إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: 496 ـ 510
(496)
فيقدّم البدلي على الشمولي بحكم أنّ دلالة البدلي دلالة وضعية ودلالة الشمولي دلالة عقلية. فدلالة اللفظ على البدل غير معلّقة على شيء بخلاف دلالته على الشمولي فانّها معلّقة على عدم ما يصلح أن يكون قرينة للخلاف.
    فقد علم بذلك أنّ الميزان هو تقدّم الدلالة الوضعية على الدلالة الإطلاقية من غير فرق بين الشمولي والبدلي ، وأمّا المقام فالمفروض أنّ المدلولين على شاكلة واحدة ، حيث إنّ كلاً من الشمولي والبدلي مفهومان من الإطلاق ، فهما سيّان في الأقوائية ، فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر.
    إلى هنا تمّ الوجه الأوّل لتقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادة ، وإليك بيان الوجه الثاني.

    الوجه الثاني : تقييد الهيئة يوجب تقييد المادة أيضاً ولا عكس
    وحاصله : أنّ تقييد الهيئة يوجب بطلان محل الإطلاق في المادة ويرتفع به مورده ، بخلاف العكس ، وكلّما دار الأمر بين تقييدين كذلك ، كان التقييد الذي لايوجب بطلان الآخر أولى.
    توضيحه : أنّ هذا الوجه كالوجه السابق مؤلّف من صغرى و كبرى.
    أمّا الصغرى فلأنّ تقييد الهيئة يوجب تقييد المادة ولا عكس.
    أمّا الكبرى فلأنّ الأمر إذا دار بين تقييدين أو تقييد واحد فالثاني مقدّم.
    أقول : الظاهر أنّ الكبرى أمر لا سترة عليه ، إنّما المهم هو بيان الصغرى. فنقول : إذا فرض أنّ المولى قال : أكرم زيداً إن جاءك يوم الجمعة ، فلو فرضنا أنّ القيد يرجع إلى الوجوب الذي هو مفاد الهيئة ، فبما أنّه لا وجوب قبل مجيء يوم الجمعة ، يكون الواجب أيضاً هو الإكرام التوأم مع مجيء زيد ، وهذا بخلاف ما


(497)
إذا كان القيد راجعاً إلى المادة حيث يكون الإكرام المقيّد بالمجيء يومئذ واجباً ، فلا يسري التقيد إلى مفاد الهيئة ـ أعني : الوجوب ـ لجواز أن يكون الوجوب حالياً قبل يوم الجمعة والمطلوب استقبالياً.
    وأورد عليه المحقّق الخراساني : بأنّه إنّما يتمّ إذا كان القيد منفصلاً ، بحيث ينعقد لكلّ من الهيئة والمادة إطلاق ، فيدور الأمر بين التصرّفين والتصرّف الواحد ، وأمّا إذا كان القيد متّصلاً فبما أنّه لم ينعقد للكلام أي ظهور وإطلاق ، فلو رجع القيد إلى الهيئة فهو لا يستلزم تقييد المادة ، بل يستلزم إبطال محلّ الإطلاق وإلغاء القابلية في المادة ، وهو ليس أمراً مخالفاً للأصل.
    فلو دار الأمر بين تقييد واحد كالمادة ، وتقييد واحد وإبطال محلّ الإطلاق في الآخر ، بمعنى أنّه لا ينعقد الإطلاق فيه من أوّل الأمر فلا دليل على الترجيح. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره خروج عن موضع النزاع لما عرفت من أنّ النزاع فيما إذا كان القيد منفصلاً ، وأمّا إذا كان متّصلاً فيعود الكلام مجملاً لا يعتبر كلّ من الظهورين.
    والأولى أن يجاب بأنّ ما ذكره الشيخ وجه عقلي لا ينعقد به الظهور حتّى يكون موجباً لتقديم ما هو الأقوى دلالة وظهوراً على الأضعف كذلك ، وقد مرّ منّا القول عند البحث في تعارض الأحوال أنّ ما ذكروه من الوجوه لتقديم بعض الأحوال على بعض كالنقل المجاز مثلاً وجوه استحسانية لا يلتفت إليها العرف ولا ينعقد بها الظهور.
    ثمّ إنّ هنا كلاماً للمحقّق النائيني لا يخلو من نكتة حيث قال :
    إنّا لو فرضنا ثبوت أقوائية الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي ، فلا
1 ـ كفاية الأُصول : 1/169 ـ 170.

(498)
يوجب ذلك تقديمه عليه ، لأنّ الأقوائية إنّما توجب التقديم ، لو كان التخالف والتكاذب بينها بالذات ، كما في المثالين : « لا تكرم فاسقاً » ، « أكرم عالماً » والأوّل يفيد الشمول ، والثاني يفيد البدلية ، فانّ كلّ واحد منها يكذّب الآخر ، إذ لا تجتمع حرمة إكرام الفاسق على إطلاقه ولو كان عالماً مع وجوب إكرام مطلق العالم ولو كان فاسقاً ، ففي مثله يقدّم الأقوى على الأضعف ، وهذا هو محل الكلام في مبحث التعادل والترجيح ، لا في المقام إذ ليس بين إطلاق الهيئة والمادة في أنفسهما تكاذب في المقام إذ لا مانع من كونهما مطلقين غير مقيدين ، وإنّما جاء التعارض لأجل علم إجمالي بطروء القيد على أحدهما مع تساويه بالنسبة إلى الأقوى والأضعف ، وفي مثله ، لا وجه لتقديم الأقوى على الأضعف لما ذكرناه من تساوي العلم الإجمالي. (1)

    مقتضى الأصل العملي
    قد عرفت أنّه لا أصلَ لفظي في المقام يعتمد عليه ، وانّ القيد إذا كان متصلاً يلزم منه الإجمال في الكلام ، وإن كان منفصلاً فالعلم الإجمالي بتقييد أحد الإطلاقين يمنع عن الأخذ بواحد منهما ، فلابدّ من الرجوع إلى الأصل العملي.
    وأمّا مقتضاه فلانّ الشكّ في كون القيد راجعاً إلـى الهيئـة ( فلا يجب تحصيله ) وإلى المادة ( فيجب تحصيلـه ) شكّ في وجـوب تحصيـل القيـد والمرجع فيه البراءة.
    نعم الأصل العملي ، أعني : البراءة لا يثبت أحد الظهورين أي كون القيد قيداً للهيئة أو المادة.
1 ـ أجود التقريرات : 1/163 ـ 164.

(499)
    التقسيم الثالث (1)     عرّف القوم الواجب النفسي والغيري بالتعريف التالي :
    النفسي ما أُمر به لنفسه.
    والغيري ما أمر به لغيره.
    وأورد عليه الشيخ الأعظم بأنّ تعريف النفسي غير جامع ، كما أنّ تعريف الغيري غير مانع.
    أمّا الأوّل : فلأنّ النفسي ينحصر بمعرفة اللّه تعالى التي أمر بها لنفسها ، وأمّا سائر الواجبات النفسية كالصلاة والصوم والزكاة فتخرج عن التعريف ، لأنّها لم يؤمر بها لأنفسها ، بل أمر بها لغاياتها المعلومة من النهي عن الفحشاء وكونه جُنّة من النار واختباراً للأغنياء إلى غير ذلك من الغايات.
    وأمّا الثاني : فقد علم ممّا ذكر ، لأنّ غير المعرفة إذا خرج عن تحت الواجب النفسي يدخل في الواجب الغيري ، لأنّه أمر به لغيره ، أعني : المصالح والغايات. (2)
    يلاحظ عليه : بأنّ المراد من كلمة « لنفسه » هو ما أمر به لا لبعث آخر ، كما أنّ المراد من لفظة « لغيره » ما أمر به لبعث آخر ، فالمقيس عليه في تسمية الأمر نفسياً
1 ـ مرّ التقسيم الثاني ، ص474.
2 ـ مطارح الأنظار : 66.


(500)
أو غيرياً هو ملاحظة كون البعث لأجل بعث آخر وعدمه ، فالأوّل هو الغيري ، والثاني هو النفسي.
    وبعبارة أُخرى : الملاك في كون الواجب نفسياً أن يتعلّق به البعث في ملاك فيه لا لأجل بعث آخر ، كما أنّ الملاك في كون الواجب غيرياً أن يتعلّق به البعث لأجل بعث آخر ، وعندئذ تدخل الواجبات النفسية المعلومة كونها نفسية في التعريف الأوّل ولا يعمّه التعريف الثاني.

    تعريف ثان للنفسي والغيري
    ثمّ إنّ الشيخ لما لم يرتض بالتعريف المتقدّم حاول التعريف بوجه آخر نقله المحقّق الخراساني في « الكفاية » ، قال : فإن كان الداعي فيه هو التوصّل به إلى واجب لا يكاد يمكن التوصّل بدونه إليه لتوقّفه عليه فالواجب غيري ، وإلاّ فهو نفسي ، سواء كان الداعي محبوبية الواجب بنفسه كالمعرفة باللّه أو محبوبيته بما له من فائدة مترتبة عليه كأكثر الواجبات من العبادات والتوصليات. (1)
    وبما أنّ الشيخ عمّم الواجب النفسي إلى ما إذا كان الداعي محبوبية الواجب بنفسه كالمعرفة أو محبوبيته بما له من الغايات ، أورد عليه في الكفاية ، بأنّه لو كان الداعي هو اشتماله على الفائدة المترتبة عليه كان الواجب غيريّاً ، فانّه لو لم تكن هذه الفائدة لازمة ، لما دعا إلى إيجاب ذي الفائدة. (2)
    يلاحظ عليه : أنّ الإشكال نابع من عدم الإمعان في كلام الشيخ حيث إنّه جعل المعيار كون الداعي إلى الأمر التوصّل إلى واجب آخر وعدمه ، لا التوصّل إلى الغايات والأغراض وعدمها ، والأغراض وإن كانت محبوبة بالذات ولكنها ليست
1 ـ كفاية الأُصول : 1/171.
2 ـ المصدر نفسه.


(501)
واجبة في الشريعة ولم يتعلّق بها الأمر والطلب.
    والحاصل : انّ المعيار في الواجب الغيري كون الداعي إلى الأمر هو التوصّل إلى واجب آخر دلّ الدليل على وجوبه في الشريعة ، فمثل هذا التعريف لا يشمل الصلاة والصوم ، إذ لم يكن الداعي إلى الأمر بها هو التوصّل إلى واجب ورد في الشريعة ، وكون الداعي من الأمر وإن كان هو التوصّل إلى الأغراض والغايات لكن الأغراض لما لم تقع في إطار الأمر الظاهري لا يصدق على الصلاة كون الأمر بها للتوصل إلى واجب في الشريعة ، وكون الأمر بها للتوصل إلى الغاية ليس معياراً في تحديد الواجب الغيري.
    وبذلك ظهر صحّة كلا التعريفين ورجوعهما إلى تعريف واحد سواء أقلنا :
    النفسي ما أمر به لنفسه لا لبعث آخر.
    والغيري ما أمر به لغيره ولبعث آخر ، أو قلنا :
    الغيري : ما يكون الداعي إلى الأمر ، التوصّل إلى واجب آخر.
    النفسي : ما لا يكون الداعي التوصّل إلى واجب آخر ، وإن كان الداعي إلى الأمر ـ لبّاً ـ هو تحصيل الغايات والأغراض التي ليست واجبة في الشريعة الإسلامية.
    فإن قلت : ينتقض التعريف بالظهر والمغرب إذ فيهما كلا الملاكين : النفسيّة والغيرية ، وبأفعال الحج ، وذلك لأنّ المتقدّم منها واجب نفسي وفي الوقت نفسه وجب لبعث آخر أو لواجب آخر على اختلاف في التعبيرين.
    قلت : تقدّم أنّ المقدّمة ليس هي نفس الصلاة أو نفس العمل في أعمال الحجّ ، بل المقدّمة هو تقدّمه على العصر ، والعمل شيء والتقدّم شيء آخر ، أو الشرط تأخّر العصر عن الظهر أو تأخّر السعي عن الطواف ، وتأخّرهما لا صلة له


(502)
بالظهر والعمل المتقدّمين.
    فإن قلت : ما هو حكم المقدّمات المفوتة ، إذ هي ليست واجباً غيريّاً لعدم وجوب ذي المقدّمة حتّى يكون البعث بها لأجل بعث آخر ، ولا نفسياً لعدم استلزام تركها العقاب ، بل العقاب في مسألة اغتسال المستحاضة على ترك الصوم.
    قلت : نلتزم بأنّها واجب غيري ، فانّ البعث بها لأجل بعث آخر وإن لم يكن البعث. الثاني فعلياً وقد تقدّم أنّه يمكن فعلية وجوب المقدّمة قبل فعلية ذيها. (1)

    دوران الوجوب بين النفسي والغيري
    إلى هنا تمّ تعريف الواجب النفسي والغيري ، فلو تبيّن كون شيء نفسيّاً أو غيرياً فهو ، وإلاّ فيرجع إلى الأصل اللفظي أوّلاً ، والأصل العملي ثانياً ، فيقع الكلام في إمكان التمسّك بالأصلين.

    الأوّل : ما هو مقتضى الأصل اللفظي ؟
    إنّ مقتضى الأصل اللفظي كون الواجب نفسياً لعدم حاجة النفسي إلى القيد وحاجة الغيري إليه ، فالأمر بالشيء مع السكوت عن شيء آخر آية كونه نفسياً ، وأمّا الغيري فلا يكفي فيه الأمر بالشيء ، بل يتوقّف على الأمر بالشيء الآخر حتّى يكون الأمر الأوّل لأجل الأمر الثاني ، هذا ما لا إشكال فيه ، إنّما الكلام في إمكان انعقاد الإطلاق في مفاد الهيئة ، وإلاّ فلو قلنا بالإطلاق فمقتضاه هو النفسية ، والمتأخّرون من الأُصوليّين في المقام بين ناف لإمكان انعقاد الإطلاق
1 ـ لاحظ ص 490 ، حول مختار السيد الأُستاذ قدَّس سرَّه.

(503)
كالشيخ الأنصاري ومثبت كالمحقّق الخراساني.
    استدلّ الشيخ على عدم إمكان انعقاد الإطلاق في مفاد الهيئة بوجهين :
    الأوّل : أنّ الصيغة موضوعة لمصاديق الطلب الحقيقي المنقدح في نفس الطالب لا لمفهوم الطلب ، فانّ الفعل لا يتّصف بالمطلوبية إلاّ بواسطة تعلّق واقع الإرادة وحقيقتها به لا بواسطة مفهومها ، ومن المعلوم أنّ الفرد الحقيقي المنقدح في نفس الطالب جزئي لا يقبل فيه التقييد والإطلاق ، فلا معنى للتمسّك بإطلاق الصيغة لكون الواجب نفسياً لا غيرياً. (1)
    وأورد عليه المحقّق الخراساني : بأنّ مفاد الهيئة ليس الفرد الحقيقي من الطلب بل مفادها هو مفهوم الطلب كما عرفت تحقيقه في وضع الحروف ولا يكاد يكون مفادها ، الفرد الحقيقي من الطلب ، أعني : ما يكون بالحمل الشائع طلباً ، وإلاّ لما صحّ إنشاؤه بها ضرورة انّه من الصفات الخارجية الناشئة من الأسباب الخاصة.
    نعم ربما يكون هو ( الطلب الحقيقي ) هو السبب لإنشائه ، بل المنشأ هو الطلب الإنشائي والوجود الإنشائي لكلّ شيء ليس إلاّ قصد مفهومه بلفظه. (2)
    الظاهر وجود الخلط في كلام العلمين.
    أمّا الأوّل : فلأنّ ما ذكره الشيخ من أنّ الصيغة موضوعة لمصاديق الطلب الحقيقي المنقدح في نفس الطالب لا لمفهوم الطلب ، أمر غير صحيح ، فانّ الأُمور التكوينية كالطلب الحقيقي الذي هو عبارة أُخرى عن الإرادة التكوينية ـ لاتحّاد الطلب والإرادة الحقيقيتين ـ غير قابلة للإنشاء ، وإنّما القابل للإنشاء هو المفهوم لا المصداق الحقيقي ، فالزوجية التكوينية كالعينين والأُذنين بما انّهما ظاهرة تكوينية
1 ـ مطارح الأنظار : 67.
2 ـ كفاية الأُصول : 1/173 ـ 174.


(504)
غير قابلة للإنشاء اللفظي ، وإنّما القابل للإنشاء الزوجية الاعتبارية فبالإنشاء يصيران زوجين رجل وامرأة اعتباراً ، وهذا ما نبّه به المحقّق الخراساني.
    وأمّا الثاني : فلأنّ المحقّق الخراساني وإن أصاب في نفي كون الموضوع له هو الطلب الحقيقي ، لأنّه غير قابل للإنشاء لكنّه أخطأ في قوله في أنّ الموضوع له هو الطلب الكلي ـ أي مفهوم الطلب الذي هو مفهوم اسمي ـ لما عرفت من أنّ الموضوع له في الحروف والهيئات مصاديق الطلب الكلي ، فانّ القابل للإنشاء هو الفرد لا المفهوم الكلي بقيد انّه كليّ ، وقد أوضحنا ذلك عند البحث عن المعاني الحرفية.
    وأمّا إمكان تقييد الجزئي فقد مرّ أنّ الجزئي وإن كان غير قابل للتقييد من حيث الأفراد لكنّه قابل للتقييد من حيث الأحوال ، فانّ الطلب المنشأ وإن كان جزئياً لكن لها سعة من حيث الأحوال فيقال في المقام الوجوب ثابت ، سواء أوجب شيء أم لا.
    الثاني : ما أفاده المحقّق العراقي : انّ المعاني الحرفية وإن كانت كلّية إلاّ أنّها ملحوظة بتبع لحاظ متعلّقاتها ، أعني : المعاني الاسمية لكونها قد اتخذت آلة لملاحظة أحوال المعاني الاسمية ، وما كان هذا شأنه فهو دائماً مغفول عن ملاحظته بخصوصه ، وعليه فكيف يعقل توجّه الإطلاق والتقييد إليه لاستلزامه الالتفات إليه بخصوصه في حال كونه مغفولاً عنه بخصوصه ، وهذاخلف. (1)
    يلاحظ عليه : بأنّ كون المعاني الحرفية معان آلية غير كونها مغفولاً عنها ، وقد عرفت فيما سبق أنّ الغرض ربّما يتعلّق بتفهيم المعاني الحرفية وتكون هي المقصد الأصلي في الكلام ، كما في قولك : « زيد على السطح » أو « الماء في الإناء » فالغرض
1 ـ بدائع الأفكار : 1/373.

(505)
الأصلي هو كينونة زيد على السطح والماء في الإناء ، فكيف يكون مفهوماً مغفولاً عنه ؟
    وقد تبيّن من ذلك انّ المنشأ قابل لانعقاد الإطلاق وليست الجزئية ـ كما في كلام الشيخ ـ ولا الآلية ـ كما في كلام المحقّق العراقي ـ مانعين لانعقاد الإطلاق.

    أدلّة المتمسّكين بإطلاق الهيئة
    إذا كان الشيخ والمحقق العراقي ـ قدّس سرّهما ـ من نفاة إمكان انعقاد الإطلاق في الهيئة بالدليلين السابقين ، فانّ هناك من يصحح إمكان انعقاد الإطلاق في مفاد الهيئة وانّ نتيجة الإطلاق كون الواجب نفسيّاً مستدلّين بما يلي :
    الأوّل : ما ذكره المحقّق الخراساني من أنّ الهيئة وإن كانت موضوعة لما يعمهما إلاّ انّ إطلاقها يقتضي كونه نفسياً ، فانّه لو كان شرطاً لغيره لوجب التنبيه على المتكلم الحكيم.
    يلاحظ عليه : أنّ كلاً من الواجب الغيري والنفسي يشاركان في أصل الوجوب ويمتازان بشيء آخر ، والفصل المميّز لهما هو كون الوجوب في الأوّل « لنفسه » وفي الآخر « لغيره » فكلّ منهما يحتاج إلى بيان زائد وراء بيان أصل الوجوب ، ولو كان النفسي نفس الوجوب لزم كون القسم نفس المقسم.
    الثاني : ما أفاده المحقّق البروجردي من أنّ الصيغ الإنشائية قد وضعت للبعث والتحريك نحو متعلّقاتها ، والبعث الغيري المتعلّق بالمقدّمات ليس في الحقيقة بعثاً نحوَ المتعلّق وإنّما هو تأكيد للبعث المتعلّق بذيها ، فالكلام يُحمل على ظاهره وهو البعث الحقيقي نحو ما تعلّق به. (1)
1 ـ نهاية الأُصول : 1/170.

(506)
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره إنّما يتمّ إذا كان دليل المقدّمة إرشاداً إلى الشرطية مثل قوله : « لا صلاة إلاّ بطهور » ، وأمّا إذا كان بلسان الأمر المولوي بالمقدّمة فلا وجه لإنكار البعث نحوها كما في الآيتين التاليتين :
    1. ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيديَكُمْ إِلَى المَرافِق ). (1)
    2. ( يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْركُمْ فانْفِروا ثُبات أَوِ انْفِرُوا جَميعاً ) (2). (3)
    والآية الأُولى تؤكد على الوضوء وتبيّـن كيفيته ، ومعه كيف يقال : ليس فيه بعث نحوه ، كما أنّ الآية الثانية تأمر بحفظ الحذر وتبيّـن كيفية النفر ، ومعه كيف يقال : ليس في الأمر الغيري بعث إلى المقدّمة ؟
    وكون البعث إلى المقدّمة لأجل ذيها شيء ، و عدم البعث إلى المقدّمة شيء آخر ، والصحيح هو الأوّل دون الثاني.
    وممّا يدلّ على وجود البعث الأكيد إلى المقدّمة في الآية الثانية قوله سبحانه في سورة أُخرى :
    ( يا أَيّها الّذين آمنوا مَـا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُـمُ انْفِرُوا فـي سَبيـلِ اللّهِ اثّاقَلْتُـمْ إِلَى الأرْض أَرَضيتُمْ بِالحَياة الدُّنيا مِنَ الآخِرَة ). (4)
    الثالث : ما اخترناه وحاصله : انّ هناك فرقاً بين الثبوت والإثبات ، فالواجبان : النفسي والغيري يشاركان في أصل الوجوب ويتميّزان بفصل قوله :
1 ـ المائدة : 6.
2 ـ النساء : 71.
3 ـ والحذر الآلة التي بها يتقى الحذر وهو كناية عن السلاح ، والثبات جمع « ثبة » جماعات في تفرقة ( مجمع البيان : 2/73 ).
4 ـ التوبة : 38.


(507)
« لنفسه » و « لغيره ».
    وأمّا في مقام الإثبات فكأنّ أحد القسمين في نظر العرف يحتاج إلى بيان زائد دون الآخر ، فالأمر بالشيء والسكوت عن القيد ( لنفسه أو لغيره ) كاف في بيان الأمر النفسي ، ولا منافاة بين كون الشيء مركباً في عالم الثبوت وبسيطاً في عالم الإثبات ، وقد مرّ توضيح ذلك في أوائل الأوامر عند البحث في حمل الأمر على الوجوب.
    الرابع : بناء العقلاء على حمل الواجب على كونه نفسياً والقيام به وإلغاء احتمال كونه غيرياً الذي لو اعتمدنا عليه لا يجب القيام بالفعل ، وذلك لأنّ الأمر عند العقلاء يحتاج إلى جواب فلا يصحّ للعبد ترك المأمور به باحتمال انّه غيري ولم يثبت وجوب ذيه بعد فلا يصحّ تقاعس العبد عن الامتثال باحتمال كونه غيرياً.
    الخامس : التمسّك بإطلاق دليل الواجب كالصلاة ، إذ لو كان الأمر بالوضوء واجباً غيرياً يلزم تقييد الواجب ـ أعني : الصلاة ـ به ، بخلاف ما إذا كان نفسياً فإطلاق دليل الواجب ـ أعني : الصلاة ـ يثبت كون الوضوء واجباً نفسياً بناء على حجّية الأُصول المثبتة اللفظية.
    والفرق بين هذا الوجه والوجوه الأربعة السابقة هو أنّ التمسّك فيها بإطلاق هيئة الأمر المشكوك كونه نفسياً أو غيرياً ، وأمّا المقام فالتمسّك هنا بمادة الأمر الغيري الذي نحتمل أن يكون الأمر المشكوك ، مقدمة له.
    يلاحظ على ذلك الوجه : أنّ كون الأمر غيرياً لا يستلزم تقييد الواجب النفسي مطلقاً وإنّما يقتضيه إذا كان الأمر الغيري قيداً للواجب النفسي ومأخوذاً فيه تقيّده به كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة ، وأمّا نصب السلّم وسائر المعدّات التي هي واجبات غيرية فليست مأخوذة في متعلّق الأمر النفسي.


(508)
    فتلخّص من هذا البحث الضافي أنّ مقتضى الأُصول اللفظية كون الأمر المشكوك نفسياً أو غيرياً هو النفسية ، فلو اقتنع المجتهد بأحد هذه الوجوه لما تصل النوبة إلى الأصل العملي ، وأمّا لو افترضنا أنّ الهيئة غير قابلة لانعقاد الإطلاق فيها كما عليه العلمان : الأنصاري والعراقي ، فلابدّمن الرجوع إلى الأُصول العملية ، وهذا ما نذكره في البحث التالي :

    المقام الثاني : في مقتضى الأصل العملي
    وقبل أن نذكر مقتضى الأصل العملي نشير إلى الصور الثلاث المذكورة في « الكفاية » منطوقاً ومفهوماً.
    1. الشكّ في النفسية والغيرية مع العلم بوجوب الغير.
    2. الشكّ في النفسية والغيرية مع الشكّ في وجوب الغير.
    3. الشكّ في النفسية والغيرية مع العلم بعدم وجوب الغير.
    وإليك تفاصيل هذه الصور :
    الأُولى : إذا تردد وجوب الوضوء أنّه نفسي لأجل النذر أو غيري لأجل الصلاة الواجبة ، فلا شكّ أنّ مقتضى الأصل هو الإتيان به للعلم بوجوبه فعلاً وإن لم نعلم جهة وجوبه.
    هذا ما ذكره المحقّق الخراساني ، ولكنّه لم يركّز على المقصود الأصلي في هذا الفرع إذ لا شكّ في وجوب الإتيان بالوضوء ، إنّما الكلام في تعيين محلّه ، فهل هو مختار بين الإتيان به قبل الصلاة وبعدها كما هو مقتضى النفسية ، أو انّه يأتي به قبل الصلاة قطعاً لا بعدها كما هو مقتضى النفسية ؟ مقتضى الاشتغال اليقيني هو الإتيان به قبل الصلاة ، لأنّ الإتيان به بعدها يلازم الشكّ في الامتثال ،


(509)
فالاشتغال اليقيني بوجوب الإتيان بالوضوء ، امّا قبل الصلاة متعيّناً أو قبل الصلاة وبعدها متخيراً يقتضي الإتيان به على نحو يعلم بفراغ الذمة عمّا اشتغلت به وليس هو إلاّ الإتيان قبلها.
    ثمّ إنّ المحقّق النائيني ذهب إلى أنّ المرجع في المقام هو البراءة وانّه يكون مختاراً بين الوقتين قائلاً : بأنّ مرجع الشكّ في المقام إلى الشكّ في تقييد الصلاة بالوضوء وانّه شرط لصحتها ، فيرجع الشك بالنسبة إلى الصلاة إلى الشك بين الأقل والأكثر الارتباطي ، وأصالة البراءة تقتضي عدم شرطية الوضوء للصلاة ، فتكون النتيجة ، النفسية. (1)
    يلاحظ عليه بوجهين :
    أوّلاً : أنّ الأصل مثبت حيث إنّ إجراء البراءة عن تقييد الصلاة بالوضوء لا يثبت كون الأمر المشكوك واجباً نفسياً إلاّ بالقول بالأصل المثبت فانّ كون الأمر المشكوك نفسياً لازم عقلي لعدم تقييد الصلاة بالوضوء.
    ثانياً : انّ اجراء الأصل في ناحية المتعلّق ( الصلاة ) لا يؤثر في انحلال العلم الإجمالي فانّه يعلم بوجوب الوضوء إمّا غيرياً أو نفسياً ، ولكلّ من الغيرية والنفسية أثر شرعي ، إذ على الغيري يجب تقديمه ، وعلى النفسي مخيّر بين الأمرين. فمقتضى هذا العلم الإجمالي هو لزوم الامتثال اليقيني وهو فرع الإتيان بالعمل قبل الصلاة.
    الثانية : إذا دار أمر وجوب الوضوء بين كونه نفسيّاً أو غيرياً لكن وجوب الغير بعدُ لم يثبت فما هو مقتضى الأصل ؟ والظاهر أنّ مقتضاه هو البراءة ، إذ لو كان وجوبه غيرياً لم يجب الآن لعدم وجوب ذيه فبقي كونه واجباً نفسياً وهو
1 ـ فوائد الأُصول : 1/223.

(510)
مشكوك ، وإلى ما ذكرنا يشير المحقّق الخراساني حيث قال : « وإلاّ فلا ، لصيرورة الشكّ فيه بدوياً » (1) ، إذ لو كان وجوبه غيرياً لا يجب لعدم وجوب الصلاة ظاهراً بمقتضى البراءة فيصير كونه واجباً نفسياً مشكوكاً مجرى للبراءة.
    وأورد عليه المحقّق النائيني قائلاً : بأنّ الأقوى وجوبه ، لأنّ المقام من قبيل العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر ، إذ كما أنّ العلم بوجوب ماعدا السورة مع الشكّ في وجوبها يقتضي امتثال ما علم ولا يجوز البراءة فيه ، مع أنّه يحتمل كون ما عدا السورة واجباً غيرياً ومقدّمة للصلاة مع السورة فكذلك المقام ، من غير فرق بينهما سوى تعلّق العلم بمعظم الواجب في مثل الصلاة بلا سورة ، وفي المقام تعلّق بمقدار من الواجب كالوضوء فقط ، وهذا لا يصلح لأن يكون فارقاً. (2)
    يلاحظ عليه : أوّلاً : بأنّ العلم التفصيلي بأنّ الأقل واجب على كلّ تقدير معلول العلم الإجمالي بأنّ الأقلّ إمّا واجب نفسي أو واجب غيري ، وعند ذلك كيف يمكن الأخذ بالأقل بادّعاء أنّه معلوم الوجوب تفصيلاً ، مع إجراء البراءة عن وجوب الأكثر ( الصلاة مع السورة ) والقول بانحلال العلم الإجمالي إلى تفصيلي وبدوي وليس هذا إلاّ نظير الأخذ بالمعلول مع اعدام العلة ؟
    ونظيره المقام فانّ الجمع بين القول بوجوب الوضوء وإجراء البراءة عن وجوب الصلاة المتقيّدة بالوضوء يشبه بالأخذ بالمعلول مع نفي علّته ، وذلك لأنّ العلم التفصيلي بوجوب الوضوء رهن العلم الإجمالي بكونه واجباً إمّا نفسياً أو غيريّاً ، فكيف يمكن القول بوجوبه تفصيلاً مع إجراء البراءة عن الوجوب الغيري « وجوب الصلاة المقيدة بالوضوء » ، مع أنّ حفظ العلم التفصيلي رهن حفظ العلم الإجمالي بكلا طرفيه لا حفظ طرف واحد ؟!
1 ـ كفاية الأُصول : 1/175.
2 ـ فوائد الأُصول : 1/223.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الأوّل ::: فهرس