إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 556 ـ 570
(556)
في كلام « الكفاية » عند الإجابة عن الإشكال الثاني مع أنّ محله هنا ، ولذلك أوجد تعقيداً في العبارة.
    مضافاً إلى أنّ كلاً من الصوم والإحرام عبادة يتقرب بها العبد إلى اللّه سبحانه ، فإذا كان خالياً عن أي رجحان فكيف يحصل التقرّب ؟!
    إلى هنا تمّ الكلام حول الإشكال الأوّل ، وإليك الإشكال الثاني.
    الثاني : الأمر النذري كالأمر الإجاري توصّلي
    هذا هو الإشكال الثاني وحاصله : أنّه لم يتعلّق بالصوم في السفر ، ولا بالإحرام قبل الميقات أمر ، بما هو هو ـ كما هو المفروض ـ حتّى يقصده ويتعبد به ، فانحصر الأمر ، بالأمر النذري وهو أمر توصّلي لا تعبديّ.
    أقول : إنّ الإشكال الأوّل كان يركّز على شرطية رجحان المتعلّق في النذر وقد عرفت الإجابة عنه بوجوه ثلاثة ، وهي بين مقبول وغير مقبول.
    وأمّا الإشكال الثاني فهو يركز على أنّ الصيام في السفر ، والإحرام قبل الميقات عمل عبادي وصحّته فرع قصد أمره العبادي ، فما هو الأمر العبادي في المقام ؟ فهل هو الأوامر الواقعية المتعلّقة بالصيام في السفر والإحرام قبل الميقات ، أو غيره ؟ والأوّل منتف لافتراض كونهما محرمين قبل النذر فلا أمر حتّى يقصده ؛ بقي الثاني وهو الأمر النذري ، الذي هو أمر توصّلي لا تقرّبي ، فقوله : ( فليوفوا نذورهم ) مثل قوله : ( أوفوا بالعقود ).
    ويمكن الجواب عنه بوجوه ثلاثة ، وقد ذكر المحقّق الخراساني منها وجهين :
    1. يكفي في صحّة العبادة وجود الرجحان قبل النذر كشف عنه دليل


(557)
صحتها ، فملاك العبادة وجود الملاك فيها ، وقد عرفت ما يدلّ من الروايات على كونهما راجحين بالذات وإنّما لم يؤمرا بهما لوجود المانع ، ولم يذكر المحقّق الخراساني هذا الجواب في المقام مع أنّه ذكره عند الذبّ عن الإشكال الأوّل ، وكان عليه أن يشير إليه في المقام أيضاً ـ الإشكال الثاني ـ.
    2. صيرورة الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات راجحين بتعلّق النذر بهما بعد ما لم يكونا كذلك ، كما ربما يدلّ عليه ما في الخبر من كون الإحرام قبل الميقات كالصلاة قبل الوقت. (1) وإلى هذا أشار المحقّق الخراساني بقوله : لأجل كشف دليل صحّتها عن عروض عنوان راجح عليهما ملازم لتعلّق النذر.
    ومرجع هذا الجواب إلى أنّه يعرض للمتعلّق عنوان راجح يجعله ذا ملاك كاف في عبادية المتعلّق ، نظير ما مرّ في صوم يوم عاشوراء من أنّه ينطبق عليه عنوان يجعله مكروهاً غير محبوب.
    وأورد عليه سيد مشايخنا المحقّق البروجردي بأنّ العنوان غير الملتفت إليه لا يكون مصحّحاً للعبادة حيث قال : إنّه لا معنى لصيرورتهما عباديين لأجل طروء عنوان مجهول يغفل عنه المكلّف ولا يكون مقصوداً له لا تفصيلاً ولا إجمالاً. (2)
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره وإن كان صحيحاً لكنّه يكفي في وجود الرجحان وجود العنوان الراجح في الواقع وإن لم يتوجه المكلّف إليه فمصحح العبادية وجود الرجحان وقصد الشيء الراجح وإن لم يعلم وجه الرجحان لا قصد العنوان حتّى تكون الغفلة مانعة عن قصد العبادية.
1. لم نقف على هذا النصّ وإنّما الموجود هو تشبيه الإحرام قبل الميقات بإتمام الصلاة في السفر كما مرّ.
2. لمحات الأُصول : 334.


(558)
    على أنّه يمكن أن يقال : انّ العنوان العارض : « كون أفضل الأعمال أحمزها » وهو ليس شيئاً مغفولاً للمكلّف عند النذر.
    3. يكفي في العبادية الرجحان الطارئ على المتعلّق بعد تعلّق النذر بإتيانهما عبادياً ومتقرباً بهما منه تعالى.
    والفرق بين الثاني والثالث واضح ، فانّ الرجحان الطارئ في الجواب الثاني يرافق تعلّق النذر وليس متأخراً عنه بخلاف هذا الجواب ، فانّ الرجحان يكون طارئاً بعد تعلّق النذر بإتيانهما عبادياً ومتقرباً بهما منه.
    فإن قلت : كيف يتعلّق بهما النذر بإتيانهما عبادياً مع أنّهما ليسا حين النذر عبادة ، بل يوصفان بها بعد تعلّق النذر كما هو المفروض ، وعندئذ فهو عند النذر ليس متمكّناً من المتعلّق الموصوف بالعبادية.
    قلت : يكفي التمكّن من المتعلّق بعد النذر ولا يعتبر في صحّة النذر إلا التمكّن من الوفاء ولو بسبب النذر.
    هذه هي الأجوبة الثلاثة التي جاء الثاني والثالث منهما في « الكفاية » دون الأوّل.
    وعلى كلّ تقدير فالذب عن الإشكال الثاني بأحد الوجوه الثلاثة :
    1. وجود الرجحان الذاتي في المتعلّقين قبل النذر.
    2. طروء عنوان راجح يرافق النذر.
    3. طروء رجحان به بعد النذر لأجل انّ المكلّف نذر بقيد انّ المتعلّق عبادي وموجب للتقرب.
    وهذا هو السبب لطروء عنوان راجح بعد النذر.


(559)
    ولا يخفى انّ هذه الأجوبة فروض نظرية لا دليل عليها إلا الفرض الأوّل على بعض الروايات من تشبيه الإحرام قبل الميقات على إتمام الصلاة فيه ، بناء على اشتماله على المصلحة واقترانه بالمانع.
    والأولى أن يجاب بجواب رابع وهو انّ عبادية الإحرام قبل الميقات والصوم في السفر ببركة نفس الأوامر المتعلّقة بالإحرام والصوم غاية الأمر انّ الموضوع للوجوب هو الإحرام من الميقات وللاستحباب هو الصوم في الحضر ، ولا يعمّان الإحرام قبله أو الصيام في السفر ، وأمّا مع ملاحظة النذر فصار موضوع الوجوب أو الاستحباب أوسع ممّا في الدليل.
    فالموضوع مع النذر أوسع من الإحرام من الميقات والصوم في الحضر.
    وبالجملة انّ ما دلّ على صحّة الإحرام قبل الميقات والصوم في السفر مع النذر كشف عن كون الموضوع في حال النذر أوسع منه في غيره.
    وعلى ذلك فالناذر يأتي بقصد نفس الأمر المتعلّق بحجة الإسلام أو الصوم الاستحبابي من دون حاجة إلى التمسّك بالأجوبة الثلاثة.


(560)
    الفصل الثامن
إحراز حال الفرد المشتبه بالأصل اللفظي
    كانت البحوث السابقة تدور حول إحراز حال الفرد المشتبه بالطرق التالية :
    1. إحرازه بالتمسّك بالعام المخصص.
    2. إحرازه عن طريق الأصل العدمي الأزلي.
    3. إحرازه عن طريق العناوين الثانوية.
    هذه هي البحوث الماضية ولكن يدور البحث في هذا الفصل على إحراز الفرد لكن بالأصل اللفظي ـ أي أصالة العموم ـ وربّما يعبر عن هذا البحث بأنّه إذا دار أمر الفرد بين التخصيص والتخصّص فهل يمكن إثبات الثاني بالتمسّك بأصالة العموم أو لا ؟ وللمسألة صورتان :
    الصورة الأُولى : إذا ورد قوله : أكرم العلماء ، وعلم من الخارج حرمة إكرام زيد ، ودار الأمر بين كونه جاهلاً فيكون الخروج تخصّصاً ، أو عالماً فيكون الخروج تخصيصاً ، فهل يصحّ التمسّك بأصالة العموم وإثبات انّ الخروج تخصّصي وانّ زيداً جاهل لا عالم ، فلو وقع الجاهل في لسان الدليل موضوعاً للأثر الشرعي يترتب عليه ذلك الأثر بفضل أصالة العموم ؟


(561)
    ذهب الشيخ الأعظم في تقريراته إلى جواز التمسك قائلاً بإنّ مقتضى العام : كلّ عالم يجب إكرامه ، وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا كلّ من لا يجب إكرامه ليس بعالم وهو المطلوب. (1)
    وأورد عليه المحقّق الخراساني باحتمال اختصاص حجّية أصالة العموم بما إذا شكّ في كون فرد العام محكوماً بحكمه كما هو قضية عمومه ، والمثبت من الأُصول اللفظية وإن كان حجّة ، إلا أنّه لابدّ من الاقتصار على ما يساعد عليه الدليل ولا دليل هاهنا إلا السيرة وبناء العقلاء ولم يعلم استقرار بنائهم على ذلك. (2)
    توضيحه : انّ القدر المتيقّن من الأصل الرائج بين العقلاء هو الاحتجاج بها عند الشكّ في المراد كما إذا ورد العام وشكّ في خروج فرد منه وعدمه ، فتجري أصالة العموم وتثبت تعلّق الإرادة الجدية به بعد تعلّق الإرادة الاستعمالية به قطعاً.
    وأمّا إذا علم المراد ، وانّ زيداً على كلّ تقدير غير واجب الإكرام لكن شكّ في أمر آخر ، وهو هل انّه جاهل فيكون خروجه تخصّصاً ، أو عالم فيكون خروجه تخصيصيّاً ؟ ففي مثله لا يحتجّ بأصالة العموم ، وذلك لانّها أصل اعتبر لاحتجاج المولى على العبد ، والصالح له ، هو ما إذا كان الشكّ في المراد ، لا في كيفية الإرادة من أنّها تخصيصية أو تخصّصية ، إذ لا صلة لهذا بمقام الاحتجاج.
    ثمّ إنّ الشيخ الأعظم ذكر لجريان أصالة العموم ثمرتين نشير إليهما :
1. مطارح الأنظار : 200.
2. كفاية الأُصول : 1/352.


(562)
    1. اتّفقت كلمة الفقهاء على أنّ ماء الاستنجاء غير منجّس ، واختلفوا في كونه طاهراً غير منجّس ، أو نجساً غير منجس. فيمكن استظهار الوجه الأوّل بملاحظة أمرين :
    أ. ثبت في محله : انّ كلّ نجس منجس ، ولذلك ذهبوا إلى انفعال الماء القليل ، الملاقي للنجاسة.
    ب. كما ثبت في محلّه على أنّ الملاقي لماء الاستنجاء ليس بنجس. (1)
    وعندئذ نقول : لو كان ماء الاستنجاء طاهراً ، لكان خروج طهارة ملاقيه عن تحت الدليل الأوّل « كلّ نجس منجّس » من باب التخصّص ، بخلاف ما لو كان ماء الاستنجاء نجساً ، لكان خروج ملاقيه عن تحت الدليل الأوّل تخصيصاً ، لافتراض انّ الماء نجس ، ولكنّه ليس بمنجّس ، ولازم القول بعدم ورود التخصيص على الدليل الأوّل كون الماء طاهراً.
    2. اختلفت كلمتهم في أنّ ألفاظ العبادات موضوعة للصحيح أو الأعم ، فيمكن استظهار الوجه الأوّل بملاحظة أمرين :
    الأوّل : ( إِنَّ الصّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشاءِ وَالْمُنْكَر ) (2) كما في الآية المباركة.
    الثاني : انّ الصلاة الفاسدة لا تنهى عنهما.
    فلو كانت الصلاة موضوعة للصحيح ، يكون خروج الفرد الفاسد عن تحت الدليل الأوّل من باب التخصّص ، ولو قلنا بأنّها موضوعة للأعم يكون خروجه عن تحت الدليل الأوّل تخصيصياً فمقتضى حفظ عموم الدليل الأوّل هو الثاني فتكون النتيجة هو كونه موضوعاً للصحيح.
1. الوسائل : 1 ، الباب 13 من أبواب الماء المضاف ، الحديث 5.
2. العنكبوت : 45.


(563)
    الصورة الثانية للمسألة
    إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لا تكرم زيداً ، ودار الأمر بين كون المراد ، هو زيد العالم أو زيد الجاهل ، فالظاهر صحّة التمسك بأصالة العموم وانّه لم يخصص ، فيترتب عليه انّ الخارج هو زيد الجاهل ، وأمّا زيد العالم فيجب إكرامه.
    وما ذلك إلا لأنّ الشكّ في هذه الصورة في المراد ، فهل هو زيد العالم أو زيد الجاهل فهما شخصان ؟
    والشيخ الأعظم ذهب إلى حجّية الأصل المذكور في كلّ من الصورتين مع وضوح الفرق بينهما ، لأنّ الشكّ في الصورة الأُولى في كيفية الإرادة لا المراد ، وأمّا الصورة الثانية فالشك ومركزه هو المراد وانّ أيّاً من الرجلين خرج عن تحت العام ، إذ لو كان الخروج من باب التخصيص يحرم أو لا يجب إكرام زيد العالم ، بخلاف ما لو كان الخروج تخصّصياً فيجب إكرامه.
    تنبيه
    ما مرّ عليك من الصورتين غير ما تقدم عند البحث عن سراية إجمال المخصص الدائر إجماله بين المتبائنين حيث قلنا بعدم جواز التمسّك بالعام لرفع إجماله.
    وذلك لأنّ الكلام فيما مرّ ما إذا كان التخصيص قطعياً ودار أمر زيد ، بين كونه زيد بن عمرو العالم ، أو زيد بن بكر العالم ، ففي مثله يسري إجمال المخصص إلى العام فلا يكون حجّة في واحد من الموردين ، وهذا بخلاف الصورتين الماضيتين فانّ التخصيص مشكوك من رأس.


(564)
    غاية الأمر يدور الأمر في الصورة الأُولى بين كون زيد ، عالماً أو جاهلاً ؛ كما يدور الأمر في الصورة الثانية ، بين كون المراد ، زيد العالم ، أو زيد الجاهل ، فالتخصيص في كلتا الصورتين مشكوك بخلاف الصورة الثالثة ، فانّ التخصيص قطعي ، غاية الأمر يدور الأمر بين زيدين عالمين أحدهما ابن عمرو والآخر ابن بكر.


(565)
    الفصل التاسع
لزوم الفحص عن المخصّص
    قد جرت سيرة الفقهاء على عدم جواز التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصّص واليأس عن الظفر به ، مثلاً : لا يجوز التمسّك بقوله سبحانه : ( وَحَرَّمَ الرِّبا ) (1) إلا بعد الفحص عن مخصّصه ، كجواز الربا بين الزوج والزوجة والوالد والولد ، أو لا يجوز التمسّك بقوله سبحانه : ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَن تَقْصُُروا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمْ الَّذينَ كَفَرُوا إِنَّ الكافِرينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبيناً ) (2) قبل الفحص عن مخصصه ، كلزوم الإتمام لكثير السفر ، أو لمن حرم سفره ، أو أقام عشرة أيام في مكان ، وغير ذلك.
    و هكذا سائر العمومات ، وهذا أمر اتّفق عليه الفقهاء.
    وأوّل من طرح المسألة هو ابن سريج في أوائل القرن الرابع وخالفه تلميذه أبو بكر الصيرفي حيث استشكل على الأُستاذ بأنّه لو وجب الفحص عن المخصّص في التمسّك بالعام وجب الفحص عن قرينة المجاز عند الحمل على الحقيقة ، وسيظهر جوابه فيما نتلوه عليك من الدليل على وجوب الفحص.
1. البقرة : 275.
2. النساء : 101.


(566)
    فإذا كان الفحص عن المخصص أمراً متفقاً عليه ، يقع الكلام فيما هو الوجه لاتّفاق العلماء على هذا الأصل ، وقد ذكروا هنا وجوهاً ثلاثة أوضحها أوّلها :
    الأوّل : وقوع العام في مظان التخصيص
    قد جرى ديدن العقلاء في المحاورات الشخصية على الإتيان بكلّ ما له دخل في مقاصدهم ، ولأجل ذلك يتمسّك بظواهر كلماتهم من دون تربّص قيد ، مثلاً : كما إذا طلب المولى من عبد أن يدعو مجموعة معينة من جيرانه لمأدبة طعام ، فعندئذ يذكر كلّ ما له دخل في غرضه دون أن يميز بين الأصل والفرع.
    وأمّا المحاورات العامة التي تدور حول تقنين قوانين وتسنين سنن على صعيد عام أو صعيد خاص ، فقد جرت سيرتهم على ذكر العام والمطلق في برهة والمخصص والمقيّد في برهة أُخرى.
    ثمّ إنّ الداعي إلى التفريق بين العام ومخصّصه أو المطلق ومقيّده هو قصور علم المقنن عن الإحاطة بالمصالح والمفاسد ، حيث يضع حكماً عاماً ثمّ يتبيّن عدم توفر الملاك في طائفة من أفراد العام.
    وربما يكون الداعي غير ذلك لكن الغالب هو الأوّل.
    وأمّا التشريع الإسلامي في الذكر الحكيم فقد سار على هذا النحو ، لا لقصور في الإحاطة بالمصالح والمفاسد ، لأنّ المشرِّع هو اللّه سبحانه وهو محيط بكلّ شيء ، بل لمصالح في نزول الأحكام نجوماً طيلة 23 سنة تقتضيه مصالحُ العباد ، نرى أنّه سبحانه يتكلّم في أحكام الكلالة في أوائل سورة النساء وأواخرها ، وما هذا إلا لوجود المصلحة في تبيين الأحكام نجوماً.
    وقد كان المشركون في صدر الإسلام يعترضون على نزول القرآن نجوماً ، وقد


(567)
جاء هذا الاعتراض والجواب عنه في آية واحدة ، أعني قوله سبحانه : ( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَولا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرآنُ جُمْلَةً واحِدةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ َ وَرَتَّلْناهُ تَرْتيلاً ). (1)
    إلى هنا تبيّن انّ السبب لنزول الأحكام والقرآن تدريجاً أمران :
    1. اقتضاء مصلحة العباد ذلك.
    2. انّ في النزول التدريجي تثبيتاً لفؤاد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    ويمكن أن تكون هناك مصالح أُخرى.
    هذا كلّه حول القرآن ، وأمّا السنّة ـ أعني : كلام المعصوم ـ فقد وصلت إلينا في فترات تقرب من مائتي وخمسين سنة ، فكانت الظروف مختلفة ، فتارة كانت الظروف تقتضي بيان أصل الأحكام دون بيان مخصّصاتها ومقيّداتها ، وربما كانت الظروف سانحة لبيان تلك المخصّصات والمقيدات ، ولذلك ربّما ترى وجود العام في كلام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمخصص في كلام الأئمّة ( عليهم السَّلام ).
    وعلى كلّ تقدير فالعام الذي هو في مظـان التخصيص لا يحتجّ به إلا بعد الفحص عن مخصّصاته ومقيّداته.
    نعم لا يجب الفحص عن المخصّص المتصل ، لأنّ سقوطه عن الكلام عمداً ينافي وثاقة الراوي ، وسهواً يخالف الأصل العقلائي المجمع عليه من أصالة عدم السهو في النقل.
    وحصيلة الكلام : انّ الواجب على المولى هو بيان التكاليف على النحو الذي لو تفحص عنه العبد لوجده ولا يجب على المولى إيصال التكاليف إلى العبد مباشرة من دون حاجة إلى الفحص والبحث.
1. الفرقان : 32.

(568)
    هذا هو توضيح الوجه الذي بيّنه المحقّق الخراساني وتبعه سيّدنا الأُستاذ ( قدس سره ) ، ومع هذا الوجه لا حاجة إلى الوجهين التاليين :
    الثاني : الظن الشخصي بالتكليف رهن الفحص
    إنّ الظن الشخصي بالمراد الجدي لا يحصل قبل الفحص عن المخصّص ، فلابدّ من الفحص حتّى يحصل الظن الشخصي بالمراد ، ويمتثل.
    يلاحظ عليه أوّلاً : بأنّ كون العام في مظان التخصيص كاف في لزوم الفحص من دون حاجة إلى إثبات أنّ الظنّ الشخصي رهن الفحص ، ومن المعلوم أنّ الأوّل أقلّ مؤونة من الثاني.
    وثانياً : أنّ مناط حجّية الظواهر ليس هو الظنّ الشخصي ، بل مناطه عند المشهور الظن النوعي ، كما عليه مشهور الأُصوليّين ؛ أو اليقين بالمراد الاستعمالي ، كما هو المختار. وعلى كلا التقديرين لا محيص من الفحص.
    أمّا الأوّل فانّ حصول الظن النوعي رهن الفحص عن المخصص إذا كان ديدن المولى على فصل المخصص عن العام.
    وأمّا الثاني فانّ اليقين بالإرادة الاستعمالية لا يحتج به إلا إذا أحرز تطابق الإرادة الاستعمالية مع الجدية وإحراز التطابق رهن الفحص عن المخصص.
    وثالثاً : لو كان مناط الفحص هو عدم حصول الظن قبل الفحص يلزم الاقتصار في مقدار


(569)
الفحص على الحدّ الذي يحصل به الظن الشخصي ، وهو خلاف المدّعى ، فإنّ ديدن العلماء هو الفحص عن مظان المخصّص ، سواء حصل الظن الشخصي قبله أو لا.
    ورابعاً : لو كان الملاك هو حصول الظن الشخصي يلزم الفوضى في مقدار الفحص فانّ طبائع الناس مختلفة ، فربّ شخص يحصل له الظنّ بأدنى فحص ، وربّ شخص آخر لا يحصل له ذلك الظن إلا بعد إنهاء الفحص.
    إلى هنا تبيّن انّ المناط في لزوم الفحص هو كون العام في مظان التخصيص لا توقف حصول الظن الشخصي بالبحث.
    بقي الكلام في الوجه الثالث الذي قيل في لزوم الفحص ، وهو الآتي.
    الثالث : وجود العلم الإجمالي بالمخصّص
    إنّ العلم الإجمالي بالمخصّص يمنع عن جريان الأصل اللفظي ، كما أنّه يمنع عن جريان الأصل العملي ، فكما لا تجري أصالة الطهارة في الإناءين المشتبهين فهكذا لا تجري أصالة العموم في عمومات الكتاب والسنّة ، والجامع وجود العلم الإجمالي بالتكليف المخالف لمقتضى الأصل.
    يلاحظ عليه : بما ذكرناه في الوجه السابق من أنّ كون العام في مظان التخصيص كاف في الحث على البحث من دون حاجة إلى التمسّك بالعلم الإجمالي ، فالأوّل أقلّ مؤونة دون الثاني.
    نعم استشكل على هذا الوجه بوجوه غير تامة.
    1. لو كان المناط هو وجود العلم الإجمالي بالمخصص لزم إيقاف الفحص إذا ظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال ، مثلاً نفترض أنّه لو علم بأنّ في الشريعة الإسلامية حوالي خمسين مخصصاً فأخذ بالفحص في أحاديث الكافي فظفر بهذا المقدار ، تفصيلاً ، فلازم ذلك الحال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجود مخصصات قطعية في كتاب الكافي وشك بدويّ في غيره ونتيجة الانحلال عدم وجوب الفحص عندئذ في كتابي : الفقيه والتهذيب ، مع أنّ سيرة العلماء هو


(570)
الفحص في الجميع.
    ويمكن الإجابة عن هذا الإشكال بأنّه إذا ظفر بالمقدار المعلوم إجمالاً بمجرد مطالعة الكافي يُكشف له بطلان العلم الأوّل ، أعني : كون المخصص حوالي خمسين رواية ، بل يحصل له العلم بسعة دائرة العلم الإجمالي بوجود مخصّصات أُخرى في كتابي : الفقيه والتهذيب ، فيكون الميزان هو وجود العلم الإجمالي أيضاً وانحلاله.
    هذا هو الجواب الصحيح عن الإشكال ، غير أنّ المحقّق النائيني أجاب عن الإشكال بوجه آخر.
    إنّ المعلوم بالإجمال تارة يكون مرسلاً غير معلّم بعلامة ، وأُخرى معلّماً بعلامة وانحلال العلم الإجمالي بالعثور على المقدار المتيقّن إنّما يكون في القسم الأوّل ، لأنّ منشأ العلم فيه هو ضم قضية مشكوكة إلى قضية متيقّنة ، كما إذا علم بأنّه مديون لزيد وتردد الدين بين أن يكون خمسة دنانير أو عشرة ، وأمّا القسم الثاني فلا ينحلّ به ، بل حاله حال دوران الأمر بين المتبائنين ، ولا انحلال في مثله لعدم الرجوع إلى العلم بالأقل ، والشكّ في الأكثر من أوّل الأمر ، بل يتعلّق العلم بجميع الأطراف بحيث لو كان الأكثر واجباً لكان ممّا تعلّق به العلم وتنجز بسببه وليس الأكثر مشكوكاً فيه من أوّل الأمر. (1)
    يلاحظ عليه : بأنّه لو كان العنوان المتعلّق بالعلم الذي يعبّر عنه المحقّق النائيني بالعلامة ، ذا أثر شرعي لكان لما ذكره وجه ، كما إذا تعلّق العلم الإجمالي بوجود خمسة شياه موطوءة في قطيع غنم ، فقامت البيّنة على حرمة أكل خمسة شياه معينة ، فهذا النحو من العلم التفصيلي لا ينحل به العلم الإجمالي ، بل يجب
1. فوائد الأُصول : 1/545.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس