إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 661 ـ 675
(661)
وَقالَ مُوسى لأخيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدين ). (1)
    إنّه سبحانه لمّا واعد موسى ثلاثين ليلة ، كلّم بما وعده اللّه سبحانه قومه الذين صحبوه إلى الميقات ، فلمّا طوى موسى ( عليه السَّلام ) ثلاثين ليلة أُمر بإكمال أربعين ليلة.
    أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في تفسير الآية : أنّ موسى قال لقومه : إنّ ربّي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه وأخلف هارون فيكم ، فلمّا فصل موسى إلى ربّه زاده اللّه عشراً ، فكانت فتنتهم في العشر التي زاده اللّه. (2)
    فكان هناك إخباران :
    الأوّل : بانّه يمكث في الميقات ثلاثين ليلة ، ثمّ نسخه خبر آخر بأنّه يمكث أربعين ليلة ، وكان موسى صادقاً في كلا الإخبارين ، حيث كان الخبر الأوّل مستنداً إلى جهات يقتضي إقامة ثلاثين ليلة ، لولا طروء ملاك آخر يقتضي أن يكون الوقوف أزيد من ثلاثين.
    هذه جملة الحوادث التي تنبّأ أنبياء اللّه بوقوعها في الذكر الحكيم إلا أنّها لم تقع ، وهذا ممّا يعبر عنه بانّه بدا للّه فيها.
    وبذلك يعلم أنّ عدم وقوع ما أخبر بوقوعه لا يكون دليلاً على كذب المخبر ، لأنّ القرائن دلّت على صدق ما أخبر به وانّه كان مقدراً كما هو الحال في حادثة يونس ، حيث إنّ العذاب أقبل ولكنّهم استقبلوه بالالتجاء إلى اللّه والدعاء والتضرع والبكاء بحالة يرثى لهم ، فصرف عنهم العذاب.
1. الأعراف : 142.
2. الدر المنثور : 3/335.


(662)
    البداء في الأحاديث
    ويؤيد ما ذكرنا ما ورد في أحاديث كثيرة نذكر منها حديثين :
    1. مرّ يهوديّ بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : السام عليك ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) له : « وعليك » ، فقال أصحابه : إنّما سلّم عليك بالموت ، فقال : الموت عليك ؟ فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « وكذلك رددت » ، ثمّ قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأصحابه : « إنّ هذا اليهودي يعضّه أسود في قفاه فيقتله ». قال : فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله ، ثمّ لم يلبث أن انصرف.
    فقال له رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) « ضعه » ، فوضع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاض على عود ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « يا يهوديّ ما عملت اليوم ؟ » قال : ما عملت عملاً إلا حطبي هذا حملته فجئت به ، وكان معي كعكتان فأكلت واحدة وتصدّقت بواحدة على مسكين ، فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « بها دفع اللّه عنه » ، وقال : « إنّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان ». (1)
    2. انّ المسيح مرّ بقوم مجلبين ، فقال : ما لهؤلاء ؟ قيل : يا روح اللّه فلانة بنت فلانة تُهدى إلى فلان في ليلته هذه ، فقال : يُجلَبُون اليوم ويَبكون غداً ، فقال قائل منهم : ولم يا رسول اللّه ؟ قال : لأنّ صاحبتهم ميتة في ليلتها هذه ، فلمّا أصبحوا وجدوها على حالها ، ليس بها شيء ، فقالوا : يا روح اللّه إنّ التي اخبرتَنا أمس انّها ميتة لم تمت ، فدخل المسيح دارها فقال : ما صنعت ليلتك هذه ؟ قالت : لم أصنع شيئاً إلا وكنت أصنعه فيما مضى ، انّه كان يعترينا سائل في كلّ ليلة جمعة فننيله ما يقوته إلى مثلها. فقال المسيح : تنحّ عن مجلسك فإذا تحت ثيابها أفعى مثل جذعة ،
1. بحار الأنوار : 4/121.

(663)
عاضّ على ذنبه ، فقال ( عليه السَّلام ) : بما صنعت ، صرف عنك هذا. (1)
    وأمّا الأمر الثالث ، فقد تقدّم انّ البداء هو ظهور ما خفي ، وعلى ضوء ذلك كيف يصحّ نسبة البداء إلى اللّه سبحانه ، مع أنّ القائلين بالبداء يتكرر على ألسنتهم بدا للّه ؟!
    والإجابة على هذا السؤال واضحة ، وهي انّ وصْفَه سبحانه بهذا الوصف من باب المشاكلة ، وهو باب واسع في كلام العرب ، فانّه سبحانه في مجالات خاصة يعبّر عن فعل نفسه بما يعبر به الناس عن فعل أنفسهم ، وما ذلك إلا لأجل المشاكلة الظاهرية ، وقد صرّح بها القرآن الكريم في مواطن عديدة نذكر منها :
    يقول سبحانه : ( إِنَّ المُنافِقينَ يُخادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خادِعُهُم ). (2)
    ويقول تعالى : ( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الماكِرين ). (3)
    وقال عزّ من قائل : ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الماكِرين ). (4)
    ويقول تعالى : ( فاليومَ نَنساهُمْ كما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا ). (5)
    إذ لا شكّ انّه سبحانه لا يَخدع ولا يَمْكر ولا ينسى ، لأنّها من صفات الإنسان الضعيف ، ولكنّه سبحانه وصف أفعاله بما وصف به أفعال الإنسان من باب المشاكلة ، والجميع كناية عن إبطال خدعهم ومكرهم وحرمانهم من مغفرة اللّه سبحانه وبالتالي عن جنته ونعيمها.
1. بحار الأنوار : 4/94.
2. النساء : 142.
3. آل عمران : 54.
4. الأنفال : 30.
5. الأعراف : 51.


(664)
    ورود « بدا للّه » في كلام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )
    كما نرى أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يستعمل كلمة البداء وينسبها إلى اللّه سبحانه ، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة :
    إنّه سمع من رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّ ثلاثة في بني إسرائيل : أبرص وأقرع وأعمى « بدا للّه » أن يبتليهم ، فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرصَ ، فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : لون حسن ، وجلد حسن ، قد قذّرني الناس ، قال فمسحه فذهب عنه فأُعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً ، فقال : أي المال أحب إليك ؟ قال : الإبل أو قال : البقر ـ هو شك في ذلك أنّ الأبرص والأقرع ، قال أحدهما : الإبل ، وقال الآخر : البقر ـ فأُعطي ناقة عُشراء ، فقال : يبارك اللّه لك فيها.
    وأتى الأقرع ، فقال : أي شيء أحبّ إليك ؟ قال : شعر حسن ويذهب عنّي هذا قد قذرني الناس قال : فمسحه ، فذهب ، وأُعطي شعراً حسناً ، قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : البقر. قال : فأعطاه بقرة حاملاً ، وقال : يبارك لك فيها.
    وأتى الأعمى فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : يرد اللّه إليّ بصري ، فأبصر به الناس ، قال : فمسحه فردّ اللّه إليه بصره. قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : الغنم ، فأعطاه شاة والداً. فأُنتج هذان وولّد هذا ، فكان لهذا واد من إبل ، ولهذا واد من بقر ، ولهذا واد من الغنم.
    ثمّ إنّه أتى الأبرص في صورته وهيئته ، فقال : رجل مسكين تقطّعت بي الحبال في سفري ، فلابلاغ اليوم إلا باللّه ثمّ بك ، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال ، بعيراً أتبلّغ عليه في سفري ؛ فقال له : إنّ


(665)
الحقوق كثيرة. فقال له : كأنّي أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس ، فقيراً فأعطاك اللّه ؟ فقال : لقد ورثت لكابر عن كابر ؟ فقال : إن كنت كاذباً فصيّرك اللّه إلى ما كنت.
    وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا ، فردّ عليه مثلما رد عليه هذا ، فقال : إن كنت كاذباً فصيّرك اللّه إلى ما كنت.
    وأتى الأعمى في صورته فقال : رجل مسكين وابن سبيل وتقطّعت بي الحبال في سفري ، فلابلاغ اليوم إلا باللّه ، ثمّ بك ، أسألك بالذي رد عليك بصرك ، شاة أتبلّغ بها في سفري ؛ فقال : قد كنت أعمى فرد اللّه بصري ، وفقيراً فقد أغناني ، فخذ ما شئت ، فواللّه لاأجحدك اليوم بشيء أخذته للّه ، فقال : أمسك مالك فإنّما ابتليتم فقد رضي اللّه عنك وسخط على صاحبيك. (1)
    هذا هو كلام الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد استعمل لفظ البداء في حقّه سبحانه ، ومن الطبيعي انّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يستعمل هذا اللفظ في معناه اللغوي لاستلزامه ـ والعياذ باللّه ـ الجهل على اللّه سبحانه ، بل استعمله في معنى آخر لمناسبة بينه وبين المعنى اللغوي.
    وعلى ضوء ذلك فلا غرو في أن نعبر عن فعله بما نعبر به عن أفعالنا ، إذا كان التعبير مقروناً بالقرينة الدالة على المراد ، فإذا ظهر الشيء بعد الخفاء ، فبما انّه بداء بالنسبة إلينا نوصف فعله سبحانه به أيضاً وفقاً للمشاكلة ، وإلا فهو ـ في الحقيقة ـ بداء من اللّه للناس ، ولكنّه يتوسع كما يتوسّع في غيره من الألفاظ ، ويقال بدا للّه تمشياً مع ما في حسبان الناس وأذهانهم وقياس أمره سبحانه بأمرهم ، ولا
1. البخاري : الصحيح 4/172 ، كتاب الأنبياء ، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل.

(666)
غرو في ذلك إذا كانت هناك قرينة على المجاز والمشاكلة.
    وبذلك يعلم أنّ النزاع في البداء أمر لفظي لامعنوي ، وأنّ الفريقين متّفقان على البداء ثبوتاً وإثباتاً ، والذي صار سبباً لإنكار البداء وطعن الشيعة به هو تصور انّ المراد منه هو الظهور بعد الخفاء ، وقد عرفت أنّ المراد هو الإظهار بعد الإخفاء وانّ إطلاق البداء في المقام من باب المشاكلة.
تمّ الكلام في مبحث العام والخاص والنسخ والبداء
ويليه البحث في المطلق والمقيد والمجمل والمبين


(667)
    المقصد الخامس
في المطلق والمقيّد
والمجمل والمبيّن
    وفيه فصول :
    الفصل الأوّل : في ألفاظ المطلق
    الفصل الثاني : في تقييد المطلق لايستلزم المجازية
    الفصل الثالث : في بيان مقدمات الحكمة
    الفصل الرابع : في حمل المطلق على المقيّد
    الفصل الخامس : في المجمل والمتشابه وتأويله



(668)

(669)
    المقصد الخامس
في المطلق والمقيّد
والمجمل والمبيّن
    عرّف المطلق بتعاريف مختلفة نذكر منها ما يلي :
    1. المطلق ما دلّ على شائع في جنسه ، والمقيّد بخلافه. (1)
    2. المطلق ما دلّ على حصّة محتملة الصدق مندرجة تحت جنس تلك الحصة ، وهو المفهوم الكلّي الذي يصدق على هذه الحصة وغيرها من الحصص. (2)
    3. المطلق هو اللفظ الدالّ على الماهية من حيث هي لا بقيد وحدة ولا تعدد ، والمقيّد بخلافه. (3)
    ولنقتصر على هذه التعاريف الثلاثة ، ولنأخذ كلّ واحد بالنقض والإبرام.
    أمّا التعريف الأوّل فالمقصود من الموصول في قوله : « ما دلّ » هو اللفظ ، كما أنّ المقصود من قوله : « على شائع » هو الفرد الشائع ، وعلى هذا ينطبق المطلق على النكرة ، فإذا قلت : اعتق رقبة ، يدلّ على لزوم عتق فرد من أفراد الرقبة التي لها أفراد
1. شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب : 284.
2. القوانين للقمي : 1/321.
3. تمهيد القواعد لزين الدين العاملي : 1/222.


(670)
متعددة ، فعدم تعيّن الفرد من بين الأفراد هو المقصود من قوله شائع في جنسه.
    وقد تبعه المحقّق القمي في تعريفه الثاني فانّه نفس التعريف الأوّل غير أنّه عبّر عن الفرد الشائع ، بالحصة ، محتملة الصدق على حصص كثيرة.
    والتعبير بـ « الحصص » مكان « الأفراد » يناسب نظرية الرجل الهمداني في تفسير الكلّي الطبيعي ، فانّه كان يعتقد أنّ الإنسان الطبيعي واحد شخصي والأفراد الموجودة حصص منه ، فكأنّ لكلّ فرد جزءاً من الإنسانية لا كلّه.
    وقد تبيّن بطلان تلك العقيدة ، وأنّ الطبيعي واحد بالنوع ، وأنّ المصاديق هي الأفراد لا الحصص ، فكلّ فرد نفس الإنسان لا جزءه ، وكلّ مصداق إنسان كامل ليس بإنسان ناقص.
    ولما كان التعريف الأوّل غير جامع ، لخروج اسم الجنس عن تحته لما سيتبين انّ أسماء الأجناس عند القوم وضعت للماهية من حيث هي هي غير المقيّدة بشيء حتّى الشمول والشيوع ، عدل الشهيد الثاني إلى التعريف الثالث حتّى يدخل أسماء الأجناس في تعريف المطلق مثل قوله : ( أحلّ اللّه البيع ) حيث إنّ البيع وضع للماهية المعراة عن كلّ قيد.
    وإن شئت قلت : الماهية من حيث هي هي ، فليس هناك ما يدلّ على الفرد حتّى تستتبعه الدلالة على الشيوع.
    يلاحظ عليه : أنّه بتعريفه هذا وإن أدخل اسم الجنس في تعريف المطلق لكنّه أخرج النكرة عن تحت المطلق مع أنّها من مصاديقه ، كما إذا قال : أكرم رجلاً أو طالباً إلى غير ذلك ، فانّ المفهوم من النكرة غير المفهوم من اسم الجنس فالتنوين آية الوحدة.


(671)
    جولة حول التعاريف
    1. انّ هذه التعاريف تعرب عن أنّ الإطلاق والتقييد من أوصاف الألفاظ ، سواء أتعلق بها حكم مولوي أم لا ؟ فهاهنا لفظ مطلق وها هنا لفظ مقيّد نظير البحث في العموم والخصوص ، فهناك لفظ دالّ على العموم ولفظ دالّ على الخصوص.
    ولكن هذا النمط من البحث يناسب الأبحاث الأدبية واللغوية التي لا همّ لأصحابها إلا التعرف على معاني الألفاظ.
    وأمّا الباحث الأُصولي فالتعرف على معاني الألفاظ أمر خارج عن غرضه ولو بحث فيها فإنّما هو لغاية كونها مقدّمة لاستنباط الحكم الشرعي.
    فإذا كانت الغاية من هذه البحوث هو استنباط الحكم الشرعي ، فيجب أن يفسر المطلق والمقيد بنحو يناسب الغاية المتوخاة لا على النحو الذي مرّ فانّه يناسب غرض الأديب واللغوي لا غرض الأُصولي الذي هو بصدد تمهيد مقدّمات للفقه ، وسيوافيك التعريف الصحيح.
    2. انّ التعريف الأوّل الذي اعتمد عليه القدماء يركز على وجود الشيوع في المطلق ، فعندئذ نسأل عن كيفية دلالة المطلق على الشيوع.
    فإن قيل : بأنّ المطلق يدلّ على الشيوع بالدلالة المطابقية أو التضمنية فيرد عليه خروج أسماء الأجناس لما عرفت من أنّها ـ عند القوم ـ موضوعة للماهية المعراة من كلّ شيء ، غير الملحوظ معها شيء حتّى هذا اللحاظ ( عدم لحاظ شيء ).
    كما تخرج الأعلام إذ ليس فيها الشيوع مع أنّها قد تقع مصب الإطلاق كما في


(672)
قوله سبحانه : ( وليَطَّوَّفُوا بالبَيتِ العَتِيق ) (1) ، فإذا شكّ في أنّ الموضوع للطواف هل هو البيت بما هو هو ، أو بشرط أن يكون مكشوفاً أو مستوراً ، فيتمسّك بإطلاق الآية ويدفع باحتمال قيدية غيره.
    اللّهم إلا أن يقال : انّ الشيوع في الاعلام أحوالي وليس بأفرادي ، ولكنّه خلاف المتبادر من التعريف.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني اعتذر عن الإشكالات الواردة على هذه التعاريف بأنّها من قبيل شرح الاسم وهو ممّا يجوز أن لا يكون بمطرد ولا بمنعكس ، ولكنّه كلام عار عن التحقيق فانّ نفس النقض والإبرام دليل واضح على أنّ المعرف أو المعرفين كانوا بصدد التعريف الحقيقي.
    المختار في تعريف المطلق
    قد علمت أنّ الغاية من الخوض في هذه المباحث هو تمهيد مقدّمات لاستنباط الحكم الشرعي وليس التعرف على مفاد لفظ بما هو هو غاية للأُصول.
    فإذا كانت هذه هي الغاية فالأولى أن يقال :
    لو كان اللفظ في مقام الموضوعية للحكم مرسلاً عن القيد فهو مطلق وإن كان مزدوجاً مع شيء آخر فهو مقيد.
    وبعبارة أُخرى : إذا كان ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع فهو مطلق أي مرسل عن القيد ، وأمّا إذا كان جزء الموضوع وكان معه جزء آخر فهو مقيد بالقيد.
    وبذلك يعلم أنّ المطلق والمقيد أطلقا بنفس المعنى اللغوي حيث إنّ
1. الحج : 29.

(673)
المطلق بمعنى المرسل ، يقال : أطلق سراح فلان كما يقال قُيّد رِجْل فلان بقيد.
    وعلى هذا التعريف تترتّب نتائج باهرة في علم الأُصول.
    الأُولى : انّ المقوم للإطلاق هو كون الشيء تمام الموضوع من غير فرق بين كونه اسم جنس أو نكرة أو علماً ، فالشيوع وعدم الشيوع بالنسبة إلى الإطلاق كالحجر في جنب الإنسان ، بل يكفي كون الشيء قابلاً للتقييد ، فالقابل للتقييد إذا جرد عن القيد فهو مطلق.
    الثانية : انّ الإطلاق ـ خلافاً للتعاريف السابقة ـ ليس من المداليل اللفظية كما هو الحال في التعاريف السابقة ، بل هو من المداليل العقلية حيث إنّ المتكلّم إذا كان في مقام بيان الموضوع وكان حكيماً غير ناقض لغرضه فأخذ لفظاً موضوعاً لحكمه وجرده عن القيد فالعقل يحكم بأنّه تمام الموضوع ، وإلا لما ترك المتكلّم الحكيم القيد اللازم في كلامه.
    وأمّا جعل مبحث الإطلاق والتقييد من المباحث اللفظية فلأجل انّ مصب الإطلاق هو اللفظ وإلا فاستنباط الإطلاق بمعنى كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع إنّما هو بالعقل.
    الثالثة : انّ مصب الإطلاق أعمّ من أن يكون اسم جنس أو نكرة أو معرّفاً باللام حيث ينعقد الإطلاق في الأعلام الشخصية ، كما إذا قال : أكرم زيداً ، واحتملنا كون الموضوع هو زيد متقيداً بالتعمّم فيتمسك بالإطلاق ويدفع كون التعمّم مؤثراً في الموضوع ، كما عرفت نظيره في قوله سبحانه : ( وليطوّفوا بالبيت العتيق ).
    الرابعة : انّ التقابل بين الإطلاق والتقييد ، شبيه تقابل العدم


(674)
والملكة حيث إنّ المطلق فاقد لما يكون المقيد واجداً له وإنّما قلنا شبه التقابل ، لأنّ تقابل العدم والملكة يطلق على المورد الذي من شأنه أن يكون فيه الملكة كالعمى بالنسبة إلى البصر وليس كلّ مطلق من شأنه أن يكون مقيداً ، بل يكفي كونه قابلاً للتقييد.
    الخامسة : انّ الإطلاق والتقييد أمران إضافيان ، فالدليل الواحد يمكن أن يكون مطلقاً من جهة ومقيداً من جهة أُخرى. كما إذا قال : أكرم إنساناً في المسجد فهو مطلق من حيث الموضوع ومقيد من حيث ظرف الإكرام.
    السادسة : انّ القوم لمّا فسّروا المطلق بما دلّ على شائع في جنسه بحثوا في ألفاظ يترقب فيها الدلالة على الشيوع كاسم الجنس وعلمه والفرد المحلى باللام.
    وأمّا على المختار بأنّ هذا النمط من البحث شأن الأديب وليس من شأن الأُصولي ، فالبحث في معاني هذه الأصناف من الألفاظ ساقط لما عرفت أنّ مقوم الإطلاق تمامية الشيء للموضوع وعدمها ، سواء أكان اسم جنس أو علم جنس أو محلّى باللام ، فاشتراط المطلق بكونه اسم جنس أو نظيريه كالحجر في جنب الإنسان وليس لها أي دخل في تكوين الإطلاق.
    فنحن بالنسبة إلى هذه البحوث التي شغلت بال الأُصوليين في المقام لفي فسحة ، غير أنّا نتبع القوم في هذه البحوث استطراداً بل استجراراً. وتمام الكلام في ضمن فصول :


(675)
    الفصل الأوّل
في ألفاظ المطلق
    1. اسم الجنس
    قد عدّ من ألفاظ المطلق اسم الجنس.
    قال المحقّق الخراساني : إنّ أسماء الأجناس من جواهرها وأعراضها وعرضياتها (1) موضوعة لمفاهيمها بما هي هي مبهمة مهملة بلا شرط ملحوظ معها أصلاً حتّى لحاظ انّها كذلك.
    وحاصل كلام المحقّق الخراساني : أنّ أسماء الأجناس موضوعة للماهية المهملة المبهمة من كلّ جهة تفقد كلّ شيء إلا ذاتها وذاتياتها ولا يلاحظ معها شيء حتّى هذا اللحاظ ، أي عدم لحاظ شيء معه.
    ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أفاض الكلام في البرهنة على ذلك ، وقال ما هذا حاصله :
    إنّ الموضوع له في أسماء الأجناس هو نفس الماهية بما هي هي.
    لا بشرط الإرسال والعموم البدلي حتّى يكون بشرط شيء.
1. يطلق العرض على مثل البياض والعرضي على مثل الأبيض ، غير أنّ المحقّق الخراساني أطلق الأعراض وأراد به الأعراض المتأصلة وأطلق العرضيات وأراد به الأُمور الاعتبارية حسب ما فسّره المحقّق المحشي.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس