إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: 181 ـ 195
(181)
    الأمر الحادي عشر
في الاشتراك اللفظي
    الاشتراك اللفظي : عبارة عن كون اللفظ موضوعاً لمعنيين أو أكثر من واضع واحد (1) بأوضاع متعددة بالوضع التعييني أو التعيّني.
    ويقع الكلام فيه في جهات :

    الجهة الأُولى : في إمكان الاشتراك اللفظي
    لا شكّ في إمكان الاشتراك اللفظي والدليل عليه وجوده ، فهذه هي العين تستعمل في الباكية والجارية ، ولو افترضنا انّها كانت حقيقة في واحدة منهما واستعملت في الأُخرى لعلاقة المشابهة لنبع الماء فيهما ، لا يضرّ بالمقصود ، إذ ليس المدّعى تقارن المعنيين في الوضع ، بل يكفي التعاقب أيضاً.
    ثمّ إنّ هناك من أحال الاشتراك اللفظي بدعوى أنّه مخل بتفهيم المقصود من الوضع لخفاء القرائن.
    وأجاب عنه في « الكفاية » من إمكان الاتّكال على القرائن الواضحة أوّلاً ، ومنع كونه مخلاً بالمقصود لتعلّق الغرض بالإجمال ثانياً.
1 ـ هذا القيد من قبيل « لزوم ما لا يلزم » ذكره من أحاله كالمحقق الخوئي ، وإلاّ فالمشترك اللفظي ليس رهن واضع واحد ، بل الغالب هو تعدّد الوضع ، لتعدّد الواضع ، فتدبّر.

(182)
    ويمكن أن يقال انّ ما ذكره إنّما يتم إذا كان الواضع واحداً فيصدّه الاخلال عن الوضع الثاني دونما إذا كان متعدداً.
    ثمّ إنّ صاحب المحاضرات استدلّ على امتناع الاشتراك بأنّ الوضع الثاني يستلزم نقض الوضع الأوّل ، لأنّ الوضع ليس بمعنى جعل الملازمة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له ، أو جعله وجوداً تنزيلياً للمعنى ، بل بمعنى تعهد الواضع في نفسه بأنّه متى تكلّم بلفظ مخصوص لا يريد منه إلاّ تفهيم معنى خاص ، و من المعلوم أنّ هذا التعهد لا يجتمع مع تعهده ثانياً بأنّه متى تكلّم بذلك اللفظ لا يقصد إلاّ تفهيم معنى آخر مبايناً للأوّل ، ضرورة أنّه بذلك نقض ما تعهده أوّلاً.
    وإن شئت قلت : إنّ الوضع عبارة عن التعهد المجرّد عن الإتيان بأيّة قرينة ، وهذا غير متحقّق في الاشتراك اللفظي. (1)
    يلاحظ عليه : أنّه إنّما يصحّ إذا كان الواضع واحداً ، وأمّا إذا كان متعدداً فلا ، وسيوافيك أنّ الاشتراك اللفظي مستند إلى تباعد القبائل العربية بعضهم عن بعض.
    ثمّ إنّ هناك من زعم وجوب الاشتراك قائلاً : بأنّ الألفاظ والتراكيب المؤلّفة منها متناهية ، والمعاني غير متناهية والحاجة ماسّة إلى تفهيم المعاني بالألفاظ ولا يتم ذلك إلاّ بالاشتراك.
    وأجاب عنه في « الكفاية » : بأنّ المعاني إذا كانت غير متناهية فلا يمكن الوضع لها لا بالاشتراك ولا بغيره ، لاستلزامه الأوضاع غير المتناهية من الإنسان المتناهي.
1 ـ المحاضرات : 1/213.

(183)
    ولكن الظاهر أنّ مراد القائل هو كثرة المعاني لا كونها غير متناهية حقيقة.
    نعم ما ذكره من الأجوبة الثلاثة عقيب هذا الجواب هو الصحيح ، قال :
    1. إنّ المعاني على فرض تناهيها ، لا تمس الحاجة إلاّ بالقدر المتناهي منها ، لأنّ الأغراض المتداولة بين العقلاء متناهية.
    2. مع أنّه يكفي الوضع للمفاهيم الكلية وإرادة الجزئيات بالقرائن.
    3. انّ طريق التفهيم لا ينحصر بطريق الحقيقة ، بل يكفي إفهام المعاني بطريق المجاز ، وهو باب واسع. (1)
    ويمكن أن يجاب أيضاً بأنّ الألفاظ كالمعاني غير متناهية عرفاً ، وذلك بسبب تلفيق الحروف الهجائية بعضها مع بعض لا سيما إذا أُضيف إليها الاختلاف في الحركات فلا تكون الألفاظ أقلّ عدداً من المعاني المطروحة للعقلاء.

    الجهة الثانية : في منشأ الاشتراك
    الظاهر أنّ منشأ الاشتراك هو تشتت الناطقين باللغة العربية ، حيث كانت طائفة تعبّر بلفظ خاص عن معنى ، وطائفة أُخرى تعبّر به عن معنى آخر من دون أن تطّلع على ما في حوزة الأُخرى من أوضاع ، فلما قام علماء اللغة بجمع لغات العرب من أفواه القبائل العربية ظهر الاشتراك اللفظي.
    وهناك عامل آخر أقلّ تأثير من العامل الأوّل وهو ظهور الاشتراك في ظل كثرة الاستعمال في معنى مجازي إلى حدّ يصير حقيقة كما في لفظ « الغائط » فانّه موضوع للمكان الذي يضع فيه الإنسان ، ثمّ كنّى به القرآن عن فضلته إلى أن صار حقيقة.
1 ـ كفاية الأُصول : 1/53.

(184)
    الجهة الثالثة : في وقوع الاشتراك في القرآن
    لا شكّ في وجود الاشتراك في لغة العرب ، وقد جمع علماء اللغة المشتركات اللفظية فيها.
    وأمّا القرآن فقد ورد فيه النجم وهو مشترك بين الكوكب والنبات الذي لا ساق له ، قال سبحانه : ( والنّجم إِذا هَوى ) (1) وقال : ( وَالنَّجم وَالشَّجَر يَسْجُدان ) (2) ومثل النجم لفظة « النون » فانّه مشترك بين الحوت والدوات. (3)
    قال سبحانه : ( وَذا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِ رَ علَيْه ). (4)
    وقال سبحانه : ( ن وَالْقَلَم وَما يَسْطُرُون ). (5)
    ثمّ إنّ علماء علوم القرآن فتحوا باباً في المشتركات القرآنية أسموه بمعرفة الوجوه والنظائر وألّفوا في هذا المضمار رسائل وكتباً ، ولكنّهم خلطوا في كثير بين المصداق والمعنى. (6) مثلاً : ذكروا للقضاء معاني مختلفة كالفراغ ، والأمر ، والأجل ، والفصل ، والمضي ، والهلاك ، والوجوب ، والإبرام ، والإعلام ، والوصية ، والموت ، والنزول ، والخلق ، والفعل ، والعهد ، مع أنّ الجميع من مصاديق المعنى الواحد وهو العمل المتقن والتنفيذ القاطع.
    يقول ابن فارس (7) : ليس له إلاّ أصل واحد والجميع يرجع إلى ذلك وهو ما يدلّ على إحكام أمر ، وإتقانه وإنفاذه لجهة ، قال اللّه تعالى : ( فَقَضاهُنّ سبع
1 ـ النجم : 1.
2 ـ الرحمن : 6.
3 ـ مجمع البيان : 5/330 ؛ الإتقان : 1/667 ، أخرجه عن الحسن وقتادة.
4 ـ الأنبياء : 87.
5 ـ القلم : 1.
6 ـ لاحظ الإتقان في علوم القرآن : 1/445.
7 ـ إنّ ابن فارس بطل في حلبة ردّ المعاني الفرعية إلى الأصلية ، وكتابه « المقاييس » من أحسن الكتب ، ويليه ما ألّفه الزمخشري باسم « أساس البلاغة ».


(185)
سَموات في يومين ) (1) أي أحكم خلقهن ، والقضاء : الحكم ، قال اللّه سبحانه في ذكر من قال : ( فاقض ما أَنت قاض ) (2) أي اصنع واحكم ، ولذلك سمّي القاضي قاضياً ، لأنّه يحكم الأحكام وينفذها ، وسمّيت المنية قضاء لأنّها أمر ينفذ في ابن آدم وغيره من الخلق.
    إلى أن قال : وكلّ كلمة في الباب فانّها تجري على القياس الذي ذكرناه ، فإذا هُمز تغيّر المعنى ، يقولون : القُضاة : العيب ، يقال ما عليك منه قضاة ، وفي عينه قضاة : أي فساد. (3)
1 ـ فصّلت : 12.
2 ـ طه : 72.
3 ـ لاحظ في ذلك المقاييس : 5/99 ـ 100 ، مادة قضى.


(186)
    الأمر الثاني عشر
في جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى
    كان البحث السابق يدور حول إمكان الاشتراك و عدمه ، فإذا ثبت وجود اللفظ المشترك يقع الكلام في جواز استعماله في أكثر من معنى واحد.
    ومحلّ النزاع هو أن يكون كلّ من المعنيين ملحوظاً بحياله واستقلاله مثلما استعمل في واحد منهما ، فخرجت الصورتان التاليتان عن محط النزاع :
    أ. إذا استعمل في مجموع المعنيين ، بحيث يكون كلّ منهما جزء المستعمل فيه ، نظير العام المجموعي عند الأُصوليين.
    ب. إذا استعمل في معنى جامع لكلا المعنيين ، كما إذا استعمل في المسمّى بالعين الشاملة للذهب والفضة ، والباكية والجارية.
    فإنّ هاتين الصورتين ليستا من قبيل استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، بل الأُولى استعمال في معنى مركب من معنيين حقيقتين ، كما أنّ الثانية استعمال في جامع المعنيين ، والمستعمل فيه ذو أجزاء ، وفي الثانية ذو أفراد.
    وعلى كلّ تقدير ، فالظاهر من القدماء أنّ البحث في الجواز وعدمه بحث لغوي ، ولكن الظاهر من المتأخرين أنّ البحث عقلي.
    ولذلك استدلّوا للامتناع العقلي بوجوه ، نذكرها مع تحليلها.


(187)
    1. جواز الاستعمال رهن لفظ ولحاظ ثان
    استدلّ المحقّق الخراساني على الامتناع بأنّ الاستعمال ليس مجرّد جعل اللفظ علامة للمعنى حتى يصحّ جعل اللفظ الواحد علامة لشيئين ، بل الاستعمال إفناء اللفظ في المعنى ، فإذا كان فانياً في أحد المعنيين ، فافناؤه في المعنى الثاني يحتاج إلى لحاظ اللفظ بغير اللحاظ الأوّل ، والمفروض انتفاؤه ، قال في « الكفاية » :
    حقيقة الاستعمال ليس مجرّد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى ، بل جعله وجهاً وعنواناً له ، بل بوجه نفسه ، كأنّه الملقى ، ولذا يسري إليه قبحه وحسنه كما لا يخفى ، ولا يكاد يمكن جعل اللفظ كذلك إلاّ لمعنى واحد ، ضرورة انّ لحاظه هكذا في إرادة معنى ، ينافي لحاظه كذلك في إرادة الآخر ، حيث إنّ لحاظه كذلك ، لا يكاد يكون إلاّ بتبع المعنى فانياً فيه فناء الوجه في ذي الوجه والعنوان في المعنون ، ومعه كيف يمكن إرادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد ، مع استلزامه للحاظ آخر ، غير لحاظه كذلك في هذا الحال ؟! (1)
    يلاحظ عليه : أنّه إن أُريد من الإفناء ، المعنى الحقيقي بأن يتبدّل اللفظ إلى المعنى وتذهب فعلية اللفظ ، فهو غير صحيح ، ولا يلتزم به القائل ، وإن أُريد أنّ الغرض الذاتي يتعلّق بالمعنى دون اللفظ ، فالتالي غير ممتنع ، إذ أي مانع من أن يتعلّق الغرض الذاتي بمعنيين وينظر إليهما بلفظ واحد ملحوظ بلحاظ فارد.

    2. اجتماع لحاظين آليّين في شيء واحد
    استدلّ المحقّق العراقي بأنّ وضع اللفظ للمعنى ليس جعله علامة عليه
1 ـ كفاية الأُصول : 1/54 ، المطبوع بحاشية المشكيني رحمه اللّه.

(188)
ولو بنحو التنزيل ، بل هو جعل اللفظ مرآة تحكي المعنى وتصوره للسامع ، واستعمال اللفظ في المعنى هو فعلية كون اللفظ الموضوع مرآة وحاكياً. وبما أنّ المرآة ملحوظة حين استعمالها باللحاظ الآلي ، فيلزم من استعمال اللفظ الواحد في معنيين أو أكثر ، أن يلحظ ذاك اللفظ الواحد ، في آن واحد ، بلحاظين آليينَ وحينئذ يجتمع اللحاظان في واحد شخصي.
    نعم لو كانت حقيقة الوضع هو العلامة ، فلا مانع من كون شيء واحد علامة لشيئين. (1)
    والفرق بين تقريري الأُستاذ ( الخراساني ) و التلميذ ( العراقي ) ، انّ تقرير الأُستاذ يركز على لزوم وجود لفظ ولحاظ آخر باعتبار انّ الاستعمال إفناء للّفظ ، ولابدّ في الاستعمال في المعنى الثاني من لحاظ ولفظ واستعمال آخر.
    وهذا التقرير يركز على استلزام الاستعمال اجتماع لحاظين آليين في شيء واحد.
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره مبني على أنّ تعدّد اللحاظ في المعنيين يلازم تعدده في اللفظ المستعمل فيها ، ولكن الظاهر أنّه لا ملازمة بين تعدّد اللحاظ في المعنى ، وتعدّده في اللفظ ، وذلك لأنّ كلاً من المعنيين تعلّق به الغرض الذاتي فيكون كلّ منهما ملحوظاً على وجه الاستقلال ، بخلاف اللفظ فانّه متعلّق بالغرض تعلقاً آلياً ، فيكفي في مقام استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى ، تصوّر المعنيين مستقلاً أوّلاً ، ثمّ الانتقال منهما إلى اللفظ ثانياً ، والانتقال منه إلى المعنيين ثالثاً.

    3. اجتماع لحاظين مستقلين في صقع النفس
    استدلّ المحقّق النائيني على الامتناع بأنّ لازم استعمال اللفظ في المعنيين
1 ـ بدائع الأفكار : 1/146 ، وما أفاده تعبير آخر عما في « الكفاية ».

(189)
على نحو الاستقلال ، تعلّق اللحاظ الاستقلالي بكلّ واحد منهما في آن واحد ، كما إذا لم يستعمل اللفظ إلاّ فيه ، ومن الواضح أنّ النفس لا تستطيع أن تجمع بين اللحاظين المستقلين في آن واحد. (1)
    وهذا التقرير يغاير التقريرين السابقين ، فانّ الأوّل كان يركّز على أنّ الاستعمال رهن لحاظ ثان وهو غير موجود ، كما أنّ الثاني يركز على أنّ لازم الاستعمال اجتماع لحاظين آليين في شيء واحد.
    وهذا التقرير يركز على أنّ النفس ليس بمقدورها ملاحظة معنيين بحيالهما واستقلالهما.
    يلاحظ عليه : أنّ الممتنع هو اجتماع لحاظين مستقلين في آن واحد في معنى واحد ، لأنّه أشبه باجتماع المثلين.
    وأمّا تعلّق اللحاظين المستقلين بمعنيين في آن واحد كما في المقام فليس يمتنع ، والشاهد على ذلك انّ النفس تستخدم العين والسمع والذائقة والشامة في آن واحد ويكون مدركات كلّ منها ملحوظة بالاستقلال أيضاً.

    4. إيجاد ماهيتين مختلفتين بوجود واحد
    استدلّ المحقّق الاصفهاني في تعليقته بأنّ حقيقة الاستعمال إيجاد المعنى في الخارج باللفظ ، حيث إنّ وجود اللفظ في الخارج ، وجود لطبيعي اللفظ بالذات ، ( تكويناً ) ووجود لطبيعي المعنى بالجعل والمواضعة والتنزيل ، لا بالذات ، ولا يعقل أن يكون وجود واحد وجوداً لماهيتين بالذات ، وحيث إنّ الموجود الخارجي ( اللفظ ) بالذات واحد ، فلا مجال لأن يقال : انّ وجود اللفظ وجود لهذا المعنى
1 ـ المحاضرات : 1/217 ولاحظ أجود التقريرات : 1/51 والمذكور في الثاني لا يخلو من إجمال.

(190)
خارجاً ، ووجود آخر لمعنى آخر ، حيث لا وجود آخر حتى ينسب إلى الآخر بالتنزيل ، وليس الاستعمال إلاّ إيجاد المعنى بنحو وجوده اللفظي خارجاً ، وقد عرفت أنّ الإيجاد والوجود متحدان بالذات وحيث إنّ الوجود واحد فكذا الإيجاد. (1)
    وحاصل ما أفاده يرجع إلى أمرين :
    1. اللفظ وجود تنزيلي للمعنى ، فإذا صار وجوداً لأحد المعنيين ، فلا وجود آخر له.
    2. الوجود والإيجاد واحد بالذات ، والاختلاف بالاعتبار ، فإذا كان وجود اللفظ واحداً بالذات ، فليكن إيجاداً كذلك ، لتفرّع الإيجاد على الوجود في الوحدة والكثرة.
    يلاحظ عليه : أنّ أساسه خلط الاعتبار بالتكوين ، فانّ الإيجاد التكويني لا يتعلّق إلاّ بماهية واحدة دون ماهيتين ، وأمّا الإيجاد الاعتباري فلا دليل على أنّه كذلك ، إذ أيّ مانع من فرض اللفظ وجوداً لكلّ من المعنيين في وعاء الاعتبار ، وهل هذا إلاّ اجراء حكم التكوين على الاعتبار ؟
    أضف إلى ذلك أنّه لا دليل على أنّ اللفظ إيجاد للمعنى ، بل وسيلة للالتفات إلى المعنى ، فاستعمال اللفظ أشبه بكونه سبباً للانتقال إلى المعنى.
    إلى هنا تبيّن أنّه لا دليل على امتناع الاستعمال ، لكن يقع الكلام في وجود المانع من جانب الواضع وعدمه ، فلو كان هناك مانع فإنّما هو من ناحية الوضع.
1 ـ نهاية الدراية : 1/64.

(191)
    المانع من جهة الوضع
    ذهب المحقّق القمي إلى أنّ المانع هناك وضعي لا عقلي وهو أنّ الواضع وضع اللفظ للمعنى في حال الوحدة فلا يجوز استعمال المفرد في غير حال الانفراد لا حقيقة ولا مجازاً ، أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلانّه لم تثبت الرخصة في هذا النوع من الاستعمال. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ اللفظ وإن وضع للمعنى حال الوحدة لكن القيد ( حال الوحدة ) ليس قيداً للموضوع له ولا قيداً للوضع فلا يكون مانعاً من الاستعمال.
    فإن قلت : إنّ الوحدة وإن لم تكن قيداً لواحد منهما لكن الوضع لم يتحقّق إلاّ في هذه الحالة فكيف يستعمل في غيرها ؟
    قلت : إنّ الضيق الذاتي إنّما يكون مانعاً إذا كان الاستعمال بملاك وضع واحد ، وأمّا إذا استعمله بملاك وضعين فلا يكون مثله مانعاً عن الاستعمال.
    والحاصل : أنّ كون المعنى موضوعاً له في حال الوحدة لا يكون مانعاً من استعماله في أكثر من معنى واحد وإلاّ يرجع إلى كونه قيداً لأحدهما والمفروض عدمه.
    ثمّ أدلّ دليل على إمكانه هو وقوعه ، فقد قام أحد المعنيين بالأدب العربي (2) بجمع شواهد على تحقّق استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى ، ونحن نقتصر على شيء قليل.
    يقول الشاعر في مدح النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) :
المرتمي في الدجى ، والمبتلى بعمى والمشتكي ظمأ والمبتغي دينا

1 ـ قوانين الأُصول : 1/63 ، طبعة تبريز عام 1315 هـ.
2 ـ المحقّق أبو المجد الشيخ محمد رضا الاصفهاني في كتاب « وقاية الأذهان ».


(192)
يأتون سدّته في كلّ ناحية ويستفيدون من نعمائه عيناً
    فاستعمل الشاعر لفظ « العين » في الشمس ، و البصر ، والماء الجاري ، والذهب حيث إنّ المرتمي « المرميّ » في الدجى ، يطلب الضياء ، والمبتلى بالعمى يطلب العين الباصرة ، والإنسان الظمآن يريد الماء ، والمستدين يطلب الذهب.
    بقيت هنا أُمور :
    الأوّل : لو قلنا بجواز استعمال اللفظ في الأكثر فالظاهر أنّه حقيقة في المفرد والمثنى والجمع ، لما عرفت من أنّ محط النزاع استعمال اللفظ في كلّ واحد من المعنيين مستقلاً ، بالنظر إلى الوضعين لا في مجموع المعنيين على نحو التركيب ولا في الجامع بين المعنيين وقد عرفت أنّ الوحدة ليست قيداً للوضع ولا للموضوع له.
    نعم ذهب صاحب المعالم إلى أنّ استعمال المفرد في الأكثر مجاز ، واستعمال غيره كالتثنية والجمع في الأكثر حقيقة.
    أمّا الأوّل ، فلاستلزامه سقوط قيد الوحدة المأخوذ في الموضوع له ؛ وأمّا الثاني ، فلأنّ التثنية بمنزلة تكرير اللفظ ، فكأنّك نطقت بلفظين ، واستعملت كلاً في معنى خاص.
    وما ذكره غير تام ، أمّا في المفرد فلما عرفت من أنّ الوحدة ليست قيداً لا في الوضع ولا في الموضوع له.
    وأمّا الثاني أي استعمال التثنية والجمع في أكثر من معنى حقيقة ، فلأنّ الظاهر أنّ الهيئة فيهما تدل على تعدد ما أُريد من المفرد ، فلو أُريد من المفرد أحد المعاني فيدلّ على الفردين منه ، وعندئذ لا يكون من قبيل استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى ، وإن أريد منه أكثر من معنى واحد فالهيئة تدل على الفردين


(193)
من كلّ من المعنيين ، كفردين من العين الجارية وفردين من العين الباكية ، ولا يكون الاستعمال حقيقة أيضاً على مبناه ، لاستلزامه حذف الوحدة الملحوظة.
    وحاصل الكلام : انّ الاستعمال على وجه يكون حقيقة ولا يكون من قبيل استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، وعلى فرض آخر يكون من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، ولكن لا يكون الاستعمال حقيقة على مبناه.
    الثاني : إذا ثبت جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، فهل يحمل المشترك على جميع المعاني عند عدم قرينة على واحد منها ، أو لا ؟
    ذهب المحقّق البروجردي إلى الأوّل ، قائلاً بأنّه حقيقة في الجميع فمقتضى أصالة الحقيقة في الاستعمالات حمله على الجميع.
    يلاحظ عليه : أنّ المتَّبَع في الكلام هو الظهور العرفي ، حتى أنّ العمل بأصالة الحقيقة ، لأجل كون المجاز خلاف الظاهر المتبادر ، ولا شكّ أنّ المتبادر هو إرادة واحد من المعاني لا أكثر ، لأنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى نادر ، فلا يصار إليه إلاّ أن يدلّ عليه دليل.
    الثالث : هل يجوز استعمال اللفظ الواحد في المعنى الحقيقي والمجازي معاً ؟
    الظاهر أنّه لا يوجد مانع عقلي ولا قانوني ، نعم ربما يقال بامتناعه ، لأنّ استعماله في المعنى الموضوع له يصيّره حقيقة ، واستعماله في الوقت نفسه في غير الموضوع له يصيّره مجازاً ، والمجاز والحقيقة متضادان لا يجتمعان.
    يلاحظ عليه : بأنّ ما ذكره إنّما يتم في الأعراض المتأصلة كالسواد والبياض دون الأُمور الاعتبارية كالحقيقة والمجاز. ولا مانع من وصف الاستعمال الواحد حقيقة باعتبار ، ومجازاً باعتبار آخر.


(194)
    الرابع : قد ورد في الروايات أنّ للقرآن تنزيلاً وتأويلاً ، وأنّ لآياته ظهراً وبطناً ، فربّما استدلّ القائل بجواز استعمال المشترك في معنيين بهذه الروايات بذريعة أنّ التأويل غير التنزيل ، والبطن غير الظهر.
    ولكن الظاهر انّه لا صلة لهذه الروايات بمحل النزاع ، وإليك التفصيل.
    أمّا التأويل فيستعمل في موردين :
    الأوّل : تأويل خصوص المتشابه.
    الثاني : تأويل الآيات القرآنية.
    أمّا الأوّل فقد أشار إليه سبحانه بقوله : ( هُوَ الَّذِي أنْزلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتاب وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَالْفِتْنَة وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاّ اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّر إِلاّ أُولُوا الأَلْباب ). (1)
    فالتأويل من آل ، يؤول : رجع ويرجع في هذه الآية بمعنى إرجاعها إلى ما هو المراد الواقعي ، فانّ للآيات المتشابهة ظهوراً غير مستقر ، فالذين في قلوبهم زيغ يتبعون الظهور المتزلزل ابتغاء الفتنة ، وأمّا غيرهم فيتأمّلون فيها ويرجعون الآية في ظل الآيات المحكمة إلى ما هو المراد واقعاً ويستقر بذلك ظهورها.
    مثلاً قد وردت آيات حول صفاته سبحانه التي تسمّى بالصفات الخبرية كاليد والوجه والعين ، والاستواء على العرش ، إلى غير ذلك من الآيات التي لها ظهور بدوي وهو ظهور غير مستقر ، وظهور نهائي وهو ظهور مستقر.
    أمّا الظهور البدوي فهو أنّ للّه سبحانه أعضاء كأعضاء الإنسان ، واستقراراً على العرش كاستواء الإنسان على السرير.
1 ـ آل عمران : 7.

(195)
    وأمّا الظهور المستقر فهو ما يتبادر من الآية بعد الإمعان في القرائن الحافّة بها ، بضميمة الرجوع إلى الآيات المحكمة التي هي كالقرائن المنفصلة بالنسبة إلى الآية ، وعلى ذلك فالمراد من التأويل الذي هو مصدر باب التفعيل ، بمعنى إرجاع الآية إلى ما هو المقصود بالتأمل في القرائن والشواهد المتصلة والمنفصلة.
    ومن القول الخطأ تفسير التأويل بمعنى حمل الآية على خلاف ظاهرها ، لأجل مخالفتها لحكم العقل أو الحكم القطعي من الشارع فيؤوّل أي يصرف إلى خلاف ظاهرها بغية الجمع بين مفاد الآية وحكم العقل أو الآيات الأُخرى.
    وجه الخطأ : انّ التأويل بهذا المعنى مصطلح جديد للمفسرين والأُصوليّين وليس له أثر في كتب اللغة ، وحاشا أن توجد في القرآن آية مخالفة لحكم العقل ، أو الحكم القطعي في الشرع حتى يصرف إلى خلاف ظاهرها ، فما يتبادر من المخالفة كما في مورد الصفات الخبرية فإنّما هي مخالفة بدوية وظهور غير مستقر ، وأمّا الظهور المستقر للآية فلا يكون مخالفاً لسائر الأدلة ، ولأجل المزيد من الإيضاح نأتي بمثال يرجع إلى استعمال اليد في الآيات :
    1. يقول سبحانه ( قالَ يا إِبليسُ ما مَنَعَكَ أن تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَديّ أَسْتَكْبَرتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ العالِين ). (1)
    فنقول : إنّ اليد في الآية استعملت في العضو المخصوص ولكن كُنِّي بها عن الاهتمام بخلقة آدم حتى يتسنّى بذلك ذم إبليس على ترك السجود لآدم ، فقوله سبحانه : ( ما منَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بيدي ) كناية عن أنّ آدم لم يكن مخلوقاً لغيري حتى يصحّ لك يا شيطان التجنّب عن السجود له ، بحجّة أنّه لا صلة له بي ، مع أنّه موجود خلقتُه بنفسي ، ونفخت فيه من روحي ، فهو مخلوقي الذي قمت
1 ـ ص : 75.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: فهرس