إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: 361 ـ 375
(361)
التامّة الجابرة للمصلحة الفائتة ومعه لا يبقى مجال للشكّ في السقوط.
    ثمّ إنّه قدَّس سرَّه أجاب عن الإشكال بقوله :
    نعم لكنّه لا ينافي كون النزاع فيهما كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدّم ، غايته أنّ العمدة في سبب الاختلاف فيهما إنّما هو الخلاف في دلالة دليلهما ، هل أنّه على نحو يستقل العقل بأنّ الإتيان به موجب للإجزاء ويؤثر فيه وعدم دلالته ويكون النزاع فيه صغروياً أيضاً ، بخلافه في الإجزاء بالاضافة إلى أمره فانّه لا يكون إلاّ كبروياً لو كان هناك نزاع كما نقل عن بعض. (1)
    وحاصله : انّ ما ذكر ليس مانعاً من تفسير الاقتضاء بالعلية والتأثير في نفس المورد ، غاية الأمر يحتاج إلى إحراز الصغرى وهو اشتمال المأتي به على المصلحة الجابرة للمصلحة الفائتة ؛ فعندئذ يقع النزاع في الكبرى وهو عليّة امتثال الأمر الاضطراري أو الظاهري لسقوط الأمر الواقعي ، فالنزاع في أنّ إتيان كلّ شيء مسقط لأمره كبروي ، وفي غيره صغروي وكبروي.
    وأورد عليه السيد الأُستاذ : بأنّه لا يصحّ تفسير « الاقتضاء » بالعليّة ، سواء كان المعلول هو الإجزاء بالمعنى اللغوي أي الكفاية ، أو سقوط الأمر ، أو سقوط إرادة المولى.
    أمّا الأوّل : فهو أمر انتزاعي لا يقع مورد التأثر والتأثير ، مثلاً أنّ العطشان إذا شرب ماءً وتروّى يقول كفى ، فينتزع من التروّي ورفع العطش عنوان « الإجزاء » فليس هو شيئاً وراء التروّي.
    وأمّا الثاني : فانّ الإتيان علّة لحصول الغرض ، ومع حصوله ينتفي الأمر ، بانتفاء مقتضيه ، وسببه حصول الغرض لا انّه يسقط.
1 ـ الكفاية : 1/125.

(362)
    وأمّا الثالث : فلأنّ الإتيان معلول لإرادة الآمر ، فلا يكون المعلول علّة لارتفاع علّته فلا يكون علّة لسقوط الإرادة. (1)
    يلاحظ عليه : بأنّ المعلول أمر آخر وراء هذه الأُمور الثلاثة ، ولعلّ لفظ الإجزاء كناية عنه وهو حكم العقل بالإجزاء ، والمراد من العلّية كون الإتيان موضوعاً لحكم العقل ، كما أنّ العدل موضوع لحكم العقل بالحسن ، والظلم موضوع لحكمه بالقبح ، فتصبح المسألة عقلية بحتة في مورد ، وعقلية وشرعية في مورد آخر ، كما أفاده المحقّق الخراساني قدَّس سرَّه.
    ثمّ إنّ ما أفاده من أنّ إتيان المأمور به ، من معاليل إرادة المولى فكيف يكون المعلول طارداً لعلّته ؟ قد مرّ الكلام فيه ، وهو أنّ الإرادة مطلقاً ـ تكوينية كانت أو تشريعية ـ إنّما تتعلق بالفعل الاختياري وليس فعل الغير في اختيار المريد ، ولذلك قلنا إنّ الإرادة التشريعية متعلّقة بالبعث والطلب وهو فعل اختياري للمريد ، وهو بالنسبة إلى العبد مبيّن لموضوع الطاعة ، وأمّا الانبعاث فهو من آثار الخوف من تبعات المخالفة كما لا يخفى.

    الرابع : للإجزاء حقيقة متشرعيّة ؟
    ربّما يتصوّر أنّ للإجزاء حقيقة متشرعيّة ، فقد نقل من معناه اللغوي ـ أي الكفاية ـ إلى سقوط الإعادة في الوقت ، والقضاء في خارجه.
    والظاهر خلافه وأنّه ليس له إلاّ معنى واحداً ، وأمّا السقوط فهو من لوازم المورد ، فإجزاء المأتي به يلازم عدم التعبّد به في وقته أو خارجه ثانياً ، كما في إجزاء المأتي به بالأمر الاضطراري ، فهو يلازم سقوط التعبّد بالأمر الاختياري ، أو إجزاء
1 ـ تهذيب الأُصول : 1/178 ـ 179 ، طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(363)
المأتي به بالأمر الظاهري فهو يلازم سقوط التعبّد بالأمر الواقعي ، فكلّ ذلك من لوازم المورد ، أو المستعمل فيه من دون أن يكون هناك وراء الفقه مصطلح خاصّ.

    الخامس : الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرّة والتكرار
    ربّما تتصور وحدة المسألتين وانّ القول بالإجزاء نفس القول بدلالة الأمر على المرّة ، كما أنّ القول بعدمه عبارة أُخرى عن عدم الإجزاء.
    يلاحظ عليه بأنّ تصادق المرة مع الإجزاء أو تصادق التكرار مع عدمه ، لا يكون دليلاً على وحدة المسألتين بعد تعدد الملاك الذي يُصحح عقد مسألتين مختلفتين ، فانّ البحث في أُولى المسألتين إنّما هو في تعيين ما هو المأمور به شرعاًحسب دلالة الصيغة بنفسها ـ كما عليه شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري على ما مرّ ـ أو بدلالة أُخرى كما عليه الآخرون.
    وأمّا البحث في المقام فإنّما هو بعد الفراغ عن تعيين ما هو المأمور به ، سواء أكان المأمور به هو الطبيعة المجرّدة أو المقيدة بالمرّة أو التكرار ، ويقال إذا أتى المكلف بما هو المأمور به بكماله وتمامه ، سواء أكان المأمور به ، هو الطبيعة أو المقيّدة بالمرة أو التكرار هل هو يجزي أو لا ؟
    نعم القول بالإجزاء يتصادق مع القول بالمرة ، كما أنّ القول بالتكرار ، يتصادق مع عدم الإجزاء ، ولكن التصادق الموردي لا يكون دليلاً على وحدة المسألتين.

    السادس : الفرق بين المقام ومسألة تبعية القضاء للأداء
    إنّ هنا مسألة أُخرى باسم تبعية القضاء للأداء وعدم تبعيّتها له ويعبّر


(364)
عنها بأنّ القضاء بالأمر الأوّل أو بالأمر الجديد فإذا فات الأمر الواقعي منه وامتثل مكانه الأمر الاضطراري أو الظاهري يكون القول بالإجزاء مساوقاً للقول بأنّ القضاء بالأمر الجديد ، كما يكون القول بعدمه مساوقاً للقول بأنّ القضاء بالأمر الأوّل.
    يلاحظ عليه : أنّ المسألتين مختلفتان من حيث الموضوع أوّلاً وأنّ بينهما من حيث المورد عموم و خصوص من وجه ثانياً.
    أمّا الأوّل : فلأنّ الموضوع في مسألة تبعية القضاء للأداء هو فوت المأمور به ، كما أنّ الموضوع في المقام هو إتيان المأمور به بنحو من الأنحاء ، ومع الاختلاف في الموضوع كيف تكونان مسألة واحدة ؟!
    وأمّا الثاني ، ففيما إذا أتى بالمأمور به على وجهه الواقعي يبحث فيه عن الإجزاء وعدمه دون مسألة تبعية القضاء للأداء ، إذ لا موضوع لها لعدم الفوت ، كما إذا فات منه الواقع ولم يأت بالواجب أصلاً لا واقعياً ولا اضطرارياً ولا ظاهرياً ، لا موضوع للإجزاء ، بل يتمحض المقام لمسألة التبعية.
    نعم يجتمعان فيما إذا أتى بالواجب بأمر اضطراري أو ظاهري فيصح البحث فيه من الجهتين.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني فرّق بين المسألتين بأنّ البحث في المقام عقلي وفي مسألة تبعية الأداء للقضاء لفظي حيث يبحث عن دلالة الأمر على تبعية القضاء للأداء وعدمها. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ معنى ذلك أنّ المسألتين متحدتان في الماهية ومختلفتان في أُسلوب الاستدلال إلاّ انّ هذا لا يصحح عقد مسألتين مختلفتين ، بل يُلزم الأُصولي
1 ـ كفاية الأُصول : 1/126.

(365)
على عرض مسألة واحدة ، يستدلّ عليها تارة بالعقل وأُخرى بالنقل.
    إذا عرفت هذه الأُمور فاعلم أنّه يقع الكلام في مواضع ثلاثة :
    1. امتثال كلّ أمر يجزي عن التعبّد بنفس ذلك الأمر سواء أكان واقعياً أم اضطرارياً أو ظاهرياً.
    2. إتيان المأمور به بالأمر الاضطراري يجزي عن الإتيان به بالأمر الواقعي.
    3. إتيان المأمور به بالأمر الظاهري يجزي عن الإتيان به بالأمر الواقعي.
    إذا عرفت عناوين المواضع ، فلنأخذ كلّ واحد بالبحث.


(366)
    الموضع الأوّل
امتثال كلّ أمر يجزي عن التعبّد به ثانياً
    إنّ إجزاء امتثال كلّ أمر عن التعبّد به ثانياً من قبيل القضايا التي قياساتها معها ، وذلك لأنّ عدم السقوط رهن أحد أُمور كلّها منتفية.
    1. تعدد المطلوب وانّه أتى بمطلوب واحد دون الآخر ، وهو باطل ، لأنّ الواجب هو نفس الطبيعة وهي تصدق على الإتيان بفرد واحد.
    2. عدم حصول الغرض ، وهو أيضاً باطل ، لأنّ المأتي به سبب تام لحصول الغرض وإلاّ لما أمر به.
    3. بقاء الأمر مع حصول الغرض ، وهو أيضاً باطل ، لاستلزامه الإرادة الجزافية.
    فإذا انتفت الأُمور الثلاثة فلا وجه لبقاء الأمر ، نعم ربّما يعترض بالحج الفاسد بالجماع محرّماً ، فانّه يجب عليه الإعادة.
    يلاحظ عليه : بأنّ من جامع وهو محرم ، إمّا أن يكون عالماً بالحكم أو جاهلاً ، فالحج في الصورة الأُولى فاسد فلم يأت بالمأمور به على وجهه ، فيجب عليه القضاء في العام القابل ، وهو في الصورة الثانية وإن كان صحيحاً لكن إيجاب الإعادة لأجل العقوبة لا لإيجاب التعبّد بما امتثل ثانياً.
    وتدلّ عليه رواية زرارة ، قال : « فأي الحجّتين لهما » قال : الأُولى التي أحدثا


(367)
فيها ما أحدثا ، والأُخرى عليهما عقوبة ». (1)
    فما حكي عن أبي هاشم الجبائي ( المتوفّـى321 هـ ) و القاضي عبد الجبار ( المتوفّى 415 هـ ) المعتزليين من عدم اقتضاء الإتيان بالمأمور به للإجزاء مستدلاً بإعادة الحجّ على من أفسد ، فكأنّه في غير محلّه ، إذ العالم بالحرمة ما أتى بالواجب على وجهه ، والجاهل وإن أتى على وجهه ، لكن الحجّ الثاني عقوبة وليس امتثالاً للأمر الأوّل.

    تبديل امتثال بامتثال آخر
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني قد وافق المشهور في أنّ الإتيان بالمأمور به على ما هو عليه يوجب الإجزاء ، ولكنّه ذهب أيضاً إلى أنّ للعبد تبديل امتثال بامتثال آخر ، والقولان بظاهرهما متناقضان ، فانّ الإجزاء يلازم سقوط الأمر ، ومعه لا يبقى موضوع للامتثال الثاني ، فانّ مفاده هو الإتيان بالشيء بقصد أمره السابق والمفروض انّه قد سقط ، فكيف يمكن القول بالجمع بالإجزاء الذي يلازم سقوط الأمر بتاتاً وتبديل امتثال بامتثال آخر وهو يستلزم بقاء الأمر الأوّل وهو كما ترى ؟
    هذا هو الإشكال الواضح على الكفاية لكنّه قدَّس سرَّه حاول الجمع بين القولين ( الإجزاء وتبديل امتثال بامتثال آخر ) وأفاد في وجهه : بأنّه ربّما لا يكون مجرّد امتثاله علّة تامة لحصول الغرض ، وإن كان وافياً به لو اكتفى به ، كما أنّه إذا أتى بماء أمر به مولاه ليشربه فلم يشربه بعد ، فانّ الأمر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعدُ ، ولذا لو أُهرق الماء واطلع عليه العبد وجب عليه إتيانه ثانياً كما إذا لم يأت به أوّلاً ، ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه وإلاّ لما وجب حدوثه ، فحينئذ يكون له
1 ـ الوسائل : 9 ، الباب 3 من أبواب كفارة الاستمتاع ، الحديث 9.

(368)
الإتيان بماء آخر موافق للأمر كما كان له قبل إتيانه الأوّل بدلاً عنه. (1)
    يلاحظ عليه : بماعرفت بأنّ الامتثال الأوّل يوجب سقوط الأمر ولا يعقل صدق امتثال ثان بعد سقوطه.
    وأمّا المثالان ، فيلاحظ على الأوّل بأنّه من قبيل تبديل مصداق امتثال لمصداق آخر ، لا تبديل امتثال بامتثال آخر ، فانّ الأمر بظاهره وحقيقته وملاكه قد سقط وإنّما للمكلّف أن يبدّل مصداقاً بمصداق آخر.
    وأمّا الأمر الثاني ، وهو أنّ الإتيان بالماء ثانياً ليس لأجل بقاء الأمر فانّه قد سقط بتمامه وإنّما الملزم هو العلم بالغرض وإن لم يكن هناك أمر ، كما إذا رأى انّ ابن المولى سقط في الماء وكان المولى غافلاً فعلى العبد إذا اطّلع عليه أن ينقذه وإن لم يكن هناك أمر من المولى لكفاية العلم بالغرض.
    ثمّ إنّه استدل على جواز تبديل الامتثال بامتثال آخر بالروايات الواردة في الأبواب الثلاثة التالية :
    أ. باب الكسوف إذا صلّى والشمس بعد لم تنجل.
    ب. الصلاة جماعة مع المخالف وقد صلّى الفريضة قبله.
    ج. إعادة الصلاة إذا وجد جماعة.
    ولكن الروايات لا صلة لها بالمدعى كما ستعرف.
    فنقول :

    1. ما ورد في باب الكسوف
    روى معاوية بن عمّار ، قال : قال أبو عبد اللّه : « صلاة الكسوف إذا فرغت
1 ـ كفاية الأُصول : 1/127.

(369)
قبل أن ينجلي ، فأعد ». (1)
    يلاحظ عليه : بأنّ المتبادر من الرواية هو إعادة الصلاة بأمر جديد لا بالأمر الساقط بالامتثال ، وكأنّ الإعادة مستحبة شرعاً ، وهو ينوي ذلك الأمر الثاني لا الأمر الأوّل ، بخلافه على القول بجواز تبديل امتثال بامتثال آخر فانّه ينوي في الإتيان الثاني امتثال الأمر الأوّل الذي وصفه المحقّق الخراساني بأنّه بحقيقته وملاكه لم يسقط.

    2. ما ورد في إعادة الصلاة مع المخالف
    هناك روايات تدلّ على أنّ من صلّى وحده يجوز له أن يعيد الصلاة خلف المخالف.
    روى عمر بن يزيد ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) انّه قال : « ما منكم أحد يصلّي فريضة في وقتها ثمّ يصلّي معهم صلاة تقية وهو متوضّئ إلاّ كتب اللّه له بها خمس وعشرين درجة فارغبوا في ذلك ». (2)
    يلاحظ عليه : أنّ هذه الرواية لا مساس لها بتبديل امتثال بامتثال آخر ، بل هي كروايات الباب السابق تدلّ على استحباب إعادة الفريضة جماعة تقية ، فهو من قبيل امتثال أمر بعد امتثال آخر. (3)

    3. استحباب الإعادة إذا وجد جماعة
    روى هشام بن سالم ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) أنّه قال : في الرجل يصلّي الصلاة
1 ـ الوسائل : 5 ، الباب 8 من أبواب صلاة الكسوف ، الحديث 1.
2 ـ الوسائل : 5 ، الباب 6 من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث 1 ولاحظ 2و3.
3 ـ لاحظ ما لم نذكر من الروايات في ذلك الباب.


(370)
وحده ثمّ يجد جماعة ، قال : « يصلّي معهم ويجعلها الفريضة إن شاء ». (1)
    وروى زرارة ، عن أبي جعفر في حديث ، قال : « لا ينبغي للرجل أن يدخل معهم في صلاتهم وهو لا ينويها صلاة ، بل ينبغي له أن ينويها و إن كان قد صلّى ، فانّ له صلاة أُخرى ». (2)
    يلاحظ عليه : أنّ روايات هذا الباب تتحد مع نفس ما أوردها صاحب الوسائل في الباب السابق ( أي الباب 6 من أبواب صلاة الجماعة ) وإن فرّق بينهما صاحب الوسائل فزعم أنّ روايات الباب السابق راجعة إلى إعادة الصلاة بالمخالف وهذه الروايات مطلقة تعم المخالف وغيره إذا كان إماماً ، فيجوز لمنفرد إعادة الصلاة خلف الموافق أيضاً.
    ولكن دراسة روايات الباب البالغة إحدى عشرة رواية تعرب ـ إذا كان عارفاً بلحن كلماتهم وكيفية إشاراتهم ـ أنّ الروايات تعود إلى إعادة الصلاة خلف المخالف جماعة ، ولا ينافي ما ذكرنا وصف الصلاة الثانية بالفريضة ، ويقول : « ويجعلهما الفريضة » كما في رواية هشام بن سالم (3) وحفص بن البختري. (4)
    فانّ المراد أنّه ينوي الفريضة التي أقامها ، ولكن الإعادة مستحبة.
    وحصيلة الكلام : انّا لم نجد رواية تدل على جواز تبديل امتثال بامتثال آخر.
    ثمّ إنّ السيد الأُستاذ فسّر القسم الثالث من الروايات بأنّه من قبيل تبديل مصداق المأمور به الذي تحقّق به الامتثال بمصداق آخر غير محقّق للامتثال لكن
1 ـ الوسائل : 5 ، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث 1و2.
2 ـ الوسائل : 5 ، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث 1و2.
3 ـ الوسائل : 5 ، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث 1.
4 ـ الوسائل : 5 ، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث 11.


(371)
محصل للغرض اقتضاء مثل المصداق الأوّل ، أو بنحو أوفى ، فهو لا يتوقف على بقاء الأمر ، لأنّه من قبيل تبديل مصداق المأمور به بمصداق آخر لا بوصف كونه مأموراً به. (1)
    يلاحظ عليه : أنّه إنّما يصحّ في التوصّليات ، وأمّا الفرد التعبّدي فيحتاج إلى قصد الأمر ، فما هو الأمر الداعي ؟ فإن كان الأمر الأوّل ، فقد سقط كما اعترف به ، وإلاّ يكون من قبيل تبديل امتثال بامتثال آخر وهو بصدد الردّ عليه ، وإن كان الأمر الاستحبابي ، أو الوجوبي القضائي ، فهذا يكفي في الجواب من دون حاجة إلى القول بأنّه من قبيل تبديل مصداق المأمور به بمصداق آخر.
تمّ الكلام في الموضع الأوّل
ويليه الكلام في الموضع الثاني

1 ـ تهذيب الأُصول : 1/183.

(372)
    الموضع الثاني
في إجزاء الأمر الاضطراري عن الواقعي
    وقد يعبّر عن العنوان باجزاء الأمر الواقعي الثانوي عن الأمر الواقعي الأوّلي ، كالصلاة مع الطهارة الترابيّة أو على وفق التقية ، وظاهر العنوان يعطي انّ هنا أمرين : أمراً واقعياً ثانوياً ، وأمراً واقعياً أوّلياً ، ومحط البحث إغناء امتثال الأمر الأوّل ، عن امتثال الأمر الثاني ، لكن الحقّ أنّ هنا أمراً واحداً متعلقاً بالجامع الواحد ، الصادق على جميع أفراده ، غير أنّ المختار مكلّف بامتثاله بكيفية ، والمضطرّ مكلّف بامتثاله بكيفية أُخرى ، والصلاة بكلتا الكيفيتين من مصاديق الجامع المنطبق على عامّة أفراد الصحيح على ما مرّ في مبحث الصحيح والأعمّ.
    وإن شئت مزيد توضيح فنقول : إذا زالت الشمس ، يخاطب عامّة المكلفين بخطاب وأمر واحد متعلق بالصلاة في قوله سبحانه : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْس إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرآنَ الفَجْرِ إِنَّ قُرآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) (1) ، فالصلاة قائماً أو قاعداً ، راكباً أو راجلاً ، مع الطهارة المائية أو الترابية من مصاديق الصلاة الواردة في تلك الآية وهي تعمها بوضعها للجامع الشامل لعامة أفراد الصحيح ، فالأمر واحد ، والمأمور به واحد ، ولو كان هنا اختلاف فانّما هو في كيفية امتثال الأمر الواحد.
1 ـ الاسراء : 78.

(373)
    فإن قلت : الاختلاف في الكيفية يكشف عن تعدد المأمور به ، الملازم لتعدد الأمر.
    قلت : إنّ الاختلاف فيها إنّما يكشف عن تعدد المأمور به إذا كانت الكيفيات بصورها المختلفة كالطهارة المائية والترابية مأخوذة في الموضوع ، وعندئذ يكون لفظ الصلاة مشتركاً لفظياً لا معنوياً ، والمفروض خلافه ، لأنّ المأخوذ في الصلاة هي الطهارة بعرضها العريض الشامل لكلتا الطهارتين ، ومثلها عدد الركعات ، فلم يؤخذ فيه عدد معيّن كالثنائية أو الرباعية ، وإلاّ لصار اللفظ مشتركاً لفظيّاً ، بل الموضوع له هي الهيئة الصلائية الصادقة على الثنائية والرباعية ، فالصلاة بما لها من المعنى الواحد ، الشامل لصلاة المختار والمضطر (1) ، أو الآمن و (2) الخائف ، والحاضر والمسافر (3) وقعت موضوعة للأمر الواحد ، ودلّ الدليل الخارجي على أنّ الصلاة مع الطهارة المائية للواجد ، ومع الترابية للفاقد ، وهكذا سائر الأفراد.

    في العذر غير المستوعب
    إذا عرفت أنّ في المقام أمراً واحداً ، يقع الكلام في الاجزاء ، وعدمه عندما كان العذر غير مستوعب فنقول هنا صور ثلاث :
    1. أن يكون لدليل البدل ـ أعني دليل التيمم ـ إطلاق (4) ، بمعنى شمول دليله ، لمن فقد الماء في بعض الوقت دون الجميع ، فيجب على غير المستوعب كالمستوعب ، امتثال الأمر بالطهارة الترابية ، وفي مثله يكون القول بالإجزاء من
1 ـ المائدة : 6.
2 ـ البقرة : 238 ـ 239.
3 ـ النساء : 101.
4 ـ المراد من الإطلاق كون العذر غير المستوعب مسوّغاً للتيمّم وإيقاع الصلاة منه.


(374)
قبيل قضايا قياساتها معها ، بل يدخل في المبحث السابق ، من أنّ امتثال كلّ أمر موجب لإجزاء نفسه ، لأنّ المفروض أنّ هنا أمراً واحداً وواجباً فارداً ، والامتثال ، آية الإجزاء وليس هنا أمر آخر حتى يبحث عن إجزائه عنه.
    2. أن يكون لدليل المبدل فقط إطلاق أعني قوله سبحانه : ( إِذا قُمْتُمْ إِلى الصلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... ) (1) الخ بحيث يفرض على المكلف الواجد للماء في بعض الأوقات دون كلها ، الصلاةَ مع الطهارة المائية أيضاً ، فلا شكّ في عدم الإجزاء.
    3. أن يكون الدليلان مهملين ، كأن يكون عدم الوجدان في بعض الأوقات دون بعض غير داخل تحت موضوع المبدل والبدل ، فيكون المرجع ـ عندئذ ـ هو الأُصول العملية ، والظاهر أنّ المرجع هو الاحتياط ، لأنّ مرجع الشك إلى الشك في سقوط الأمر بالصلاة بالطهارة الترابية وعدمها.
    وبعبارة أُخرى : انّه يشكّ في سقوطه بالطهارة الترابية إذا كان فاقداً في بعض دون بعض.
    هذا على المختار ، وأمّا على مختار القوم من تعدد الأمر والشكّ في إغناء امتثال أحد الأمرين عن الآخر ، فقد بحث عنه المحقّق الخراساني تارة من حيث الثبوت وأُخرى من حيث الإثبات ، وقال ما هذا إيضاحه : (2)

    حكم الإجزاء ثبوتاً على القول بالتعدّد
    إنّ الفرد الاضطراري من حيث وفائه لمصلحة الفرد الاختياري على أقسام أربعة :
1 ـ المائدة : 6.
2 ـ كلّما يمرّ عليك بحوث مبنية على تعدد الأمر والمختار غيره. المؤلّف


(375)
    الأوّل : أن يكون الفرد الاضطراري في حال الاضطرار كالاختياري في حال الاختيار في كونه وافياً بتمام المصلحة والملاك.
    الثاني : أن لا يكون وافياً به ، ولكنّه لو أتى بالفرد الاضطراري يكون مانعاً عن استيفاء المصلحة الفائتة بعد رفع الاضطرار.
    الثالث : تلك الصورة ولكن تكون المصلحة الفائتة واجبة الاستيفاء.
    الرابع : تلك الصورة ، ولكن تكون المصلحة الفائتة مستحبّة الاستيفاء.
    إذا عرفت أنّ نسبة الفرد الاضطراري إلى الاختياري من حيث الثبوت على أقسام أربعة ، فاعلم أنّه يجب البحث في كلّ قسم عن أمرين :
    أ : إجزاء امتثال الأمر الاضطراري عن امتثال الأمر الاختياري.
    ب : جواز المبادرة إلى الامتثال بالفرد الاضطراري وعدمه.
    فكلّ قسم من هذه الأقسام الأربعة تقع موضوعاً للبحث عن الإجزاء أوّلاً ، وجواز المبادرة ثانياً.
    فأخذ المحقّق الخراساني بدراسة كلّ قسم من حيث الإجزاء أوّلاً ، والمبادرة ثانياً ، وقال ما هذا مثاله :
    1. أمّا الصورة الأُولى : فلا شكّ في إجزاء الفرد الاضطراري عن الفرد الاختياري ، لعدم قصور مصلحته عن مصلحته.
    وأمّا تصوير البدار فيدور مدار كون الفرد مشتملاً على المصلحة مطلقاً وإن كان العذر غير مستوعب ، أو مشروطاً بالانتظار إلى حدّ يضيق الوقت إلاّ عن الصلاة بالطهارة الترابية ، أو مشروطاً باليأس وإن حصل في أوّل الوقت.
    فعلى الأوّل يجوز البدار دون الثاني ، وأمّا الثالث فيدور مدار حصول اليأس.
    2. وأمّا الصورة الثانية : فلو أتى بالفرد الاضطراري يجزي قطعاً لعدم تمكّنه من الفرد الاختياري بعد الإتيان بالاضطراريّ لكونه مانعاً عن درك مصلحة الفرد
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: فهرس