إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: 226 ـ 240
(226)
    الأوّل : حكم الاستصحاب في الأحكام الكلية ، سواء أكانت الشبهة مفهومية أو لا.
    الثاني : حكم الاستصحاب في الأحكام الكلية في خصوص ما إذا كانت الشبهة مفهومية.
    أمّا الأوّل : فلأنّ الإشكال الماثل في نظر الأعلام هو ارتفاع الموضوع ، فإذا قال الشارع ( الماء المتغيّـر نجس ) فلو فرضنا زوال تغيّره بنفسه وشككنا بقاء الحكم لا يصحّ استصحاب الحكم الكلي ، لأنّ الموضوع هو الماء المتغيّـر ، والمفروض زواله ، فكيف يستصحب ؟ ونظيره استصحاب النجاسة المترتبة على العنب المغلي واسرائه إلى الزبيب المغلي مع أنّهما موضوعان متغايران.
    هذا هو حقيقة الإشكال في جريان الأصل في الأحكام الكلية على وجه الإطلاق ، وأمّا دفع هذا الإشكال فحاصله : أنّ هنا خلطاً بين استصحاب الحكم الكلي المترتب على عنوان الماء المتغيّر وإسرائه إلى عنوان آخر وهو الماء غير المتغيّـر ، وبين استصحاب الجزئي بعد انطباق الحكم الكلي على مصداقه الخارجي ، وزوال الموضوع يختص بالأوّل دون الثاني ، إذ لا شكّ أنّ إسراء حكم عنوان إلى عنوان آخر أشبه بالقياس ولا يصدق عليه النقض إذا لم يترتب حكم الأوّل على الثاني.
    وأمّا إذا افترضنا أنّ هذا الحكم الكلي ( الماء المتغيّر نجس ) انطبق على الخارج ومصداقه الجزئي ، فصار الماء الموجود في الحوض محكوماً بالنجاسة ، فعند ذلك يصير الموضوع هو الماء الموجود في الخارج لا عنوان الماء المتغيّـر.
    فإذا افترضنا أنّه زال تغيّره بنفسه فبما أنّ الموضوع ـ للحكم الشرعي بعد الانطباق ـ هو ذلك الماء المشخّص لا ( العنوان الكلي ) فنشير إلى ما بين أيدينا من


(227)
الماء ، ونقول : كان هذا نجساً والأصل بقاء نجاسته ، ومن الواضح أنّ الوحدة محفوظة في كلتا الحالتين وليس هاهنا ماءان ، بل هو ماء واحد في الحوض زال شيء من أوصافه ، فالوحدة محفوظة ومرجع الشكّ إلى أنّ التغيّر في الدليل هل هو حيثية تقييدية فتدور النجاسة مدار وجودها ، أو حيثية تعليلية فيكفي وجود التغيّر آناً ما ؟
    والحاصل : أنّ عالم المفاهيم مثار الكثرة ، فالموضوع في لسان الدليل هو مفهوم الماء المتغيّر ـ وإن كان يشار به إلى الخارج ـ لكنه في عالم العقل غير الماء الذي زال تغيّـره ، وأمّا بعد الانطباق وصيرورة الهوية الخارجية موضوعاً للنجاسة ، فجواز الاستصحاب وعدمه يدور مدار حفظ الهوية الخارجية ، وقد عرفت أنّ الماء في كلتا الحالتين ماء واحد وموضوع فارد وإنّما تغيّر بعض أوصافه ، فعندئذ يحكم ببقاء نجاسة هذا الماء.
    وبذلك تعلم صحّة استصحاب الحكم ، المترتب على العنب المغلي وإسرائه إلى الزبيب وذلك بالبيان السابق ، فانّ العنب والزبيب وإن كانا موضوعين وهما كثيران متعددان ، متغايران في عالم المفهوم ولا يصحّ إسراء حكم العنب إلى الزبيب لأنّه أشبه بالقياس ، لكن إذا انطبق الحكم الكلّي على العنب الخارجي المغلي فيصير الموضوع بعد ذلك العنب الخارجي لا عنوان العنب ، وعندئذ يشار إليه بأنّه كان إذا غلى ينجس ، وهكذا إذا صار زبيباً لوحدة الهوية الخارجية وإنّما طرأ التغيّر على حالات الموضوع من حيث اشتماله على الرطوبة وجفافها.
    هذا كلّه حول استصحاب الحكم الكلّي على وجه الإطلاق.
    وأمّا الثاني : أي استصحاب الحكم الكلي فيما إذا كانت الشبهة موضوعية.
    بيانه : أنّه إذا كان الشكّ في البقاء ناشئاً عن إجمال الموضوع كالمغرب لتردده


(228)
بين كونه نفس استتار القرص أو هو مع ذهاب الحمرة المشرقية ، فلو افترضنا استتار القرص وعدم ذهاب الحمرة ، وشككنا عندئذ في حرمة الإفطار فالموضوع بمفهومه الكلّي مشكوك إذ هو على فرض مرتفع ، وعلى فرض آخر باق ، لكن موضوع الاستصحاب ـ أي استصحاب الحكم الجزئي ـ ، ليس هو مفهوم النهار بل الزمان الموجود فيشار إليه بأنّه كان الإمساك فيه واجباً والأصل بقاؤه. أو كانت إقامة العصر فيه واجبة والأصل بقاؤها ، وقد ثبت في محله انّ للزمان بقاءً بحسبه كالزمانيات والجوامد.
    وهذا إجمال ما تلقيناه من السيّد الأُستاذ ، وقد حكاه عن شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري في درسه الشريف ، وسيوافيك مزيد توضيح في مبحث الاستصحاب ، وممّا ذكرنا يعرف حا ل المقام فلا نطيل.

    الأمر العاشر : نفي الملازمة بين التركّب والوضع للأعم
    ذهب المحقّق النائيني إلى الملازمة بين نظرية تركّب المشتق ووضعه للأعم ، ونظرية بساطته والقول بوضعه للأخص. قال : إنّ الركن الوطيد على القول بالوضع للمركّب هو الذات وانتساب المبدأ إليها. ومن المعلوم أنّ النسبة الناقصة لم يؤخذ فيها زمان دون زمان ، وقد تبيّن عدم دلالة الأفعال على الزمان ، فالمشتقات لا تدلّ عليه بالأولوية. ولذا كان المشهور بين القدماء القائلين بالتركيب هو الوضع للأعم ، وهذا بخلاف القول بوضعه لمعنى بسيط فانّ الركن في صدق المشتق بناء على البساطة هو نفس المبدأ ، غاية الأمر أنّه ملحوظ بنحو يصحّ معه الحمل ، ولا يكون مبائناً للذات بحسب الوجود ، فيقوم الصدق بالمبدأ فإذا انعدم وانقضى فلا محالة لا يصدق العنوان الاشتقاقي إلاّ بالعناية. (1)
1 ـ أجود التقريرات : 1/75 ـ 76.

(229)
    يلاحظ عليه : أنّه لا ملازمة بين التركّب والوضع للأعم ، كما لا ملازمة بين البساطة والوضع للأخص.
    أمّا الأوّل : فلو افترضنا أنّ الركن الركين على القول بالتركّب هو الذات لكن يمكن ملاحظتها مع المبدأ ( غير الركن ) بإحدى الصورتين التاليتين :
    أ. الذات المتلبّسة بالمبدأ.
    ب. الذات المنتسب إليها المبدأ.
    فالأوّل : لا يصدق إلاّ على المتلبّس بالفعل ، وأمّا الثاني فيكفي في الصدق مجرّد الانتساب إلى المبدأ و إن انقضى عنه.
    وما أفاده من أنّ المشتق لا يدلّ على الزمان ( زمان النطق أو زمان التلبّس ) وإن كان صحيحاً لكنّه لا يفيده لما عرفت من أنّ المراد من الحال ليس أحد الزمانين ، بل فعلية التلبّس ، فيرجع النزاع إلى أنّ الموضوع له هل هو المتلبس بالفعل أو المنتسب إليه المبدأ ؟
    وأمّا الثاني : فلأنّ ما ذكره مبني على ما اختاره الشريف من أنّ المشتق عين المبدأ ، والفرق بينهما هو كون الأوّل لابشرط والآخر بشرط لا ، وعندئذ يكون الركن الركين هو المبدأ ، ومع زواله لا معنى لصدقه.
    ولكن سيوافيك عدم صحّة مختار الشريف ، وأنّ الفرق بين المشتق والمبدأ أوسع ممّا ذكره ، بل بينهما مغايرة تامّة وإن كان كلّ بسيطاً ، فالمبدأ هو نفس الحدث أو نفس العنوان ، والمشتق هو ، المعنون ، وهو مفهوم وحداني بسيط منحل عند العقل إلى ذات وعنوان ونسبة.
    وعندئذ يقع الكلام في أنّ الموضوع له هو المفهوم الوحداني الذي لا ينطبق إلاّ على المعنون بالمبدأ حدوثاً وبقاءً ، أو المفهوم الوحداني الذي يكفي في انطباقه عبر الزمان كونه معنوناً حدوثاً وإن زال العنوان بقاءً.


(230)
    دعوى أُخرى : للمحقّق النائيني
    ذهب المحقّق النائيني إلى أنّ القول بالأعم يحتاج إلى تصوير جامع بين المتلبّس والمنقضي ولا جامع بينهما ، فإذا لم يعقل وجود الجامع فلا مجال لدعوى الوضع للأعم. (1)
    وقد استحسنه سيّدنا الأُستاذ ، وقال : لا محيص للقائل بالأعم من تصوير جامع بينهما ، وإلاّ يلزم الاشتراك اللفظي ، ولو امتنع تصوير الجامع يسقط دعواه. ولكن الجامع غير موجود إذ الجامع الذاتي بين الواجد والفاقد غير موجود ، وأمّا الجامع الانتزاعي فهو إمّا بسيط أو مركّب ، والجامع البسيط على قسمين لأنّه إمّا جامع بسيط لا ينحلّ إلى شيئين وإمّا ينحل.
    والأوّل غير معقول لعدم وجود جامع بسيط يتكفّل إفهام كلا المعنيين وإخراج المتلبّس فيما بعد ، والجامع البسيط المنحل إلى المركب غير متصور إذ هو لابدّ أن ينتزع من الواقع ، والانتزاع فرع صلاحية الواقع ، إذ كيف يصحّ انتزاع مفهوم بسيط منحل واحد من الواجد والفاقد ، أمّا الجامع التركيبي التفصيلي فهو وإن كان ممكناً حتى يدخل المعنيان ويخرج الثالث لكنّه ممّا لا يرضى به القائل بالأعم. (2)
    يلاحظ عليه : أنّ الجامع هو الجامع البسيط المنحل إلى المركب ، وهو المعنون بما هو معنون وهو ينحل عقلاً إلى ذات ثبت لها العنوان والمبدأ بنحو من أنحاء الثبوت ، وما أفاده « من أنّ الجامع ينتزع من الواقع ، والانتزاع فرع صلاحية الواقع ، إذ كيف يصحّ انتزاع مفهوم بسيط من الواجد والفاقد » ، صحيح لو كان
1 ـ أجود التقريرات : 1/78 ؛ المحاضرات : 1/249.
2 ـ تهذيب الأُصول : 1/114 ـ 115.


(231)
منشأ الانتزاع هو حيثية الفقدان والوجدان ، بل منشأ الانتزاع في كلا الموردين حيثية الوجدان ، لأنّ القائل بالأعم يقول بأنّ ثبوت المبدأ للذات آناً ما في التكوين يوجب اتصاف الذات بحيثية ( تعنونها بمن ثبت له المبدأ ) كافية في انتزاع المفهوم عن الذات في كلتا الحالتين ، وذلك لأنّ الحيثية الاعتبارية المصححة للانتزاع موجودة دائماً و إن زال عنه المبدأ ، فالعنوان البسيط المنحل إنّما ينتزع من هذه الحيثية الوجودية المتحقّقة في المنقضي والمتلبس ، فالمعنى الجامع منتزع من الواجد على كلا القولين لا من الواجد والفاقد.
    هذه هي الأُمور العشرة التي تسلط الضوء على البحث ، فإذا فرغنا عن بيانها فلندخل في صلب الموضوع ، وهو أنّ الحقّ أنّ المشتق موضوع للمتلبّس بالمبدأ.

    المشتق موضوع للمتلبّس بالمبدأ
    إنّ القوم استدلّوا على كون المشتق موضوعاً للمبدأ بوجوه سيوافيك بيانها : ولكن الأولى أن يستدلّ عليها بطريق أسهل وهو ما يلي :
    وهو أنّ الإمعان في الصيغ يثبت أنّ الواضع يريد توارد المعاني المختلفة على المبدأ وتصوير المبدأ بألوان النسب بينه و بين الذات ، فتارة يلاحظ المبدأ بما أنّه منتسب إلى الذات بالصدور عنها ، وأُخرى بالوقوع على الذات ، وثالثة بثبوته فيها كما في الصفة المشبهة ، ورابعة بملاحظة الزمان والمكان ظرفاً للمبدأ وهكذا ، فالمشتق هو المبدأ الملحوظ مع الذات بنسب وإضافات مختلفة ، وما هذا شأنه يكون المحور هو المبدأ لا الذات ، فالنسب المختلفة المتداولة تصاغ من المبدأ وتضاف إلى الذات.
    وإن شئت قلت : إنّ الواضع يتلاعب بالمبدأ من خلال صياغته في قوالب


(232)
مختلفة ، فالمبدأ هو الذي يتجلّى بصور وأشكال مختلفة ، وليس هناك تلاعب بالذات ولا صياغتها بأشكال مختلفة ، وما هذا شأنه لا يمكن غض النظر عنه عند الاستعمال ، فانّ القول بكونه حقيقة فيمن انقضى عنه المبدأ أشبه بغض النظر عنه عند الاستعمال.
    وبعبارة أُخرى : انّ النسبة تتوقف على أمرين : الذات ، والحدث. والواضع يصبّ اهتمامه على طروء النسب المختلفة على المبدأ عند نسبته إلى الذات ، فالمحور هو الذات ، لكن وجود الذات ضروري لا لكونه محوراً بل لأجل انّ النسبة قائمة بالطرفين.

    أدلّة القائلين بالوضع للمتلبّس
    استدلّ القائلون بالوضع للمتلبّس بوجوه :
    الأوّل : التبادر ، إذ المرتكز عند أهل اللسان عند إطلاق المشتق هو المتلبّس بالمبدأ لا من هو كان متلبّساً ، فإذا قيل : صلّ خلف العادل ، أو أدّب الفاسق ، أو إذا قيل : لا يصلّين أحدكم خلف المجذوم والأبرص والمجنون ، أو إذا قيل : الاعرابي لا يؤم المهاجرين. (1) لا يفهم منه إلاّ المتلبّس بالمبدأ ، وهذا هو الظاهر في اللغات الأُخرى.
    وبما أنّ النزاع في كون المشتق حقيقة في المتلبّس أو الأعم فيما إذا يتصور له الانقضاء ويتصور له الاستمرار ، وعلى ذلك فخرج الاستدلال بلفظ « الممكن » على القول بالأخص لعدم تصوّر الانقضاء فيه ، كما خرج الاستدلال بالسارق والزاني على القول بالأعم إذ لا يتصوّر فيه الاستمرار.
1 ـ الوسائل : 5 ، الباب 15 من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث 1.

(233)
    الثاني : صحّة سلب المشتق عمّن انقضى عنه المبدأ فيقال : زيد الناسي ليس بعالم ، وهي آية المجازية.
    وأورد عليه : أنّه إن أُريد بصحّة السلب صحّته مطلقاً ، فغير سديد ؛ وإن أُريد مقيداً فغير مفيد ، لأنّ علامة المجاز هي صحّة السلب المطلق.
    توضيحه : انّ علامة المجازية هو سلب اللفظ بما له من المعنى عن المورد حتّى يدلّ على أنّه ليس من مصاديقه مطلقاً ، وأمّا سلب معنى خاص للفظ عن المورد فلا يدلّ إلاّ على أنّه ليس من مصاديق ذلك المقيّد ، وأمّا أنّه ليس من مصاديق المعنى على وجه الإطلاق فلا ، فإذا قلت ـ مشيراً إلى الرقبة الكافرة ـ إنّها ليست برقبة مؤمنة ، لا يدلّ على أنّها ليست برقبة أصلاً ، فعلى ذلك إذا قلت : زيد الناسي ليس بعالم بالفعل ، يدلّ على أنّه ليس من مصاديق المتلبس بالفعل وأمّا انّه ليس من مصاديقه مطلقاً ولو باعتبار من انقضى عنه المبدأ فلا.
    وقد أجاب عنه في « الكفاية » بما هذا توضيحه : انّ قولنا بالفعل تارة يكون قيداً للمسلوب أي العالم ، وأُخرى أن يكون قيداً للسلب أي ( ليس ) ، فلو قلنا : زيد ـ الناسي ، أو الذي انقضى عنه المبدأ ـ ليس بعالم بالفعل ، يصير المسلوب مقيّداً ، ويكون معناه أنّ زيداً الناسي ليس من مصاديق العالم بما له علم بالفعل ، ومثله لا يكون علامة للمجازية لوضوح انّ عدم كونه مصداقاً للعالم بملاك العلم الفعلي لا يكون دليلاً على عدم كونه مصداقاً له الآن ولو بملاك علمه السابق الزائل.
    وأمّا لو قلنا : زيد ـ الناسي ، أو الذي انقضى عنه المبدأ ـ ليس بالفعل بعالم يكون المسلوب مطلقاً ، ويرجع مفاده إلى أنّ زيداً الذي نسي علمه ليس ـ بالفعل ـ بعالم ، أي ليس مصداقاً بالفعل بأيّ عنوان من العناوين ، للعالم ، لا بملاك العلم الفعلي ، ولا بملاك العلم السابق الزائل ، ومثل هذا يكون علامة للمجازية.


(234)
    ولعلّ ما ذكرناه في توضيح الكفاية أقرب إلى المتن ممّا ذكره المحقّق المشكيني قدَّس سرَّه في تعليقته.
    يلاحظ عليه : أنّ الغاية من التمسّك بصحّة السلب وعدمه هو تبيين كون المورد مصداقاً للّفظ وعدمه وتحديداً لمفهوم اللفظ ـ سعة وضيقاً عرفاً ـ و من المعلوم أنّه لو كان هذا هو الغاية المتوخّاة ، فالعرف لا يعير أهمية لهذه الدقة الفلسفية ، فلا يفرق بين كون القيد قيداً للمسلوب أو قيداً للسلب ، وعند ذلك لا يمكن نسبة النتيجة الحاصلة من التفريق إلى العرف.
    والحاصل : أنّ العرف هو المرجع في تحديد المفاهيم وتبيين المصاديق ولكن يجب أن يكون المحكم في هذا الباب هو العقل العرفي الدقيق لا الفعل الفلسفي ، فسلب مصداقية المنقضي عنه المبدأ بالنحو المذكور لا يفهمه العرف حتى يحكم بأنّه ليس بمصداق.
    والشاهد على ذلك أنّ صاحب الكفاية اتبع في الجواب ما ذكره الحكماء في تعريف الماهية ، فقد ذكروا في حدّ الماهية تعبيرين :
    1. الماهية ليست من حيث هي هي إلاّ هي.
    2. الماهية من حيث هي هي ليست إلاّ هي.
    ففرقوا بين تقديم السلب على الحيثية وتأخرها عنه ، يقول السبزواري :
وقدّ مَنْ سلباً على الحيثية حتى يعم عارض الماهية
    فإثبات المصداقية أو نفيها بهذه الدقائق لا يلتفت إليها العرف ولا يكون مصداقاً له وإن أصرّ عليه العقل لانّ الموضوع له هو المفاهيم المنطبقة على المصاديق العرفية.
    الثالث : ربّما يستدل على وضع المشتق للمتلبّس بالدليل التالي : وهو أنّه لا


(235)
ريب في مضادة الصفات المتقابلة المأخوذة من المبادئ المتضادة على ما ارتكز لها من المعاني ، فلو كان المشتق حقيقة في الأعم لما كان بينها مضادة بل مخالفة لتصادقها فيما انقضى عنه المبدأ وتلبّس بالآخر.
    وأورد عليه المحقّق الرشتي من عدم التضاد على القول بعدم الاشتراط.
    وأجاب عنه المحقّق الخراساني : من أنّ التضاد أمر ارتكازي من غير فرق بين المشتقات كالأبيض والأسود ومباديهما كالبياض و السواد.
    يلاحظ عليه بوجهين :
    1. انّه يرجع إلى التبادر وليس دليلاً مستقلاً ، وذلك انّ الحكم بالتضاد بين المشتقين بأنّهما من الأُمور غير القابلة للجمع فرع إحراز معنى كلّ بالتبادر ، وأنّ المتبادر من كلّ واحد هو تلبّس الموضوع بالمبدأ ، وعندئذ يحكم العقل بعدم صحّة اجتماعهما ، فالحكم بالتضاد متأخر عن إحراز المعنى بالتبادر ، ومعه لا حاجة إلى دليل آخر.
    2. انّ الأعمّي لا يسلم التضاد إلاّ بين المبدأين لا بين العنوانين ، فصدق الأبيض والأسود لا يستلزم إلاّ اجتماع العنوانين من غير ملازمة بين صدقهما واجتماع المبدأين.
    هذه هي الوجوه المهمة وبقيت هنا وجوه أُخرى تطلب من محالها.

    أدلّة القول بالأعم
    استدلّ القائل بالأعم بوجوه :
    الأوّل : التبادر ، ولكنّه غير تام ، لأنّ المتبادر من قولنا : « لا تصل خلف الفاسق » وأمثاله ، هو المتلبّس ، وادّعاء وجود القرينة في أمثال هذه الموارد وإن كان محتملاً ، لكن ليس كلّ مورد كذلك.


(236)
    مضافاً ـ إلى ما عرفت ـ من أنّ الصيغ المشتقة من المبدأ ، نوع تلاعب بالمبدأ لا بالذات ، فكيف يصدق الفرع دون الأصل.
    الثاني : عدم صحّة السلب في المقتول والمضروب إذا انقضى عنه المبدأ.
    يلاحظ عليه : أنّه إن أُريد منها المعنى الحدوثي أي من وقع عليه القتل والضرب ، فلا نسلم صدقه عندما انقضى عنه المبدأ ، وإن أُريد الأثر الباقي بعد القتل والضرب ، فالصدق لأجل كونه متلبساً بالأثر الباقي.
    ثمّ إنّ أكثر الإطلاقات في الجمل والتراكيب بلحاظ ثالث وهو الإطلاق بلحاظ حال التلبّس خصوصاً فيما إذا لم تقبل التكرار كالمقتول والمصلوب ، أو ما يقبل التكرار ولا يقبل الاستمرار كالسارق والزاني.
    الثالث : هو استدلال الإمام بآية الابتلاء على عدم صلاحية الخلفاء الثلاثة لإشغال منصب الإمامة بعد رحلة الرسول الأعظم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وإليك الآية ونصّ الإمام وكيفية الاستدلال ، قال سبحانه :
    1. ( وَإِذِ ابْتلى إِبْراهيمَ رَبُّهُ بِكَلمات فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيّتي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمين ). (1)
    وفي الآية جهات مهمة للبحث نشير إليها :
    1. ما هو الغرض من ابتلاء الأنبياء ؟
    2. كيف كان ابتلاء إبراهيم ( عليه السَّلام ) ؟
    3. ما هو المراد من الكلمات ؟
    4. ما هو المراد من الإتمام ؟
    5. ما هو المراد من جعله إماماً ـ بعدما كان نبيّاً ورسولاً ـ ؟
    6. ما هو المقصود من العهد المنسوب إليه سبحانه ، وكيف تكون الإمامة
1 ـ البقرة : 124.

(237)
عهد اللّه ؟
    7. كيف تدل الآية على عصمة الإمام ؟
    وقد حققت هذه الأُمور في موسوعة مفاهيم القرآن. (1)
    2. وأمّا استدلال الإمام بالآية ، فقد روى الصدوق عن الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) في تفسير قوله : ( لا يَنالُ عَهْدي الظّالِمين ) انّه قال : إنّ الإمامة لا تصلح لمن عبد وثناً أو صنماً أو أشرك باللّه طرفة عين ، وإن أسلم بعد ذلك ، والظلم وضع الشيء في غير موضعه ، وأعظم الظلم الشرك باللّه قال اللّه تعالى : ( إِنَّ الشِّركَ لَظُلْمٌ عَظِيم ) (2). (3)
    3. وأمّا كيفية الاستدلال فلأنّه مبني على صغرى مسلّمة وكبرى قرآنية.
    أمّا الصغرى : هؤلاء كانوا ظالمين مشركين.
    وأمّا الكبرى : والظالمون لا تنالهم الإمامة.
    فينتج : هؤلاء لا تنالهم الإمامة.
    وإنّما يصحّ وصفهم بعنوان الظالمين عند التعدي إذا قلنا بوضع المشتق للأعم بحيث يصدق على المتلبّس بالمبدأ والمنقضي عنه حتى يصحّ عدّهم من الظالمين حين تصدّوا للخلافة وقد انقضى المبدأ ، ولو قلنا بوضع المشتق على المتلبس تبقى الكبرى بلا صغرى ، إذ لا يصحّ أن يقال : هؤلاء كانوا ظالمين عند التصدّي بل يجب أن يقال : كانوا ظالمين قبل التصدي ، وأمّا بعده فقد صاروا موحّدين.
    يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال على عدم صلاحيتهم للإمامة يصحّ على كلا
1 ـ مفاهيم القرآن : 5/197 ـ 259.
2 ـ لقمان : 13.
3 ـ البحراني : البرهان : 1/149.


(238)
القولين ، أمّا على الأعم فلما عرفت.
    وأمّا على القول بالأخص فللاستدلال أساس آخر ، غير مبني على كونهم ظالمين حين التصدي ، بل هم غير لائقين لها وإن لم يكونوا ظالمين حين التصدي.
    وذلك لأنّ الإمامة كالنبوّة منصب إلهي يجب أن يتنزه المتصدّي عمّا يوجب نفرة الناس وتباعدهم عنه ، ولا تتحقّق تلك الأمنية إلاّ بتباعده عن ألوان الشرك والأعمال القبيحة طيلة عمره حيث إنّ الناس يفرون عمّن كان في فترة من عمره مشركاً مقترفاً للمعاصي.
    وبما أنّ هؤلاء كانوا كذلك في فترات من أعمارهم فكانوا ظالمين ، فصار هذا سبباً لحرمانهم منه.
    وهناك بيان آخر للاستدلال بالآية نقله السيد الطباطبائي عن بعض مشايخه وانّه قال : إنّ الناس حسب التقسيم العقلي على أربعة أقسام :
    أ. من كان ظالماً في جميع عمره.
    ب. من لم يكن ظالماً طيلة عمره.
    ج. من كان ظالماً في مقتبل عمره وتائباً في أواخره حين التصدّي.
    د. من لم يقترف الشرك في أوان عمره واقترفه في أواخره حين التصدي.
    فيجب إمعان النظر في تحديد ما هو المسؤول لإبراهيم الخليل ، والعقل يحكم بأنّ إبراهيم أجلّ شأناً من أن يسأل الإمامة للقسم الأوّل والرابع من ذريّته ، فيبقى القسمان الآخران وقد نفى اللّه أحدهما أي من كان ظالماً في مقتبل عمره وغير ظالم حين التصدّي ، وبقي الآخر وهو الذي يكون غير ظالم في جميع عمره.
    على أنّه يمكن أن يفسر استدلال الإمام بالآية بأنّ الإطلاق باعتبار حال التلبّس.


(239)
    خاتمة المطاف
في ثمرات البحث
    تظهر الثمرة بين كون المشتق موضوعاً لخصوص المتلبّس أو الأعم في الموارد التالية ـ ويجمع الكل كون المشتق موضوعاً للحكم ـ :
    1. قال رجل لعلي بن الحسين عليهما السَّلام : أين يتوضّأ الغرباء ؟ قال : « تتّقي شطوط الأنهار ، والطرق النافذة وتحت الأشجار المثمرة ... » (1) فعلى التلبّس يختص الحكم بما إذا كان مثمراً ولو بالقوّة ، بخلاف القول بالأعم ، فيشمل حتى الشجرة اليابسة الساقطة عن التوريق والأثمار.
    2. قال أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : « لا يصلّين أحدكم خلف المجذوم والأبرص والمجنون والمحدود ، وولد الزنا ، والأعرابي لا يؤم المهاجرين ». (2)
    3. عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) في المرأة إذا ماتت وليس معها امرأة تغسلها ، قال : « يدخل زوجها يده تحت قميصها فيغسلها إلى المرافق ». (3) فلو قلنا بكون المشتق حقيقة في المنقضي فللزوج المطلّق لها ، التغسيل عند فقد المماثل.
1 ـ الوسائل : 1 ، الباب 15 من أبواب أحكام الخلوة ، الحديث 1.
2 ـ الوسائل : 5 ، الباب 15 من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث 6.
3 ـ الوسائل : 2 ، الباب 24 من أبواب غسل الميت ، الحديث 8.


(240)
    وربما يمثل بالماء المشمَّس أو المسخَّن ، ولكن الوارد في لسان الأدلّة ، التعبير عنه بصيغة الفعل لا بصيغة المشتق ، فقد ورد عن رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « الماء الذي تسخّنه الشمس لا تتوضّأوا به ولا تغسلوا ولا تعجنوا به فانّه يورث البرص ». (1)
1 ـ الوسائل : 1 ، الباب 6 من أبواب الماء المضاف ، الحديث 2.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: فهرس