إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 691 ـ 705
(691)
    3. المعرف باللام
    ينقسم اللفظ إلى معرب ومبنيّ ، والمعرب ما يختلف آخره باختلاف العوامل ولا يستعمل إلا بالتنوين أو اللام أو الإضافة.
    ثمّ اللام ينقسم إلى : لام الجنس ، ولام الاستغراق ، ولام العهد.
    ولام الاستغراق ينقسم إلى : استغراق الأفراد ، واستغراق خصائصها.
    ولام العهد ينقسم إلى : عهد ذهني ، أو ذكري ، أو حضوري ؛ فتكون الأقسام ستة :
    1. المُحلّى بلام الجنس : ( إنّ الإنسانَ لفي خُسْر ) (1) وقولهم : التمرة خير من جرادة.
    2. المُحلّى بلام استغراق الأفراد ، مثل قولهم : جمع الأمير الصاغة.
    3. المُحلّى بلام استغراق خصائص الأفراد ، مثل قولهم : زيد الشجاع.
    4. المُحلى بلام العهد الذهني : كقولهم :
    لقد أمرّ على اللئيم يسبّني فمررتُ ثمة قلت لا يعنيني
    والمعروف أنّه بمنزلة النكرة ، والفرق بينهما انّ القصد في الأوّل إلى نفس الطبيعة من حيث هي هي ، وفي الثاني إلى الطبيعة من حيث وجودها في فرد ، كقوله سبحانه : ( وَجاءَ مِنْ أَقصى المَدينَة رَجُلٌ يَسْعى ). (2)
    5. المحلى بالعهد الذكري كقوله سبحانه : ( إِنّا أَرْسَلنا إِليْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلنا إِلى فِرعونَ رَسُولاً * فعَصى فِرعونُ الرَّسُولَ فأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً ). (3)
1. العصر : 2.
2. يس : 20.
3. المزمل : 15 ـ 16.


(692)
    6. المحلّى بلام العهد الحضوري ، مثل قول الصادق ( عليه السَّلام ) : « عليك بهذا الجالس » ، مشيراً إلى زرارة بن أعين. (1)
    وعلى القول بأنّ اللام للتعريف ، فما هو الدالّ على هذه الخصوصيات ؟ فهناك احتمالات :
    1. الدالّ عليها هو اللام.
    2. الدالّ عليها هو المدخول.
    3. الدالّ عليها هو المجموع منهما.
    4. الدالّ عليها هو القرائن.
    والأخير هو المتعيّن ، يظهر ذلك بملاحظة الأمثلة المتقدّمة مثلاً استفادة العهد الذكري لأجل تقدّم قوله : ( رسولاً ) كما أنّ استفادة العهد الحضوري لأجل قوله ( عليك ) ، كما أنّ استفادة استغراق الأفراد في قوله : « جمع الأمير الصاغة » لأجل كون الجامع هو الأمير وهو لا يكتفي بصائغ دون صائغ في ضرب الدرهم والدينار.
    إنّما المهم في بيان ما وضع له « اللام » في هذه الموارد فهناك أقوال :
    1. اللام وضع لتعريف المدخول.
    2. اللام للزينة كما في الحسن والحسين.
    3. التعريف لفظي كالتأنيث اللفظي.
    4. اللام للإشارة إلى الموضوع وهو المختار.
1. الوسائل : 18 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 19.

(693)
    أ. اللام للتعريف
    المعروف أنّ اللام وضعت لتعريف المدخول قال ابن مالك :
    ال حرف تعريف أم اللام فقط فنمط عرّفتَ قل فيه النمط
    وأورد عليه المحقّق الخراساني بالبيان التالي :
    1. لا تعيّن في تعريف الجنس إلا الإشارة إلى المعنى المتميز بنفسه من بين المعاني ذهناً ولازمه أن لا يصحّ حمل المعرف باللام بما هو معرف على الأفراد لامتناع الاتحاد مع ما لا موطن له إلا الذهن إلا بالتجريد. ومع التجريد لا فائدة في التقييد مع أنّ التأويل والتصرف في القضايا المتداولة في العرف غير خال عن التعسف.
    هذا مضافاً إلى أنّ الوضع لما لا حاجة إليه ، بل لابدّ من التجريد عنه وإلغاؤه في الاستعمالات المتعارفة المشتملة على حمل المعرف باللام أو الحمل عليه ، كان لغواً.
    وحاصل كلامه يرجع إلى أمرين :
    الأوّل : انّ كون اللام للتعريف يستلزم كون اللحاظ في الذهن جزء الموضوع أو المحمول ومعه لا ينطبق على الخارج.
    الثاني : انّ التخلص من الإشكال بالتجريد حين العمل ينتهي إلى لغوية الوضع للتعريف ، لأنّ الغاية من الوضع هو استعمال اللفظ في الموضوع له والمفروض انّه لا يستعمل فيه إلا بالتجريد.
    يلاحظ عليه : بأنّ المراد من التعريف هو الإشارة إلى المدخول كما هو القول الرابع ، وسيوافيك انّ القول بدلالة اللام إلى الإشارة خال عن الإشكالين المذكورين ، فانتظر.


(694)
    ب. اللام للتزيين
    ذهب المحقّق الخراساني بعد إبطال كون اللام للتعريف إلى أنّه للتزيين مطلقاً ، كما في لفظي الحسن والحسين واستفادة الخصوصيات إنّما تكون بالقرائن التي لابدّ منها لتعيّنها على كلّ حال.
    يلاحظ عليه : أنّ لام التزيين يختص بالأعلام المنقولة من الوصف إلى العلمية ، والهدف من اللام الإشارة إلى كونه منقولاً كلفظي الحسن والحسين لا مطلقاً.
    يقول ابن مالك :
    وبعض الأعلام عليه دخلا للمح ما قد كان عنه نُقلا
    ج.التعريف لفظي
    ذهب المحقّق البروجردي إلى أنّ التعريف لفظي كالتأنيث اللفظي ، فكما أنّ المؤنث حقيقي ومجازي فهكذا المعرف حقيقي كزيد ومجازي كمدخول اللام.
    يلاحظ عليه : أنّه ادّعاء بلا دليل ، بل مع قيام الدليل على خلافه ، فإنّ اللام في العهد الذكري أو الحضوري للتعريف قطعاً ، فكيف يقول التعريف لفظي لا حقيقي ؟!
    د. اللام للإشارة
    أظن انّ مرادهم من التعريف والتعيين باللام هو كون اللام إشارة إلى المعنى المراد من المدخول ، فإن كان جنساً فهي إشارة إلى ذات الطبيعة ، مثل : الرجل خير من المرأة ، فإن كان جمعاً فهو إشارة إلى مدلوله الجمعي ، مثل قوله :


(695)
« أكرم العلماء » ، وإن كان فرداً فهو إشارة إلى ذاك الفرد ، مثل ( إِنّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَونَ رَسُولاً * فَعَصى فِرْعَونُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخذاً وَبيلاً ). (1)
    وهذا خيرة صاحب القوانين حيث قال : اللام للإشارة إلى شيء يتّصف بمدخولها ، واختاره أيضاً صاحب الفصول عند بيان الفرق بين علم الجنس والمحلّى باللام كالأسد بأنّ الثاني يتضمن الإشارة إلى الماهية.
    فإن قلت : إذا كان اللام موضوعاً للإشارة يرد عليهما ما ذكره المحقّق الخراساني ، وهو إذا كان اللام موضوعاً للإشارة إلى المعنى فمع الدلالة عليه بتلك الخصوصيات لا حاجة إلى تلك الإشارة لو لم تكن مخلة ، وقد عرفت إخلالها. (2)
    وحاصل ما ذكره يرجع إلى أمرين :
    1. إذا كانت الخصوصيات مفهومة من القرائن فلا حاجة للإشارة إليها باللام ثانياً.
    2. لو كانت الإشارة مأخوذة في الموضوع له لم ينطبق على الخارج.
    يلاحظ على الأوّل : أنّه إنّما يلزم التكرار إذا كان اللام إشارة إلى عامة الخصوصيات ، بل هو إشارة إلى معنى المدخول ، وأمّا سائر الخصوصيات من الجنسية والعهدية فإنّما تستفاد من القرائن.
    ويلاحظ على الثاني : بأنّ كون اللام للإشارة بمعنى أنّه وضع لواقع الإشارة لا لمفهوم الإشارة ، وواقع الإشارة أمر خارجي وهو ليس أمراً ذهنياً نظير لفظة « هذا » في « هذا إنسان ».
1. المزمل : 15 ـ 16.
2. الكفاية : 1/381.


(696)
    والحاصل : انّ اللام إشارة إلى واقع المدلول وحقيقته التي لها واقعية خارجية.
    فظهر أنّ المراد من قولهم : اللام للتعريف ، أي الإشارة إلى المدلول بما هو مدلول.
    الجمع المحلّى باللام
    لا شكّ أنّ الجمع المحلّى باللام يفيد العموم وعدّه من ألفاظ الإطلاق خلط بين العموم والمطلق.
    ثمّ ربّما يستدّل على أنّ اللام موضوعة للدلالة على التعيّن ، باستفادة العموم من الجمع المحلّى باللام.
    وجه الدلالة : أنّ المرتبة المستغرقة للمراتب متعيّنة من بين جميع المراتب ، فلو كانت اللام موضوعة للإشارة ، وهي تلازم تعيّن المشار إليه ، تصحّ استفادة العموم منه ، وإلا فليس هنا دالّ على العموم مع عدم دلالة المدخول عليه.
    و أورد عليه المحقّق الخراساني بأنّه لا دلالة فيها على أنّ استفادة العموم لأجل دلالة اللام على التعيّن ، وذلك لتعيّن المرتبة الأُخرى وهي أقلّ مراتب الجمع. فلابدّ أن تكون دلالته على الاستغراق مستندة إلى وضع المجموع ( الجمع مع اللام ) للاستغراق لا إلى دلالة اللام على الإشارة إلى المعين.


(697)
    يلاحظ عليه : بأنّ المتعيّن هو المرتبة المستغرقة لجميع الأفراد ، وأمّا أقلّ المراتب فهو وإن كان معيّناً مفهوماً لكنّه غير معيّن مصداقاً ، لتردّده بين هذا الأقـل ، وذاك الأقل ، وذلك الأقل ، فالمتعيّن هو الاستغراق واللام إشارة إلى هذا المعيّن.
    4. النكرة
    إنّ مقوم النكرة هو التنوين الواقع في آخره ، سواء أخبر عنه كما في قوله : ( وَجاءَ مِنْ أَقصى المَدينَةِ رَجُلٌ يَسعى ) ، أو وقع تحت دائرة الانشاء كما إذا قال : جئني برجل ، فقد اختلف في مفهوم النكرة على أقوال :
    1. انّه موضوع للفرد المردد بين عدّة أفراد.
    2. انّه موضوع للفرد المنتشر.
    3. انّه موضوع لفرد ما من الطبيعة.
    أمّا الأوّل ، فغير صحيح ، لأنّ الفرد المردّد غير قابل للامتثال ، إذ الامتثال يتحقّق بالفرد المشخّص لا بالفرد المردد.
    وأمّا الثاني ، أعني : الفرد المنتشر فليس له مفهوم صحيح إلا أن يرجع إلى القول الثالث وهو انّه موضوع لفرد ما من الطبيعة وهو قابل للانطباق على كلّ فرد فرد.
    والحاصل : انّ المدخول بدون اللام يدلّ على الطبيعة ، ومع التنوين يدلّ على الوحدة.
    ثمّ الظاهر أنّ النكرة لا يخرج عن الكلية حتّى فيما إذا وقع تحت الإخبار ، مثل قوله سبحانه : ( وَجاءَ مِنْ أَقصى المَدينَة رَجُلٌ يَسْعى ).
    فإن قلت : كيف لا يخرج عن الكلية وهو متعيّن في الواقع ؟
    قلت : إنّ الجواب بوجهين :
    1. انّ التعيّن مستفاد من نسبة الفعل إليه لا من نفس الكلمة ، فالكلمة مستعملة في الفرد غير المعيّن.


(698)
    2. إن أُريد من التعيّن هو التعيّن في عالم الثبوت فلا نزاع فيه ، لكنّه ليس محوراً للوصف بالكلية والجزئية.
    وإن أراد عالم الإثبات ومقام الدلالة فهو كلّي قابل للانطباق.
    مثلاً قولنا : مررت برجل قد سلم عليّ أمس قبل كلّ أحد ، فهو حسب الواقع متعيّن ، ولكنّه حسب الإثبات أمر كلّي قابل للانطباق على كلّ فرد فرد.
    ثمّ إنّ شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري ( قدس سره ) ذهب إلى أنّه جزئي في كلا الموردين.
    قال : إنّ النكرة مستعملة في كلا الموردين بمعنى واحد وانّه في كليهما جزئي حقيقي.
    بيانه : انّه لا إشكال في أنّ الجزئية والكلية من صفات المعقول في الذهن وهو ان امتنع فرض صدقه على كثيرين فجزئي وإلا فكليّ ، وجزئية المعنى في الذهن لا تتوقّف على تصوّره بتمام تشخصاته الواقعية ، ولذا لو رأى الإنسان شبحاً من بعيد وتردد في أنّه زيد أو عمرو بل إنسان أو غيره لا يخرجه هذا التردد عن الجزئية وكون أحد الأشياء ثابتاً في الواقع لا دخل له بالصورة المنتقشة في الذهن فإذا كانت هذه الصورة جزئيّة كما في القضية الأُولى فكذلك الصورة المتصورة في القضية الثانية إذ لا فرق بينهما إلا انّ التعيين في الأوّل واقعي وفي الثانية بيد المكلّف. (1)
    يلاحظ عليه : أنّه خلط بين كون الصورة الذهنية بما انّها موجودة في الذهن والوجود عين التشخّص ، وبين كونه مفهوماً قابلاً للانطباق على كثيرين ، والجزئية
1. درر الفوائد : 1/200.

(699)
بالمعنى الأوّل ، لا ينافي الكلّية بالمعنى الثاني وإلا فلا يوجد مصداق للكلّي ، لأنّه بما هو موجود ذهني متشخص جزئي.
    وامّا الشبح المردّد بين آحاد في الخارج فهو جزئي حقيقي وكونه كلّياً أمر وهمي ، لا واقعي بخلاف الصورة الذهنية في « رجل ».
    إكمال
    لو قلنا بأنّ المطلق هو الشائع في جنسه والساري في أفراده أو المفيد بالإطلاق على نحو لا بشرط القسمي ، فتخرج الألفاظ التالية عن تعريف المطلق.
    1. اسم الجنس الموضوع للماهية بما هي هي.
    2. علم الجنس الموضوع للماهية بما هي متعيّنة.
    3. النكرة الدالّة على الطبيعة بقيد الوحدة.
    فلم يبق ما يعد من ألفاظ المطلق إلا المحلّى بلام الاستغراق.
    ولأجل ذلك تردّد المحقّق الخراساني في صدق النسبة أي أنّ المطلق عند المشهور هو ما قيّد بالإرسال والشمول البدلي ، لاستلزامه خروج ما أُريد منه الجنس أو الحصّة ( النكرة ) وعلم الجنس ، ولكن لا وجه للشكّ في صحّة النسبة ، وقد عرفت ما هو المعروف عند مشهور الأُصوليّين.


(700)
    الفصل الثاني
تقييد المطلق لا يستلزم المجازية
    قد عرفت أنّ المطلق عند المشهور هو ما دلّ على الشياع والسريان والإطلاق على نحو اللا بشرط القسمي ، وكأنّ المطلق عندهم من أقسام اللا بشرط القسمي.
    وقد أثار هذا التفسير رد فعل في الأوساط العلمية ، وممّن قام بوجه هذا التفسير هو المحقّق سلطان العلماء حيث رد دلالة المطلق على السريان والشيوع ، وقال في كلمته التي تقدّمت : « ليست صحة العمل بكلّ فرد مدلولاً لفظياً للمطلق ، بل مدلول المطلق أعمّ من ذلك » ، وإلا فلو قلنا بدلالته على السريان يترتّب عليه أُمور ثلاثة :
    الأوّل : يلزم كون تقييد المطلق مجازاً ، لأنّ القيد ينافي مدلول المطلق.
    الثاني : يلزم أن لا يكون اسم الجنس وعلم الجنس والنكرة من مصاديق المطلق.
    الثالث : يلزم الخلط بين المطلق والعام ، إذ لو كان الشيوع مدلولاً لفظياً للمطلق لم يبق فرق بين المطلق والعام.
    ثمّ إنّ بعض هذه المضاعفات دفع سلطان العلماء إلى القول بأنّ المطلق موضوع للماهية المبهمة التي لا تجد إلا نفسها وذاتها وذاتياتها وليس في مدلولها أي


(701)
شيوع وسريان ، وعندئذ ترتفع المضاعفات الثلاث.
    1. لا تلزم المجازية من تقييد المطلق.
    2. ولا يلزم خروج اسم الجنس وعلم الجنس والنكرة من مصاديق المطلق.
    3. لا يلزم عدم الفرق بين المطلق والعام ، فإنّ الشمول مدلول لفظي للعام بخلاف المطلق فانّ الشيوع فيه مستفاد من العقل ببركة مقدّمات الحكمة.
    وليعلم أنّ سلطان العلماء وإن أوجد ثورة عارمة في باب المطلق حيث نفى دلالة المطلق على السريان والشيوع بالدلالة اللفظية ، لكنّه التزم به عقلاً وزعم أنّ نتيجة مقدّمات الحكمة هو سريان الحكم إلى كلّ واحد واحد من أفراده ، فالدلالة على إجزاء كلّ فرد دلالة لفظية عند القدماء وعقلية عند سلطان العلماء.
    هذا هو المستفاد من كلمات القوم لا سيّما سلطان العلماء.
    أقول : نلفت نظر القارئ إلى أمرين :
    1. إنّ تقييد المطلق لا يستلزم المجازية حتّى على القول بدلالة المطلق على الشيوع دلالة لفظية ، وذلك لأنّ المطلق بهذا المعنى يكون من أقسام العام ، وقد تقدّم أنّ العام بعد التخصيص حقيقة لا مجاز ، وأوضحنا هناك ما هذا خلاصته :
    انّ المتكلّم يستعمل العام في المعنى الموضوع له بالدلالة الاستعمالية فإن كانت الإرادة الاستعمالية موافقة للإرادة الجدية سكت عن التخصيص والتقييد ، وإن كانت مخالفة لها يُخرج ما لم تتعلّق به الإرادة الجديّة بالتخصيص والتقييد فيقول : أكرم العلماء العدول ، أو اعتق رقبة مؤمنة ، فالتخصيص والتقييد لا يوجبان استعمالهما في غير ما وضع له ولا يوجدان ضيقاً في المعنى المستعمل فيه وإنّما يحدثان ضيقاً في متعلّق الإرادة الجديّة ، ومناط الحقيقة والمجاز هو الإرادة الاستعمالية والمفروض انّ اللفظ ـ حسب تلك الإرادة ـ مستعمل في المعنى


(702)
الشائع.
    هذا من غير فرق بين العام ، كما إذا قال : أكرم العلماء العدول ؛ أو المطلق أعتق رقبة مؤمنة ، فلا يلزم من القول بكون المطلق موضوعاً للسريان والشيوع كون التقييد مجازاً.
    نعم لو قلنا بأنّ المطلق موضوع للشيوع يبقى الإشكالان الآخران على حالهما وهما خروج اسم الجنس وعلم الجنس والنكرة عن تعريف المطلق أوّلاً ، والخلط بين العام والمطلق ثانياً.
    وما ذهب إليه سلطان العلماء من عدم دلالة المطلق على السريان وإن كان حقاً لكن ما توهم من استلزام نقيضه مجازية المطلق ليس في محله.
    2. انّ سلطان العلماء وإن أتى بقول بديع في باب المطلق ولكنّه شارك القوم في استفادة الشيوع والسريان من المطلق بالدلالة العقلية ، وانّ نتيجة مقدّمات الحكمة هي الشيوع والسريان ، ولكنّه غير صحيح ؛ إذ غاية ما تثبته مقدّمات الحكمة كون ما وقع تحت دائرة الطلب هو تمام الموضوع ، سواء أمكن فيه الشيوع كما في قول : اعتق رقبة ، أو لم يمكن كما إذا قال : أكرم زيداً.
    فكان على سلطان العلماء أن ينكر السريان والشيوع في الدلالة الإطلاقية مطلقاً ، سواء أكان مستفاداً من اللفظ أم العقل ، وأمّا على المختار فالحديث عن الشيوع والسريان باطل من رأسه ، وأمّا لزوم جريان مقدّمات الحكمة فهو وإن كان صحيحاً لكنّه لا لغاية إثبات الشيوع ، بل لغاية كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع كما سيوافيك في الفصل التالي.


(703)
    الفصل الثالث
مقدّمات الحكمة
    قد عرفت أنّ التمسّك بالإطلاق فرع جريان مقدّمات الحكمة ، إمّا لغاية إثبات الشيوع والسريان في الموضوع ، أو لغاية إثبات أنّ ما وقع تحت دائرة الطلب هو تمام الموضوع فلا محيص عنه.
    إنّما الكلام في تبيين ما هي مقدّمات الحكمة.
    فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّها مؤلّفة من مقدّمات ثلاث :
    1. كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد لا الإهمال أو الإجمال.
    2. انتفاء ما يوجب التعيين ( القرينة ).
    3. انتفاء القدر المخاطب في مقام التخاطب.
    وربما يُزاد عليها عدم وجود الانصراف إلى صنف وهو ليس بمقدّمة رابعة ، لأنّه داخل في المقدّمة الثانية ، أي انتفاء ما يوجب التعيين.
    واقتصر المحقّق النائيني على الأوليين.
    ثمّ إنّ بعض المقدّمات مقوّم للإطلاق على نحو لولاه لما انعقد الإطلاق وبعضها الآخر شرط للتمسّك به.
    فمن القسم الأوّل « تمكّن المولى من البيان » ، فخرج القيد الذي لا يتمكن


(704)
المولى من بيانه كقصد الأمر على القول بامتناع أخذه في المتعلق كما عليه الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني على ما مرّ في مبحث التوصلي والتعبدي وإن كان المختار عندنا خلافه.
    ومثله عدم القرينة فإنّ وجود القرينة يمنع من انعقاد الإطلاق ، وأمّا القسم الثاني ، أي كونه شرطاً للتمسّك ككونه في مقام البيان أو عدم القدر المتيقّن على القول بشرطيته ، فعلى الباحث أن يميز المقوّم عمّا هو شرط للتمسّك ، فلنرجع إلى توضيح المقدّمات الثلاث :
    المقدّمة الأُولى : إحراز كون المتكلّم في مقام بيان كلّ ما هو دخيل في متعلّق حكمه بحيث يكون الإخلال ببيان الأجزاء والشرائط منافياً للحكمة لافتراض انّه في مقام بيان تمام ما هو الموضوع للحكم.
    توضيحه : انّ المتكلّم قد يكون في مقام بيان أصل المقصود لا في مقام بيان خصوصياته ، فلنفرض طبيباً رأى صديقه في الشارع فانتقل من صفرة وجهه إلى انّه مريض وبحاجة إلى تناول الدواء ، فيقول له : لابدّ لك من تعاطي الدواء ، ففي هذا المقام لا يصحّ للمريض التمسّك بإطلاق كلام الطبيب ويتناول كلّ دواء وقع بين يديه ، وقد يكون في مقام بيان خصوصيات المقصود ، كما إذا دخل المريض المذكور إلى عيادة الطبيب ، فأجرى الطبيب عليه الفحوصات اللازمة وبعد ذلك كتب له وصفة ، ففي هذا المقام يصحّ التمسّك بإطلاق ما كتب.
    نعم انّ كثيراً من المشايخ يتمسّكون في نفي بعض الاجزاء والشرائط للبيع بقوله سبحانه : ( وأَحلَّ اللّهُ البيعَ وحرّمَ الرّبا ) (1) ولكن التأمل في سياق الآية يثبت انّها ليست في مقام بيان شرائط أجزاء البيع وشرائطه ، بل هو في مقام بيان
1. البقرة : 275.

(705)
ردّ التسوية التي كان المشركون يتبنّونها. وكانوا يقولون : ( إِنّما البيع مثل الربا ) ويسوّون بين البيع والربا ، بل كانوا يجعلون الربا أصلاً والبيع فرعاً ، ولذلك شبهوا البيع بالربا ، فردّ اللّه سبحانه هذه التسوية وقال : ( وأَحلّ اللّهُ البيعَ وحرّم الرّبا ) فالتسوية غير صحيحة ، فالآية عند الإمعان ليست في مقام بيان أجزاء البيع وشرائطه ، فلو شككنا في شرطية العربية للصيغة لا يصحّ لنا التمسّك بإطلاقها ، بل الآية في مقام نفي التسوية وأمّا انّ للبيع شرائط أو لا فالآية ساكتة عنه.
    ثمّ إنّ شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري أنكر هذه المقدّمة ، وقال :
    إنّ المهملة مردّدة بين المطلق والمقيّد ولا ثالث ، ولا إشكال أنّه لو كان المراد هو المقيّد تكون الإرادة متعلّقة بالمقيّد أصالة وإنّما تُنسب إلى الطبيعة بالتبع لمكان الاتحاد ، مع أنّ ظاهر قولنا : « جئني برجل » انّ الإرادة متعلّقة بالذات بنفس الطبيعة ، لا انّ المراد هو المقيّد وإنّما أُضيف الحكم إلى الطبيعة لمكان الاتّحاد ، ومع تسليم هذا الظهور تسري الإرادة إلى تمام الأفراد وهذا معنى الإطلاق. (1)
    يلاحظ عليه : بأنّه إذا كان المتكلّم في مقام بيان ما هو دخيل في موضوع الحكم يصحّ لنا الأخذ بهذا الظهور دونما إذا كان في مقام الإهمال والإجمال فلا يصحّ أن يؤخذ بهذا الظهور ، مثلاً إذا قال : الغنم حلال ، والكلب حرام ، فهل يمكن لنا الأخذ بإطلاق القضية الأُولى والحكم بأنّ الغنم الموطوء أو الجلاّل حلال كلا ولا. وما ذلك إلا لأنّ الظهور عندئذ بدوي يزول بالتأمل إذا أحرزنا انّ المتكلّم في مقام الإجمال والاهمال.
    والحاصل : أنّ قوله : « انّ ظاهر قولنا : جئني برجل ، إنّ الإرادة متعلّقة بالذات بنفس الطبيعة لا انّ المراد هو المقيّد وإنّما أُضيف الحكم إلى الطبيعة لمكان
1. درر الأُصول : 1/102.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس