إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 736 ـ 750
(736)
مبهمات لا متشابهات ، مجهولات لا متماثلات.
    وثانياً : إنّ وصف المحكمات بكونها أُمّ الكتاب لبيان أنّ رفع التشابه من الآيات المتشابهة يتحقّق بإرجاعها إلى المحكمات ، وأمّا العوالم الغيبية فهي حقائق مغمورة لا توضح بالرجوع إلى أيّ آية من الآيات.
    وثالثاً : إنّ الآية تصرّح بأنّ أصحاب الأهواء يتبعون الآيات المتشابهة مكان الاتباع للمحكمات ، وهذا فرع أن يكون للآية المتشابهة ظهور ما ، وأمّا العوالم الغيبية فليس هناك أيّ ظهور لها حتّى يتّبع.
    ورابعاً : إنّ المتشابه ، آية متشابهة من أوّلها إلى آخرها يشتبه المراد منها بغيره ، وأمّا العوالم الغيبية فهي مفردات لا آيات ، فقوله سبحانه : ( وَما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْس إِلاّ لِيَعْبُدُون ) (1) آية محكمة واضحة الدلالة ، مبيّنة المقصد ، وإجمال حقيقة الجن لا يوجد في الآية أي تشابه.
    ثمّ إنّ الداعي لاختيار هذا الرأي هو أنّ ابن تيميّة ممّن يحمل الصفات الخبرية كالاستواء على العرش ، والبناء بالأيدي وغيرهما على معانيها اللغويّة فهي عندها من المحكمات وإن استلزمت التشبيه والتجسيم والجهة للّه سبحانه مع أنّها عند المشهور ، متشابهات تُفسر في ضوء المحكمات ولأجل ذلك اضطرّ إلى تفسير المتشابه بالعوالم الغيبيّة الّتي هي مجهولات مبهمات لا متشابهات.
    وخامساً : انّ الآية تحكي عن أنّ أصحاب الأهواء يثيرون الفتنة بالآيات المتشابهة ، ولم تكن العوالم الغيبية كالروح والجنّ والملك سبباً لإثارة الفتنة ، بخلاف ما نذكره من الصفات الخبرية ، فإنّها لم تزل وما زالت سبباً لإثارة الفتنة وقد فرّقت كلمة الأُمّة وجعلتها طائفتين أو طوائف.
1. الذاريات : 56.

(737)
    إنّك ترى أنّ الوهّابية التابعة لمنهج ابن تيمية لم تزل تنشر رسائل حول الصفات الخبرية وتصرّ على أنّها محمولة على اللّه بنفس معانيها اللغوية ، غاية الأمر يردفها أسيادهم بقولهم « بلا كيف » ويقولون له سبحانه أيد لا كأيدينا وعرش لا كعرشنا ، إلى غير ذلك.
    2. المتشابه والحروف المتقطّعة
    هذه هي النظرية الثانية ، ذكرها الطبري في ضمن رواية حاصلها أنّ ياسر بن أخطب مرّ برسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يتلو فاتحة سورة البقرة : ( الم * ذلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) فاخبر به أخاه « حُيَيّ بن أخطب » فتمشى هو مع رجال من اليهود إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقالوا يا محمّد ألم تذكر لنا أنّك تتلو فيما أنزل عليك : ( الم * ذلِكَ الْكِتابُ ) فقال نعم فقال : حيي : الألف واحدة واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فهذه إحدى وسبعون وهذا مدّة نبوّتك ثمّ أقبل على رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : يا محمّد هل مع هذا غيره ؟ فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : نعم. قال : ماذا ؟ قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « المص » فقال : هذه أثقل وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد تسعون ، فهذه مائة وإحدى وستون سنة. ولم يزل يسأل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يقرأ الحروف المقطّعة ويحاسب على حساب الحروف الهجائية فلمّـا وصلوا إلى سبعمائة سنة وأربع وثلاثون فقالوا لقد تشابه علينا أمره فنزل : ( هُوَ الّذي أَنْزَلَ الْكِتاب ) الخ. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ الحديث ضعيف سنداً لأنّه مرويّ عن سلمة بن فضل الذي جرحه علماء الرجال ، حيث قال أبو حاتم الرازي في كتابه الجرح والتعديل : « في حديثه إنكار ، ليس بقويّ ، لا يمكن أن أطلق لساني فيه بأكثر من هذا ». (2)
1. الطبري : التفسير : 1/71 وج 3/118.
2. الجرح والتعديل : 169 ، ط الهند.


(738)
    كما انّه مطرود دلالة ، وذلك لأنّ ظاهر الرواية أنّ حُييّ اليهودي كان يتلاعب بالحروف المقطعة ويحدّد مدّة نبوّة النبي وهو ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ساكت في مقابل تلاعبه بها ، وهذا لا يناسب شأن النبي الأعظم في حقّ اللاعبين بآيات اللّه.
    أضف إلى ذلك أنّ ظاهر الآية أنّ أصحاب الفتنة يؤمنون بمجموع القرآن ولكن يتبعون خصوص المتشابه ، وهذا لا ينطبق على شأن النزول ، فإنّ اليهود كانوا يرفضون القرآن كله.
    بل الظاهر من الرواية أنّهم لم يتبعوا المتشابه ، بل قاموا قائلين : لقد تشابه علينا أمره.
    3. النظرية المعروفة
    إنّ الآيات القرآنية تنقسم إلى قسمين : محكم واضح الدلالة ، مبيّن المقاصد ، ومتشابه يشتبه مدلوله الواقعي بغير الواقعي ، ويرتفع التشابه إذا لوحظت مع سائر الآيات.
    وإنّما يعرض التشابه للآية لا لقصور في اللفظ أو في الهيئة التركيبية ، بل لأجل أنّ المعارف الإلهيّة إذا نزلت إلى سطوح الأفهام العادية ، وأُريد بيانها بالألفاظ الدارجة التي وضعت لبيان المعاني الحسّية الملموسة ، عرض لها التشابه في المقاصد ، فإنّ الألفاظ الدارجة إنّما وضعت للاستعانة بها في إلقاء المقاصد العرفية الحسّيّة ، فإلقاء المعارف العقلية العليا بهذه الوسيلة ، لا تنفك عن عروض التشابه لها.
    وهناك سبب آخر للتشابه وهو استخدام المجاز والاستعارة والكناية في حلبة البلاغة فتصير الآية متشابهة المراد ، لا بحسب المعنى المستعمل فيه ، بل


(739)
حسب المعنى الجدّي فيؤخذ بالمستعمل فيه ، ويترك المقصد الجدّي الذي سيق لأجله الكلام لابتغاء الفتنة ، كما قال سبحانه.
    وها نحن نذكر فهرساً إجمالياً من الآيات الظاهرة في التجسيم والتشبيه والجبر والحركة والجهة للّه سبحانه ، ومن المعلوم أنّ ظواهر هذه الآيات المتزلزلة الدلالة ، لا تنسجم مع المحكمات ، وما ذلك إلا لأنّ ظهورها ظهور بدوي لا استقراري ، إفرادي لا جملي ، تصوّري لا تصديقي ، ولا قيمة لهذه الظهورات ما لم تنتهِ إلى الظهور الاستقراري ، الجملي ، التصديقي.
    1. العين ، كقوله سبحانه : ( وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي ). (1)
    2. اليمين ، كقوله سبحانه : ( وَالسّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِه ). (2)
    3. الاستواء ، كقوله سبحانه : ( الرَّحمنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوى ). (3)
    4. النفس ، كقوله سبحانه : ( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسي وَلا أَعْلَمُ ما في نَفْسِكَ ). (4)
    5. الوجه ، كقوله سبحانه : ( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّه ). (5)
    6. الساق ، كقوله سبحانه : ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساق ). (6)
    7. الجنب ، كقوله سبحانه : ( عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ ). (7)
    8. القرب ، كقوله سبحانه : ( فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوةَ الدّاعِ ). (8)
    9. المجيء ، كقوله سبحانه : ( وَجاءَ رَبُّكَ ). (9)
1. طه : 39.
2. الزمر : 67.
3. طه : 5.
4. المائدة : 116.
5. البقرة : 115.
6. القلم : 42.
7. الزمر : 56.
8. البقرة : 186.
9. الفجر : 22.


(740)
    10. الإتيان ، كما قال سبحانه : ( أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ). (1)
    11. الغضب ، كما في قوله : ( وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِم ). (2)
    12. الرضا ، كما في قوله : ( رَضِيَ اللّهُ عَنْهُم ). (3)
    ونظير ذلك الآيات الدالّة على الجبر نحو قوله : ( يُضِلُّ مَنْ يَشاء وَيَهْدي مَنْ يَشاء ).
    نعم إنّ كلتا الطائفتين يؤوّلون المتشابهات ، فأصحاب الزيغ يأخذون بالظاهر المتزلزل ذريعة لنشر البدع والضلالات ، وأمّا الآخرون فيؤوّلونه بإرجاع المتشابه إلى المحكمات التي هنّ أُمّ الكتاب.
    2. ما هو المراد من التأويل ؟
    إلى هنا تعرفّنا على الآيات المتشابهة ، وحان حين البحث عن تأويلها ، سواء أكان من أصحاب الزيغ أو من غيرهم ، فنقول : إنّ التأويل في مصطلح العلماء صرف الظاهر المستقرّ عن ظاهره ، وهذا التفسير للتأويل مصطلح للعلماء ولا صلة له بالتأويل في القرآن الكريم ، وأمّا تأويل المتشابه ، فهو تحقيق ظهوره ، والسعي وراء مراده وإرجاع ظهوره البدوي ، إلى الظهور الاستقراريّ ، وإليك بيانه :
    التأويل مأخوذ من « آل يؤول » بمعنى رجع ، قال الراغب الاصفهاني : التأويل من الأوْل ، أي الرجوع إلى الأصل ، ومنه الموئِل للموضع الذي يرجع إليه ، وذلك هو ردّ الشيء إلى الغاية المرادة منه علماً كان أو فعلاً. (4)
1. الأنعام : 158.
2. الفتح : 6.
3. المائدة : 119.
4. المفردات ، مادّة أول.


(741)
    وعلى ذلك فالتأويل عبارة عن إرجاع الفعل أو الكلام المبهمين من خلال القرائن الموجودة ، إلى واقعه. وقد استعمل في القرآن المجيد في موارد ثلاثة :
    أ. تأويل الفعل
    يصف القرآن الكريم ردّ المنازعات إلى اللّه والرسول بقوله : ( أَحسن تأويلاً ) ، ويقول : ( يا أَيُّها الّذينَ آمَنُوا أَطيعُوا اللّه وَأَطيعُوا الرَّسُول وَأُولي الأَمْرِ مِنْكُم فَإِنْ تَنازَعْتُمْ في شَيء فردُّوه إِلى اللّه وإِلى الرسُول إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَاليَومِ الآخر ذلِكَ خَيْر وَأَحسَن تَأْويلاً ). (1)
    أي أحسن مآلاً ، لأنّ في الرجوع إلى اللّه والرسول إحقاقاً للحق وإبطالاً للباطل ، على خلاف الرجوع إلى الجبت والطاغوت.
    ومن هذا القبيل وصف الكيل بالعدل والإنصاف بقوله : ( أَحسن تأويلاً ) يقول سبحانه : ( وَأَوفُوا الكَيْل إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالقِسْطاسِ الْمُسْتَقيم ذلِكَ خَيرٌ وَأَحسنُ تأويلاً ) فالمراد أحسن مآلاً لما يترتّب على إجراء العدل في عمليّة الوزن من المصالح والغايات الصحيحة.
    فالتأويل في هذه الآيات بمعنى المآل والمرجع بما يترتب عليه من المصالح.
    ب. تأويل النوم
    قد شاع إضافة التأويل إلى الرؤيا في القرآن الكريم في غير واحد من الآيات نظير :
    1. رؤية يوسف سجود أحد عشر كوكباً مع الشمس والقمر له.
1. النساء : 59.

(742)
    2. رؤية أحد مصاحبيه في السجن أنّه يعصر خمراً.
    3. رؤية مصاحبه الآخر أنّه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل منه الطير.
    4. رؤية الملك سبع بقرات سمان وسبع عجاف.
    فالتأويل في هذه الموارد عبارة عن إرجاع الرؤيا إلى حقيقتها ، فإنّ الإنسان في الرؤيا الصادقة يرى الواقع نفسه ولكن القوة المتخيّلة إلى حين الانتباه تتصرّف في ما رآه وتتغيّر كيفية الرؤيا وشكلها ، فالتأويل عبارة عن إرجاع الرؤيا إلى أُصولها وجذورها التي كانت عليها.
    ج. تأويل المتشابه
    قد تعرّفت على أنّ التأويل ربما يوصف به الفعل وأُخرى به الرؤيا وثالثة الكلام ، وليس المراد منه في القرآن الكريم هو صرف الظاهر عن وضعه الأصلي ، وإن ذكره ابن منظور في لسانه ، (1) فقال المراد بالتأويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ.
    فلو صحّ ما ذكره فإنّما هو مصطلح جديد لا صلة له بالقرآن الكريم فإنّ ظاهر القرآن المستقرّ يستحيل منه العدول إلى معنى آخر ، إذ معنى ذلك أنّ القرآن يشتمل على ما لا يوافق العقل والعلم ، فيُعدل عن الظاهر لرفع التناقض ، سبحان من لايناقض كلامُه حكمَ العقل الحصيف ، والعلم الصحيح ، بل الوحي والعقل والعلم يسيرون جنباً إلى جنب ، وللتأويل في القرآن عند ما يقع وصفاً للكلام معنى آخر وهو الذي نذكره :
    التأويل عبارة عن إرجاع الكلام الذي له ظهور بدويّ غير مستقرّ ، إلى
1. لسان العرب ، ج 11 ، مادّة أول.

(743)
الظهور النهائي الاستقراري بالإمعان في القرائن المكتنفة بالآية.
    وها نحن نذكر نماذج من هذا التأويل الذي هو بمعنى تحقيق ظهور الآية وإنهاء الظهور البدوي إلى الظهور النهائي.
    1. إنّه سبحانه يحيط بالظالمين في الدنيا والآخرة إحاطة قيّوميّة ، فيحيط بالإنسان بشراشر وجوده وخصوصياته ، يقول سبحانه : ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُم ). (1)
    ويقول سبحانه : ( ما مِنْ نَجْوى ثَلاثة إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمسة إِلاّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثر إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنما كانُوا ثُمَّ يُنبئهُمْ بِما عَمِلُوا يَوم القِيامة ). (2)
    فهاتان الآيتان من الآيات المحكمة تبيّن لنا إحاطة وجوده سبحانه بعامة الممكنات إحاطة قيّوميّة.
    ولكنّه سبحانه وتعالى يبيّن تلك الإحاطة القيّومية في مورد الظالم بتشبيه خاص بغية تقريب المراد ويقول : ( إِنّ رَبّك لَبِالْمِرصاد ). (3)
    وما ذلك إلا لأجل تشبيه الإحاطة القيومية بالأمر الحسّي وعند ذلك يعرض التشابه ، وما ذلك إلا لأنّ السلطة الحقيقية عند الناس هي سلطة الصياد بصيده إذا جلس في المرصاد وأخفى نفسه عنه وهو يراه ولا يراه هو ، فالآية لأجل تقريب سلطته الإحاطية إلى الأذهان يستخدم كلمة المرصاد ، وعندئذ يعرض التشابه للآية ، لكن أين سلطته سبحانه على الناس ، من سلطة الصياد على الصيد.
    وعلى ضوء ذلك فالآية متشابهة من حيث الظهور البدوي ، ولكن بالإمعان
1. الحديد : 4.
2. المجادلة : 7.
3. الفجر : 14.


(744)
في نفس الآية ومقارنتها بالآيات الأُخرى يتبيّن أنّ الغرض تشبيه الإحاطة العقلية بالإحاطة الحسّية تقريباً للأذهان ومعاذ اللّه أن تكون إحاطته بالإنسان كإحاطة الصيّاد بصيد.
    2. إنّه سبحانه يريد أن يبيّن عظمته يوم القيامة ، فبيّنها بقوله : ( كَلاّ إِذا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً * وَ جاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفّاً صَفّا * وَ جِيئَ يَوْمَئِذ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذ يَتَذَّكَرُ الإِنْسانُ وَ أَنّا لَهُ الذِّكْرى ). (1)
    وهو بظاهره يفيد ، نسبة المجيء إليه سبحانه وبالتالي جسميته والذي أوقع التشابه فيه ، أي تشابه المراد هو نزول المعارف العقلية العليا إلى موقع الحس واللمس. فإنّ ظهور عظمته وقهره يوم القيامة باندكاك الجبال وظهور جهنّم يعد مجيئاً له.
    3. يقول سبحانه : ( يا إِبْليسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلْقتُ بِيَديَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ العالِين ) (2). فأصحاب الأهواء يثبتون له سبحانه يدين جسمانيتين ، أو يقولون لا نعلم كيفيتهما ، ولكنّه لو أُمعن النظر يعلم أنّ التصريح بأنّه سبحانه خلق آدم بيديه كناية عن الاهتمام بخلقة آدم حيث خلقه ونفخ فيه من روحه وعلّمه الأسماء حتّى يتسنّى بذلك ذمّ إبليس على ترك السجود لآدم وأنّه ترك السجود لما قام بخلقته مباشرة وإنّما أتى « باليدين » لأنّ الغالب في عمل الإنسان هو القيام به باستعمال اليد ، يقول : هذا البناء بنيته بيدي ، مع أنّه استعان في عمله هذا بعينه وسمعه وغيرهما من الأعضاء ، وكأنّه سبحانه يندد بالشيطان بأنّك تركت السجود لموجود اهتممتُ بخلقه وصنعه.
    4. قوله سبحانه : ( الرَّحمن على العَرْشِ اسْتَوى ) (3) في اللغة هو السرير ،
1. الفجر : 21 ـ 23.
2. ص : 75.
3. طه : 5.


(745)
والاستواء عليه هو الجلوس ، غير أنّ هذا حكم مفرداتها ، وأمّا مع الجملة فيتفرع الاستظهار منها ، على القرائن الحافّة بها ، فالعرب الأقحاح لا يفهمون منها سوى العلو والاستيلاء ، وحملها على غير ذلك يعد تصرفاً في الظاهر ، وتأويلاً لها ، فإذا سمع العرب قول القائل :
    قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
    أو سمع قول الشاعر :
    ولما علونا واستوينا عليهم تركناهم مرعى لنسر وكاسر
    فلا يتبادر إلى أذهانهم سوى العلو والسيطرة والسلطة لا العلو المكاني الذي يعد كمالاً للجسم ، وأين هو من العلو المعنوي الذي هو كمال الذات ؟!
    وقد جاء استعمال لفظ الاستواء على العرش في سبع آيات (1) مقترناً بذكر فعل من أفعاله ، وهو رفع السماوات بغير عمد ، أو خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيّام ، فكان ذاك قرينة على أنّ المراد منه ليس هو الاستواء المكاني ، بل الاستيلاء والسيطرة على العالم كلّه ، فكما لا شريك له في الخلق والإيجاد لا شريك له أيضاً في التدبير والسلطة ، ولأجل ذلك يقول في ذيل بعض هذه الآيات : ( أَلا لَهُ الخَلق وَالأَمْر تَباركَ اللّه ربّ العالَمين ). (2)
    ولو لم يفسّر الاستواء بما ذكرناه ، يكون ذكر جلوسه على السرير في ثنايا ذكر أفعاله ، بلا مناسبة ، إذ أي نكتة في الإخبار عن جلوسه على سريره ، لو لم يكن كناية عن استيلائه على عالم الخلق والكون.
1. الأعراف : 54 ، يونس : 3 ، الرعد : 2 ، طه : 5 ، الفرقان : 59 ، السجدة : 4 ، الحديد : 4.
2. الأعراف : 54.


(746)
    3. ما هو المراد من ابتغاء الفتنة ؟
    إنّ أصحاب القلوب الزائغة لا يريدون الاهتداء بهدى القرآن الكريم ، وإنّما يتبنّون عقيدة أو فكرة أو سلوكاً خاصّاً فيرجعون إلى القرآن بغية الاستدلال عليها ، ولأجل ذلك يأخذون من الآيات المتشابهة ما تؤيد ظهورها المتزلزلة مقاصدَهم ، وإليك نموذجاً :
    إنّ روّاد الجبر الذين يتظاهرون به بغية الانحلال الأخلاقي والحرّية في السلوك ، يتمسّكون بقوله سبحانه : ( يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدي مَنْ يَشاء ) (1) ويبثّون فكرة الجبر الذي هو بمعنى سلب الاختيار عن الإنسان في مجال الهداية والضلالة والإيمان والكفر والطاعة والعصيان فكأنّ الإنسان ريشة في مهبّ الريح.
    غير أنّ الراسخين في العلم يؤوّلون الآية ويرجعونها إلى واقعها المراد ، وهو أنّ الآية بصدد بيان أنّ الفيوض المعنوية والمادّية كلّها بيد اللّه سبحانه ولا يملك الإنسان شيئاً من ذلك ، ولكن لا بمعنى وجود الفوضى في هداية الإنسان وإضلاله وإنّما يتّبعان الأرضية الصالحة التي يكتسبها العبد باختياره ويستحق الهداية أو الضلالة.
    وقد صرّح سبحانه في آيات أُخرى بذلك ، يقول سبحانه : ( يُضِلُّ بِهِ كَثَيراً وَيَهْدي بِهِ كَثيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاّ الْفاسِقين ) (2) ، ويقول : ( إِنّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوم الضّالّين ) (3). ويقول : ( إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَناب ). (4)
    فهذه الآيات تفسّر لنا إضلال اللّه سبحانه وأنّه جزاء من اللّه سبحانه لمن
1. النحل : 93.
2. البقرة : 26.
3. الأنعام : 144.
4. الرعد : 27.


(747)
خرج عن طاعته ( الفاسقون ) وعدّ من الظالمين كما أنّ الهداية جزاء منه سبحانه لمن هو أناب إلى اللّه سبحانه ، فلا يصحّ تفسير هذه الآيات إلا بردّ المتشابه إلى المحكم.
    4. الراسخون في العلم والتأويل
    إنّ الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه بشهادة أنّهم راسخون في العلم ، ولو كانوا غير عالمين به لكان الصحيح أن يقول وأمّا الراسخون في الإيمان ، وقد تضافرت الروايات على أنّ أئمّة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) هم الراسخون العالمون بتأويل المتشابه. نعم أئمّة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) هم المصداق الأوسط لهذا وإلا فالراسخون في العلم هم العلماء المتحلّون بالإيمان ، الذين لا يؤوّلون المتشابه برأي مسبق وإنّما يعوّلون على الآيات المحكمات في تفسير المتشابهات.
    إلى هنا تمّ الكلام في المواضع الأربعة ممّا يرجع إلى المحكم والمتشابه.
    إكمال :
    التأويل في مقابل التنزيل

    قد عرفت أنّ تأويل المتشابه إنّما هو إرجاع ظهوره المتزلزل إلى ظهوره المستقرّ على ضوء القرائن الموجودة في الآية وما في الكتاب العزيز من الآيات المحكمات ، وهناك مصطلح آخر للتأويل وهو : التأويل في مقابل التنزيل فللآية تنزيل ، كما أنّ لها تأويل ، فالمصداق الموجود في عصر الوحي تنزيله ، والمصاديق المتحقّقة في الأجيال الآتية تأويله ، وهذا من دلائل سعة آفاق القرآن ، فالقرآن كما يصفه الإمام يجري مجرى الشمس والقمر ، فينتفع منه كلّ جيل في عصره كما ينتفع بالشمس


(748)
والقمر عامّة الناس في عامّة الأجيال ، ولذلك يقول الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) : « إذا نزلت آية على رجل ثمّ مات ذلك الرجل ، ماتت الآية مات الكتاب! ، ولكنّه حيّ يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضى ». (1)
    نموذجان من التأويل في مقابل التنزيل
    1. يقول سبحانه : ( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَولا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آية مِنْ رَبِّهِ إِنّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوم هاد ). (2)
    نصّ القرآن الكريم بأنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بشخصه منذر كما نصّ بأنّ لكلّ قوم هاد ، وقد قام النبيّ بتعيين مصداق الهادي في حديثه ، وقال : « أنا المنذر وعليّ الهادي إلى أمري ». (3)
    ولكن المصداق لا ينحصر بعلي ( عليه السَّلام ) ، بل الهداة الذين ظهروا عبر الزمان هم المصاديق الجديدة للآية المباركة ، ولذلك نرى الإمام الباقر ( عليه السَّلام ) يقول : « رسول اللّه المنذر ، وعلي الهادي ، وكلّ إمام هاد للقرن الّذي هو فيه ». (4)
    فالمتحلّون بحلية الإيمان والعلم ، كلّهم هداة عبر الزمان فالمصاديق المتجددة ، تأويل للقرآن مقابل تنزيله.
    2. يقول سبحانه : ( وَإِنْ نَكَثُوا أَيمانهُمْ مِنْ بَعْد عَهْدِهِم وَطَعَنُوا في دِينكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّة الكُفر إِنَّهُمْ لا أَيمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُون ). (5)
    فتنزيل الآية هو مشركوا قريش وتأويلها هو الناكثون في عهد الإمام
1. نور الثقلين : 2/483 ، ح 22.
2. الرعد : 7.
3. نور الثقلين : 2/482.
4. نور الثقلين : 2/485.
5. التوبة : 12.


(749)
علي ( عليه السَّلام ) ، ولذلك يقول في حقّهم : « والذي فلق الجنة وبرأ النسمة واصطفى محمّداً بالنبوّة إنّهم لأصحاب هذه الآية ، وما قوتلوا منذ نزلت ». (1)
    ومن العجب أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو الذي سمّى هذا النوع من القتال ـ حسب ما ورد في الرواية ـ تأويلاً في مقابل التنزيل ، فقال مخاطباً عليّاً ( عليه السَّلام ) : « تقاتل على تأويل القرآن كما قاتلتَ معي على تنزيله ، ثمّ تُقْتَل شهيداً تخضبّ لحيتُك من دم رأسك ». (2)
    فهذا هو عمّار قاتل في صفّين مرتجزاً بقوله :
    نحن ضربناكم على تنزيله فاليوم نضربكم على تأويله (3)
    فوصف جهاده في صفين مع القاسطين تأويلاً للقرآن الكريم.
    الجري والتطبيق هو التأويل في مقابل التنزيل
    إنّ القرآن الكريم ليس كتاباً طائفياً ، بل هو كتاب عالمي نزل لهداية الناس عبر القرون ، ومع ذلك نرى أنّ قسماً كبيراً من الآيات القرآنية فسّرت بأئمّة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) حتّى أنّ قوله سبحانه : ( إِهْدِنَا الصِّراط المُسْتَقيم ) في سورة الفاتحة فسر بصراط النبيّ والأئمّة القائمين مقامه.
    وهناك من يجهل أهداف هذه الروايات وكيفية تفسيرها للآيات فينسب الشيعة إلى الطائفية. (4)
1. نور الثقلين : 2/189 ؛ البرهان في تفسير القرآن : 2/106.
2. بحارالأنوار : 40/1 ، الباب 91.
3. الاستيعاب : 2/472 ، المطبوع في حاشية الإصابة ؛ مجمع البيان : 1/28.
4. انظر نظرية الإمامة عند الشيعة الاثنا عشرية : 504.


(750)
    غير أنّ هذه التفاسير تأويل للقرآن بمعنى بيان مصاديقها الواضحة ومعالمها الوسطى ولا تعني اختصاص الآية بهم ، وهذا ما يسمّيه سيد المحقّقين العلاّمة الطباطبائي بالجري والتطبيق.
    وهذا هو المراد من أنّ للقرآن بطناً أو بطوناً يقول الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) : « ظهره تنزيله وبطنه تأويله ، ومنه ما مضى ومنه ما لم يجئ بعد ، يجري كما تجري الشمس والقمر ». (1)
نحمده سبحانه ونشكره على توفيقه لهذا العبد لتحرير هذه المحاضرات
التي ألقاها شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ في مباحث الألفاظ
و قد لاح بدر تمام هذا الجزء في الثامن من شهر
ذي القعدة الحرام من شهور عام 1417 هـ
وأرجو من اللّه سبحانه أن يجعل جهدي
ذخراً لآخرتي وسعيي سبباً لنيل رضاه ،
فإنّ ما في الكون يفنى سوى ما كان للّه ، يقول الشاعر :
تأمل في الوجود بعين فكر ومن فيها جميعاً سوف يُفنى ترى الدنيا الدنيّة كالخيال ويبقى وجه ربّك ذو الجلال (2)
أنا الراجي
محمد حسين الحاج العاملي
عامله اللّه بلطفه الخفي

1. مرآة الأنوار : 4.
2. البيتان لمحمد بن أحمد بن عبد اللّه ( المتوفّى 988 هـ ) كما في نفح الطيب : 1/120.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس