إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: 451 ـ 465
(451)
    والجواب : إذا كان التكليف واحداً مردداً بين المحذورين ، كحكم العبادة في أيّام الاستظهار ، أو تردد الرجل بين كونه مؤمناً أو محارباً ـ يجب قتله ـ يكون من قبيل دوران الأمر بين المحذورين من قسم الشكّ في التكليف ; بخلاف ما إذا كان التكليف متعدداً واشتبه موضوعهما ، كما إذا علم انّ واحدة من الصلاتين واجبة والأُخرى محرمة وتردد أمرهما بين الظهر والجمعة.
    وإن شئت قلت : إنّ نوع التكليف مجهول في الأوّل دون الآخر ، فالنوع معلوم وهو انّ هنا واجباً ومحرماً غير انّ الموضوع مردّد بين الجمعة والظهر ، يجمعها ، عدم إمكان الموافقة القطعية.
    3. إذا كان نوع التكليف مجهولاً ؛ فتارة يكون المورد من قبيل التوصليات ، كتردد الإنسان بين كونه محقون الدم أو واجب القتل ؛ وأُخرى يكون من قبيل التعبديات ، كحكم العبادة في أيّام الاستظهار ، فلو كانت حائضاً فالعبادة محرمة توصلية ، وأمّا إذا كانت طاهراً من الحيض ، فالعبادة واجبة تعبدياً ، فأحد الحكمين على فرض ثبوته تعبدي.
    4. الميزان في جريان أصالة التخيير ـ كما سيوافيك ـ امتناع الموافقة القطعية سواء كانت المخالفة القطعية أيضاً ممتنعة كما في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة وكانت الواقعة واحدة ، كشرب مائع مردّد بين الحلف على فعله أو تركه في ليلة معينة ؛ أو كانت ممكنة ، كتردده بينهما مع تعدد الواقعة كلّ ليلة جمعة إلى شهر.
    5. التقسيم الصحيح في بيان مجاري الأُصول هو ما ذكرنا سابقاً ، من أنّ الشكّ أن يكون فيه اليقين السابق ملحوظاً أو لا.
    والأوّل مورد الاستصحاب. والثاني إمّا أن يكون الاحتياط بمعنى الموافقة القطعية ممكنة أو لا ؛ والثاني مجرى التخيير ، والأوّل إمّا أن يدل دليل عقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول أو لا يدل ، والأوّل مورد الاحتياط ، والثاني


(452)
مورد البراءة. (1)
    إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ الكلام يقع في مقامات ثلاثة :
    أ : دوران الأمر بين المحذورين مع الشكّ في نوع التكليف التوصلي.
    ب : دوران الأمر بين المحذورين مع الشكّ في نوع التكليف التعبدي.
    ج : دوران الأمر بين المحذورين مع الشكّ في المكلّف به.
    وإليك الكلام في واحد بعد آخر.

    المقام الأوّل : إذا كان نوع التكليف مجهولاً مع كون الحكم توصلياً
    إذا دار أمر التكليف بين المحذورين ، كما إذا علم إجمالاً بوجوب قتل إنسان ، أو حرمته. ومنشأ التردد كونه مجهول الهوية ، فهو دائر بين كونه مؤمناً أو محارباً. فعلى الأوّل يحرم قتله ، وعلى الثاني يجب ، لأنّ أمر الحد دائر بين الحرمة والوجوب ولكن الحكم الواقعي الأعم من الوجوب والحرمة على فرض ثبوته ، توصلّي.
    لا شكّ انّ المخالفة والموافقة القطعيتين غير ممكنة لكن يقع الكلام في كون المقام محكوماً بحكم ظاهريّ أو لا ، فقد ذكر المحقّق الخراساني وجوهاً خمسة :
    1. جريان الأُصول النافية كالبراءة العقلية والنقلية دون المثبتة كأصالة الإباحة.
    2. وجوب الأخذ بأحدهما تعييناً وهو الحرمة.
    3. وجوب الأخذ بأحدهما تخييراً.
    4. ليس المورد محكوماً بحكم ظاهريّ من النافي والمثبت ويكفي كون
1. فرائد الأُصول : 192.

(453)
الإنسان مخيراً تكويناً وهو خيرة المحقّق النائيني.
    5. الحكم بالتخيير عقلاً ، مع جريان الأُصول المثبتة كالإباحة دون النافية على خلاف القول الأوّل وهو مختار المحقّق الخراساني.
    6. جريان جميع الأُصول النافية دون المثبتة كأصالة الإباحة وهو المختار ، فلنأخذ كلّ واحد من الأقوال بالبحث.

    الأوّل : جريان البراءة العقلية والشرعية
    ذهب هذا القائل إلى أنّ الحكم الظاهري الذي يجب التعبد به هو البراءة العقلية أوّلاً ، والشرعية ثانياً.
    أمّا الأوّل : فلأنّ كلاً من الوجوب والحرمة مجهولان ، فيقبح المؤاخذة عليهما.
    وأمّا الثاني : فلعموم قوله : « رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون » وشموله للمقام.
    وقد أورد المحقّق الخراساني على القول بجريان البراءة العقلية ، بأنّه لا مجال لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فانّه لا قصور فيه هاهنا ، وإنّما يكون عدم تنجز التكليف لعدم التمكن من الموافقة القطعية كمخالفتها.
    يلاحظ عليه : أنّ المراد من البيان ، هو ما يكون باعثاً أو زاجراً ويخرج المكلّف من الحيرة فيجنح إلى الفعل ، أو إلى الترك والخطاب المردد بين « افعل » و « لا تفعل » فاقد لهذه الخصوصية.
    كما أورد عليه المحقّق النائيني بأنّ مدرك البراءة العقلية هو قبح العقاب بلا بيان وفي باب دوران الأمر بين المحذورين يقطع بعدم العقاب ، لأنّ وجود العلم الإجمالي كعدمه لا يقتضي التنجز والتأثير ، فالقطع بالمؤمن حاصل بنفسه بلا حاجة إلى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان. (1)
1. الفوائد : 3/448.

(454)
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره إنّما يتم بالنسبة إلى الحكم الواقعي ، لأنّ العلم الإجمالي في المقام لا يكون منجّزاً له. ولكن هنا احتمالاً آخر ، وهو احتمال لزوم التعبّد في الظاهر بأحد الحكمين تعييناً أو تخييراً ، كما اختاره بعضهم ، فالغاية من البراءة العقلية هو رفع هذا الاحتمال ، ببيان انّ لزوم الأخذ به احتمال لم يقم عليه دليل ، فالعقاب عليه ، عقاب بلا بيان ، وبذلك بان عدم الإشكال في جريان البراءة العقلية.
    وقد أورد قدَّس سرَّه أيضاً على القول بجريان البراءة الشرعية بأنّ مدركها هو قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « رفع عن أُمّتي مالا يعلمون » والرفع فرع الوضع ، وفي موارد دوران الأمر بين المحذورين لا يمكن وضع الوجوب والحرمة كليهما ، لا على سبيل التعيين ـ لاستلزامه التكليـف بغير المقـدور ـ ولا على سبيـل التخيير ـ لكونـه تحصيلاً للحاصل ـ ومع عدم إمكان الوضع لا يعقل تعلّق الرفع ، فأدلّة البراءة الشرعية لا تعم المقام. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ الممتنع هو وضع كلّ في عرض الآخر ، وأمّا وضع كلّ واحد مستقلاً وحده ، بلا نظر إلى وضع الآخر وعدمه ، فأمر ممكن لا مانع من وضعه كما لا مانع من رفعه ، فيشير المكلّف إلى الوجوب وحده ، ويقول : إنّه مشكوك وغير معلوم ، فهو مرفوع ومثله الحرمة.
    وبعبارة أُخرى : انّ المكلّف ينظر إلى الوجوب ويحتمل أن يكون هو الحكم الظاهري الذي يجب الأخذ به ، معيناً أو مخيراً ، فيرفع ذلك الاحتمال ، فيكون أثر الأصل العقلي أو الشرعي رفع لزوم التعبد بأحد الحكمين في الظاهر ، فلا قصور في شمول الدليل ، وأمّا مخالفة النتيجة للعلم الإجمالي بالإلزام ، فسنرجع إليه في المستقبل.
1. الفوائد : 3/448.

(455)
    الثاني : الأخذ بأحدهما تعييناً
    المراد من الأخذ هو الأخذ بجانب الحرمة قائلاً بأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.
    يلاحظ عليه بأمرين :
    1. انّ الضابطة ليست بتامة ، بل ربما يكون جلب المنفعة أولى من دفع المفسدة ، كنجاة النفس المحترمة إذا استلزمت التصرف في مال الغير.
    2. انّ القاعدة فيما إذا علم المكلّف بوجود الملاك في كلا الموردين لا في مثل المقام الذي لم يثبت إلا ملاك واحد في أحد الطرفين.
    وتصور لزوم الأخذ بأحدهما لأجل الموافقة الالتزامية ، مدفوع بأنّ المراد منها هو لزوم الاعتقاد بما جاء به النبي إجمالاً أو تفصيلاً ـ إذا علم ـ لا الأخذ بمحتمل التكليف بجد وحماس ، فانّه أشبه بالتشريع.
    القول الثالث : الأخذ بأحدهما تخييراً
    وحاصل هذا القول : إنّ الحكم الظاهري عبارة عن الحكم بالتخيير الشرعي بين الفعل والترك والفرق بين القول الثاني والثالث واضح بعد اشتراكها في لزوم التعبد بحكم من الحكمين ، غير انّ الأوّل يُلْزم التعبد بأحدهما معيّناً كالقول بأنّ الفعل حرام مثلاً ، وهذا يلزم التعبد بالتخييري الشرعي ، وليس له دليل صالح سوى قياس وجود الاحتمالين بالخبرين المتعارضين ، فانّ المجتهد مخيّر بينهما إمّا من أوّل الأمر ، أو بعد عدم الترجيح المنصوص في أحدهما.
    يلاحظ عليه : أنّه قياس ، لأنّ الحكم بالتخيير فيما إذا كانت هناك حجّتان متعارضتان لا يكون سبباً للحكم به فيما إذا كان هناك احتمالان ، ولعلّ لوجود


(456)
الخبر تأثيراً في الحكم بالتخيير وليس في مقام الاحتمال.
    ثمّ إنّ للمحقّق النائيني إشكالاً على هذا القول ، هذا حاصله :
    إنّ التخيير إمّا شرعي واقعي كخصال الكفارات ، أو شرعي ظاهريّ كالتخيير في باب تعارض الطرق والأمارات ، وإمّا عقلي كالتخيير الذي يحكم به في باب التزاحم. والكلّ في المقام منتف.
    أمّا الشرعي بكلا قسميه ، فانّ الهدف من جعل التخيير هو سوق المكلّف إلى المجعول ، ولكنّه في المقام حاصل تكويناً بلا حاجة إلى جعل التخيير.
    وأمّا العقلي فإنّما يجري فيما إذا كان في طرفي التخيير ملاك يلزم استيفاؤه ولم يتمكن المكلّف من الجمع بين الطرفين كما في موارد التزاحم ، وليس الأمر في المقام كذلك ، لعدم ثبوت الملاك إلا في أحدهما.
    فخرج بهذه النتيجة : انّ التخيير في المقام ، ليس بشرعي ولا عقلي بل تكويني ، حيث إنّ المكلّف لا يخلو من فعل أو ترك ، فأصالة التخيير في المقام ساقطة.
    يلاحظ عليه أوّلا : أنّ التخيير التكويني راجع إلى التخيير في المسألة الفرعية ، فهو مخيّـر بين الفعل والترك تكويناً ، وأمّا التخيير في المقام فهو تخيير شرعي ظاهري ، غايته ، دعوة المجتهد إلى الإفتاء بأحد الوجهين.
    و من ذلك يعلم أنّ ما أفاده من أنّ الغاية من التخيير الشرعي الظاهري هو سوق المكلّف إلى المجعول وهو في المقام حاصل ، ليس بتام بل الغاية منه ، هو دعوة المجتهد إلى الإفتاء بأحد الخبرين ، كما في باب التعارض ، أو أحد الاحتمالين كما في المقام وهو غير التخيير التكويني المجرّد عن الإفتاء بأحد الأمرين.
    وبالجملة التخيير التكويني ، تخيير في المسألة الفرعية ، والتخيير الشرعي


(457)
الظاهري ، تخيير في المسألة الأُصولية.
    وثانياً : أنّ التخيير العقلي ، لا يختص بما إذا كان الملاك موجوداً في كلا الطرفين ، بل يكفي العلم بوجوده في أحدهما أيضاً كما في الواقف بين الطريقين ، ولا يعلم أنّ أيّاً منهما موصل إلى المقصد ، فالعقل يحكم بانتخاب واحد منهما ، إذ فيه احتمال الوصول بنسبة الخمسين بالمائة بخلاف التوقف فانّه غير موصل.
    القول الرابع : التخيير التكويني من دون الالتزام بحكم ظاهري
    قد منع المحقّق النائيني من جريان الأُصول لكن لا بملاك واحد ، بل بملاكات مختلفة فقد عرفت وجه عدم جريان البراءة العقلية ، والشرعية وأصالة التخيير الشرعية.
    لكن بقي الكلام في منعه جريان أصالة الإباحة ، والاستصحاب. أمّا الأُولى فسيوافيك وجه المنع عند بيان القول الخامس ، وأمّا الثاني فقد أفاد في وجه منعه انّ الاستصحاب من الأُصول المتكفلة للتنزيل ، فلا يمكن الجمع بين مؤدّاه والعلم الإجمالي ، فانّ البناء على عدم وجوب الفعل ، وعدم حرمته واقعاً كما هو مفاد الاستصحابين ، لا يجتمع مع العلم بوجوب الفعل أوحرمته سواء لزمت منه المخالفة العملية أو لا.
    يلاحظ عليه : بمثل ما ذكرناه في جريان أصالة البراءة وحاصله : أنّ كلّ استصحاب بشخصه ، لا يخالف العلم الإجمالي ، وكون نتيجة الاستصحابين مخالفة مع العلم الإجمالي لا يكون سبباً لعدم إجراء كلّ واحد في محلّه.
    نعم يلزم من جريان الأصلين ، المخالفة الالتزامية ، وسوف يوافيك الكلام فيه.


(458)
    القول الخامس : التخيير العقلي مع جريان أصالة الإباحة
    والمدّعى مركّب من جزءين ، واستدل على الجزء الأوّل بقوله : « لعدم الترجيح بين الفعل والترك فيستقل العقل بينهما » ، و على الثاني بقوله : وشمول مثل قوله : كلّ شيء حلال حتى تعرف انّه حرام ، ولا مانع عنه عقلاً ونقلاً.
    وأورد عليه المحقّق النائيني بأنّ أصالة الإباحة بمدلولها المطابقيّ تنافي المعلوم بالإجمال ، لأنّ مفاد أصالة الإباحة ، الرخصة في الفعل والترك وذلك يُناقِضُ العلم بالإلزام وهو لا يجتمع مع جعل الإباحة ولو ظاهراً (1).
    الحقّ انّ الإشكال وارد وأمّا الفرق بين البراءة العقلية والشرعية حيث قلنا بجريانهما وأصالة الإباحة حيث منعنا عن جريانها فواضح ، ذلك لأنّ كلّ واحد من البراءتين ، لا يخالف العلم الإجمالي بالإلزام وإنّما المخالف نتيجتهما وهي ليست من مداليل دليل الأصل ، وأمّا أصالة الإباحة فهو بمضمونها المطابقيّة تضاد الإلزام على وجه الإطلاق فالأصل يدعي عدم الخروج عن حدّ الاستواء مع انّا نعلم أنّه خرج عنه وحكم عليه بالإلزام.
    ومن هنا تبين قوة القول السادس ، وهو جريان الأُصول الأربعة : البراءتين والتخيير والاستصحاب ، وعدم جريان أصالة الإباحة.
    بقيت هنا أُمور :
    1. ما فائدة جريان الأُصول وجعل الحكم الظاهري مع أنّ المكلّف لا يخلو من فعل أو ترك.
    الجواب : انّ الرجوع إلى الأصل لغاية احتمال لزوم التعبد بأحدهما المعيّن أو
1. فوائد الأُصول : 3/445.

(459)
أحدهما المخيّر فلا رافع لهذا الاحتمال إلا الأصل.
    2. انّ الرجوع إلى الأصل في كلا الجانبين يخالف وجوب الموافقة الالتزامية.
    الجواب : انّ الموافقة الالتزامية ترجع في المقام إلى أحد الأُمور التالية :
    أ : الالتزام بما جاء به النبي في مجالي العقيدة والشريعة ، من فرائض ومندوبات ومحظورات ، ومكروهات ومباحات على ما هو عليه ، وهذا أمر لاسترة في وجوبه ويُعدّ من شرائط الإيمان ، لقوله سبحانه : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ). (1)
    ب : لزوم الالتزام بخصوص أحدهما تعييناً أو تخييراً ، وهذا أمر لا دليل عليه بل يستلزم التشريع المحرم وإدخال ما لم يعلم من الدين فيه.
    ج : الالتزام بالإلزام الجامع بين الفعل والترك ، فيجب أن يكون مفاد الأصل غير مخالف له. لكن الالتزام أمر محقّق ، ولأجل ذلك منعنا عن جريان أصالة الإباحة لكونها بالمفهوم المطابقي تضادّ العلم بالإلزام ، وأمّا غيره كأصل البراءة بكلا قسميه أو الاستصحاب ، فكلّ أصل في حدّ نفسه لا يخالفه.
    ولعلّ نظر القائل بمنع جريان البراءة إلى أنّ كلّ واحد من الأصلين وإن كان مجتمعاً مع الإلزام ، لكن نتيجة الأصلين تضاد العلم بالإلزام.
    والجواب : ارتفاع التضاد ، باختلاف مرتبة الحكمين ، فانّ مفاد الأصلين هو انّه لم يقم دليل على واحد من الوجوب والحرمة في الظاهر ، وهو لا يهدف إلى أنّه ليس هنا إلزام في الواقع ، بل يعترف به ويُضيف بأنّه ليس هنا دليل على تحقق الإلزام في ضمن هذا الفرد أو ذاك ولا مانع عن كون الفعل محكوماً بالإلزام واقعاً. ولا يكون محكوماً بأحد الإلزامين ظاهراً.
1. النساء : 65.

(460)
    3. هل التخيير بدئي أو استمراري
    قد تبيّن ممّا ذكرنا أنّه إذا دار الأمر بين المحذورين فالإنسان مخيّر بين الفعل والترك ، مع جريان البراءة من الحكمين ظاهراً ، فلو كانت الواقعة واحدة فلا موضوع للبحث عن كون التخيير بدئياً أو استمرارياً ، إنّما الكلام إذا تعدّدت الواقعة ، كما إذا تردد شرب مائع في ليالي الجمعة إلى شهر بين كونه محلوف الفعل أو الترك ، فعلى القول بأنّه بدئي ، ليس له في الواقعة الثانية اختيار غير ما اختاره في الواقعة الأُولى ، بخلاف ما لو كان استمراريّاً. ذهب المحقّق النائيني إلى الثاني واستدل بما هذا حاصله :
    إنّ أمره في كلّ ليلة الجمعة دائر بين المحذورين ، فكون الواقعة ممّا يتكرر لا يوجب خروج المورد عن دوران الأمر بين المحذورين ، ولا يلاحظ انضمام الليالي بعضاً إلى بعض ، لأنّ الليالي بقيد الانضمام لم يتعلق الحلف والتكليف بها ، فلابدّ من ملاحظتها مستقلة ، ففي كلّ ليلة يدور الأمر بين المحذورين ويلزمه التخيير الاستمراري. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ المسألة ليست مبنيّة على ضمّ الليالي بعضها إلى بعض حتى يقال : إنّ كلّ ليلة موضوع بحيالها ، وليس الموضوع المجموع منها ، بل مبنيّة على تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات مثل الدفعيات ، فلو تردد وجوب شيء في وقت وحرمته في وقت آخر ، تجب عليه الحركة على وفق العلم الإجمالي ، فلو ترك الفعل في الأوّل وأتى به في الثاني فقد ارتكب المبغوض القطعي للمولى ، ومثله المقام ، فلو اختار في الواقعة الثانية خلاف الأُولى علم انّه ارتكب المبغوض إمّا في الواقعة الأُولى أو الثانية ، والعقل كما يستقل بقبح ارتكاب المبغوض دفعة كذلك يحكم بقبحه تدريجاً.
1. فوائد الأُصول : 3/463.

(461)
    4. في تقديم محتمل الأهمية
    إذا قلنا بالتخيير فهل يستقل العقل به مطلقاً ، سواء كان أحدهما أقوى احتمالاً ، كما إذا كان الوجوب أقوى احتمالاً من الحرمة ، أو أقوى محتملاً ، كما إذا كان متعلق الوجوب أقوى أهمية على فرض كونه مطابقاً للواقع من متعلّق الحرمة كما إذا دار أمر شخص بين كونه محقون الدم أو مهدوره أو لا ؟ ذهب المحقّق الخراساني إلى الثاني ، واستدل عليه بوجهين :
    الأوّل : انّ المقام من صغريات دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، والأصل فيه هو التعيين ، لأنّ استقلال العقل بالتخيير إنّما هو فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين ومع إجماله لا يبعد دعوى استقلاله بتعينه.
    وأورد عليه سيّدنا الأُستاذ قدَّس سرَّه : بأنّه إذا جرت البراءة في أصل التكليف ، فخصوصيته أولى بأن يكون مجرىً لها. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ البحث على أساس أن يكون الحكم الظاهري هو التخيير لا البراءة ، وعليه لا يستقل به عند إجمال المزية احتمالاً أو محتملاً.
    الثاني : قياس المقام بالمتزاحمين ، فكما لا يستقل العقل بالتخيير إذا احتمل في أحد المتزاحمين الأهمية كاحتمال كونه إماماً فهكذا في المقام.
    وأورد عليه صاحب المصباح بالفرق بين المقامين ، بأنّ الأهمية المحتملة في المقام تقديريّة إذ لم يثبت أحد الحكمين بخصوصه ، إنّما المعلوم ثبوت الإلزام في الجملة ، غاية الأمر أنّه لو كان الإلزام في ضمن أحدهما المعيّن احتمل أهميته ، وهذا بخلاف باب التزاحم المعلوم فيه ثبوت الحكم في كلا الطرفين ، وإنّما كان عدم وجوب امتثالهما معاً للعجز وعدم قدرة المكلّف على الجمع بينهما. (2)
1. تهذيب الأُصول : 2/246.
2. مصباح الأُصول : 2/334.


(462)
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره لا يتجاوز عن بيان الفرق بين المسألتين وهو غير منكر ، وأمّا انّه يجب مراعاة احتمال المزية في المتزاحمين دون المقام فلم يُبيِّن وجهه ، والحقّ انّ العقل لا يستقل بالتساوي إذا كان أحد الطرفين أقوى احتمالاً أو محتملاً.
    وإن شئت قلت : كما لا يحكم العقل بتساوي المرجوح القطعي مع الراجح القطعي كذلك لا يحكم بتساوي المرجوح احتمالاً مع الراجح احتمالاً ، من غير فرق بين أن يكون الحكم ثابتاً والأهمية محتملة ، أو يكون كلاهما محتملين ، غاية الأمر على فرض ثبوت الحكم فأهميته محتملة.

    المقام الثاني : في دوارن الأمر بين المحذورين في التعبديات
    كان الكلام في المقام الأوّل في دوران الأمر بين المحذورين مع كون الحكمين توصليين ، وقد عرفت الأقوال وجريان الأُصول سوى الإباحة ، وأمّا إذا كان أحد الحكمين أو كلاهما تعبديين كصلاة المرأة في أيام الاستظهار ، فلو كانت حائضاً حرمت العبادة ، حرمة توصلية وأمّا إذا كانت طاهراً وجبت الصلاة وجوباً تعبدياً ، فقد ذهب الشيخ إلى أنّ محل الأقوال السابقة ما لو كان كلّ من الوجوب والحرمة توصليين بحيث يسقط بمجرّد الموافقة ، وأمّا لو كانا تعبديين محتاجين إلى قصد امتثال التكليف وكان أحدهما المعيّن كذلك ، لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما والرجوع إلى الإباحة لأنّه مستلزم للمخالفة القطعية.
    توضيح ذلك : كان الكلام فيما سبق منصبّاً فيما لو كانت الموافقة القطعية كالمخالفة القطعية ممتنعة ، وأمّا المقام فالموافقة القطعية وإن كانت ممتنعة ، لكن المخالفة القطعية ممكنة ، فلو صلّت بلا نيّة القربة فقد أتت المبغوض ، إذ لو كانت طاهرة فصلاتها باطلة ، ولو كانت حائضاً فقد ارتكبت الحرام بناء على أنّ صورة


(463)
العبادة محرمة عليها أيضاً.
    أقول : ما ذكره إنّما يمنع عن جريان الأُصول ، ولكن لا يمنع من جريان أصل التخيير فهو كالصورة السابقة مخير بين الأمرين إمّا الإتيان بالصلاة مع قصد القربة أو تركها أصلاً ، والميزان في جريانها هو امتناع الموافقة القطعية سواء أمكنت المخالفة القطعية أو لا.

    المقام الثالث : أصالة التخيير في الشكّ في المكلّف به
    إنّ أصالة التخيير لا تختص بصورة الشكّ في التكليف ، بل تعمه والشكّ في المكلّف به ، لأنّ الملاك هو دوران الأمر بين المحذورين وعدم إمكان الموافقة القطعية ، سواء أمكنت المخالفة القطعية كما مرّ في المقام الثاني أو لم يمكن ، وبذلك تقف على أنّ أصل التخيير كما يجري في الشكّ في التكليف ، كما إذا كان نوع التكليف مجهولاً ، كذلك يجري في الشكّ في المكلّف به ، كما فيما إذا كان نوع التكليف معلوماً لكن كانت الموافقة القطعية غير ممكنة ، وإليك بعض الأمثلة :
    1. إذا علم أنّ أحد الفعلين واجب والآخر حرام في زمان معيّن واشتبه أحدهما بالآخر ، فهو مخيّر بين فعل أحدهما وترك الآخر ، لأنّ الموافقة القطعية غير ممكنة ، نعم ليس له ترك كليهما أو فعل كليهما ، إذ تلزم فيه المخالفة القطعية.
    2. إذا علم بتعلّق الحلف بإيجاد فعل في زمان ، وترك ذاك في زمان آخر ، واشتبه زمان كلّ منهما ، كما إذا حلف بالإفطار في يوم ، والصيام في يوم آخر ، فاشتبه اليومان فهو مخيّر بين الإفطار في يوم ، والصيام في يوم آخر ، لكن ليس له المخالفة القطعية كأن يصومهما أو يفطر فيهما.
    3. نعم لا يجري أصل التخيير فيما إذا دار أمر شيء بين كونه شرطاً للصحة أو مانعاً كالجهر ، وذلك لأنّ الموافقة القطعية بإقامة صلاة واحدة وإن كانت غير


(464)
ممكنة لكنّها ممكنة بإقامة صلاتين في إحداهما.
    وقد عرفت أنّ الملاك لجريان أصالة التخيير امتناع الموافقة القطعية وهو ليس بموجود في هذا المورد.
تمّ الكلام في أصالة التخيير


(465)
    الأصل الثالث :
أصالة الاحتياط
    وقبل الدخول في المقصود نذكر أُموراً :
    الأمر الأوّل : انّ حصر الأُصول العملية العامّة في الأربعة ، استقرائي ، وحصر مجاريها في الأربعة عقلي ، لكن اختلفت كلمة الشيخ في بيان المجاري ، فقرّره في أوّل رسالة القطع بوجهين مختلفين ، كما قرره في أوّل رسالة البراءة بوجه ثالث ، فلأجل دراسة الفرق بين الشكّ في التكليف والشكّ في المكلّف به ، نأتي بالبيانين الواردين في أوّل رسالة القطع ثمّ نذكر فيها البيان الثالث قال قدَّس سرَّه :
    انّ الشكّ إمّا أن تلاحظ فيه الحالة السابقة أو لا ، وعلى الثاني ، إمّا أن يمكن الاحتياط أو لا ، وعلى الأوّل إمّا أن يكون الشكّ في التكليف أو في المكلّف به ، فالأوّل مجرى الاستصحاب ، والثاني مجرى التخيير ، والثالث مجرى البراءة ، والرابع مجرى الاحتياط.
    ففي هذا التعريف عدّ مجرى التخيير قسيماً لمجرى الشكّ في التكليف والشكّ في المكلّف به ، فمورده ، دوران الأمر بين المحذورين الذي تمتنع فيه الموافقة القطعية ، فهو ليس من قبيل الشكّ في التكليف ولا في الشكّ في المكلّف به.
    بخلاف التعريف الثاني ، فانّه جعل مجرى الاحتياط من أقسام مجرى الشكّ في المكلّف به ، وقسمه إلى ما لا يمكن الاحتياط فيه ، وما يمكن ، والأوّل مجرى
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول المجلد الثالث ::: فهرس