّهما دليلان وجدانيان لا برهانيان ، إذ للخصم أيضاً أن يدّعي خلافها ، كما مرّ حيث إنّ الصحيحي كان يدّعي تبادر الصحيح من الصلاة كما يدّعي صحة سلب الصلاة عن الفاسدة ، فالأولى الإعراض عنهما و صبّ الجهود على دراسة سائر الأدلّة.

    الثالث : صحّة التقسيم إلى الصحيحة والفاسدة
    إنّ صحّة تقسيم الصلاة إلى الصحيحة والفاسدة آية كونها اسماً للأعم ، وذلك لأنّ المقسم يجب أن يكون موجوداً في جميع الأقسام وإلاّ لما صحّ التقسيم ، فلا يقال : الصلاة إمّا صحيحة أو سعي بين الصفا والمروة.


(159)
    وأجيب عن الاستدلال بأنّ الاستعمال لا يكون دليلاً على الحقيقة بل هو أعمّ من الحقيقة والمجاز.
    والجواب لا يخلو من نظر ، لأنّ الاستعمال إنّما لا يكون دليلاً على الحقيقة إذا احتمل فيه أنّ الإطلاق من باب الادّعاء ، وأمّا إذا اطلق على الشيء من دون شائبة ادّعاء فهو يكون دليلاً على الحقيقة ، كما أنّ المقام كذلك.
    نعم يرد على الاستدلال بأنّ صحّة التقسيم حسب أعصارنا حيث صار الابتلاء بالعبادات الفاسدة بين الناس أمراً رائجاً واتخذ التقسيم المزبور ذريعة لبيان حكم الفردين فعبروا عنها بالصحيح والفاسد ، وأمّا كون الأمر كذلك في عصر الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، أعني : عصر التسمية ، فلم يثبت ذلك.
    اللّهمّ إلاّ بمعونة أصالة عدم النقل حتى يثبت به صحّة التقسيم في عصره ، ولكن القدر المتيقن من هذا الأصل هو المورد الذي لم يكن هناك أي مظنة بالنقل ، بخلاف المقام فانّ الظن بالنقل موجود لأجل كثرة الحاجة إلى إفهام الفاسد من الموضوع.

    الرابع : حديث الولاية
    قال الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) : « بني الإسلام على خمس : الصلاة ، والزكاة ، والحجّ ، والصوم ، والولاية ، ولم يناد أحد بشيء كما نودي بالولاية ، فأخذ الناس بالأربع وتركوا هذه ، فلو أنّ أحداً صام نهاره وقام ليله ومات بغير ولاية لم يقبل له صوم ولا صلاة ». (1)
    وجه الاستدلال : أنّه لو كانت أسماء العبادات أسامي للأعم لصحّ وصفهم بالأخذ
1 ـ الكافي2/19 ، باب دعائم الإسلام ، الحديث 5.

(160)
بالأربع ، وأمّا على القول بوصفها للصحيح فلا يتم لهم الأخذ مطلقاً لا الأربع ولا الولاية.
    يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال غيرتام على كلا القولين ، سواء أقلنا بصحّة عباداتهم لكن مع عدم ترتب الثواب عليه ، أو ببطلان عباداتهم.
    أمّا على الأوّل : فالأخذ يحمل على الحقيقة ، فقد أخذوا بالأربع حقيقة ، لأنّ المفروض صحّة عباداتهم ، وأمّا على الثاني فالمراد من أخذهم هو أخذهم بها حسب اعتقادهم لا حسب الواقع ، وقد عقد صاحب الوسائل باباً أسماه « بطلان العبادة بدون ولاية الأئمّة ( عليهم السَّلام ) » (1) أورد روايات تناهز تسع عشرة رواية ، أكثرها دالة على صحّة عباداتهم ولكن لا تقبل ولا يترتب عليها الثواب فلاحظ رقم 2 ، 4 ، 5 ، 7 ، 8 وغيرها ، وعلى ذلك فيكون الأخذ على وجه الحقيقة.
    وهناك جواب آخر وهو أنّ المراد من الصحيح هو الصحيح النسبي أي الأجزاء والشرائط التامّة لا الصحيح المطلق كالصّحة لأجل الاعتقاد بالولاية فانّ الصحّة بهذا المعنى خارج عن المسمى قطعاً.
    الخامس : الحديث النبوي ، روي عنه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه قال لجارية كانت تعرف أيام حيضها : « دعي الصلاة أيام أقرائك ». (2)
    وجه الاستدلال : انّه لو لم يكن المراد منها الفاسدة لما صحّ النهي عنها لعدم قدرة الحائض على الصحيحة منها.
    يلاحظ عليه : أنّه إنّما يتم إذا كان النهي مولوياً فيشترط فيه أن يكون المتعلّق مقدوراً ، والصحيح ليس بمقدور ، وأمّا إذا كان إرشادياً إلى المانعية فلا يشترط فيه التمكّن لأنّ النهي لأجل بيان المانعية. والمراد إرشادها إلى أنّ الصلاة لا تجتمع مع الحيض.
1 ـ الوسائل : 1 ، الباب 29 من أبواب مقدمة العبادات.
2 ـ الكافي : 3/88 ، باب جامع في الحائض والمستحاضة ، الحديث 1.


(161)
    السادس : انّه لا شبهة في صحّة تعلّق النذر بترك الصلاة في مكان تكره فيه ، وحصول الحنث بفعلها ، ولو كانت الصلاة المنذور تركها خصوصَ الصحيحة لزم إشكالان :
    الإشكال الأوّل : عدم إمكان حنث الحلف ، لأنّ الحنث يتحقّق بالصلاة الصحيحة ، وهي غير مقدورة بعد نهي الشارع.
    الإشكال الثاني : يلزم المحال ، لأنّ المنذور حسب الفرض تعلّق بالصحيحة ، ومع النذر لا تقع صحيحة ، فيلزم من فرض تعلّق النذر بالصحيحة عدم صحّتها.
    أقول : إنّ الإشكال مشترك بين الصحيحي والأعمّي ، لأنّ متعلّق النذر على كلا القولين هو الصحيح لا الأعم ، لأنّ المنذور ليس ترك الأجزاء الرئيسية ، ولا الصورة المعهودة المشتركة بين الصحيح والفاسد ، فما هو الجواب عند الأعمّي هو الجواب عند الصحيحي. إذا عرفت ذلك فنقول :
    الأوّل : ما أجاب به المحقّق الخراساني ، وقال : لو صحّ ذلك لاقتضى عدم صحّة تعلق النذر بالصحيح لا عدم وضع اللفظ له شرعاً.
    مع أنّ الفساد من قبل النذر لا ينافي صحّة متعلّقه ، فلا يلزم من فرض وجودها عدمها. (1)
    أقول : أمّا الجواب الأوّل فواضح لا سترة عليه.
    وأمّا الجواب الثاني : فحاصله أنّ النذر منعقد ، والصلاة باطلة ، والحنث متحقق ، وما ذلك إلاّ لأنّ النذر تعلّق بما هو الصحيح في نفسه لا الصحيح من الجهات الطارئة عليه ، والصلاة في الحمام بعد تعلّق النذر بتركها ، صحيحة في حدّ نفسها على وجه لو أتى بها في البيت أو المسجد لكانت صحيحة بالفعل ، وإن
1 ـ كفاية الأُصول : 1/48.

(162)
كانت بعد تعلّق النذر باطلة بالفعل.
    بعبارة أُخرى : أنّ للصلاة في الحمام بعد تعلّق النذر بتركها نحوين من الصحة.
    أ : كونها صحيحة في حدّ نفسها ، أي تامّة الأجزاء والشرائط ، وهذه هي المنذور تركها.
    ب : ما هو الصحيح بالفعل وبالحمل الشائع ، وهو لم يتعلّق به النذر.
    وعلى ضوء ذلك فالنذر منعقد لرجحان ترك تلك الصلاة ، والحنث محقّق لأنّه أتى بالمنذور تركها أعني الصلاة الصحيحة في حدّ ذاتها ، وفي الوقت نفسه هي باطلة بالحمل الشائع لتعلّق النهي بها وليست بمبرئة للذمة.
    نعم لو تعلّق النذر بترك الصلاة المطلوبة بالفعل نمنع انعقاد النذر كما نمنع حصول الحنث بفعلها ، لأنّ ما أتى به ليس بصحيح بالفعل.
    الثاني : ما أفاده المحقق البروجردي ، وحاصله : منع انعقاد النذر من رأس ، بدليل أنّ صرف المرجوحية الإضافية لا يكاد يكون مصححاً لتعلّق النذر بتركه ، وإلاّ فمن الجائز شرعاً تعلّق النذر بترك الصلاة في البيت لمرجوحيتها بالإضافة إلى الصلاة في المسجد ، ولا أظـن أن يلتزم به أحـد في الفقه ، فالصلاة في الحمام أيضـاً كذلك فانّها ليست مرجوحة في حدّ نفسها بل هي مرجوحة بالقياس إلى غيرها مـن أطراف التخيير ، واللازم في صحّة النذر بالتـرك هو المرجـوحية الذاتية ، وأظـن أنّ الجمود على لفظ الكراهة في الصلاة في الحمام ممّا أوجب القول بصحّة النذر بتركها.
    وبعبارة أُخرى : المراد من كراهة الصلاة في الحمام هو كونها أقلّ ثواباً لا أنّ فيها حزازة ذاتية حتى يصحّ تعلق النذر بتركها ، وأمّا الأقلية فلا تكون مسوغة لتعلّق النذر ، وإلاّ لزم صحّة تعلق النذر بترك الصلاة في البيت أو في مسجد


(163)
المحلة لكونهما أقلّ ثواباً بالنسبة إلى المسجد الجامع. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ الكراهة في المقام هي من قبيل القسم الثاني ، أي كونها ذات حزازة ، فانّ الحمام محل الأوساخ والقذارات فإقامة الصلاة فيها أشبه بسقي المولى بماء عذب في وعاء قذر ، فقياس الصلاة في الحمام بالصلاة في البيت قياس مع الفارق ، ولذلك يتعلّق النذر بتركها في الحمام دون الثاني.
    الثالث : ما أفاده المحقّق الحائري وتبعه سيدنا الأُستاذ وحاصل كلامهما بإيضاح منّا : أنّ النذر صحيح والصلاة صحيحة بالفعل والحنث واقع.
    أمّا الأوّل : فلما عرفت من وجود الحزازة في الصلاة المأتي بها في الحمام فيصحّ تعلّق النذر بتركها كما يصحّ تعلّق النذر بترك سائر المكروهات.
    وأمّا الثاني : أي كون الصلاة صحيحة بالفعل فلتعدد متعلّق الأمر في الصلاة والنهي عن الحنث ، فالأمر تعلق بطبيعة الصلاة بما هي هي من دون أن يتعدّى الأمر عن متعلقه إلى شيء آخر ، كما أنّ النهي تعلّق بعنوان الحنث ، فالصلاة المأتي بها في الحمام مصداق ذاتي للصلاة ومصداق عرضي للحنث ، وقد ثبت في محله جواز اجتماع الأمر والنهي بين عنوانين بينهما من النسبة عموم و خصوص من وجه ، فالصلاة المأتي بها مصداق للواجب بالذات كما هي مصداق بالعرض للمنهي عنه.
    وأما الثالث : أي تحقّق الحنث لأنّ المفروض هو جواز اجتماع الأمر والنهي على شيء وعدم مزاحمة الأمر للنهي ، فهو صحيح بالفعل وقد حنث به نذره.
    إلى هنا تمّت أدلة القائلين بالأعم ، وقد عرفت سقم الجميع وعدم نهوضها على المدّعى ، بقي الكلام في ثمرات المسألة وهذه هي التي سنوضحها في الجهة الآتية.
1 ـ نهاية الأُصول : 54 ، الطبعة الثانية.

(164)
    الجهة السابعة
في ثمرات المسألة في مورد العبادات
    قد ذكر للمسألة ثمرات أربع نذكر واحدة منها :

    جواز التمسّك بالإطلاق
    وحاصل الثمرة : صحّة التمسك بالإطلاق على القول بالأعمّ وعدمها على القول بالصحيح.
    وذلك لأنّ الشكّ في جزئية شيء أو شرطيته ، عند الأعمّي يرجع إلى الشك في كونه داخلاً في المأمور به أو لا ، بعد إحراز الموضوع ، أعني : الجامع بين الصحيح والفاسد.
    بخلاف الشكّ عند الصحيحي فانّ الشكّ فيهما يرجع إلى الشكّ في صدق الموضوع وعدمه ، ومع الشكّ فيه لا يجوز التمسّك بالإطلاق.
    وجهه : أنّ الأركان الأربعة ـ مثلاً ـ تشكِّل عند الأعمي تمام المسمّى ، فيكون محرزاً باحرازه ، فيرجع الشك في جزئية


(165)
الاستعاذة إلى الشك في كونه جزءاً للمأمور به أو لا بعد إحراز الموضوع فتنفى جزئيته بالإطلاق.
    وأمّا عند الصحيحي ، فما وجب من جليل ودقيق فهو عنده داخل في المسمّى ، وليس عنده من التقسيم المزبور عين ولا أثر. مثلاً الشك في جزئية الاستعاذة ، يرجع إلى الشكّ في دخوله في المسمّى وعدمه ، و مع هذا الشك يكون الموضوع مشكوك الإحراز ، ومعه لا يصحّ التمسّك بالإطلاق ، فانّ التمسّك فرع إحرازه وتعلّق الشك بالطوارئ والعوارض كشرطية الإيمان في الرقبة.
    وردّت الثمرة بوجوه ثلاثة :
    الوجه الأوّل : أنّ الصحيحي وإن كان لا يتمكن من التمسّك بالإطلاقات اللفظية لكن بإمكانه التمسّك بالإطلاقات البيانية نظير الإطلاق الوارد في صحيحة حمّاد حيث قام الإمام و صلّى ركعتين وبيّن ـ عملاً ـ أجزاء الصلاة وشرائطها (1) ، فإذا شكّ في وجوب الاستفادة فيتمسّك بهذا الإطلاق المسمّى بالإطلاق البياني.
    يلاحظ عليه : أنّ ذلك خروج عن محط البحث ، فانّ الثمرة في المسألة هي جواز التمسّك بالإطلاقات اللفظية وعدمها ، وأمّا الإطلاقات البيانية فالصحيحي والأعمي أمامها سواسية.
    الوجه الثاني : أنّ الثمرة عديمة الفائدة ، لأنّ المطلقات الواردة في الكتاب لا يجوز التمسّك بها لعدم ورودها في مقام البيان ، فقوله : « أقيموا الصلاة » نظير قول القائل « الغنم حلال » فكما لا يجوز التمسّك بإطلاق قوله : « الغنم حلال » على حلية المغصوب والجلاّل والموطوء لعدم كونه في مقام البيان ، فهكذا الحال في إطلاقات الكتاب ، فانّها في مقام بيان أصل الحكم والتشريع لا في مقام بيان الخصوصيات ، وعندئذ فالصحيحي والأعمّي أمامها سيّان فلا يجوز التمسّك على كلا القولين ، غاية الأمر أنّ الصحيحي ليس له التمسّك لوجهين : إجمال الموضوع ، وكون الخطاب في غير مقام البيان ، والأعمي لوجه واحد.
1 ـ الوسائل : الجزء 4 ، الباب 1من أبواب أفعال الصلاة ، الحديث 1.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: فهرس