إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: 31 ـ 45
(31)
وإنّما يستحق اللوم والذم.
    وبعبارة أُخرى : ليس هناك قبح فعلي ، ولو كان هناك قبح ، فإنّما يرجع إلى الفاعل.
    3. القول بهما إلا إذا اعتقد تحريم واجب غير مشروط بقصد القربة فلا يبعد عدم استحقاق العقاب ومرجعه إلى القول الأوّل غاية الأمر تتدارك الجهة القبيحة ، بالجهة المحسِّنة الواقعية. وهو خيرة صاحب الفصول.
    واستدلّ القائل بالقبح أو الحرمة بالإجماع تارة ، وبناء العقلاء أُخرى ، ودليل العقل ثالثاً.
    أقول : إنّ الإجماع على فرض ثبوته لا يحتجّ به في مثل تلك المسألة ممّا للعقل إليه سبيل لاحتمال اعتماد المجمعين على حكم العقل ، فيكون الإجماع مدركيّاً لا يحتجّ إلا بالمدرك لا بالإجماع.
    على أنّ الإجماع مخدوش كما يظهر من التذكرة في من أخّر الصلاة مع ظنّ ضيق الوقت ثمّ بان بقاؤه ، فقال العلاّمة في التذكرة بعدم العقاب ، وحكي عن المفاتيح أيضاً.
    نعم أفتوا بحرمة سلوك طريق محظور ، لأجل انّ الخوف هو موضوع الحرمة لا الخطر الواقعي.
    وأمّا بناء العقلاء فلا يتجاوز عن ذم المرتكب ولومه لا عقابه ، وبقي الدليل الثالث أي العقلي فنقول :
    قرّر الدليل العقلي بوجوه :
    الأوّل : ما نقله الشيخ في فرائده ، وحاصله : إذا فرضنا انّ اثنين قصدا شرب الخمر ، فصادف أحدهما الواقع دون الآخر ، فإمّا أن نقول بصحّة عقوبتهما معاً ، أو


(32)
عدم عقوبتهما كذلك ، أو عقوبة المخطئ دون المصيب أو بالعكس; والأوّل هو المطلوب ، والثاني والثالث خلاف المتفق عليه ، وأمّا الرابع فيلزم أن يكون العقاب والثواب منوطين بأمر خارج عن الاختيار.
    أقول : نحن نختار الشقّ الرابع وهو عقاب المصيب دون المخطئ ، ولكن القبيح هو إناطة العقاب بأمر خارج عن الاختيار ، وأمّا إناطة عدم العقاب بأمر خارج عن الاختيار فليس بقبيح كما أوضحه الشيخ الأنصاري ، والحاصل نعاقب المصيب لأنّه شرب الخمر عن اختيار ، كما شربها في حالة الانفراد ، ولا نعاقب المخطئ لأنّه لم يشرب وإن كان عن لا اختيار. وبعبارة أُخرى : تحقّق سبب الاستحقاق في المصيب وهو مخالفته عن عمد ، وعدمه في الثاني ولو بلا اختيار.
    الثاني : ما ذكره المحقّق الخراساني من شهادة الوجدان بصحّة مؤاخذته وذمّه على تجرّيه وهتك حرمة مولاه وخروجه عن رسم العبودية وكونه بصدد الطغيان والعزم على العصيان ، كما يشهد الوجدان على صحّة مثوبته على قيامه بما هو قضية عبوديته من العزم على موافقة القطع والبناء على طاعته.
    أقول : إنّ موضوع البحث هو مخالفة الحجّة العقلية أو الشرعية لأجل غلبة الهوى على العقل ، والشقاء على السعادة وربّما مع استيلاء الخوف على المرتكب وعروض الارتعاش حينه ، فهل يستحق العقاب أو لا ؟
    وأمّا ضمّ عناوين أُخر إلى ذلك من الهتك والتمرّد ورفع علم الطغيان فكلّها أجنبيّة عن المقام ، ولا شكّ في استحقاق العقاب لو كان عمله مصداقاً للهتك ورمزاً للطغيان وإظهار الجرأة ، إلى غير ذلك من العناوين القبيحة.
    والحاصل : انّ الإنسان ربما يرتكب ما يقطع بحرمته لا لأجل الطغيان وإظهار الجرأة وهتك الستر ، بل لما ورد في دعاء أبي حمزة الثمالي الذي علمه إيّاه الإمام السجاد ( عليه السَّلام ) حيث قال في مقطع من مناجاته معلّماً للداعي :


(33)
    « إلهي لم أعصك حين عصيتُك وأنا بربوبيّتك جاحد ، ولا بأمرك مستخف ، ولا لعقوبتك متعرض ، ولا لوعيدك متهاون ، لكن خطيئة عرضت وسوّلت لي نفسي وغلبني هواي ، وأعانني عليها شقوتي ، وغرّني سترك المرخى عليّ ».
    أضف إلى ذلك انّه يستلزم تعدّد العقاب عند الإصابة لموجبين : أحدهما : العصيان ، والثاني : العنوان المشترك ( كالتمرّد والهتك و ... ) ؛ فقد اتفقوا على أنّ مجرّد مخالفة أمر المولى بلا عذر ( العصيان ) بأيّ داع كان مستلزم للعقوبة ، فإذا ضمّ إليه العنوان المشترك بينه وبين التجرّي يلزم تعدّد العقاب.
    ثمّ إنّ صاحب الفصول تفصّى عن الإشكال بتداخل العقابين ، ومن المعلوم انّه لا يسمن ولا يغني من جوع ، لأنّه إن أراد من التداخل وحدة العقاب فيكون ترجيحاً بلا مرجح ، وإن أراد كثرة العقاب فليس تداخلاً.
    الثالث : ما هو الملاك للعقاب في المعصية ؟ فهناك احتمالات :
    1. ذات المخالفة للأمر والنهي.
    2. تفويت غرض المولى.
    3. ارتكاب مبغوض المولى.
    4. كونه هتكاً لحرمة المولى وجرأة عليه وإن شئت قلت : المخالفة الاعتقادية.
    ولا تصلح الثلاثة الأُولى ملاكاً للعقاب ، لوجودها في الجاهل المعذور إذا خالف ، فتعيّن الرابع ، وهو مشترك بين المعصية والتجرّي. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ الملاك للعقاب في المعصية أمر خامس غير موجود لا في المخالفة عن جهل ، ولا في التجري وهو مخالفة أمر المولى واقعاً عن عمد بلا عذر وهو مختص بالعصيان ، وأمّا غيرهما فالجزء الأوّل أي المخالفة في التجرّي غير
1. لمحقّق الاصفهاني : نهاية الدراية : 2/8.

(34)
موجود ، والمخالفة للواقع وإن كانت موجودة في المعذور ، لكن القيد الثاني ( بلا عذر ) منتف.
    الرابع : ما نقله المحقّق النائيني في كلام مبسوط حاصله : انّ المناط في حكم العقل باستحقاق العقاب هو جهة البغض الفاعلي وحيثيّة صدور الفعل الذي يعلم بكونه مبغوضاً للمولى من دون دخل للواقع ، فانّ الإرادة الواقعية ممّا لا أثر لها عند العقل إلا بعد الوجود العلمي ، وهذا المعنى مشترك بين العاصي والمتجري.
    وإن شئت قلت : إنّ المناط عند العقل في استحقاق العقاب هو البغض الفاعلي الناشئ عن العلم بالمخالفة والمعصية ، وهذا بعد ما كان العلم من باب الطاعة والمعصية موضوعاً عند العقل واضح. (1)
    يلاحظ عليه بأمرين :
    1. بعد تسليم كون مناط العقاب هو البغض الفاعلي ، انّ الملاك هو البغض الفاعلي المتولد من القبح الفعلي وهذا يختص بالمعصية ، وأمّا التجرّي ، فالقبح الفاعلي هناك متولد من سوء السريرة وخبث الباطن أو غلبة الهوى على العقل ، والشقاء على خلافه لا من القبح الفعلي.
    2. إنّ الهدف من إثبات قبح إرادة المعصية ، هو إثبات حرمته ليترتب عليه العقاب ، ولكن المحاولة فاشلة ، لأنّه ليس كلّ حسن ملازماً للحكم بالوجوب ، ولا كلّ قبيح ملازماً للحرمة ، إلا إذا تعلّق بمبادئ الأحكام وعللها وموضوعاتها كردّ الأمانة أو الخيانة بها ، فيكشف كلّ من الحسن والقبح عن وجوب الأوّل وحرمة الثاني ، وأمّا إذا تعلّق بمعاليل الأحكام كالطاعة والمعصية ، فانّ حسن الأوّل وقبح الثاني لا يكشفان عن حكم شرعي ، وإلا يلزم عدم انتهاء الأحكام إلى حدّ وتسلسل العقوبات ، وذلك لأنّ الطاعة والمعصية لا يتحقّقان إلا إذا سبق عليهما
1. الكاظمي : فوائد الأُصول : 3/48.

(35)
حكم شرعي ، حتى يقال بحسن طاعته وقبح عصيانه ، فلو كشف الحكم بحسن طاعة ذلك الحكم ، وقبح عصيانه ، عن حكم شرعي ثالث يستقل العقل بحسنه وطاعته لتسلسل الأحكام والعقوبات وهو خلاف الوجدان والضرورة.
    ومنه تظهر الحال في إرادة المعصية والطاعة ، فلو افترضنا حسن الأُولى وقبح الثانية فلا يكشفان عن حكم شرعي حتى تترتب عليه المخالفة والموافقة وبالتالي : المثوبة والعقوبة فالكلّ خارج عن حريم الملازمة كما لا يخفى.
    تمّ الكلام في المقام الأوّل ، وإليك الكلام في المقام الثاني.
    المقام الثاني : في حكم المتجرّى به
    الفرق بين التجرّي ، والمتجرّى به واضح ، فانّ الأوّل فعل للعبد ينتزع من مخالفة المكلّف الحجّة العقلية والشرعية بخلاف الثاني فانّه عبارة عن نفس العمل الخارجي كشرب الماء الذي تتحقق به مخالفة الحجّة.
    ثمّ الكلام فيه تارة من حيث القبح ، وأُخرى من وجه الحرمة الشرعية.
    فقد استدل المحقّق الخراساني على عدم قبحه بوجوه ثلاثة :
    1. انّ القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه والاعتبارات التي بها يصير الشيء حسناً وقبيحاً ولا ملاكاً للمحبوبية والمبغوضية ، فقتل ابن المولى مبغوض وإن قتله بعنوان انّه عدوه ، وقتل عدوّه حسن وإن قتله بعنوان انّه ابنه.
    2. انّ الفعل المتجرّى به بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختيارياً ، فانّ القاطع لا يقصده إلا بما قطع انّه عليه من العنوان الواقعي الاستقلالي لا بعنوانه الطارئ الأوّلي بل يكون غالباً بهذا العنوان ممّا لا يلتفت إليه. (1)
1. كفاية الأُصول : 2/13.

(36)
    3. انّ المتجرّي قد لا يصدر عنه فعل إختياري أصلاً ، فمن شرب الماء باعتقاد الخمرية لم يصدر منه ما قصده وما صدر منه لم يقصده بل ولم يخطر بباله. (1)
    يلاحظ على الأوّل : أنّ العنوان المقبح في كلامهم ليس هو القطع بالقبح بل الجرأة والتمرد والطغيان أو الهتك والظلم ولا شكّ انّـها من العناوين المقبحة ، ومنه يظهر حال الوجه الثاني فانّه مبني على كون العنوان القبيح هو القطع ومضافاً إلى ما في إنكار كون القطع مورداً للالتفات إجمالاً ، فانّ الالتفات إجمالاً إلى العلم ممّا لا ينكر.
    ويلاحظ على الثالث انّه يكفي في صدور الفعل الاختياري ، كون الجامع بين الخمر والماء مورداً للالتفات وهو شرب المائع ، فكيف يقال انّه لم يصدر منه ، ولذلك يبطل صومه بشرب ما قطع كونه خمراً وهو ماء.
    ومع ذلك كلّه ، فالحقّ مع المحقّق الخراساني انّ الفعل المتجرّى به باق على ما هو عليه ، لأنّ العناوين المقبحة لا تتجاوز عن خمسة : ثلاثة منها قائمة بالجنان ، كالجرأة ، والعزم على المعصية والطغيان ، وقبحها لا يسري إلى الفعل لكونها من الأُمور القلبية والفعل كاشف عنها ؛ واثنان منها الظلم والهتك وإن كانا قائمين بالفعل لكنّهما يختصان بالمعصية فالظلم على المولى بنقض قانونه ، والمفروض عدمه مثله والهتك بمعنى خرق الستر فانّه من خصائص المعاصي.
    في حرمة الفعل المتجرّى به
    قد عرفت أنّ الفعل المتجرّى به باق على ما كان عليه من الحسن والقبح إنّما الكلام في حرمته شرعاً لا باستكشاف حرمته من قبحه ، لما عرفت من عدم قبحه بل بوجهين تاليين :
1. تعليقة المحقّق الخراساني على الفرائد : 13.

(37)
    1. ادعاء شمول الخطابات الأوّلية له ( حرمته بالعنوان الأوّلي )
    يمكن أن يقال : انّ متعلّق الخطابات الأوّلية ليس هو شرب الخمر الواقعي ، بل القدر الجامع بين مصادفة القطع للواقع ، ومخالفته له ، بأن يقال : انّ الحرام تحريك العضلات نحو شرب ما أحرز انّه خمر ، فيكون المتجرّي عاصياً حقيقة.
    والدليل عليه : انّ متعلّق التكليف يجب أن يكون مقدوراً وليست المصادفة والمخالفة الواقعيتين تحت الاختيار حتى يتعلق التكليف بالمصادف دون المخالف ، فيجب أن يكون متعلّقه إرادة ما أحرز انّه من مصاديق الموضوع إذ هو الفعل الاختياري ، فتكون نسبته إلى المطابق والمخالف على حدّ سواء. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ الأحكام تتعلّق بما تشمل على المصالح والمفاسد ، ولا شكّ انّ المفسدة قائمة بشرب الخمر بما هو هو سواء كان عالماً أو جاهلاً غير انّ الحكم الشرعي لا يتنجز إلا بالعلم ، فإذا كان كذلك ، فالخطابات الأوّلية لا تعمّ إلا شرب الخمر الواقعي ، لا شرب ما أحرز انّه خمر ، وإلا يلزم تعلّق الأحكام بالأوسع ممّا قام به الملاك.
    وأمّا كون الإصابة وعدمها خارجتين عن الاختيار ، فقد عرفت أنّ الأُولى داخلة تحته ، نعم الخطاء وعدم الإصابة خارج عنه ، فلو قصد شخصان قتل إنسان فأطلقوا الرصاص فأصاب أحدهما دون الآخر ، يعاقب الأوّل لأجل قيامه بالفعل الاختياري من قتل إنسان بريء.
    هذا كلّه حول حرمته حسب العنوان الأوّلي. بقي الكلام في حرمته بالعنوان الثانوي.
1. فوائد الأُصول : 2/37 ـ 38.

(38)
    2. حرمته بالعنوان الثانوي
    قد عرفت أنّ ادّعاء شمول الإطلاقات للفعل المتجرّى به في غاية الضعف ، ومثله القول بحرمته لأجل العناوين الثانوية كالجرأة والطغيان والتمرّد ، والظلم والهتك ، فانّ الثلاثة من الأُمور النفسانية غير القائمة بنفس الفعل ، كما مرّ سابقاً ، وأمّا الظلم على المولى فرع نقض القانون وهو يختص بالعاصي ، وأمّا الهتك فهو فرع التظاهر بالعمل والمفروض في المقام غيره ، بل البحث مركز على مخالفة الحجّة وإن كان في خفاء مع الخوف والوجل.
    وبذلك يعلم حال الفعل المنقاد به ، فلا يوصف بالحسن ، كما إذا جامع امرأة أجنبية بزعم انّها زوجته قضاء للواجب في كلّ أربعة أشهر ، فالفعل باق على قبحه ، نعم يفارق الانقياد عن التجرّي بورود الدليل على ترتب الثواب على الأوّل ، دون العقاب على التجرّي.

    أسئلة ثلاثة وأجوبتها
    السؤال الأوّل : حكم التجرّي في الآيات والروايات

    إذا لم يكن في مورد التجرّي قبح فعلي وبالتالي لم يكن أي عقاب ، فما معنى ما دلّ من الآيات والروايات على ثبوت العقاب لنية العصيان بالدلالة المطابقية أو الالتزامية.
    الجواب : لا دلالة لما استدل به من الأدلّة على المدّعى ، وإليك دراسة الآيات أوّلاً ، ثمّ الروايات ثانياً.
    الف. قوله سبحانه : ( وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ


(39)
فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاء ). (1)
    والجواب بوجهين : أوّلاً : انّ الآية كبرى كلية لما مرّفي الآية المتقدمة ، أعني : قوله سبحانه : ( وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادة وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ). (2) ممّا يجب إظهارها ويحرم كتمانها وليست نية المعصية من مصاديق هذه المقولة ممّا يجب إظهارها ويحرم كتمانها.
    وثانياً : انّ القدر المتيقن من الآية ، الأُمور التي لها رسوخ في النفس كالإيمان والكفر ، والملكات الفاضلة أو الرذيلة ، ولا تعم الأُمور الآنيّة كنية العصيان التي تأتي وتزول.
    2. قوله سبحانه : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسئُولاً ). (3)
    يلاحظ على الاستدلال : أنّ ظاهرها انّ لكلّ من السمع والبصر والفؤاد وظائف وأحكاماً يكون كلّ منها مسؤولاً عنها ، وهذه الضابطة أمر مسلم ، انّما الكلام في الصغرى وهي هل الفؤاد مسؤول عن حرمة نيّة المعصية إذا نواها وإن لم يرتكبها ؟ فلم يدلّ دليل عليه.
    والحاصل : انّ الكبرى لا تدل على الصغرى أي كون الفؤاد مسؤولاً عنه لا يدل على أنّه يسأل حتّى عن نيّة المعصية ، نعم هو مسؤول عن الإيمان والكفر والنفاق وغيرها ممّا دلّ الدليل القطعي على أنّها من وظائفه ، نعم لو ثبت انّ الفؤاد مسؤول عن كلّ ما يرجع إليه ، يكون هذا دليلاً على حرمة نيّة الجرأة.
    3. ( لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ
1. البقرة : 284.
2. البقرة : 283.
3. الاسراء : 36.


(40)
قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَليمٌ ). (1)
    وكيفية الاستدلال واضحة :
    والجواب انّ المراد من قوله : ( بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) بقرينة مقابلته لقوله : ( باللّغو في أيمانِكُم ) هو اليمين التي يحلف بها الإنسان عن عقد القلب وقصد منه ، وأين هو من المؤاخذة على كلّ عمل قلبي. وحاصل الآية : انّ ما يحلف به الإنسان جرياً على عادته من قوله : « واللّه » ، « بلى واللّه » لا يؤخذ به ، بل يؤخذ على كلّ يمين كان للقلب والشعور تأثير فيه وهو الأيمان الجدية.
    4. ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الدُّنْيا وَالآخِرَة وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون ). (2)
    ترى أنّه سبحانه أوعد بالعذاب على من أحبّ شيوع الفاحشة في الّذين آمنوا وهو أمر قلبي.
    يلاحظ على الاستدلال : أنّ حبّ شيوع الفاحشة من المعاصي الموبقة كما سيوافيك إن شاء اللّه عند البحث في الروايات ، فانّ هناك أعمالاً قلبية محرمة كالرضا بمعصية الغير ، وأين هو من النية العارية بالنسبة إلى فعل الناوي ؟!
    أضف إلى ذلك انّ الحب في الآية قد اقترن بالعمل ، لأنّها نزلت في حقّ عبد اللّه بن أُبيّ الّذي قام بقذف الأبرياء بالفحشاء والمنكر ، والمورد يصلح للقرينية ، فلا يمكن التمسك بالإطلاق حتى لمن أحبّ شيوع الفاحشة عارياً عن العمل.
    5. قوله سبحانه : ( تِلْكَ الدّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَساداً وَالعاقِبَةُ لِلْمُتَّقين ). (3)
1. البقرة : 225.
2. النور : 19.
3. القصص : 83.


(41)
    إنّ الاستدلال بالآية ضعيف ، لأنّها وردت في شأن قارون وقد أراد علواً في الأرض وفساداً من وراء أعماله الموبقة.
    وبعبارة أُخرى : انّ المراد من عدم إرادة العلو ، هو عدم بغيه عملاً ، وعدم طلبه خارجاً فأطلقت الإرادة ، وأُريد منها عدم تحقّق المراد.
    هذا كلّه حول الآيات ، وأمّا الروايات فهي على صنفين : صنف منها يدل بظاهره البدئي على ترتب العقاب على مجرد نيّة العصيان ، وصنف آخر يدل على خلافه ، وإليك الكلام في كلا الصنفين :
    الصنف الأوّل : ما يدل على ترتّب العقاب
    1. حشر الناس على نياتهم
    عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) قال : « إنّ اللّه يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة ». (1)
    والحديث وإن كان بظاهره دليلاً على المطلوب ، ولكنّه يفسّره حديث آخر عن رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : « في حديث انّما الأعمال بالنيّات ، ولكلّ امرئ ما نوى ، فمن غزا ابتغاء ما عند اللّه فقد وقع أجره على اللّه عزّوجلّ ، ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالاً لم يكن له إلاما نوى ». (2)
    والحديث المفسِر ( بالكسر ) والمفسَر ( بالفتح ) وإن كانا ضعيفي السند ، لكن الثاني يرفع الستار عن وجه الأوّل ، وانّ المراد من حشر الناس على نياتهم هو حشرهم على نيّاتهم الخالصة أو المشوبة بالرياء ، فأين هذا من المطلوب ؟!
1. الوسائل : الجزء 1 ، الباب5 ، من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث 5.
2. المصدر السابق : الحديث 10.


(42)
    2. جمع الناس بالرضا والسخط
    ما روي عن أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) ، انّه قال : « أيّها النّاس إنّما يجمع الناس الرضا والسخط ، وإنّما عَقَر ناقَة ثمود رجل واحد ، فعمّهم اللّه بالعذاب لما عمّوه بالرضى ، فقال سبحانه : ( فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمين ) (1) ». (2)
    ما روي عنه ( عليه السَّلام ) : « الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم ، وعلى كلّ داخل في باطل إثمان : إثم العمل به ، وإثم الرضا به ». (3)
    يلاحظ على الاستدلال : أنّ الرضا بصدور المعصية عن الغير من المعاصي الكبيرة وليست من التجرّي ، نظير ذلك حبّ شيوع الفاحشة بين الناس كما جاءت في الآية المباركة : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَليم ). (4)
    فإنّ نفس الحب معصية قلبية كالكفر والنفاق وغير ذلك ، وهذه الروايات الأربع لا دلالة لها على مقصود المستدل.
    3. نيّة الكافر شرّ من عمله
    روى السكوني عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) أنّه قال : « قال رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : نيّة المؤمن خير من عمله ، ونيّة الكافر شرٌّ من عمله ، وكلّ عامل يعمل على نيّته ». (5)
1. الشعراء : 157.
2. نهج البلاغة : الخطبة 221.
3. المصدر نفسه ، قسم الحكم ، الرقم 154.
4. النور : 19.
5. الوسائل : 1 ، الباب 6 من أبواب مقدمات العبادات ، الحديث 3 ؛ ولعلّه متحد مع الحديث 22 في هذا الباب.


(43)
    يلاحظ عليه بأمرين :
    أ. انّ المضمون غريب ، إذ كيف تكون نية المؤمن العارية عن العمل ، خير من عمله ، ومثله نيّة الكافر مع أنّ العمل أفضل من النيّة العارية للمؤمن وعلى العكس في الكافر ، والغرابة في المضمون تعدّ من مضعفات الاحتجاج بالرواية المذكورة.
    ب. انّ الحديث وُجِّه في بعض الروايات بوجهين :
    فتارة : فسر « الخير » في الحديث بالكثرة ، بمعنى انّ نية المؤمن أكثر وأوسع من عمله كما انّ نية الكافر أكثر وأوسع من عمله ، فالمؤمن يبغي الخير الكثير ولا ينال إلا القليل كما انّ الكافر يبغي الشر الكثير ولا ينال إلا القليل لضيق قدرته. وقد روى الحسن بن حسين الأنصاري ، عن بعض رجاله ، عن أبي جعفر ( عليه السَّلام ) أنّه كان يقول :
    « نيّة المؤمن أفضل من عمله ذلك لأنّه ينوي من الخير مالا يدركه ، ونيّة الكافر شرٌّ من عمله وذلك لأنّ الكافر ينوي الشر ويأمل من الشر مالا يدركه ». (1)
    وأُخرى : بأنّ نيّة المؤمن بعيدة عن الرياء دون عمله ، فقد روى زيد الشحام ، قال : قلت لأبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) : إنّي سمعتك تقول : نيّة المؤمن خير من عمله فكيف تكون النية خيراً من العمل ؟ قال : « لأنّ العمل ربما كان رياء للمخلوقين والنية خالصةً لربِّ العالمين ، فيعطي عزّ وَجَلّ على النية مالا يعطي على العمل ». (2)
    والتوجيه يختص بنيّة المؤمن ويبقى الإشكال في نية الكافر على حاله.
1. الوسائل : 1 ، الباب 6 من أبواب مقدّمات العبادات ، الحديث 17.
2. المصدر السابق ، الحديث 15.


(44)
    وحاصل الكلام : انّ الحديث مشتمل على مضمون غريب أوّلاً ، وانّ الخير والشر فُسِّرا بالكمية تارة ، أو بالابتعاد عن الرياء أُخرى ، وأين هذا من كون النية المجردة حراماً ؟!
    4. خلود أهل النار لأجل النية
    روى أبو هاشم المدني قال : قال أبو عبد اللّه ( عليه السَّلام ) : « انّما خُلِّد أهل النار في النار ، لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا اللّه أبداً ؛ وإنّما خُلِّد أهل الجنة في الجنة ، لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا ، أن لوبقوا فيها ، ان يطيعوا اللّه أبداً ؛ فبالنيات خُلِّد هؤلاء وهؤلاء ، ثمّ تلا قوله تعالى : ( قُلْ كُلٌّ يعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ ) (1) قال : على نيّته ». (2)
    ولا يخفى وجود الغرابة في مضمون الحديث ، إذ ليس كلّ مؤمن ولا كافر على النحو الذي وصف في الرواية ، على أنّ الحديث ضعيف بالحسين بن أحمد المنقري ، وأحمد بن يونس ، فكيف يحتجّ بحديث غريب في المضمون محكي بالضعاف ؟!
    وأمّا وجه خلودهم في الجنّة ، فقد أوضحنا ذلك في كتاب الإلهيات. (3)
    5. يكتب في حال المرض ما عمل في حال الصحّة
    روى جابر ، عن أبي جعفر قال : قال لي : « يا جابر : يكتب للمؤمن في سقمه من العمل الصحيح ما كان يكتب في صحّته ، ويكتب للكافر في سقمه من
1. الإسراء : 84.
2. الوسائل : الجزء 1 ، الباب 6 من أبواب مقدّمات العبادات ، الحديث4.
3. تلخيص الإلهيات : 671.


(45)
العمل السيّئ ما كان يكتب في صحّته ».
    ثمّ قال : « يا جابر ما أشدّهذا من حديث ». (1)
    والحديث ضعيف جّداً لما اشتمل على مجاهيل في السند. أضف إلى ذلك انّه يحتمل أن يكون الحديث ناظراً إلى الأعمال الصالحة التي يقوم بها المؤمن كبناء المسجد فمادام المسجد باقياً ومأوى للمصلين يصل ثوابه إلى المؤمن وإن كان طريح الفراش ، ومثله في الكافر إذا أسس سنة سيئة ، والقرينة على هذا التفسير هي كلمة « العمل الصالح والعمل السيّئ » فقد ورد عن رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال : « إذا مات الإنسان انقطع عمله إلامن ثلاث : علم ينتفع به ، أو صدقة تجرى له ، أو ولد صالح يدعو له ». (2)
    وهذا الخبر وما تقدمه لا يحتج بهما لغرابة متنهما أو ضعف سندهما مضافاً إلى ما عرفت من المناقشة في الدلالة.
    الصنف الثاني : ما يدل على عدم الحرمة
    تضافرت الروايات على أنّ من ألطافه سبحانه على عباده هو انّه يُجزي علينية العمل الصالح وإن لم يفعله المؤمن ، ولا يُجزي على نية العمل السيّئ مالميرتكبه ، وإليك شيئاًمن تلك الروايات ، ونشير في الهامش إلى محال مالم نذكره.
    روى الكليني عن زرارة ، عن أحدهما عليهما السَّلام ، قال : « إنّ اللّه تبارك وتعالى جعل لآدم في ذريته انّ من همَّ بحسنة فلم يعملها كتب له حسنة ، ومن همّ بحسنة وعملها كتبت له عشراً ;و من همّ بسيئة لم تكتب عليه ، ومن همّ بها وعملها كتبت
1. الوسائل : الجزء 1 ، الباب 7 من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث 5.
2. بحار الأنوار : 2/23.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: فهرس