إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: 451 ـ 465
(451)
    قلت : لو سلّم كان إطلاقه عليه من باب إطلاقه على مثل الرضاء المقارن لما عرفت أن دخلها كدخله في التأثير بلا تفاوت أصلاً.
    إن قلت : فما وجه إطلاقهم الشرط على مثل ذلك ممّا لا دخل له إلاّ بوجوده العلمي ؟
    قلت : الوجه صدق الشرط حقيقة بناء على إرادة الأعمّ من الذهني والخارجي من لفظ الوجود والعدم في تعريفه بما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود ، وصدقه مجازاً من باب التشبيه والمسامحة بناء على إرادة خصوص الخارجي ، ومثل هذا الإطلاق ليس بعزيز. (1)
    وحاصل كلامه : انّ الشرط يطلق ويراد منه الوجود الخارجي كاليبوسة في الحطب التي هي شرط الاحتراق ، وقد يطلق و يراد به الوجود العلمي ، وهذا هو المراد في هذا المقام ، مثلاً الحكم بما انّه فعل اختياري للحاكم لا يتوقف صدوره منه إلاّ على تصوّره بتمام شرائطه المتقدّمة والمقارنة واللاحقة وهو الموجب لحدوث الإرادة في نفسه ، فالشرط له حقيقة إنّما هو وجود تلك الشرائط في عالم التصوّر دون وجودها في عالم الخارج.
    ومنه يظهر حال الوضع فالشرط عبارة عن لحاظ الحاكم كون الرضا مقارناً أو متأخّراً عنه ، فنفس الرضا وإن كان مقارناً أو متأخّراً لكن لحاظ العقد معه مقارن للعقد في جميع الأحوال.
    يقول المحقّق الخوئي في توضيح مرام المحقّق الخراساني : إنّ الشرط في الحقيقة تصوّر الشيء ووجوده الذهني دون وجوده الخارجي ، وإطلاق الشرط عليه مبني على ضرب من المسامحة باعتبار أنّه طرف له.
1 ـ فوائد الأُصول : 309.

(452)
    وعلى ضوء هذا الأساس لا فرق بين كون وجود الشرط خارجاً متأخراً عن المشروط أو متقدّماً عليه أو مقارناً له ، إذ على جميع هذه التقادير ، الشرط واقعاً والدخيل فيه حقيقة هو لحاظه ، ووجوده العلمي ، وهو معاصر له زماناً و متقدّم عليه رتبة.
    وعلى الجملة فالحكم بما أنّه فعل اختياري للحاكم فلا يتوقّف صدوره منه إلاّ على تصوّره بتمام أطرافه من المتقدّمة والمقارنة واللاحقة ، وهو الموجب لحدوث الإرادة في نفسه نحو إيجاده كسائر الأفعال الاختيارية ، فالشرط له حقيقة إنّما هو وجود تلك الأطراف في عالم التصور واللحاظ دون وجودها في عالم الخارج. (1)
    وكان عليه أن يضيف عليه قوله : وهكذا الحال في شرائط الوضع ، أي صحّة الصوم وحدوث الملكية ، فإنّ الشرط هو لحاظ العقد مع الرضا ، سواء كان الرضا متقدّماً أو متأخراً.
    هذا هو غاية توضيح مرامه.
    يلاحظ عليه : أنّه على خلاف ظاهر الأدلّة فانّ الشرط عبارة عن نفس الرضا ، قال سبحانه : ( إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارةً عَنْ تَراض ). (2)
    وما تخلّص به في آخر كلامه من النقض والإبرام غير رافع لهذا الإشكال ، إذ ليس الإشكال في صحّة الصدق وإنّما الإشكال فيما هو المتبادر من الأدلّة ، فانّ المتبادر من الأدلّة هو الوجود الخارجي لا لحاظ الحاكم وجوده في ظرفه.
    نعم يصحّ ما ذكره في شرائط الحكم والارادة ، فانّ الشرط فيها هو تصوّر الشروط المتقدّمة والمتأخّرة ولا يصحّ في شرائط الوضع كما مرّ.
1 ـ المحاضرات : 2/310.
2 ـ النساء : 29.


(453)
    إجابة المحقّق النائيني عن الإشكال
    ثمّ إنّ المحقّق النائيني أجاب عن الإشكال بوجه آخر ، وقال :
    إنّ امتناع الشرط المتأخّر من القضايا التي قياساتها معها ولا تحتاج إلى برهان ، بل يكفي في امتناعه نفس تصوّره ، فانّ حال الشرعيات حال العقليات التي تقدّم امتناع تأخّر العلّة فيها أو جزئها أو شرطها ممّا له دخل في تحقّق المعلول ، عن معلولها.
    ثمّ قال : وأمّا توهّم انّ امتناع الشرط المتأخّر إنّما يكون في التكوينيات دون الاعتباريات والشرعيات التي أمرها بيد المعتبر والشارع ، حيث إنّ له أن يعتبر كون الشيء المتأخّر شرطاً لأمر متقدّم ، ففساده أيضاً غني عن البيان ، لأنّه ليس المراد من الاعتبار مجرّد لقلقة اللسان ، بل للاعتباريات واقع ، غايته أنّ واقعها عين اعتبارها ، وبعد اعتبار شيء شرطاً لشيء وأخذه مفروض الوجود في ترتب الحكم عليه كما هو الشأن في كلّ شرط ، كيف يمكن تقدّم الحكم على شرطه ؟ وهل هذا إلاّ خلاف ما اعتبره ؟!
    وبالجملة : بعد فرض اعتبار شيء موضوعاً للحكم لا يمكن أن يتخلّف ويتقدّم ذلك الحكم على موضوعه ، فظهر فساد ما ذكر من الوجوه لجواز الشرط المتأخر.
    وأحسن ما قيل في المقام من الوجوه : هو أنّ الشرط عنوان التعقب والوصف الانتزاعي ، وقد تقدّم عدم توقّف انتزاع وصف التعقب على وجود المتأخّر في موطن الانتزاع ، بل يكفي في الانتزاع وجود الشيء في موطنه ، فيكون الشرط في باب الفضولي هو وصف التعقّب ، وانّ السبب للنقل والانتقال هو


(454)
العقد المتعقب بالإجازة ، وهذا الوصف حاصل من زمن العقد هذا. (1)
    يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ ما ذكره من أنّ امتناع الشرط المتأخّر من القضايا التي قياساتها معها لا يخلو من خلط التكوين بالتشريع ، فانّ الممتنع هو الأوّل ، وأمّا الثاني فلا يقبل الامتناع ، نعم فرض وجود المعتبَر مع فقد ما يعتبر علة له يوجب تناقضاً في الاعتبار وهو أمر خارج عن سيرة العقلاء لا أنّه أمر محال.
    وما ذكره جواباً عن هذا الإشكال من « انّ الاعتبار ليس مجرّد لقلقة اللسان ، بل للاعتباريات واقع غايته انّ واقعها عين اعتبارها » لا يدفع الإشكال ، فانّ أقصى ما يمكن أن يقال انّ للاعتباريات نظاماً عقلائياً فاعتبار شيء ثمّ اعتبار خلافه وإضفاء الرسمية على كلا الاعتبارين خارج عن سيرة العقلاء.
    والعجب أنّه يقول في آخر كلامه : « كيف يمكن تقدّم الحكم على شرطه ؟ وهل هذا إلاّ خلاف ما اعتبره ؟! » فانّ حاصل هذا الكلام : أنّ القول بتأخّر الشرط خلاف الاعتبار السابق لا انّه أمر محال.
    ثانياً : أنّ ما وصفه بأحسن الأجوبة وهو أنّ الشرط عنوان التعقّب وهو موجود مع العقد وإن لم يوجد الشرط ، أعني : الإجازة ، ففيه أيضاً خلط بين ذات المتعقّب وعنوان التعقب ، فالأوّل متحقّق وإن لم يلحق به الإجازة ، وأمّا التعقّب بالعنوان الوصفي فبما انّه أمر انتزاعي والأمر الانتزاعي من مراتب التكوين ، فكيف يمكن انتزاعه بالفعل مع عدم وجود منشأ الانتزاع ، أعني : الإجازة ؟!
    وبعبارة أُخرى : انّ عنوان التعقّب امّا منتزع من ذات العقد وذات الصوم بلا لحاظ ضمّ الاجازة والاغتسال ، فلازمه حدوث الملكية ، ووصف الصوم بالصحة الفعلية ، وإن لم تنضم إليهما الإجازة والاغتسال ، وهو خلاف الفرض.
1 ـ فوائد الأُصول : 1/281.

(455)
    وإمّا منتزعة عنهما بملاحظة الاجازة والاغتسال ، فلازمه عدم إمكان انتزاعهما ما لم تلحق بهما الإجازة والاغتسال ، إذ لو لم يكن ذات العقد أو الصوم كافياً في صحّة الانتزاع ، فلا معنى لانتزاع الخصوصية بلا ضم الإجازة أو الغسل.
    فالحقّ في الجواب ما عرفت.


(456)
    الأمر الرابع (1)
تقسيمات الواجب
    قسم الواجب إلى أقسام بملاكات مختلفة ، نستعرضها فيما يلي :

    التقسيم الأوّل : تقسيمه إلى مطلق ومشروط
    قد جعل المشهور التقسيم إلى مطلق ومشروط تقسيماً للواجب مع أنّه في الحقيقة ـ على مذهب المشهور ـ تقسيم للوجوب ، حيث إنّ الوجوب يكون تارة مرسلاً ومطلقاً من أيّ قيد ، وأُخرى مقيّداً ومشروطاً بقيد ، وعليه فوصف الواجب بالمطلق والمشروط وصف بحال المتعلّق.
    وعلى كلّ حال فقد عرّف المطلق والمشروط بتعاريف نقتصر على ذكر تعريفين :
    الأوّل : المطلق ما لا يتوقف وجوبه ـ بعد الأُمور العامة ـ على شيء ، ويقابله المشروط. والمراد من الأُمور العامة : العقل والبلوغ والعلم والقدرة العقلية لا الشرعية.
    يلاحظ عليه : أنّ تعريف المطلق بما ذكر يوجب أن لا يوجد له مصداق إلاّ معرفة اللّه سبحانه ، إذ ما من واجب إلاّ وهو مشروط بشيء ـ مضافاً إلى الأُمور
1 ـ مرّ الأمر الثالث في تقسيم المقدمة ص 423.

(457)
العامّة ـ كالصلاة والصوم والحجّ بالنسبة إلى الوقت ، والجهاد بالنسبة إلى أمر الإمام به ، وغير ذلك.
    على أنّ في جعل العلم ممّا يتوقّف عليه الحكم إشكالاً واضحاً ، وهو استلزامه الدور ، لأنّ الحكم يتوقّف على شرطه وهو العلم ، والعلم موقوف على المعلوم ( الحكم ).
    إلاّ أن يقال بأنّ مرتبة من الحكم وهو الفعلية أو التنجّز موقوفة على العلم لا كلّ المراتب كالإنشاء ، فالإنشاء حكم مطلق غير مشروط بالعلم ، لكن فعلية الحكم ـ على مبنى القوم ـ أو تنجّزه ـ كما هو الحقّ ـ موقوفة على علم المكلّف.
    الثاني : المطلق ما لا يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده ، كالصلاة بالنسبة إلى الطهارة حيث إنّ وجودها موقوف على الطهارة لكن وجوبها ليس موقوفاً عليها ، فلو لم يكن متوضّئ تجب الصلاة عليه غاية الأمر يجب عليه تحصيل الوضوء ، ويقابله المشروط كالحج فانّ وجوبه موقوف على الاستطاعة التي يتوقّف عليها وجود الحجّ ، فالحجّ وجوداً و وجوباً موقوف على الاستطاعة.
    يلاحظ عليه : أنّ وجوب الحجّ موقوف على الاستطاعة الشرعية ، لكن وجودَه لا يتوقّف على الشرعية منها ، بل يكفي الاستطاعة العقلية كما في حج المتسكع ، فانّ الاستطاعة العقلية أوسع من الاستطاعة الشرعية ، فالناس أكثرهم مستطيعون للحجّ بالاستطاعة العقلية دون الشرعية.
    اللّهم إلاّ أن يقال المراد توقّف الحجّ الواجب لا مطلق الحجّ ، فالقسم الواجب من الحجّ موقوف وجوده على الاستطاعة الشرعية ، كما أنّ وجوبه موقوف عليها.


(458)
    اعتذار المحقّق الخراساني
    إنّ المحقّق الخراساني اعتذر عن الإشكالات الواردة على هذه التعاريف بأنّها تعريفات لفظية والتي تسمّى بشرح الاسم ، وليس بالحد والرسم ، وقال ما يقرب من هذا أيضاً في مبحث العام والخاص ، وهكذا في مبحث المطلق والمقيد.
    أقول : بما انّ المحقّق الخراساني كرّر ذلك الاعتذار في غير مورد من كتابه فنعود إلى مناقشته بالوجه التالي :
    أوّلاً : إن أراد انّ هذه التعاريف تعاريف لفظية بحجّة انّ المعرّف من الأُمور الاعتبارية وهي تفقد الجنس والفصل الحقيقيّـين ، فيرجع جميع المعرفات إلى كونها لفظية ، فلو أراد هذا ، فهو حقّ.
    وإن أراد أنّ القوم كانوا بصدد التعريف اللفظي والعرفان الإجمالي دون التعريف بالحد والرسم فهو غير مطابق للواقع ، إذ لو كانت الغاية ذلك لما كان لمناقشاتهم في مقام التعريف وجه ، فانّ النقاش آية انّهم كانوا بصدد التعريف الحقيقي.
    ثانياً : انّ الظاهر من كلماته أنّ « التعريف اللفظي » و « شرح الاسم » و « ما الشارحة » من الألفاظ المترادفة تستعمل في معنى واحد ، قد تبع في ذلك أُستاذَه الحكيم السبزواري ، حيث قرأ عليه شيئاً من الفلسفة في مسيره من خراسان إلى العراق ، قال الحكيم السبزواري :
أُسّ المطالب ثلاثة علم فما هو الشارح والحقيقي مطلب « ما » مطلب « هل » مطلب « لم » وذو اشتباك مع هل أنيق


(459)
    وقال في شرحه : « يطلب » بـ « ما » الشارحة أوّلاً شرح مفهوم الاسم ، بمثل : ما الخلاء ؟ وما العنقاء ؟ وبـ « ما » الحقيقية ، تعقل ماهية النفس الآمرية ، مثل ما الحركة ؟ وما المكان ؟ (1)
    الظاهر اشتباه الأمر على المحقّق السبزواري حيث عدّ ما الشارحة في مقابل ما الحقيقية ، مع أنّ القول الشارح في المنطق نفس الحد والرسم ، والاختلاف بينهما بالاعتبار ، فتعريف الشيء بالحد أو الرسم قول شارح قبل العلم بوجوده ، وتعريفه بنفس ذلك بعد العلم بوجوده ، حدّ ورسم ، فالقول الشارح عنوان يشمل الحدّ والرسم ، ولكن يختلف استعمالها حسب اختلاف الاعتبار ، ويشهد بذلك كلام الشيخ الرئيس في « منطق الإشارات » وشارحه المحقّق الطوسي ، وإليك كلامهما :
    قال الشيخ الرئيس في « منطق الاشارات » : قد جرت العادة أن يسمّى الشيء الموصل إلى التصوّر المطلوب ، قولاً شارحاً ، فمنه حدّ ومنه رسم. (2)
    وتختلف ما الشارحة عن ما الحقيقية بالاعتبار ، والفرق أنّ السؤال في الثانية بعد معرفة وجود المسؤول عنه دون الأُولى.
    قال المحقّق الطوسي : إنّا إذا قلنا في جواب من يقول : ما المثلث المتساوي الأضلاع ؟ انّه شكل تحيط به خطوط ثلاثة متساوية ، كان حداً بحسب الاسم ، ثمّ إنّه إذا بيّنا أنّه الشكل الأوّل من كتاب أقليدس ، صار قولنا الأوّل بعينه حدّاً بحسب الذات. (3)
1 ـ شرح المنظومة : 32.
2 ـ شرح الإشارات : 1/25.
3 ـ المصدر نفسه.


(460)
    الإطلاق والتقييد من الأُمور النسبية
    الإطلاق والتقييد من الأُمور الاضافية كالأُبوّة والبنوّة لا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة وإن كان يجتمعان فيه من جهتين ، فهكذا الإطلاق والاشتراط ، فانّ وجوب الشيء قد يكون بالنسبة إلى شيء مطلقاً ، كوجوب الصلاة بالنسبة إلى الوضوء ، وبالنسبة إلى شيء آخر مشروطاً كوجوبها بالنسبة إلى الوقت.
    وتظهر الثمرة أنّه إذا كان وجوب الشيء بالنسبة إلى شيء مطلقاً يجب تحصيله بخلاف ما إذا كان بالنسبة إليه مشروطاً ، فلو كان خارجاً عن الاختيار ينتظر إلى حصوله ، وإن كان داخلاً في الاختيار لا يجب تحصيله كالاستطاعة الشرعية.
    إذا علمت ذلك ، فاعلم أنّ هناك بحثاً آخر ، وهو ما يلي :

    هل القيد يرجع إلى مفاد الهيئة أو إلى مفاد المادة ؟
    ذهب المشهور إلى أنّ القيد في الواجب المشروط يرجع إلى مفاد الهيئة ، وتكون النتيجة عدم الوجوب ما لم يحصل القيد ، وأمّا المادة فهي باقية على إطلاقها.
    نعم خالف الشيخ الأنصاري الرأي العام في الواجب المشروط فاختار أنّ القيد يرجع إلى الواجب فيكون الواجب محدداً بالقيد ، وأمّا الوجوب فهو باق على إطلاقه ، فالصلاة قبل الوقت واجبة غير أنّ الواجب مقيّد بالزوال ، ونستوضح كلتا النظريتين بالآية التالية :
    قال سبحانه : ( أَقِمِ الصَّلوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْل وَقُرآنَ الفَجْرِ إِنَّ


(461)
قُرآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) (1) « الدلوك » بمعنى الزوال ، ولفظة « اللام » في قوله « لدلوك » بمعنى « عند » أي أقم الصلاة عند دلوك الشمس ، فلو قلنا بأنّ غسق الليل هو وسط الليل فالآية متضمنة لأوقات الصلوات الخمسة ، فتدلّ على أوقات الأربعة قوله : ( أَقِمِ الصَّلوة ... إلى غسق الليل ) ، وعلى وقت صلاة الفجر قوله : ( وَقرآنَ الفَجْر ) ولو قلنا إنّ المراد من غسق الليل هو ابتداء الليل ، فتدلّ على أوقات الفرائض الثلاثة : الظهر والعصر والفجر.
    وعلى كلّ حال فالقيد في الآية ، أعني قوله : ( لِدُلُوكِ الشَّمْس ) إمّا إلى قوله : ( أَقِم ) كما عليه المشهور أو إلى ( الصَّلوة ) كما عليه الشيخ الأنصاري ، ولنستوضح المقام بمثال آخر.
    إذا قال القائل : أكرم زيداً إن سلّم ، فالتسليم إمّا قيد للوجوب المستفاد من هيئة أكرم ، أو قيد للإكرام الحامل للهيئة.
    فعلى الأوّل : يكون المعنى يجب إن سلّم على وجه لولا التسليم لا وجوب.
    وعلى الثاني يكون المعنى يجب إكرام زيد إكراماً مقيداً بتسليمه ، فالوجوب على إطلاقه وإن كان الإكرام مقيّداً بالتسليم.
    وبعبارة أُخرى : الوجوب حالي وإن كان ظرف العمل استقبالياً.

    تحليل واقع القيود ثبوتاً
    وقبل أن ندرس أدلّة الطرفين نحلل واقع القيود ثبوتاً ، فانّ القيود حسب الواقع على قسمين :
1 ـ الاسراء : 78.

(462)
    فقسم لا يصلح إلاّ أن يكون قيداً للمتعلّق ، وقسم لا يصلح إلاّ أن يكون قيداً لمفاد الهيئة.
    أمّا الأوّل : فلو افترضنا أنّ المصلحة قائمة بإقامة الصلاة جماعة ، أو إقامتها في المسجد ، أو الطواف بالبيت على نحو تكون الصلاة والطواف مجرّدتين عن القيود فاقدتين للمصلحة ، ففي هذا الظرف يكون القيد راجعاً إلى الواجب ، فإذا قال : صلّ في المسجد ، أو صلِّ صلاة الجمعة جماعة ، أو طف بالبيت ، فجميع تلك القيود من محصلات المصلحة في الصلاة والطواف ، فهذا النوع من القيد لا يصلح إلاّ أن يكون قيداً للواجب لا للوجوب.
    وأمّا الثاني : فكما إذا افترضنا انّ الصوم بما هو هو ذو مصلحة أو انّ العتق بما هو هو أمر راجح ، ولكن مثل هذه المصلحة غير كافية ، لانقداح الارادة في نفس المولى وبالتالي انشاء البعث إليه ، إلاّ إذا صدر منه فعل لا يغتفر إلاّ بالتكفير من الصوم والعتق ، ففي هذا المورد يكون القيد راجعاً إلى مفاد الهيئة أي البعث ، ويقول : إن أفطرت فكفّر ، وإن ظاهرت فأعتق. فالإفطار والظهار من قيود الإرادة والبعث ، ونظيره الحج متسكعاً فانّ الحجّ ذو مصلحة كافية ولكنّه غير كاف في انقداح الإرادة في لوح النفس وبعث العبد إليه ، لاستلزامه الحرج ، وإنّما يبعث إذا استطاع العبد ، فتكون الاستطاعة قيداً لظهور الإرادة ، وبالتالي لبعث المولى ، ومثل الموردين الأُمور العامّة ، فانّ العقل والقدرة من شروط الإيجاب ، فلولاهما لما ظهرت الإرادة في لوح النفس ولا البعث إلى العمل.
    وبذلك ظهر أنّ القيود ثبوتاً على قسمين ، فقسم يرجع إلى المادة ولا يصلح أن يكون قيداً للوجوب والبعث ، وقسم على العكس. فإذا كانت القيود حسب الثبوت على قسمين فلا وجه لجعلهما قسماً واحداً كما عليه العلمان حيث جعل


(463)
المحقّق الخراساني كلّ القيود راجعة إلى الهيئة وجعل الشيخ الأنصاري كلّها راجعة إلى المادة ، بل لابدّ من التفصيل بين القيود.
    إذا عرفت ذلك ، فلنرجع إلى دراسة أدلّة الشيخ.

    أدلّة رجوع القيد إلى المادة
    استدلّ الشيخ على رجوع القيد إلى المادة بوجوه أربعة :
    الأوّل : انّ هيئة الأمر موضوعة « بالوضع النوعي العام والموضوع له الخاص » لخصوصيات أفراد الطلب والإرادة الحتمية الإلزامية التي يوقعها الآمر ويوجدها ، فالموضوع له والمستعمل فيه ، فرد خاص من الطلب ، وهو غير قابل للتقييد.
    وإن شئت قلت : إنّ الهيئة موضوعة بالوضع العام للموضوع له الخاص ، فيكون مفادها إيجاد البعث ، وهو أمر جزئي لمساواة الإيجاد بالجزئية ، والجزئي لا يقبل التقييد. (1)
    يلاحظ عليه : ما مرّ سابقاً من أنّ الجزئي فاقد للسعة والإطلاق من حيث الأفراد ، وأمّا من حيث الحالات فهو قابل للتقييد ، فانّ الوجوب المنشأ ، له مصداق واحد ولكنّه من حيث الحالات ينقسم إلى حالتين :
    أ. الوجوب المقرون بالتسليم.
    ب : الوجوب المجرّد عن التسليم.
    فالقيد إذا رجع إلى المقيّد يخص البعث بحالة خاصّة وهو حالة التسليم.
    الثاني : ما لخصه المحقّق الخراساني في « الكفاية » ، بقوله : إنّ العاقل إذا توجّه
1 ـ لاحظ مطارح الأنظار : 46.

(464)
إلى شيء والتفت إليه ، فإمّا أن يتعلّق طلبه به أو لا يتعلّق به طلبه أصلاً ، لا كلام في الثاني.
    وعلى الأوّل فإمّا أن يكون ذلك الشيء مورداً لطلبه وأمره مطلقاً ، على اختلاف أطواره ، أو على تقدير خاص ، وذلك التقدير تارة يكون من الأُمور الاختيارية ، وأُخرى لا يكون كذلك ، وما يكون من الأُمور الاختيارية قد يكون مأخوذاً فيه على نحو يكون مورداً للتكليف ، وقد لا يكون كذلك على اختلاف الأغراض الداعية إلى طلبه والأمر به. (1)
    يلاحظ عليه : بأنّه جعل المقسم من أوّل الأمر هو المطلوب وذكر له أقساماً ، ولنا أن نجعل المقسم هو الطلب ، فنقول : إذا أطلّ الإنسان بنظره إلى شيء ، فإمّا أن يطلبه أو لا يطلبه ، وعلى الثاني إمّا أن يتعلّق طلبه به على وجه الإطلاق ، وأُخرى على وجه التقييد ، ثمّ القيد إمّا أن يكون أمراً اختيارياً أو خارجاً عنه ، والقيد الاختياري إمّا أن يكون مطلوباً حصوله أو مطلوباً تحصيله.
    الثالث : انّ المقصود من الإنشاء ليس مفهوم الطلب الاسمي ، بل إيجاد مصداقه في الخارج إنشاء واعتباراً ، ومثله غير ملحوظ مستقلاً ، بل ملحوظ على نحو الاندكاك في ضمن لحاظ متعلّقه ، أعني : المطلوب ، والشيء ما لم يلحظ مستقلاً ولم يقع في أُفق النفس كذلك يمتنع تقييده ، إذ التقييد عبارة عن لحاظ شيء مستقلاً ، ثمّ تقييده ثانياً.
    وعلى هذا الوجه اعتمد المحقّق النائيني حيث قال : إنّ النسبة حيث إنّها مدلولة للهيئة فهي ملحوظة آلة ومعنى حرفياً ، والإطلاق والتقييد من شؤون
1 ـ كفاية الأُصول : 1/153.

(465)
المفاهيم الاسمية الاستقلالية. (1)
    يلاحظ عليه أوّلاً : بأنّ النسب التي هي من المعاني الحرفية من المقاصد الأصلية للمتكلّم ، والقيد يرجع إلى المقاصد الأصلية.
    توضيحه : أنّ الغرض الأصلي من التكلّم غالباً هو افادة النسب التي هي قسم من المعاني الحرفية كالهوهوية في قولنا : « زيد قائم » ، والظرفية في قولنا : « زيد في الدار » ، والتقييد يرجع إلى المقاصد الأصلية.
    وإن شئت قلت : إنّ الإثبات تابع للثبوت وقد عرفت أنّ القيد تارة يرجع إلى الطلب وأُخرى إلى المطلوب ، فإذا كان الثبوت على قسمين فكيف يمكن لنا جعله في الإثبات قسماً واحداً ؟
    وثانياً : ما أفاده المحقّق الخراساني من أنّه لو سلّمنا امتناع تقييد المعاني الملحوظة آلية ، فانّه إنّما يمنع عن التقييد لو أنشأ أوّلاً غير مقيّد ، لا ما إذا أنشأ من الأوّل مقيّداً غاية الأمر قد دلّ بدالّين وهو غير إنشائه أوّلاً ثمّ تقييده ثانياً.
    الرابع : انّ تقييد مفاد الهيئة يستلزم تعليق الإنشاء وهو أمر محال ، لأنّ الإنشاء من مقولة الإيجاد وهو لا يقبل التقييد ، بل أمره دائر بين الوجود والعدم ، فامّا أن يكون الإيجاد محقّقاً أو غير محقّق ، ولا معنى للإيجاد المعلّق من غير فرق بين الإيجاد التكويني والإنشائي.
    يلاحظ عليه : بأنّ ما أُفيد من أنّ الإنشاء لا يقبل التعليق ، فهو كالإيجاد أمره دائر بين الوجود والعدم غير أنّ القيد يرجع إلى المنشأ فهاهنا انشاء وهاهنا منشأ ، والأوّل غير مقيّد والثاني وهو الطلب مقيد.
1 ـ أجود التقريرات : 1/131.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: فهرس